أنس نادر
(Anas Nader)
الحوار المتمدن-العدد: 5852 - 2018 / 4 / 21 - 03:29
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
ما يبدو للوهلة الأولى أنه من غير المناسب وغير المنطقي أيضا أن نتكلم عن رقة التاريخ وعشق الأمم في ظل هذه المسيرة الطويلة للتاريخ البشري الحافلة بالدماء وبالمجازر والمكائد السياسية والخيانات وإلى ما هنالك من مساعي وراء السلطة والطغيان واستنزاف الشعوب لبعضها الآخر, ومما لا شك فيه أن بعض الشخصيات الفردية في التاريخ اضطهدت شعوبها وساقتها إلى الدمار والانحطاط, ولكن إن هذه الشخصيات كانت من نتاج المجتمع أيضا ونتيجة منطقيه للاضطراب التاريخ العاطفي للأمم, إن الأفراد هم من يصنعون النظام, والنظام يصنع الشعوب ومن ثم تفرز الشعوب أفراد تنتمي لهذا النظام بحكم الموروث النفسي والاجتماعي التي تلقته من نظام الدولة, ثم تزداد الأحجية تعقيدا ولا ندرك من المسئول عن تشكيل قيم الشعوب هل هم الأفراد أم الأنظمة على الرغم أن هذا من ذاك وكليهما يقوم بتنشئة الآخر في سياقه التاريخي.
وقد أوجدت التجربة الإنسانية حلول فكرية وأصبحت تطبيقية في الكثير من المجتمعات المتقدمة لهذه المعضلة, ونزعت السلطة من يد الفرد وأصبح النظام يقوم بخدمة الجماعة على مصلحة الفرد, وكان هذا نقطة تحول وبناء نفسي جديد سحق أنانية الفرد على المستوى الجمعي للمجتمع وحل مكانه تركيب مختلف ومتقدم للبناء الأناني الجمعي كان من دوره أن يرتقي بأسلوب الأنظمة وطريقتها في بناء شعوبها ومنه إلى نتاج سمة فردية تعود أنانيتها ودورها في النظام إلى أنانية النظام الجمعية, ولم يأتي تطبيق هذه المعادلة بسهولة, وإنما أتى عن طريق تجربه مريرة للشعوب, وكان للثورة الفرنسية ومن بعدها الثورة الشيوعية الأثر الكبير في التأسيس والتحريض الفكري والنفسي في الانتقال من أنانية الفرد والسلطة إلى أنانية جماعية بسبب الأفكار والتجربة التي أتت من اهتياج وتمرد لمصلحة جماعية قلبت نظام الفرد وتركت الأثر النفسي والمعنوي الكبير لرموز المساواة والعدالة التي ارتبطت بمصالح الجماهير وبالأنانية الجمعية للمجتمع, وهذا بالتحديد القيمة الحضارية الحقيقية لما أنتجته الثورات عبر التاريخ البشري, أي الأثر المعنوي والنفسي الذي تخلفه بارتباط القيم الإنسانية للنظام مع المصلحة الجماعية, وهذا أسس لمرحلة فكرية جديدة طور النظام والفرد على حد سواء.
إذا إن الثورات الكبرى كانت هي من ساهمت في الانتقال لمرحلة فكرية جديدة في تطور الأمم, لكن ما دمنا نتكلم عن العلاقة الجدلية بين نظام المجتمع الأناني وطبيعة الفرد وإفراز هذا من ذاك, فمن أين أتى التأسيس لهذه الثورات, وجميعنا يدرك أن النظام الفردي الأناني لا يسمح بالصراع والجدل الذي قد يؤدي إلى الاختلاف والتغيير لأنه يخلف سمة أنانية لمطوح الفرد على جميع المستويات ويحول جميع ظروف القهر والفقر والحرمان والاضطهاد إلى مشاكل شخصية تخص الفرد وحده مما يؤدي إلى هلاك المجتمع على المستوى الأخلاقي الجمعي والذي يحول دون التفكير الحقيقي والصادق لابتكار حلول جمعية .
