أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نسيم المصطفى - الحلقة المفقودة : خواطر فلسفية عابرة















المزيد.....



الحلقة المفقودة : خواطر فلسفية عابرة


نسيم المصطفى

الحوار المتمدن-العدد: 5847 - 2018 / 4 / 16 - 01:42
المحور: الادب والفن
    



مقدمة
هناك دائما من يطرح أسئلة تتعلق بالوجود و الماهية و أصل الحياة و خلق الكون. كما أن هناك دائما من سيطرح أفكارا جديدة حول تلك الأسئلة القديمة المتجددة، و سيبقى ثمة على الدوام من هو مستعد للتشكيك في كل ما يطرح من نظريات. لذلك علينا ألا نقلق بشأن تقدمنا العلمي و تطورنا المعرفي. لكن ربما علينا أن نستمر بالقلق حيال تعصبنا لأفكارنا النمطية رغم تجاوزنا لمراحل المراهقة الفكرية مذ دخل العالم الرقمي حياتنا و تأصلت فينا ثقافة الحوار بشكل ملموس.
و كأي فضولي بسيط طرحت بدوري أسئلة من ذاك القبيل. و كأي إنسان على هذه الأرض لم أتلق جوابا صريحا و شافيا فمضيت أحلل وفقا لمنظوري الخاص حتى خلصت لاستنتاجات وظفتها لكي أقنع نفسي بأهمية وجودي قبل كل شئ. فتبين لي في النهاية أن وجودي لم يكن ليكون ذو معنى لولا وجود بقية الكون إلى جانبي.
يلخص هذا العمل نظرية جديدة حول أصل الإنسان تستغل معطيات العلم من جهة و ما جاء في النصوص و الروايات القديمة و على رأسها الكتب المقدسة من جهة أخرى. و هي قصة اعتقدت أنها أقرب إلى التصديق من كل القصص التي وردت في النصوص القديمة، ربما لم أكن لؤألفها لو لم تكن كل القصص الأخرى قاصرة في نظر عقلي أو مبالغا فيها أو مضحكة حتى.
عن تلك القصة التي ألفتها حول أسئلتي العابرة، و كانت أسئلة صبيانية في بعض الحالات أو ليلية في أخرى تبدو تافهة مع سقوط أول خيط من خيوط شمس الصباح، كان بودي لو أتحدث طويلا آخدا بعين الإعتبار الجانب الفلسلفي من الموضوع لكنني لست بارعا في الكتابة الفلسفية فتركت إذن زمام الكتابة للغة أدبية تعبر بصيغتها الحسية المختزلة عما تختزنه الذاكرة من تأليفات.
إهداء ـ للمؤمنين و غيرهم
لأول مرة و فجأة صار كل شئ حوله مهما. حتى خرطوم المياه الطويل الممتد فوق العشب بدا كثعبان يتلوى بين شجيرات الحديقة و جدول الماء بدا كأنه كائن حي يسعى. و أما زهرة مسك الليل التي زرعها بنفسه مخافة أن تنقرض من المدينة فقد بعث أريجها ذكريات الطفولة الغابرة بدواخله فانشطرت نفسه بين الخيال و الواقع. و انفطرت دمعة من عينه، حين أدرك متأخرا أنه كان يفقد وجوده رويدا رويدا.
من أجل خطأ فادح كان عليه أن يدفع فاتورة باهضة التكلفة، لكنه ظل يعتقد أنه لم يكن المذنب الرئيسي و أنه حمل فوق طاقته و بالتالي فإن عدالة ما سوف تنجده في آخر لحظة.
هذا المغامر المقامر لم يكن ليبقى حيا إلى الآن لو لم يكن مؤمنا بعدالة السماء. دون ذلك لم تكن أعصابه لتتجمد في وجه العاصفة و لا كان قاوم حتى النهاية و لا كانت نهاية سعيدة على الأقل بالنسبة إلى من يهمه أمرهم و لو إلى حين .
هذا الشخص أسرف قليلا في الحلم فتحول إلى شخص آخر، و لأنه ماهر كفاية فقد استطاع العودة مجددا إلى حالته السابقة مع بعض النذوب طبعا. و لعله تبعا لذلك كائن حافل بالتجارب، مما يجعل منه بطلا حقيقيا لرواية ما.
