|
البحث عن الوفاء
فوزى سدره
الحوار المتمدن-العدد: 5851 - 2018 / 4 / 20 - 19:22
المحور:
الادب والفن
كلما تَأَزَتْ نفسى من مكايد بعض الأصدقاء ، ازداد احترامى للكلب ***** تعبت من أصدقاء الأقنعة . باءت محاولتى بالفشل عندما بحثت عن الحقيقة فى وجوههم . لا يستقر حالهم على حال . تتلون تعبيرات وجوههم طبقا للمصالح والمنافع . منهم " يا جو " الذى ورط صديقه عطيل فى قتل زوجته بدافع الغيرة العمياء التى طفحت فى قلبه ، ومنهم "بروتس" الذى ملأ الحقد عقله فشارك في طعن سيده من الخلف، ومنهم "يهوذا" الذى باع سيده بحفنة من الفضة . ومنهم المنافقون والطبالون والمتزحلقون وعُباد المال والمنافع الذين لا يستقر حالهم على حال . قلت .. مالى وهذا التعب .. مالى وهذه الطرقات المزيفة ، فاعتكفت فى دارى واحتضنت كتبى فكانت لى أخلص المخلصين وأحكم الحكماء والموعظة الحسنة والعبرة القيمة والمعرفة الفياضة ، والاحساس الصادق ، فأغنتنى عن لؤم اللؤماء وخبث الخبثاء . وأشفتنى من استفزاز المستفزين والمتشددين ، فارتاحت نفسى من اعوجاج اللسان والنميمة والغطرسة والحقد والغيرة والحسد والفضولية والكراهية ، فكانت كتبى عالماً آخر لا يُسمح بدخوله إلا من أحب المعرفة وبحث عنها وأحب الإحساس الصادق والتزم به ، وشارك هموم البؤساء والهائمين والمُذلين فى هذا العالم الفوضوى . قلت لنفسى ما الذى تريدينه يانفسي أكثر من ذلك ؟ وعندك كتب الأمان والخلاص والحب الذى يغنيك عن كل ما فى هذا العالم . قالت نفسى : جميل جداً وعظيم ما قررته ولكن ألا تعتقد أنه من الممكن أن تجد فى هذا العالم مخلوقات أخرى أوفياء مخلصين ليس لهم شأن بما تتحدث عنهم ؟ لا يعرفون طريق الأقنعة المكيافلية . قلت : يا نفسى دِلينى عليهم قالت : لنذهب إلى سوق الكلاب وجدنا الكلاب أحجاماً وأنواعاً وأجناساً ، والكل يشترك فى لغة واحدة يفهمها الجميع ، تهز زيلها يمينا وشمالا تعبيرا عن الفرح والسرور والانبساط والقناعة . استوقفنى كلب وشَدنى اليه . تلاقت نظراتنا ومشاعرنا فهز وجدانى وارتفع نبض قلبى ، وقفت أتأمله . قفز على ركبتىّ وهز ذيله بعنف وترجانى ألا أتركه . خذنى معك لقد ارتحت لك . لقد أحببتك .. لا أعرف كيف أصفه .. تقاطيع أنفه صغيرة وقورة كأنف أسد ، وفمه دقيق رقيق يُخرج لسانه من حين لآخر ليُمشِط شاربه الكثيف على جوانب الفم ، ولكن عينيه ولكى أكون صادقا عينا إنسان بسيط حساس كريم صادق مملوءة بالوفاء والحب . فبادلته حباً بحب واحتضنته فى بيتى ، وما أن خطت قدماه داخل البيت حتى تفقد جميع أركانه ليتعرف عليها . جلست بقرب المائدة وجاء " ميكو " - وهذا اسمه - جَلس على الأرض بالقرب منى وسمعت همسا فى أذنى وكأن الهمس جاء من حلم " ممكن نتفق ؟ " .... لم يكن أحد غيرى فى الدار .. تطلعت يمينا ويسارا باحثا عن مصدر الصوت ولكنى لم أجد غير ميكو ، ثم تردد هذا الصوت مرة أخرى " ممكن نتفق " .. أيوجد فى بيتنا جن . الهمس بصوت رقيق حنون ليس فيه خشونة الرجال . لم يكن أمامى إلا " ميكو " ووجدت أنه يفتح فمه ويغلقه ويخرج لسانه ويدخله . فضحكت وقلت :أتكلمنى يا ميكو ؟ فهز رأسه وكأنه يقول نعم . سمعت رنين التليفون وجاء الصوت من خلال السماعة . الو أأنت والد ميكو ؟ قلت : من هو ميكو ؟ أنا ليس عندى أولاد بهذا الاسم وقد نسيت انني طَعمته وسَجلته بهذا الاسم قال : نعم . نعم . أليس كلبك اسمه ميكو ؟ قلت : نعم قال : فهو يأخذ اسم عائلتك . فاسم كلبك الآن ميكو ميكال. قلت لنفس . نعم . هذه أمريكا . هنا الكلاب تُحترم أكثر من احترام البشر فى بلادنا حتى أنها تُنتَسَب إلى أصحابها .
سمعت الصوت مرة أخرى : ممكن أن نتفق ؟ قلت فى نفسى فلنجارى الحديث .. ينبغى على الإنسان أن يُنزِل من مستواه إلى مستوى من يعاشره بحكم الظروف حتى يتجنب ما لم يُحمد عقباه ولاسيما أننى فى صحبة كلب لم اعرف طباعه بعد ، فعلى الأقل يجب أن نجد لغة مشتركة بيننا وها هو يخاطبنى بلغتى التى أفهمها . قلت : يا ميكو .. أتعجب وأندهش كيف تتكلم لغتنا قال : أتصدقنى ؟ قلت : نعم فلتكن بدايتنا الصِدق وليس غيره قال : لقد كنتُ إنسانا قلت : كنتَ إنسانا ؟ ما الذى تقوله ؟! أهذا معقول ؟!! قال : سوف أحكى لك القصة كان والدى رجلاً طيباً ساذجاً قليل الحيلة وكان على سجيته للدرجة التى يفهمها الناس أنها " عَبَط " ، وكان يستدرجه أخوه الذى هو عمى ، فيحكى له والدى عن كل صغيرة وكبيرة وكان عمى نقيض والدى فى الصفات مختلفاًعنه اختلاف النهار والليل ، الشر والخبث يملك كيانه فلايعرف شيئاً عن قواميس الحب والمحبة الانسانية ، وكان والدى يشغل منصب عمدة البلد ، وقد ارتاح له أهل البلد لطيبته ، وكان يحل مشاكلهم بالمودة مما سَبَبَ حقدا وغلا لعمى ، الذى دائما ما كان يقول .. انا أحق بهذا المنصب من أخى لأن الناس لا ينفع معها عمدة طيب القلب ، بل عمدة شديد وحازم ، وكان يتحين الفرص لكى يتخلص منه حتى سنحت له الفرصة فدبر لقتله ولم يتعرف أحد على معالم الجريمة ، لأنه حرص على إخفاء كل الأدلة ، وبحكم الوراثة جلس عمى على كرسى العُمُودية . قلت : يا ميكو أننى أسمع حكايات أغرب من الخيال حتى أن الخيال ذاته لا يصدق هذا .. عمك قتل والدك ؟! قال : نعم .. صدقنى قلت : أكمل يا ميكو . العالم كله غرائب وعجائب من أوله لآخره . فما الذى نصدقه والذى لا نصدقه . أكمل يا ميكو استطرد ميكو: كان عمى قبل زواج أمى من أبى قد حاول أن يأخذها له ، فقد كانت تتملكه رغبة شريرة فى ان يجرد أبى من كل شئ يمتلكه ولاسيما أمى التى وهبها