إن صفوة المجتمع والتجربة الشخصية والفكرية لبعض الأفراد المفكرين والمثقفين من الممكن جدا أن تكون قد أسست لهذه الثورات, ولكن الفكر والنظريات يلزمها روح جمعية مستعدة لتقبل أطروحاتها وتأثيراتها, وإن هذه الروح الجمعية لشعب من الشعوب لها سمات ومزايا تختلف عن أيه روح لشعب آخر, وهذه الروح الجمعية لا أعتقد أبدا أنها روح عرقية تخص فئات من الناس بل هي موروث نفسي تاريخي يعود لشعب من الشعوب في منطقة جغرافية معينة من الأرض, وتأخذ هذه الروح سمتها من التاريخ والموروث النفسي للمكان, وهو الخاصية الأعم والأشمل بالانتماء أكثر من العرق. فعلى سبيل المثال إذا نظرنا للإقليم العربي الآن ضمن خريطته الجغرافية والسياسية في الوقت الراهن, ورغم تفاوت وتنوع الأعراق التي اختلطت واندمجت وتنوعت إلى حد كبير نتيجة لكثير من العوامل التاريخية, فسنلاحظ أننا بمختلف أعراقنا على هذه البقعة من الأرض نمتلك الكثير من عصبية وقبلية وطباع الرجل البدوي الذي نشأ وخرج من الصحراء في بداية الأمر وانتقلت هذه الخاصية إلى جميع ما يدعى بالعرب على اختلاف أعراقنا فالعالم العربي متنوع الأعراق من آشوريين وأكراد في بلاد الشام والأمازيغ في المغرب العربي وبدو في شبه الجزيرة العربية والمناطق المتاخمة لها والنوبانيين في السودان والفراعنة في مصر وبعض القبائل الإفريقية التي الكثير منهم لا يتكلم العربية كالصومال وجزر القمر وجيبوتي وغيرهم الكثير, وحتى الديانات والمذاهب غنية بالتنوع والاختلاف أيضا, لكن الفتح الإسلامي لهذه المناطق دون غيرها وبسبب وجود عامل اللغة وتقارب الأصول لفترة طويلة من الزمن قد رسخ الرموز النفسية للإنسان العربي وأورثها للأجيال, وغلبت هذه السمة والموروث النفسي على الأصول العرقية رغم بقائها, لأنه صنع تغييرا في روح الجماعة لأهل المنطقة وأصبح موروثا ثقافيا لها, وأن إفراز الأنظمة العربية السياسية المتشابهة في بنيتها السياسية والاجتماعية والأخلاقية تعود في أساسها إلى وحدة الموروث النفسي لهذه الشعوب على الرغم من التفاوت العرقي وأن الاختلاط بالحضارات الاستعمارية الأخرى لم يغير بالأمر شيء لأنه اختلاط سياسي لم يرتبط بالموروث النفسي لشعوب هذه المنطقة.
ولذلك نقول لا يمكن لأي تغيير أن يحدث دون التغيير بروح الجماعة أي التغيير الجمعي الذي يحدث تغييرا في صفوف المجتمع وانتقالا في بنتيه النفسية التي تشكل نقطة بداية جديدة لموروث نفسي جديد, وقد كانت الثورة الإسلامية هي أول وآخر تأثير حضاري جمعي صنع تغييرا وموروثا نفسيا جديدا في الدول تحت راية الحضارة العربية الإسلامية أثناء سيادتها, وبعد خروج هذا النظام من أيدي العرب واستلام والمماليك والعثمانيين له, لم يترك هذا أي من ثقافة هذه الدول أي موروث ثقافي لأنه كان يملك صفة استعمارية مسيطرة على الرغم من استمرار الدين الإسلامي كنظام أخلاقي واجتماعي للأمة عدا النزر اليسير الذي تجلى بالطراز العمراني وبعض السلوكيات الاجتماعية, وما شكل الفارق الحقيقي للموروث النفسي للمنطقة العربية هي فترة حكم العرب لهذه المنطقة لأنها كانت ذات سمة ثورية نشأت وانطلقت من شعوب المنطقة وحملت معها روح التغيير الجماعية, ورسخت النقلة الثقافية والتراثية لشعوب المنطقة.