هذا الشخص الجالس القرفصاء متأملا بشغف كل ما يحيط به كان يائسا فعلا في تلك اللحظة العابرة التي تفصل بين حقيقتين مصيريتين : حياة قصيرة جذابة حافلة بالأشواك و موت مفاجئ منبوذ بمثابة بوابة نحو الخلاص. وهو لم يختر عمليا أن يموت و لا أن يولد حتى.
لولا خروجه المتكرر من الواقع المفروض المقيد و المقيد نحو الواقع المفترض الحر اللامحدود الذي يقبع تحت جمجمته، ربما لم يكن ليحيا سنوات عمره كاملة دون أن يحظى بيوم واحد للراحة !
هذا الشخص العظيم قد يكون من علمني ألا أنظر إلى الخطإ كأنه جريمة لا تغتفر بل كواقع مفروض وجب التعامل معه بروح المسؤولية مع اتخاذه ذريعة للمزيد من المعرفة و صقل التجربة، كما قد تكون تلك الجدة الحكيمة التي رافقتني من المهد و لاحظت سلوكها و عشت أفراحها و أحزانها و حزنت لحزنها و بكيت بحرقة يوم فراقها، أو ابنة أختي حين علمتني كيف أفرح بلا سبب معقول و هي تحت الرابعة و أنا فوق الأربعين.
هذا الإنسان السمح المتواضع الأمين قد يكون صغيرا و قد يكون كبيرا، قد يكون حيا و قد يكون ميتا.
هذا الشخص قد يكون متعلما أو أميا و قد يكون قريبا جدا أو بعيدا جدا، قد أعرفه و قد لا يعرفني. لكن ثمة رابط ما علي أن أستفهمه، إذ كيف يعقل أن تكون زمرته أقل عددا نسبيا مقابل الباقي ؟
هذا الشخص مهما كان أو سيكون علمني أن أسائل ماهيتي منذ نعومة أناملي و ظل يرشدني رغم كثرة أخطائي لأحصل في النهاية على قصة جديرة بالمشاطرة.
هذا الشخص أنثى كانت أم ذكرا حري بالتكريم لأنه أوحى إلي أن ألاحظ فروقا بين الناس ما كان لها أن تكون و هو في نهاية المطاف سبب كبير في وجودي على هيئتي : فقد يكون هو من ولدني أو ولد من ولدني أو شبحا لا أعرف إلا أفكاره أو صورة نفسي التي امتطت صهوة جواد جامح في براري المعرفة منذ النشأة الأولى. و هوـ أو طيفه ـ الذي حرض ربما لحظة الكتابة هذه رغم المعيقات التي تنتصب عمليا في وجه التدوين.
من أجل تكريمه فضلت إذن أن أجمع بعض ملاحظاتي القديمة التي قد يكون بعضها صيغ خلال سنوات الطفولة الأولى.
المثقف الفيلسوف
لعل شاعر الكون درويش كان أكثرهم صدقا و جرأة لما أفصح في مطلع قصيدته ’لاعب النرد‘ و خلالها عن ذلك التساؤل الوجودي : "من أنا لأقول لكم ما أقول لكم". لعله كان يختزل حياته كاملة في بضع كلمات، بل حياة كل إنسان بكل ما تحمله من شد و جذب و من حب و صخب و مفاجأة. لعله كان مؤمنا بالموت ليس كحتمية مقررة بل كوسيلة للإرتقاء نحو عالم أفضل بغض النظر عن شكل ذاك العالم أو طبيعته. لعله أدرك في نهاية القصيدة أنه لم يخلق عبثا كما اعتقد في بداياتها و لعله بدا منتشيا حين اكتشف أنه أدى رسالته على أمثل وجه في ظل- و رغم - منطق الصدفة الذي بدا طاغيا قبل أن يتبين أن الأمور الهامة قد لا تكون عبثية إلى الحد الذي نتوقعه، دون أن يذكر ذلك صراحة !
