عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5859 - 2018 / 4 / 28 - 20:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قد تكون الفترة التي تلت غياب نبي الإسلام والمعلم الأول والقائد الذي كان محور النظرية الإسلامية، بالوقت الذي تبلورت فيه ملامح حركة توسع أفقية وفي عرض الفكرة تلت دخول المسلمين مكة، وسقوط أكبر مدن الجزيرة وأقدسها عند العبرة بالصورة التي حدثت بها تأريخيا, قد مهدت لدخول عناصر كثيرة في عداد المسلمين الذين لم يختبر لا إسلامهم وثبات عقيدتهم ولا إثبات تخليهم عن الفكر القديم وتأثيراته, الانشقاق كان متوقعا في ظل صراعات خفية لا نقول بين أجنحة داخل المجتمع الإسلامي بل بين توجهات قديمة لم تتعافى من متحسسات الماضي ولا تنتهي عند العوامل الأقتصادية بين الرخاء والضيق الذي أصاب المجتمع تبعا للانتصارات والخسائر التي تعرض لها نتيجة الدفاع والهجوم العسكري ضد ومع .
كما أن المجتمع المدني الذي أنشأه الرسول لم يكن مجتمعا متجانسا من ناحية عامل الفكر ولا الأنساب ولا حتى في عوامل الثقافة والحضارة كاللغة والتقاليد, بل كان مجتمع شعاره الأخوة في الدين وهذا ما لم تألفه العرب سابقا ولم يكن من عاداتهم أحترام مجتمع "مجمع"، برغم من وجود قبائل وعشائر كبيرة كانت تجمعات أكثر من كونها وحدة حقيقية تجمعها روابط الدم، لكن هذه الميزة كانت سبب أخر ومهم من أسباب التسلط اللاحق وغياب صوت الأقليات التي أعتنقت الإسلام بجدية والتزام واضحين تحولوا فيما بعد إلى ضحايا, وليس كما حصل مع مجتمع الأوس والخزرج عندما تعاهد زعماء القبليتين على نصرة الرسول أو مع مجتمع مكة الذي أمن بسقوط أبي سفيان كمدافع عنها .
مع كل هذه العوامل وبوجود النبي كانت الأمور تتطور نحو التبلور وبالمراقبة الشديدة للتحولات والتغيرات واستمرار نضج الفكر بناء على المعطيات الأرضية, كان بوسع النبي أن يستدرك كل التحولات التي لا تتوافق مع المنهج الرسالي ومن مهدها دون أن نخوض بتفاصيل المصدرية, المهم كانت هناك قيادة فكرية ومرجعية تمد المجتمع بمعارف نظرية وممارسات واقعية تترجم وتصلح وتنتقد بلا تردد لأنها محكومة بما يسمى نظرية الضبط المحكم, حيث لا مجال للإزاحة والإحلال الفكري ولن يجرؤ أحدا ما على أن يفعل لأن النبي سيكون له بالمرصاد فعلا أو تحاشيا من النبوءة عند الطرف الأخر .
لذا كان السيرورة الفكرية متجهة أفقيا وعموديا في بناء النظرية الإسلامية ولكن بأقل من مستوى التوسع الكمي والمكاني الذي ساد في السنوات الثلاث الأخيرة، وخاصة بعد معركة الخندق ومعركة خيبر حتى تبين بوضوح وقائع قوة المسلمين وتماسك شوكتهم أمام التحالف بين زعماء قريش وبقايا اليهود حول المدينة, لم يكن هينا ولا متسامحا به أن تنهار القبائل اليهودية في مركز المجتمع الإسلامي والذي كانوا يتفاخرون على العرب أجمعهم وحتى على المسلمين بأنهم أولاد سلالة من أنبياء الله وأنهم الشعب المختار من رب الجميع وأهل كتاب وعلم, لذا كانت منزلة اليهود عند العرب فائقة العلو والرفعة وهو ما أوجست خيفة في بعض النفوس داخل المجتمع الجديد من أن لا يصمد مؤسس الدولة أمام قوتهم الفكرية ودهائهم السياسي .