إذا إن ما نريد قوله إن ما يصنع الفرق الحقيقي في سلوك المجتمعات هي الثورات التي تصنع وترسخ موروثا نفسيا جمعيا جديدا للأمم, وليس من الضرورة أبدا إن تكون هذه الثورات دمويه كما كان الحال في بداية التاريخ البشري لأنها ستترك أيضا الروح الدموية في صنع التغيير وهذا ما استمرت عليه البشرية حتى الثورة الفكرية وعصر النهضة في العالم الغربي الذي أسس رؤية جديدة وسلوك حضاري جديد في تاريخ البشرية, حتى على الرغم من استمرار الحروب كسمة أساسية في حضارة البشر للوقت الراهن وذلك بسبب عدم وجود أي نقلة ثورية على مستوى الكوكب حملت طابع تحرري أو فكري أو أخلاقي, والحروب العالمية كانت لتوازن القوى بين مصالح الدول الكبرى ولم تكن تحمل أي طابع ثوري يخص الشعوب, إلا أننا لا نستطيع نفي السمة الفكرية والثقافية للحضارة الإنسانية التي تبلورت في عصر النهضة بعد تأسيس دام عدة قرون من ثقافات سبقتها وأدت فيما بعد إلى هذه الثورات العلمية التي نشهدها.
لذلك إن الأشخاص والأفراد وحدهم غير قادرين على التغيير الجذري, وإنما التجارب الشخصية والفكرية للأفراد يمكن أن تتطور حتى تصنع أساس جماهيري وثقافي لها مما سيقوم بإعداد الجماهير للتغيير وعند حدوث هذا التغيير سيتكون الموروث الثقافي الجديد لروح الجماعة على أساس طبيعة التغيير في النظام الاجتماعي والأخلاقي والسياسي الحاصل, وهذا ما أدى بأدوات التاريخ الإنساني الحضارية بالتطور من مرحلة إلى أخرى حتى بلغت مرحلة الموروث الثقافي الجماعي الفكري كأداة حضارية للارتقاء.
أن هذه الروح الجماعية التي بدأت كأصول عرقية استمدت خواصها من جغرافيا المكان وأخذت تتأثر وترتقي جماعيا بفضل الإحساس الجمعي, أعتقد انه من الجدير بأن يدعى عشق الأمم على الرغم من قسوة التعصب العرقي الذي أودى بالتاريخ البشري إلى الهلاك والتاريخ الدموي المعروف للجميع, ولكن بمنظار آخر تبقى لهذه العلاقة الجماعية لعرق ما خصوصية عاطفية ورابط نفسي من نوع أناني وثقافي كان له الدور الهام جدا في تصاعد الروح الجماعية للشعوب وترسيخ قيم التغيير التي أحدثتها نزاعات الأمم في سبيل خلاصها. وإن هذا الصراع العاطفي الجمعي والأناني بالمعنى الإنتمائي للكلمة الذي يخص جميع شعوب العالم كان له الدور الكبير جدا في عملية ارتقاء وتطور الموروث النفسي والثقافي للأمم جراء محرضاته العرقية والثورية والذي بدوره قلب التاريخ البشري من أساس عاطفة جمعية كانت الأساس في تقبل التغيرات الكبيرة والنقلات النوعية في الإرث الإنساني والتاريخي, وبهذا نستطيع أن نقول برقة التاريخ من الزاوية التي تخص عاطفة الشعوب ودورها في تقلبات التاريخ على الرغم من النتائج الدموية لها.