هكذا يحول المبدع مخاوفه الدفينة من الحياة و مفاجآتها إلى حياة ضمن الحياة، فيتعزز لديه الشعور بتعدد الأكوان من حوله. و هكذا يضمن المثقف المتميز سيرورة الحياة في ما بعد الحياة. ها قد تحققت ذاثه اللانهائية الطموح. لاشيء يثنيه الآن عن الإعتراف بدور" القدر" في حياته و تمديداتها التي تكاد تكون قسرية بدافع الحاجة إليه (لأنه إنسان يحمل هم الآخر و بالتالي فبقاؤه ضروري في مكان و زمان ما)، فيمنح مزيدا من الوقت و الصحو كي تكتمل الصورة قبل الرحيل.
يظل المثقف الفيلسوف شغوفا بأحجيات الطبيعة التي لا تنتهي فيتعلم البقاء على مسافة واحدة من كل الموجودات، هكذا يصير وحيدا هناك على قمة الجبل العالية؛ لأنه لا يمكن عمليا أن يقف على المسافة نفسها من الجميع إلا إذا ابتعد عنهم نحو الأعلى بعيدا هناك، زاده الماء و الملح. لكنه قريب أيضا من السماء؛ فيفترض أن في الأعلى هناك من يسمعه و من يسجل شهادته لا بل من يتقبل أسئلته الجوهرية الحرجة و التي قد لا يتقبلها أشباهه ـ لمن سيعلن أفكاره الجنونية إذن إن لم يكن للسماء الرحبة القريبة ـ. و هكذا يصير مثقفا موضوعيا يؤمن بالله - أو بقوى ما ملؤها الخير و الرأفة – سرا؛ حتى لا تطمع فيه ماكينة الأدلجة لتحوله عبدا للحياة كبقية الكائنات العابدة، فينسى أو يتناسى في غمرة النشوة العابرة سر الحياة : رسالته المقدسة نحو المجتمع و الطبيعة دون بيع أو شراء، دون كلل أو ملل. فتلك الرسالة و إن عرضته لحزن أكثر إلا أن تحقيقها يبقى هدفا فوق كل اعتبار لأنها طريقه الأمثل للخلاص في ظل عالم بطعم الكون؛ متعدد الألوان، لا محدود الإمكانات و مفتوح على كل الإحتمالات.
كأنه يتساءل عن ماهية " الإنسان"، هذا الذي يمثله و الذي يخيب ظن العدم. من يكون إذن حتى تسمح له الطبيعة بالإستمرار حيا رغم كل المناسبات المواتية لفنائه؟ تلك الطبيعة التي تتبع نظاما صارما مؤلفا من الأخطاء و ردود الأفعال لا يمكن أن تؤجله من أجل الآخرين، بل ثمة ما يحتم بقاءه. ربما يراد من التأجيل إبلاغ رسالة للآخرين مفادها أنهم ما زالوا بعد لم يتعرفوا على حقيقة الإنسان الذي يمثلونه.
من أنا؟
و لعلي مثله قليلا؛ ولدت إلى جانب البئر و الشجرات الثلاث الوحيدات و انتميت مصادفة إلى بيئة ملغومة بالموروثات. لم يكن لي أي دور في وجودي كما لم أختر سماتي و لا الصفات، أنا مثله فكرت كثيرا في الماضي و قليلا في الآت. أنا أيضا سنحت لي الحياة أن أبقى على قيدها عدة مرات كي أقول في نهاية الأمر مثله أو أقل قليلا : "لابد أن أقول لكم ما علي أن أقول لكم" و أنا لست هاديا و لا عالما بل مجرد عاقل مثلكم أو أقل قليلا.
لم يكن لي أي دور في اختيار القصةـالقصيدة التي علي أن أرويها في جملة من الكلمات غير امتثالي لقوم يقول أعقلهم في سره : "أنا أفكر، إذن أنا منبوذ". ليس لي أي دور في وجودي بين ذاك الذي وجد على عجل و هذا الذي أُوجد على مهل.
