|
التراث على مشرحة الجابري
وديع بويزم
الحوار المتمدن-العدد: 5848 - 2018 / 4 / 17 - 18:17
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من البديهي أن سؤال التراث هو سؤال الهوية والذات ،وقد كان هذا السؤال حاضرا في وعي الفكر الفكر العربي منذ زمن بعيد،إذ انشغل منذ عقود من الزمن الفكر العربي بالتراث وبمقضاياه عبر مراحل مختلفة فهو سؤال سيضل أبديا ما دام الفكر العربي يحمل على عاتقه هم الهوية والذات من جهة وهم الحداثة من جهة أخرى، والتراث بشكل عام يعد أسس تقدم أي ثقافة من الثقافات العالمية ،وحتى الثقافة الأروبية التي تعيش أوج مراحلها قد عادت في فترة من الفترات إلى تراثها والنبش فيه والأخذ منه والإتكاء عليه،نفس الأمر حدث ويحدث مع التراث العربي الإسلامي "فمسألة التراث يعضم أمرها أكثر في حالات الثقافات المكتنزة بالتاريخ والمسكونة به أي في حالة المجتمعات التاريخية ،ذات الميراث التاريخي الكبير وتلك حالة الثقافة العربية في مجتمع يتنفس التاريخ"1 والعودة إلى التراث كانت نتيجة عدة عوامل لعل أبرزها ،صدمة الحداثة مما جعل من العودة إلى التراث عودة قصرية ،فالأخر هو الذي يفرض هذه العودة "وهو الذي يحدد الذات ويطرح عليها وعيها الذاتي سؤال الماهية ،وهو نفسه يصوغ الحدود التي يرسمها " 2 وقد تعددت القراءات والتأويلات والمناهج الدارسة للتراث الأمر الذي جعلنا نحن والفكر العربي بصفة عامة أمام قراءات متعددت ،(ذات طابع عقلاني،وأحيانا ذات طابع روحي وأحيانا مادي)وسننفتح على مقاربة جديدة للتراث تختلف عن سابقتها مضمونا ومنهجا ،يتعلق الأمر بمقاربة الجابري للتراث ،فما هو إذن موقف الجابري من التراث ؟وما هي المنطلقات التي ينطلق منها ؟
من المعلوم إذن أنه كلما طغى هاجس الحداثة على سطح الفكر كلما أحتدم النقاش حول التراث باعتبار التراث سبيلا للحداثة في العالم العربي بالخصوص ، في هذا السياق حاول محمد عابد الجابري مقاربة مفهوم التراث ،هذا الأخير الذي يعد الدافع الأساسي إلى بلورة ماهو جديد ومحجوب عن الثقافة العربية ،إنها الحداثة بكل تجلياتها،فاالإنخراط في مشروع الحداثة والدخول في ركب الحضارة العالمية لا يتم إلا بمراجعة التراث وغربلته ،ذاك أن الحداثة ليست وحيا سماويا أو مشروع يأتي عن طريق الصدفة ،بل هو نتاج للحفر والغوص في أعماق التراث ومحاولة تهيئة التربة الثقافية والفكرية فاهتمام محمد عابد الجابري بالتراث لم يكن أساسا بدراسة التراث كغاية في ذاته ، بل كان سبيلا للحداثة وهوسا بها وغاية في ربط الهوة مابين الماضي والحاضر. إن الإنشغال بالتراث إذا حسب مفكرنا كان له هدف حداثي معاصر ،إذا يرى أن أي عملية إقتباس الحداثة من خارج أروبا تتطلب بالأساس فهم هذه الحداثة في تاريخها ،قس على ذالك نقد العقل الأروبي من قبل الفكر العربي ومحاولة إسقاط هذه الحداثة بخصوصية عربية ،الأمر الذي جعل محمد عابد الجابري ينطلق في مشروعه الفكري من نقد العقل العربي كمرحلة جوهرية لولوج الحداثة،أما فيما يخص مفهوم التراث بصفة عامة ،يقترح محمد عابد الجابري تعريفا شاملا يشمل التراث المعنوي كفكر وسلوك ،والتراث المادي كالأثار والمباني القديمة والتراث الثقافي والقومي ،والتراث الإنساني" فالتراث هو كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الحاضر سواء ماضينا أو ماضي غيرنا سواء القريب منه أو البعيد " 3 إن الماضي مرتبط بالحاضر فهما متصلان وما التراث إلا ذالك الماضي الحاضر فينا والذي يلازمنا ونلازمه.