وأريد أيضا أن أنحدر إلى نتيجة مبسطة أكثر في دور العاطفة الجمعية للشعوب ودورها في إرساء توازن من نوع اجتماعي وإنساني ليستقر بالمعادلة العاطفية إلى نوع من التوازن الفردي ومنه إلى التوازن العاطفي للمجتمع, والنقطة التي انوه إليها هي عادات وتقاليد وأعراف الشعوب التي تحكم المجتمعات وتحدد السلوك الاجتماعي الذي يحتاجه الإنسان للشعور بهذا التوازن, فعلى سبيل المثال في البلدان النامية التي تحكمها أنظمة فاسدة ومتخلفة ومستبدة ومستأثرة بالسلطة والتي لا تحترم حقوق الإنسان ولا ترعى مشاكله, نستطيع أن نلاحظ ببساطة ظهور العادات والتقاليد بشكل مبالغ جدا فيه والتي تسعى لتعويض المجتمع عن نقص الاحترام الذي يواجهه من نظام دولته, فيأخذ المجتمع بشكل تلقائي سلوكيات اجتماعية وأخلاقية تقدر الفرد وترفع من شأنه وتحترمه لكي يعوض نقص الاحترام الذي يواجهه من قبل النظام السياسي, وكلما ازداد تطور وتقدم النظام السياسي كلما ازداد احترامه للإنسان وبالتالي انخفاض مستوى وشدة العادات الاجتماعية التي تبالغ في ترميز وتقدير الأشخاص لتعويض النقص الإنساني الحاصل من قبل نظام الدولة, وبهذا تخف حدة حاجة المجتمع العاطفية لتقدير الذات من قبل المحيط الاجتماعي وترتقي بنوعية التوازن العاطفي والنفسي الذي يحتاج إليه الفرد.
وبالطبع تختلف شكل بلورة هذه الأعراف بحسب التاريخ النفسي للمجتمع, ولكن هذا من ذاك, فمن غير الممكن فصل التاريخ النفسي عن التاريخ السياسي للشعوب وعن البيئة الجغرافية التي تمنح الأساس الروحي والعرقي, ولكن مع مرور الوقت وتمازج الشعوب وتغير الأنظمة السياسية, يبقى للنظام السياسي الدور الأكبر في طبيعة توجه السلوك الاجتماعي في حياة الناس وتبقى الاختلافات الاجتماعية بين المناطق المتقاربة سياسيا عبارة اختلافات عرفية ولكنها تصب في نفس منحى الأثر النفسي البالغ للتوجه السياسي في حضارتها.
ويقول غوستاف لوبون في وصفه للروح الجماعية والجمهرة الشعبية, إن الجمهور النفسي يشتغل وفق نمط جمعي لاشعوري, يفقد فيه البشر قدراتهم الذاتية وتذوب كفاءاتهم العقلية في الروح الجماعية, وهكذا ينحل المختلف في المؤتلف وتسيطر الخصائص اللاشعورية التي تكون في الجمهور معاكسة أحيانا لخصائص الفرد, وعلى هذا النحو ينحل ذكاء الفرد المفرد في الجموع, فيتصرف تصرفات أو يقبل بقرارات جماعية بلهاء ما كان ليقبل أو يتصرف بها لو بقي على فرادته وحسه النقدي الذاتي. ولكن ما يخسره الجمهور النفسي من حيث الذكاء يربحه من حيث الشعور بالقوة عن طريق العدد, مما يجعله ينصاع بسهولة لبعض الغرائز التي قد تدفعه أحيانا نحو أعمال عنيفة ووحشية, ويضيف أن هذا العنف الجماعي يجد تفسيره بكون الجمهور مغفلا بطبيعته وغير مسئول, فإن الظاهرة اللاشعورية تلعب دورا حاسما في آلية العقل وطريقة عمله, فالحياة الواعية للنفس البشرية لا تشكل إلا جزءا ضئيلا بالقياس إلى حياتها اللاواعية, وعلى صعيد الحياة الواعية فإن العلماء يتفوقون بالذكاء بما لا يقاس على الأشخاص العاديين, ولكن على صعيد الحياة اللاواعية وخصوصا بما يتعلق بالعاطفة والوجدان والغرائز