تلك القصيدة عدلتها مرات و مرات كي أرفع السقف قليلا كلما أينعت في ذهني فكرة قديمة كانت تنضج على مهل. و هي قصة بدأت باكرا حين حلمت حلما صغيرا لذاك العاقل الصغير الذي كنته في طفولتي، ربما لم أكن لأتصورها لو لم يكن مهدي بجوار جدارية تحفل بالأشكال الهندسية البسيطة و المعقدة و لو لم تكن مدرستي الإعدادية قريبة من خزانة البلدة.. تلك البلدة التي انتقلنا إليها حينها كانت فارغة من كل أسباب التسلية إلا من ثلاث : حلقة الساخرين يوم السوق و مجمع الطاعنين يستحضرون ألعابا ذهنية حول المسجد، يقتلون بها الوقت في انتظار المؤذن و تلك الحديقة.. تلك الحديقة المشاع التي بها ورد قليل محرم على الذكور سوى ما سرقت العيون خلسة في غفلة من الحراس. أربع سنوات كانت كافية كي أقرأ كل كتب الخزانة و أحفظ كل شعرائها و أدبائها و علمائها، فأتجنب بقية عمري استقطاب المستقطبات لأبقى حرا عادلا و محبا للكائنات. هكذا تحايلت على الطبيعة كي أتجنب فخاخها و أمراضها.
تلك القصة التي كتبتها باكرا بدم بارد لم تكن لتحيا و تتنفس و تكبر لتصبح ما أنا على وشك أن أقوله الآن بدم دافئ لو لم يكن خط أبي مثيرا شدني قبل انبلاج فراخ الحمام من الكلس. لو أني لم أفكر يوما في كينونتي و لو لم أرتب شروطا و خاصيات، لو لم أصنع عالمي بنفسي ربما لم أكن لأقول ما علي أن أقول : قصة مفتوحة يمكن لأي كان أن يضيف إليها قصته و يمضي إلى حال سبيله، فيكملها الآخرون تباعا إلى ما لا نهاية. لكنني أرفع السقف عاليا فأطالب برأس الوجود وأنا أقول لكم ما أقول لكم ردا على السؤال في الأعلى هناك.
هكذا أخلص ما بذمتي تجاه الأرض التي احتضنتني بذراعين مفتوحتين بأن أشاطر الجميع ما اعتقدته حتى أجل قريب ملكا خالصا لي. أفكاري التي تناسلت من حزمة معارفي و قوة تجاربي ظلت تمثل دور الموازن الذي يعدل نبضي كي يوافق الطبيعة، و بيئتي الحاضنة مهد أفكاري جعلتها جنونية و خرافية. لكنها لطالما كانت علاجا فعالا لداء فقدان الذاكرة.
قد يكون الخيال موهبة لكن قوته ترتبط أكثر بقوة المعارف و تعدد مشاربها و يبقى الزمن كفيلا بلملمة خيوط قصة ما، يحدث أن تكون مخبأة بين ثنايا الأحجيات. هكذا كنت أستمد من الطبيعة كل ما من شأنه أن يدلني على ماهيتي و لقد أذهلني ذلك التوافق الواضح لهذه الرؤية و ما قد نفهمه من خلال تأويل ما جاء في الكتب القديمة و بصفة خاصة الروايات و الكتب المقدسة.
التحول العظيم الأول
كان علي أن أعرف إن كان جدي الأول "قردا" كما ادعى بعض "العلماء" و حين اطلعت على نظرية التطور أو الإرتقاء الطبيعي كدت أصدق أن الصدفة عدلتني لتجعل مني فردا في مجتمع قردة نسبية التنظيم و جزءا من عمل لاينتهي لشيء لا يعمل، و الحقيقة أن الواقع يؤكد الفرضية إلى حد ما بالنظر إلى تفشي الحروب مثلا أو استعصاء حل الإشكاليات الإجتماعية و الإقتصادية و البيئية. كان ممكنا أن أتيه بسهولة لولا أني قرأت فيما قرأت كتابا مقدسا لأمتي التي لم أخترها اسمه القرآن.
هكذا أولد من جديد برأسين مختلفين كان علي أن أجد لهما منطقا مشتركا هما الإثنين و هكذا غذوت أرى الموضوع و سياقه معا على نفس القدر من الأهمية لأقول في نهاية المطاف : لم يكن داروين مخطئا و لا الفقيه الذي نهرني يوم أبديت إعجابي بفكرة التطور أول مرة. كانا محقين معا، فقد خلق الإنسان بعد كل شئ و أما إنسان داروين فلم يكن سوى ذاك القالب البدائي الذي انتهى إليه مآل الطبيعة متربعا على عرش السلسلة الغذائية وله اسم في القرآن : الإنس.