إن إصرار الجابري على فهم التراث جعله يستخدم سلاح النقد في مقاربة التراث إذ يلفت الإنتباه إلى كيفية حضور السلف في الخلف حضور الماضي في الحاضر وإلى الإرتباط الوثيق بالثقافة وبمقومات الثقافة الإسلامية المرتبطة بالماضي فالتراث حي في وعي المفكر العربي ، يحرك حاضره وتتم العودة إليه في كل مناسبة حتى أصبح الحاضر المحرك للمستقبل ،إذ لم يصبح التراث ما كان فقط بل ما يجب أن يكون،فالخطاب العربي الحديث والمعاصر وخاصة الخطاب النهضوي الذي حاول حاول دمج التراث بما هو سياسي وإيديولوجي ووجداني إذ عمل خطاب النهضة خاصة عند الأفغاني ومحمد عبده على توضيف التراث والعودة إليه أو مايصطلح عليه"بالعودة إلى الأصول " من أجل حفط الهوية والذات والخصوصية العربية،وفي سبيل التصدي لتحدايات الغرب الأجنبي ،إذ بات التراث في الخطاب الفكري النهضوي مطلبا إيديولوجيا يتم الإرتكاز عليه من أجل الإرتقاء إلى المستقبل وفي مواجهة التقدم الاجنبي . كما انتقل م الجابري إلى أنتقاد وضعية القارئ العربي في تعامله مع تراثه ، لأنه بدل تحريك الماضي واحتواءه أصبح الماضي هو من يحرك الحاضر ويحتويه ويؤطره لدرجة يفقد فيها أستقلاليته وحريته " بمعنى ان التراث يحتويه يفقده فيها أستقلاليته وحريته ،لقد تلقى القارئ العربي تراثه منذ الميلاد ككلمات ومفاهيم،كلغة .كحكايات وخرافات وخيال .كطريقة في التعامل،مع الأشياء كأسلوب في التفكير كمعارف [...] كل ذالك بدون نقد وبعيدا عن الروح النقدية فهو عندما يفكر ،يفكر بواسطته ومن خلاله ،فيستمد منه رؤاه واستشراقاته مما يجعل التفكير هنا عبارة عن تذكر "4 ولم يسلم موقف الجابري من النقد ،وتفاعلا مع الثقافة النقدية التي حمل الجابري لوائها في مشروعه النقدي في دراسته للتراث واستنادا للنقد ووقوفا عليه نجد بعض الملاحضات النقدية التي قدمها بعض الباحثين والدارسين لمشروع نقد العقل العربي ،خاصة النقد الذي قدمه الدكتور عبد الإله بلقزيز الذي يعرف الجابري جيدا والذي درس مشروعه الفكري ومضامينه ثم الانتقادات التي قدمها الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه تجديد المنهج في تقويم التراث . بعد أن قدم الدكتور بلقزيز قراءة تحليلية لمشروع نقد العقل العربي من حيث بنيته ومفاهيمه ومضامينه وفرضياته وانتقاله من قراءة مضامين التراث إلى قراءة الأليات المنتجة للتراث إذ يقدم صاحب كتاب "نقد التراث " والذي يعالج فيه إشكالية التراث في ارتباطه بالحداثة فهو على غرار الباحثين العرب المساهمين في تقديم قراءة جديدة للتراث يقدم في كتابه هذا عشر ملاحضات نقدية على الجابري سنحاول إبرازها بالوقوف عليها وإبراز مضمونها بالوقوف على بعض منها يأخذ بلقزيز على الجابري إسقاطه المفاهيم الحديثة على النص التراثي أي إسقاطه المفاهيم والمناهج الغربية الحداثية على التراث هو ما يحول الموضوع "إلى حقل تجارب لإثبات نجاعة المفهوم المستخدم لا النص المشتغل عليه من قبيل مفهوم القطيعة الإبستمولوجية الذي استعاره الجابري من ألتوسير لإثبات برهانية الفكر المغربي مقابل عرفانية الفكر المشرقي "5 وهذا الإسقاط والإقتباس الذي طبقه الجابري يعتبره بلقزيز " أقرب ما يكون إلى الإقحام القسري والتعسفي في الإستخدام "6 ويؤدي هذا الإسقاط القسري إلى إحداث دلالات جديدة تخالف دلالتها في الأصل ومن بين هذه المفاهيم الذي أسقطها الجابري على التراث نجد مفهوم النضام المعرفي الذي يشكل أهم المفاهيم في نقد العقل العربي والجابري إذ" يستعيره من ميشيل فوكو الذي أعمله في تحليل الثقافة الغربية فإنه أي الجابري لا يمنحه نفس الدلالة الذي منحها فوكو"7 قس قس على ذالك أفة أخرى ميزت أعمال الجابري وهي إنطوائها على مشكلة لا تقبل التجاهل هي "احجام الباحث في الأغلب من كتبه عن التصريح بالمصادر والمراجع العربية التي يعتمدها في ما يكتبه،وخاصة ما ينتمي منها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر "8 وفي سياق النقد يرى طه عبد الرحمن أن نموذج الجابري في تقويم التراث قد وقع في تعارضين إثنين" أحدهما التعارض بين القول بالنضرة الشمولية والعمل بالنضرة التجزيئية،والثاني التعارض بين الدعوة إلى النضر في الأليات وبين العمل بالنضر في مضامين الخطاب التراثي في الأليات"9ورغم قول الجابري وإدعائه بالتمسك بالنضرة الشمولية والبحث في الأليات ،فإنه ما لبث أن وقع في التناقض عند العمل بها إذ أنتقل من النضرة الشمولية إلى النضرة التجزيئية ومن البحث في الأليات التراثية إلى البحث في الخطاب التراثي هذه الأليات ،بالإضافة إلى هذا التعارض نجد تعارض أخر يتعلق الأمر بالأليات المستعملة في إنجاز بحثه في المضامين التراثية هي أليات إستهلاكية ، أي أنها أليات ووسائل مفصولة عن تراثنا العربي الإسلامي ،وهذا يتجلى في إقتباسه من مجالات ثقافية غربية مختلفة" فقه العلم التكويني(بياجيه) وفقه العلم العقلاني (لالاند وباشلار ) والبنيوية وفلسفة التاريخ (الهيغلية والماركسية )"10أي إقتبس ما هو فكري وعلمي وما هو سياسي وحاول تطبيقه على مشروعة الفكري والأديولوجي ،الأمر الذي جعل محمد عابد الجابري ينساق إلى إنكار ما كان من مبادئ التراث الإسلامي العربي ،واندفع إلى القدح في العاملين بهذه المبادئ الأصلية.
إن الملاحضات النقدية السابقة سواء بالنقد الذي قدمه بلقزيز أو طه عبد الرحمن ،لا ينقص من العمل العلمي الذي أنجزه الراحل محمد عابد الجابري والذي يدين له الفكر العربي الحديث والمعاصر في مجال دراسات التراث بالكثير لكنها تحاول أن تنبه على الكثير من الثغرات في فكر الجابري.
المصادر والمراجع
1عبد الإله بلقزيز ،نقد التراث ،مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت .الطبعة الأولى 2013.ص 22 2عبد الله العروي ،الإديولوجية العربية المعاصرة ،المركز الثقافي العربي .ص30
3محمد عابد الجابري التراث والحداثة.دراسات ومناقشات(بيروت مركز دراسة الوحدة العربية(1991) ص30 4المصدر نفسه .التراث والحداثة ص34 5محمد عابد الجابري .نحن والتراث ص34
6عبد الإله بلقزيز .نقد التراث . مركز دراسات الوحدة العربية الأولى.بيروت 2014. . ص353 7نفس المصدر . ص 353. 8المصدر نفسه ص354 9المصدر نفسه ص 559 10طه الرحمن .تجديد المنهج في تقويم التراث 29 طه عبد الرحمن ،تجديد المنهج في تقويم التراث .
#وديع_بويزم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التراث على مشرحة الجابري
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|