لم يكن كل هذا غائبا عن رؤية النبي محمد لما سيحدث من بعده وهو الذي نبه كثيرا سواء عن طريق النصوص المحفوظة في القرآن الكريم أو الأحاديث من مشكلة الخلاف والتنازع, وقد بين وأمام الكثير من قادة ونخبة المجتمع الإسلامي أن نبوءته تقول أنهم سيختلفون ويضرب بعضهم عنق بعض, المؤمنون الصادقون كانت عقولهم لا تتقبل حتى هذا الأفتراض الواقعي ولكن ما أثبت هذا رحيله السريع بعد أشهر قليلة بل أسابيع بعد فتح مكة وأعلان دولة الإسلام في طورها الأول الذي لم يصمد أمام الطموحات الغير ناضجة من بعض متأخري الإسلام وحلفائهم السابقين من يهود المدينة .
هذا الأنتقال المفاجئ والسريع وبغياب تصور شامل لشكل الدولة وتركيبتها وعدم ممارسة المجتمع المدني الجديد المتجدد لكيفية الربط بين مكة كرمز أساسي في النظرية الدينية وبين المدينة التي صارت مركز الدولة ونواة المجتمع الرسالي, وأيضا عدم أكتمال النموذج الأساس العملي في الحكم وبقاء السلطة التقريرية في يد الرسول طول هذه الفترة, أضعف من القدرة النظرية الإسلامية أن تتحرك طبيعيا حتى مع وجود تنازع وتصارع فكري وأجتماعي مزدوج وثني من بقايا أديان العرب, وكتابي منافس شديد وقوي وذكي عند اليهود الذين لا يغفرون للإسلام إزاحتهم من المنزلة التي يعتقدون أنها حق رباني فندته النظرية الإسلامية .
لم يكن الجو الثقافي والسياسي قادر على تحمل الصدمة بغياب المعلم والمربى والمنشئ لدولة ومجتمع خارج القانون الطبيعي الأجتماعي السائد في الجزيرة العربية, المجتمع المبني على الفردية في التصرف والفردية في التقرير والحرية التي أدمنها الأقوياء أصحاب السيف والثروة، لا تتناسب مع قيم أجتماعية وفكرية ودينية تقاوم هذه الفردية المنفلته وتحاول لجمها بمجموعة من القيم والعقائد التي تقدم مصلحة المجموع، وتخاطب المجموع وتنتصر للمجموع بدل الحس الفردي ومضاربات الأنا المتضخمة, في ذات الوقت هذا الغياب السريع أتاح للنفوس التي لم تتعود التمسك ومطاوعة القيم الجديدة أن يجهر بشكل أو بأخر بحقه في العودة للقيم التي أخرج منها جبرا وخارج الإرادة الفردية .
كما أن غياب الكوادر القوية والقادرة والماسكة بمفاتيح الفكر وعدم وجود الدعم المادي والسلطة اللازمة للحفاظ على المنجز الفكري والثقافي، ساهم بشكل أو أخر في تراجع الفكرة المحمدية وعودة الخط المحافظ بقوة للواجهة مدعوما بحس قبلي ظاهره التمسك بمحمدية الدعوة وما يستتبع ذلك من الدعوة إلى قرشية الفكرة، حسب التخريجات التي أختارتها القوى المحافظة في حادثة السقيفة, وإبدال وأستبدال الخط الولائي للدين والقرآن بخط أخر يتمثل بأشخاص ومسميات قد تؤمن بدرجة أو أخرى أو قد لا تؤمن إلا ظاهرا بما جاء فيه محمد, هنا أحتمالية النكوص أقوى من حالة المتابعة والطاعة وهو ما ظهر جليا في تخبط النخبة السياسية في عدم قدرتها على تحديد معيار رئيسي يستمد فكرته من قواعد الدين في أختيار الخليفة .