لم يكن داروين مخطئا بل ظل عمله ناقصا حين توقف عند الحلقة المفقودة، هو الذي يحيا و يموت مثلنا جميعا لم يستكن لإرهاصات الماضي بل قدم رسالته كأي مثقف فيلسوف قادر على الحلم بكل تجرد و مضى إلى حال سبيله.
ذاك الإنس الذي جاء أسلافه من أعماق البحر قبل ملايين السنين حين تشققت الأرض إثر اصطدامها بكوكب - كان "مقدرا" لها أو "مصادفة"، ليس للأمر أهمية فيما سينتج -، فألقت ما بجوفها من صخر ملتهب يحتضنه المحيط يصنع به بيئة مناسبة لظهور الحياة...
هناك وسط المحيط ظهر الكائن الأول الصغير أحادي الخلية لتتشكل منه الأنواع التي تنازعت فيما بينها حول الغذاء و المكان، فكان القوي يسيطر على الأعماق متطورا ببطء و كان الضعيف يهرب بعيدا يتطور أسرع فأسرع معتمدا على تطور الحيلة و الدماغ حتى خرج من البحر، فصار الأذكى أبعد الكائنات عن المحيط و طار في الأجواء ليصبح حرا طليقا فيفقد عقله إذ ما عاد بحاجة إلى دماغ متقدم ما دامت السماء توفر له الحماية من باقي الكائنات المختلفة.
هكذا تلقف البشري الرابض في سفح الجبل مشعل القيادة، فصار الإنس أعقل سكان الأرض. لكن معرفتهم كانت محدودة جدا و هم بدائيون جدا و كان لزاما تعليمهم ضمانا لمبدأ الإرتقاء الذي تنهجه الطبيعة. تلك المعارف الجديدة و المهمة و الخطيرة كان يلزمها معلم بمواصفات خاصة. هكذا كان خلق آدم أمرا طبيعيا يساير تطور الأحداث على الأرض.
كان بعض الإنس قد بلغوا مرحلة متقدمة من التطور الطبيعي بحيث أصبحوا قادرين على التأمل البسيط و واعون بوجود مراقب عظيم يتتبع خطواتهم و يراهم دون أن يروه. لذلك بادروا إلى تقديم القرابين إلى الجبل الشاهق الذي عاشوا في سفوحه و لم يستطيعوا أبدا بلوغ قمته التي تتربع عليها جنة حقيقية هي الجنة الأولى.
تمتد جنة الأرض التي زالت مند زمن بعيد - بفعل عوامل التعرية - على مساحة كبيرة فوق جبل تكاد أضلاعه تكون عمودية على الأرض و تزخر بأنواع مختلفة و مثيرة من الأعشاب و النبات و الأشجار التي تحوي مواد عضوية بخاصيات كيميائية فريدة. فيها خلق آدم من ترابها على شاكلة الإنسي عاقل الأرض (شكل البشر) لكن بمواصفات مختلفة جدا، ذلك أن الطبيعة تفرض أن يكون المعلم أقرب شبها بالمتعلم شكلا لكن ليس بالضرورة جوهرا. كان آدم أطول نسبيا من الإنسي لأن الطول سلاح للسيطرة في عرف الإنسي الذي لا يختلف كثيرا عن الحيوان في طباعه باعتماده على الغريزة بشكل كبير.
خلق آدم من تراب الأرض التي سيعيش عليها، لكن التراب أدنى مرتبة من النار في نظر الشيطان الطامح إلى خلافة الأرض. هو المخلوق من نار و النار ذروة النور الحارقة و النور مكون أساس للملائكة. و هو أعلم الملائكة قبل التحول العظيم. لم يكن عصيان الشيطان خطأ متعمدا بل كان خيارا، فحسب الشيطان لا يمكن لطاقة النار أن تندحر أمام طاقة الطين الذي يمثل بقايا صهارة من نار وبذا لم يدرك أن ثمة خاصيات أخرى لآدم تجعل منه المرشح الوحيد للمهمة.