الله مسحة من الجمال . قلت : أفهم أنه حاول أيضا أن يتزوج بأمك . من يرتكب أفظع الجرائم يكون أقلها سهل المنال . قال : نعم . فقد تحين الفرصة بعد مقتل أبى وأغرى أمى بكل الاغراءات وبحجة الحماية حتى تزوجها . قلت : عمك قتل أباك ثم تزوج أمك . هذا يا ميكو يشبه حكاية هاملت لشكسبير . الحكايات تتكرر وتختلف والموضوع واحد . فنحن نعيش أساطير الماضي. قال : ولماذا لا تقول أننا نحن بالضبط أشخاص شكسبير فى روايته هاملت قلت فى نفسى : أنا لم أشترِ كلبا ، بل جناً له خيال يفوق كل خيال ، لو حصلت على جزء صغير من خياله لفقت شكسبير فى عدد مسرحياته ورواياته . إحكِ يا ميكو .. ما ذنب القارئ الذى يقرأ هذه الخرافات ؟ قال ميكو : أقصد من حكايتى الآن أن أُعرفك كيف كنت إنسانا وأصبحت كلبا . قلت : لا يا ميكو . لا تقل أصبحت كلبا ، فأنت عندى لك تقدير . يكفى وفاؤك واخلاصك الذى افتقدته فيمن حولى . أكمل .. قال : كان لى أخ صغير تاه منذ الصغر ولم نستدل عليه ولم نعرف له أثراً حتى شاع أنه مات وأكلته الذئاب ، وهناك اشاعة أخرى تقول أن عمى قد تخلص منه فأمر بعض رجاله بوضعه فى حفرة بالجبل وتركه ، وكان يقول دائما للناس .. هذا الولد شرير لو عاش فلن تسلم منه القرية ، ونحن قد نسيناه ولم تعد حتى ملامحه واضحة فى أذهاننا ، وفى يوم مظلم غضبت فيه الشمس من الأرض فغابت عن وجه قريتنا . وجدنا فتي مفتول العضلات أُشيع بأنه غنى وذو أصل عريق من عائلات إقطاعية فى قرى بعيدة ، اشترى معظم أطيان البلد وقصرين بها ، وكنا لا نعرف لماذا جاء إلى قريتنا ،وكان يقوم بخدمته رجل اقترب من الشيخوخة يقوم بكل شئونه . ثم تعرف على أمى وكانت أمي تستهويها الفتيان ذوي العضلات ، وجمع المال والذهب ، وفجأة فى ليلة وَشكت أن تُطوى وجدنا عمى مقتولا على سريره ولم يُعرف القاتل حتى الآن ... وبعد أيام جاءت لنا بما لم يكن في الحسبان أو الخيال فقد تزوج هذا الفتي من أمى وأنجب منها طفلة ، وأخيرا تكشفت المأساة فكان هذا الفتي هو أخى الذى فقدناه فى الصغر . لم أتحمل وقع هذا في نفسي فصحت في ميكو: قف يا ميكو . أنت الآن وصلت حد التخريف وتقريبا من كثرة ما كنت تقرأ فى كتب الأساطير . تحكى لى أساطير ثم تنسبها لنفسك . هذه أسطورة أوديب ملكا . قال : نحن بالذات أشخاص أوديب ملكا ، وما قصدت أن أحكى لك تاريخ حياتى إلا لأكشف لك عن نسبى . قلت : أنا آسف يا ميكو . لاتقل ذلك . ما الذى تريد أن أفعله لك . فأنت الآن تنتسب إلي جنس لايُعرف عنه إلا الوفاء في بلاد الإنسانية ، نفتقده نحن معشر البشر . قال : قلت لك نتفق قلت : نتفق ، وبما انك كنت إنساناً فسوف تشاركنا طعامنا وشرابنا . قال : لا . دعني اختار طعامي وشرابي حفاظا علي صفاتي من أن تتغير قلت ضاحكا : إلى هذا الحد ياميكو ؟! وهو كذلك ، ولكن يا ميكو أى اتفاق يعتبر عقداً فى ذاته والعقد فيه حقوق والتزامات . فماذا عنك ؟ قال : سوف أكشف لك وأعُرفكْ بما ليس فى مقدورك أن تعرفه قلت : كيف ؟ قال : أنا أعرف أنك تحرر جريدة وتبذل فيها قصارى جهدك وتصرف عليها الغالى والثمين من الجهد والمال وتتلهف فى أن تشارك الناس فيما تعرفه .. هل تظن مع كل هذا الجهد أن أحدا يقرأ لك هذه الجريدة ؟ قلت : إن كان هناك واحد أو اثنان يقرأون الجريدة ويتلهفون البحث عنها فهذا يكفينى ويمتعنى ويسرنى أن أجد قارئا بين مائة ، مثقفاً واعياً ، يريد أن يشاركنى الإحساس وأن يعرف نبض العقول التى تعيش على أرض المهجر ، وأنى لأكن له كل احترام وتقدير . قال ميكو : وهل تعرف أيضا أن من يكتب لك فى الجريدة لا يقرأ إلا ما كَتبه وبمجرد أن تقع الجريدة فى أيديهم يبحثون عن الصفحة التى دَوَنُوا فيها ما كتبوا قلت : وكيف عرفت ذلك ؟ قال : لقد تسللت يوما لفلان ممن يكتب في جريدتك وتحققت من ذلك . قلت : من حقهم ومن حق أى من يكتب أن يستمتع بما كتبه ، ولكن لا يمكن لمن يريد الكتابة أن تستقيم كتابته دون أن يقرأ للآخرين . قال : وأنى أتعجب من كل هذا الجهد الذى تبذله وهناك بعض الناكرين الغاضبين المُجَهلين الذين يتجاهلون عملك وينكرون تعبك لمجرد أنك لم تلتمس ودهم ورضاهم ، بل منهم من يريد حجب أعمالك . قلت : العمل الجيد يا ميكو يفرض نفسه ولا يحتاج إلى سند ولا إلى من يقدمه فهو يعرف طريقه ، أما العمل الردئ فمآله الفشل ولو بعد حين ، ولو حتى سانده الساندون ، ومن يلتمس الناس فهو مسكين ، فعلى الله الالتماس والمصير . قال ميكو : ألاتري المداهنين وتطبيل الطبالين ، فأُفسحت لهم مساحة فى لعبة الكراسى وجرت عجلة أمورهم . قلت : ياميكو أتريد أن أكون طبالا مثل الطبالين ؟ قال ميكو : أنا لم أقصد أن تكون طبالا بل أقصد أن تترك المُلك للمَالك . فكل جيل يأتي بملائكة وشياطين . فإن انتقدنا الشياطين ازدادوا عنادا وتمادوا وإن أحببناهم وعذرناهم أخجلناهم وغيرناهم. قلت : ما الذي تقوله ياميكو؟ أنُحِب الشياطين ؟! قال ميكو : ألا تعرف أن الحب يقدر علي كل شيء ويغير كل شي .. قلت : نحن نحب الذين يحبوننا أما الذين يكرهوننا فنزداد لهم كرهاً، والشياطين تكرهنا وينبغي أن نحاربهم. قال ميكو : أنتم تتكلمون كثيرا عن الحب ولكنكم لاتعرفونه ولا تعيشونه . قلت : ربما . ولكننى أحبك ياميكو لأنك صادق تُظهر مشاعرك بوضوح دون رياء. وهنا حل الظلام وتثاءب ميكو فَسَويت له سريره على أمل يوم جديد مع هذا المخلوق العجيب الذي أمتعني خياله . ألا يلذ للإنسان أن يتحدث مع كائن ذكي أيا كان ؟؟ *****
#فوزى_سدره (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|