والعقائد الإيمانية الموروثة فإن العظماء من الناس لا يتجاوزون على الإطلاق مستوى الناس العاديين. والحال إن الجمهور النفسي يشتغل وفق نمط جمعي لا شعوري تذوب فيه الكفاءات العقلية في روح الجماعة وإن المحرض النفسي لهذا الجمهور النفسي هو القائد أو الزعيم الذي يُعتبر من قبله خارقا للعادة ومرفوعا إلى درجة العبادة, ويصف لوبون العلاقة بين الجمهور وزعيمه بأنها ذات طبيعة دينية, فسواء في الحركات الدينية التي شهدها التاريخ في العصور القديمة والوسطى, أو في الحركات والانتفاضات السياسية الكبرى التي شهدتها الأزمنة الحديثة, فإن العاطفة المحركة للجماهير التي آمنت بها كانت دوما من طبيعة دينية. ذلك إن الزعيم مثله مثل النبي, يعتبر خارقا لجنس البشر ومستقطبا للعاطفة الدينية الجماعية على شكل خوف من القوة التي تعزى إليه وخضوع أعمى لأوامره, واستحالة أي مناقشة لعقائده ورغبة محمومة في نشر هذه العقائد, وميل إلى اعتبار كل من يرفضون اعتناقها بمثابة أعداء, وإن عاطفة الجماهير سواء أسقطت على إله لا يُرى, أو على صنم معبود, أو على بطل مؤله, أو على فكرة سياسية, فإنها تبقى دائما ذات جوهر ديني, فمن المحتم أن يتواجد فيها العنصران اللذان هما في أساس كل تفكير ديني, وهما عنصر السر الخارق للطبيعة, وعنصر المعجزة. فالجماهير تخلع على الإيديولوجيات السياسية التي تعتنقها أو على الزعيم الذي تتجسد فيه هذه الإيديولوجية, ويلهب في الوقت نفسه حماستها, نفس القوة المليئة بالأسرار والخارقة للطبيعة التي تكمن في أساس التصور الديني للعالم.
وهكذا فإن الإنسان لا يكون متدينا فقط عن طريق عبادة آلهة معينة, بل أيضا عندما يضع كل طاقاته الروحية, وكل خضوع إرادته, وكل تعصبه في خدمة قضية ما, أو شخص ما مرفوع إلى مستوى البطولة والزعامة.
وإن تضخم الثقة بالنفس لدى الجماهير واطمئنانها إلى عدم المحاسبة والمعاقبة كلما كان عدد الجمهور أكبر, يفسر لماذا تستطيع الجماهير المحتشدة الإتيان بأعمال لا يأتيها الفرد في العادة.
أما سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي فهو لا يتفق بكثير من النقاط مع لوبون في تحليله لنفسية الجماهير وروح الجماعة فيما يتعلق بالمحرضات النفسية لسلوك الجماهير, حيث أنه لا يكتفي بالتفسيرات الملحوظة للظاهرات العميقة, إلا أنه يوافق على التضخم العاطفي والانكماش الفكري الذي يصيب الفرد المنخرط في صفوف الجمهور كنتيجة, كما أنه يذهب إلى تصنيف الجماهير حسب دوافع التشكيلات الجمعية لهم, فثمة جماهير عابرة, وغيرها دائمة, وجماهير متجانسة, وجماهير غير متجانسة, وهناك جماهير طبيعية, وجماهير اصطناعية تقوم بفعل إكراه خارجي كالجيش وجماعة المؤمنين وغيرها, وميّز أيضا الجماهير التي بلا قادة والجماهير التي يقودها قادة. وكل هذه الأصناف تعتمد على ترابط وتراخي الروابط الليبيدوية للجمهور بالمعنى الاصطلاحي للتحليل النفسي الذي يتبعه فرويد في دراسته, أي بمعنى آخر الروابط العاطفية والوجدانية وطاقة الميول والنوازع الجنسية العميقة في جميع أشكال الدوافع النفسية التي تربط الأفراد بالرمز القائد للجمهور.