و كانت زوجه حواء لتكون رفيقة دربه و حسب، لولا أن أكلا من الشجرة المحرمة فبدت لهما سوءاتهما. فيعلن عن نقطة التحول العظيم لأنه الآن صار بإمكانهما التوالد، فتلك الشجرة المحرمة كانت تخفي سرا كبيرا و خطيرا، إذ تحمل في جيناتها رمز التكاثر.
و يهبطون منها جميعهم
لم يكن للشيطان أن يعاشر آدم و ذريته فانبرى إلى الإنس يعلمهم مناصفة مع آدم. آدم الذي زهد في الخلود حين اختار أسلوب التكاثر لرحمة فيه و مودة تجاه الآخر هو الآخر أبدى خيارا إذن.
دون آدم ثمة نظام حازم يرتكز إلى الأمر و الطاعة، يتجلى في الطبيعة بمختلف مكوناتها و هو عالم مادي و قاسي يعاقب الخطأ بالحرمان الذي قد يذهب حد الحرمان من الحياة نفسها. فالإنس ذاك السلف البدائي كان يقدم أولاده قربانا للآلهة طمعا في حمايته من بطش الطبيعة، ليس لأنهم أغلى شيء يحظى به في الحياة بل لأنه ظل يعتقد أن الآلهة تحب أكل لحم البشر. لم يخطر بباله أن الجثت تتحلل بفعل فاعل دقيق أو ربما كان يعتقد أن جذورا مصاصة للدماء تمتد من الجنة التي في الأعلى إلى قبور الأضاحي في سفح الجبل. و كانت العظام بالنسبة إليه كما الكوارث دليلا كافيا للإسراف في الخوف. لذلك سارع إلى عقد صفقة خيالية مع المدمر العظيم المحتمل حتى و إن كانت من طرف واحد، حتى و إن كانت على حساب ولده لحما و دما.
دون آدم لم يكن لذاك البشري أن يعرف معنى الرحمة بمفهومها العميق الذي يتخطى المجال الغرائزي. فآدم الذي جاء إلى الأرض خليفة، آثر إرضاء زوجه على الحياة الأبدية ليس لضعف فيه بل لقوة لم تكن موجودة هي قوة الضمير التي تمنح دفق الرحمة - و هي سمة الخالق حسب النصوص المقدسة - و من ثم باقي الصفات الحميدة. و لعل هذا كان سببا لخلق آدم غفل عنه الشيطان فأسقطه من حسابه.
قد يبدو جنونيا أن أخوض في هذا الموضوع الذي قد يشعر معه المرء مربوطا بقوة إلى جدع نخلة بواسطة حبل لا يتعدى مترا طولا، ممنوعا من السفر، مرغما على الإنكفاء إلى حياته الدنيوية البسيطة الفانيه؛ مثل طائر وقع بين جبلين فأدرك أنه بشري و حاول أن يسير لكن دون جدوى. لكن و في لحظة ما يأتيك صوت داخلي يشبه الهمس فتتلكأ فيأتيك صوت آخر بطعم الرنين يظل يتردد حتى تستجيب و عندها تقطع الحبل اللعين و تحلق في الفضاء فتشعر أن هذا الجزء من العالم غير مأهول و لامملوك فيتحرر الكلام ليهوي على الورق لا تدري حقا إن كان كله لك، إن كان محض خيال أو جزءا من كل. قد تدونه و قد لا تدونه، بعضه بل جله يمضي إلى غير رجعة، فتندم عليه لأنه لو بقي صامدا لبقيت في ذلك الجزء الجميل من الكون مترددا متجددا، و بعضه قد تستكشفه مصادفة حين تعثر على دفتر قديم كان لك. هكذا، من بين ثنايا الأشياء، آخذ حصتي من زمني، أوضب أشيائي تحت جمجمتي كمما لو كانت جزءا من أحجية فاتنة ثم و في كل مرة أقيم الوضع فأجده جيدا فأستمر في إيماني بقصتي. لا يهمني أن ترضي غيري أو تغضبه، فهي لم تولد يوم وجدت بل خرجت متأخرة جدا جدا من رحم الأفكار. لا يهمني أن تؤثر أو لا تؤثر ما دامت أسندت وجودي و سايرت رغباتي و أطرت أعمالي و عوالمي.
من أنا إذن لأقول ما ينبغي أن أقول. أأنا ذاك البشري التائه القديم أم أنا ذاك الآدمي الأمين النبيل.