فشل النخبة السياسية في تحديد مقومات وشكل الدولة بغياب الرسول وتوضيح أهم قواعدها وهي علاقة الحاكم بالمحكوم هل هي علاقة تخضع في طبيعتها لذات منهج الرسالة (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، أو على محدد أخر هو الإلجائية التي تفرضها وجود سلطة تتحكم بالمجتمع بعنوان الحفاظ على الدين, أيضا وجد المجتمع الإسلامي آنذاك نفسه في إشكالية دائرة تحديد الواجبات بين ما هو ديني صرف وما بين هو سياسي صرف، وحاول أن يجمع الاثنين على سطح واحد بأعتبارات الضرورة والخشية من تصارع مفترض وأكيد بين العمل السياسي المتصف بالحركية والتحول والتبدل, وبين الخط الديني المبني على ثبات نسبي في المبدئية الأخلاقية ووحدة الموقف منها .
في ظروف مماثلة يمكننا أن نتوقع التصادم بين ثقافتين وفكريين متناقضين يحاول كل منهم إزاحة الثاني من السيادة على الواقع والحلول محل الصدارة معتمدا على جملة من المبررات, الثقافة والفكر الجديد بما فيها من قوة الإبداع والتجدد والمقاومة كانت الأقدر على أن تتسيد الساحة وما كان ينقصها إلا الكادر المفكر والقادر على تحمل شروط المواجهة، وكان المجتمع قادر على إفراز هذه النخبة لكنها ليس بالقوة المادية ولا بالعدد الذي يمكنه أن يشكل قاعدة عريضة لكنه كان أصيلا ومتماسك برغم ضعفه وقلته, في المقابل كان هناك الفكر المحافظ المتمترس خلف شعار محمدية الإسلام وشعار قرشية الإيمان ويمتلك القوة والسلطة والمال، إضافة إلى تغلغله في جميع مؤسسات المجتمع الجديد ومستعد للتضحية بالدين والفكرة الجديدة مقابل مصلحته الذاتية .
لا الفكر ولا النخبة المؤمنة به قادرة على الحسم مع عدم وجود المرجع القياسي أو المعيار الفاصل مع التشويش والنفاق الفكري والديني السائد في المجتمع الجديد، وإشكالية أحتمال تفتته تحت وقع الخلاف والأختلاف, لذا كان قرارها من الإستراتيجي الإنسحاب من المواجهة العلنية والإبقاء على الصراع في حدود حماية أسس الفكرة وقواعدها ارئيسية, في حين أن المدرسة الثانية كانت تحتفل بأنتصارها الفارغ وتمددها على حساب الفكر الأصيل, لم تعي أن وجود هذه الثلة سيمكن من أنتصارها تأريخيا على عوامل التحريف حتى دخل عناصر ثقافية من خارج البيئة العربية تتميز بالإرث الحضاري لتكتشف لهم أن البقاء على الوضع الحالي سيعني خلال فترة منظورة أنتصار مدرسة المتابعة واندحار المدرسة الأخرى ما لم تؤسس منه فكري يعتمد تشويش ويشويه الفكرة الأساسية، ومحاولة الخلط والتشكيك والتناقض ليلتهي المسلمون إلى قرون في محاولة توفيق ما لا يتوافق، وبذلك أعادت المدرسة المحافظة الكرة إلى ملعب الخصم وتستثمر أنتصارها بالتحريف والتضليل الذي يعاني منه الفكر الإسلامي لليوم.
لقد كانت نظرية المزاحمة والإحلال فكرة طارئة على المجتمع العربي عامة والإسلامي الجديد خاصة لأنها تحتاج إلى فكر أصيل ومتشعب وذو تجربة, وهذا ما يفتقده النموذج المحافظ من التفكير العربي الذي يؤمن بالصراع الآني ولكنه غير قادر على التخطيط بعيد المدى, إن وراء هذه النظرية عقول مدربة وتمتلك مقدرة على القراءة العميقة والتحليل والتركيب والتصور والتخطيط, وبذلك تفصح عن مكونها الحضاري العميق وأخص بالتحديد من مصدريه الديني اليهودية العربية ومن مصدره الثاني الحضاري المجوسي والنصراني الروماني, فهو نظر وفكر له أمتداد وجودي في هذه المجتمعات والحضارات المنافسة والمتنافسة مع فكرة الإسلام الجديدة .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