ومن الملفت جدا الحديث عن الآلية النفسية لانحلال الجمهور كما فسرها فرويد بدقة, الذي يحدث في حال عدم تواجد روابط وجدانية حقيقية تجمع بين الجمهور وقائده (إن كان قائدا عسكريا أو نظاما سياسيا أو غير ذلك), إذ أن جميع العلاقات مع المحيط الفردية والجماعية والشخصية وغيرها, تترك رواسب من الكراهية والحساسية, أو على الأقل مشاعر غير وديَة, كالحساسية الموجودة بين جميع العلاقات الثنائية كالأزواج والأصدقاء والأقارب والعائلات, وعلى وجه أعم بين الشعوب المتجاورة والأعراق المتمازجة, وهذا التنافر العميق والغائر في النفس الإنسانية ناتج عن نرجسية تسعى إلى توكيد ذاتها وتتصرف كما لو أن أبسط انحراف عن الخصائص الفردية المتطورة عنها يعني نقدا لهذه الخصائص وتحدي لها من أجل تعديلها أو تبديلها, ولكن هذه الرواسب تذوب وتختفي أو تبقى مكبوتة, مقارنة مع الروابط الأكثر قوة والتي تبقي على لحمة وتماسك العلاقات, فأنها تختفي بصورة مؤقتة أو دائمة في الجمهور, فطالما التشكيل الجماعي قائما, يتصرف الأفراد وكأنهم جبلوا في قالب واحد, وإذا انفصمت هذه الروابط يستحوذ على الحشود رعب هائل يخترقه من أقصاه إلى أقصاه ويطفق الجمهور بالتحلل وتعم الفوضى العارمة في صفوفه.
ففي حالة الأنظمة الفاسدة أو القائد المتغطرس للجمهور تكون العلاقة الوجدانية غير صادقة وغير متماسكة على الإطلاق وتكون حجم المشاعر السلبية المكبوتة هائلة جدا ولا تحتاج لأكثر من سبب واهي لتتفكك وتنحل وبالتالي تعم الفوضى والذعر الشديدين اللذين يفككون الجمهور والحشود وتحولهم إلى فوضى عارمة. وقد حصل هذا في التاريخ السياسي الحديث في منطقة الوطن العربي, ولا يختلف الأمر كثيرا في سائر البلدان العربية تحت ظل الفساد الكبير للأنظمة وتراخي علاقة الشعوب الوجدانية بنظام ورمز الدولة, ففي حال تجمع الجماهير لدرئ أي خطر محدق, فإنها لا تلبث إلا أن تتهاوى وتهزم وتخضع لعامل الذعر لعدم وجود روابط حقيقية وأصيلة تشكل رمز حقيقي ومقنع على المستوى الوجداني العميق للجمهور النفسي وطموح الحشود الثائرة في تحقيق غايتها. ونستطيع أن نلمس الفرق بسهولة إذا قارنّا ما طرحناه حول الجماهير التي لا تملك ترابط وجداني عميق مع الرموز المحرضة للجمهور مع حالة تجمع الجماهير في سبيل رموز يجدر المغالاة بها كالحرية وكسر أغلال الظلم والقهر الاجتماعي والإنساني أو لأشخاص يمثلون بشكل أو بآخر هذه الرموز. والثورات المؤثرة بالتاريخ الإنساني في هذا السياق كثيرة. إذا إن نظام الدولة الفاسد لا يشكل أي قاعدة شعبية أو جماهيرية حقيقية في مجتمعه يمكن أن يستند عليه النظام في مواجهة الأزمات الخارجية, بل بالواقع, أن الجماهير تشكل الخطر الأول والأهم على أي نظام فاسد, والتي يمكن أن تطيح به في أول فرصة قد يظهر فيها رمز حقيقي للجماهير يمثل هواجسها المكبوتة.
لقد انتقلنا من الحديث عن الثورات وأهميتها في تكوين وارتقاء الموروث النفسي للشعوب في عجلة التطور إلى بنية الجماهير النفسية والتي هي المحرك الأساسي للثورات, ولكن النقطة التي نريد التنويه عنها هي الجمهور المعنوي المتواجد دائما دون أي حشود ومحرضات قوة التجمهر والدفع المعنوي والثقة التي تكتسبها الحشود, انه المستهلك للنظريات والأفكار التي تضخها الأنظمة, كما أنه الناقل للموروث الثقافي بوتيرة شبه ثابتة أو متغيرة طفيفة طالما هو بعيد عن القفزات والطفرات الجذرية.
#أنس_نادر (هاشتاغ)
Anas_Nader#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