لم يكن هينا علي اكتشاف حقيقتي و لأن الكشف جاء مبكرا فقد تأقلمت مع الوضع رويدا رويدا ليصير بإمكاني القول الآن : كان ممكنا لقصتي أن تبقى طي الكتمان لو لم تكن الأرض مريضة إلى هذا الحد.
التحول العظيم الثاني
ظلت سلالة آدم نقية خالصة على امتداد تاريخ طويل و كذلك بقيت سلالة الإنس تتكاثر من جهتها دون أن يعني ذلك استقلالهما عن بعضهما البعض. و بغض النظر عن طبيعة التفاعلات التي قد يكون أفرزها التقارب بين السلالتين فإن ثمة حدثا مفاجئا سوف يطرأ ليحول مصير الإنسان إلى وجهته التالية.
عندما لم يكن هناك بد من مسح الأرض و كان الطوفان على الأبواب، صنع نوح "سفينته" التي أنقذ فيها أهله الصالحين الذين سيعودون إلى اليابسة حالما تعود الأمور إلى نصابها. لكن سؤالا واحدا من بين كل الأسئلة الأخرى ظل يتردد عندي مرارا و هو : لماذا منع نوح قومه من التزاوج على متن السفينة؟ جواب ساذج قد يرجع السبب إلى طول فترة مقامهم و خوفهم من التكاثر على حساب الإمكانيات المحدودة، لكن فكرة أن تتعدى الفترة لسنوات تبدو بعيدة و خرافية. و الجواب الذي أراح عقلي هو مقاومة حدوث أمر جلل. فالأماكن المغلقة تشكل بطبعها حافزا إضافيا لارتكاب الخطيئة. لكن أي خطيئة هذه التي ينهى عنها نبي أهله فيتردد صداها عبر الزمن؟ ليس السؤال ماذا و لكن السؤال من و متى و كيف و لماذا.
على متن السفينة و في ظل الواقع المفروض لم يجد حام بدا من تلبية رغبته الملحة في التقرب إلى امرأة يعشق أن يتخذ منها زوجا له. لكنها امرأة ليست كباقي نساء عشيرته، فهي ستكون أما جديدة للتاريخ لا لشيء إلا لأنها " إنسية". إنها أول امرأة توجه تاريخا "مقدرا" أو "صدفة" بعد حواء. و كما حدث مع آدم و خياره الصعب بين التحول من حياة خالدة إلى حياة محدودة و تغليبه قيمة "العاطفة" تجاه الآخر الذي يكن له الحب و التقدير، فقد اختار حام من جهته أسلوبا جديدا في فن الحياة مضيفا قيمة أخرى "نوعية" لم تكن مألوفة في ما مضى.
دون حام كان العالم مثاليا و شبه خامل لأن الآدمي وصل إلى الطريق المسدود؛ هؤلاء الإنس لا يتعلمون بالطريقة السليمة و هم مستمرون في غيهم تجاه بعضهم البعض. فحفاظا إذن على مبدأ التطور الطبيعي كان لزاما أن يرضخ حام لعاطفته الإنسانية و يجابه عادات قومه باختياره التاريخي مدشنا بذلك حلقة أخرى لا تقل أهمية عن تنازل آدم.
أنا أيضا صدمت مثلكم أو أقل قليلا. كان جميلا في نظري أن أكون أتيت من الخير و حسب. لكنني ولد طائش من هواة التسكع في جاذبية كون ينادي :" كنت الآن في أحسن تقويم؛ لأنك تجمع في جسمك الواحد بين المعقول و اللامعقول، بين النظام و الفوضى. أترى كيف خلقت أول الأمر، من حفنة من تراب و فيض من ماء و حاضنة مرتبة. لم يكن لذاك الجسد أن يحيا هادئا بلا صخب. كان مقدرا لك أن تعيش بين منطقتين متناقضتين. لكنك و كأي بشري حائر غرفت منهما معا، و حين اكتفيت عرفت أين أصبت و أين أخطأت".
أنا إذن عرس من التاريخ. يذهلني أن أرى كيف أن كل الذين سبقوني عملوا بجد كي أكون هنا و هكذا. خرجت باكيا إلى هذا الوجود و حين لمست دفء الجدات صرخت في أعماقي صامتا : "أحب الحياة". وجدت لكي أشقى من أجل الذين يأتون من بعدي، حتى و إن عشت وحدي، حتى و إن مت وحدي. أنا هذا " الإنسان" الذي يحمل نصفين :" إنس" مكسورة الألف دلالة على الدونية و الوضاعة و" آن" ممدودة الألف تذهب إلى السماء صعودا دلالة على السمو و الرفعة. " ألف مكسورة" تدل على " إبليس" و" ألف ممدودة" تشير إلى " آدم". حتى اللغة أنصفتني. أنا مزيج هلامي و ضروري بين هذا و ذاك. لكنني أعرف من خلال التجربة كيف أفلت من عقال الخطيئة، تلك التي لم يكن لي أي دور فيها، فأحسب جيدا ما لي و ما علي. فأنا من شدة حرصي آمنت لكي أضيف إلى جعبتي نصف الكون المتبقي.
أنا هذا الإنسان الذي تقاس إنسانيته نسبة إلى قوة الخير و قوة الشر فيه. هذا الذي قد يصلح الأوطان و يعمرها أو قد يدمرها و يفنيها. لكنني عرفت دوري من خلال التجربة فمضيت أقاوم عن قصد، لا لشيء إلا لكي أحفظ الذكرى. ذكرى ميلادي الأول في حلة آدم. نهج الإنسي بداخلي
التحول العظيم الثالث
لماذا كان على أب الأنبياء أن يهاجر إلى مركز الأرض أو على الأصح إلى مركز ثقل القشرة الأرضية لكي يرفع القواعد و يبني البيت. هذا البيت الذي ما يزال محتفضا بوجوده إلى الآن في حالة إشعاع ماديا و معنويا. ثم ما تلك القواعد التي رفعها و كيف و لماذا. بعض من أسئلة لامست مخيلتي في زمن العفوية و البراءة.
ربما علي الآن أن أعترف لي بمكاسبي التي حققتها من وراء تريثي في الحكم على الأشياء و شكي الكبير تجاه كل شيء تقريبا بدا في لحظة ما شاردا عن قواعد المنطق كما أعرفها. هكذا تمكنت من بناء نسق ذاثي الإخراج يرضي عقلي و ضميري معا هو في الواقع لا يعدو كونه مجرد حاضنة تلفني برفق و تحجبني عن ظلال الإنحراف المتربص دوما في زوايا الأخطاء حتى و إن كانت الأخطاء مفروضة بقوة الواقع و محكومة من قبل الظروف.
و ببراءة أيضا افترضت أن القواعد لم تكن سوى تلك الحجارة الثقيلة التي تركها الأسلاف خلفهم و التي تسائل وعينا بقدراتنا البدنية على الأقل عبر مقارنتنا لأنفسنا بأحجام أكبر. و تلك الحجارة المرتبة بشكل دقيق و التي مازال بعضها واقفا في مواقع عدة من العالم هي في الواقع شاهد حي على عصور وثنية بائدة و لكن أولئك الذين اتخذوا منها معابد لهم ليسوا بالضرورة هم من نصبوها. فإذا كان عصر اتخادها معابد و أماكن للصلاة أو إقامة الشعائر الوثنية عصرا قريبا نسبيا إلينا فإن عصر العمالقة انتهى بعيد الطوفان العظيم الذي امتزجت فيه جينات العملاق الحكيم و القزم العنيد. فأفرزت بذلك خطاطة الإنسان كما خطط لها الخالق. لم تكن السفينة إذن سوى حاضنة قد تشبه قشة تهتز فوق ماء المحيط لمن يراها من فوق أو بيضة تتهيء بداخلها ملحمة جديدة للخروج إلى اليابسة بشكل مختلف و بنسل جديد.
لكنه لا يرعوي هذا الإنسان الجديد و هو في كل مرة يحتاج إلى معلم جديد يرشده إلى جادة الصواب ما استطاع في ظل القهر و العذاب. ذاك المعلم لا يمكن إلا أن يكون نبيا غير عملاق، يخاف مثلنا أو أقل قليلا و يفكر مثلما نفعل نحن الآن فيتفرس في الواقع و يرق لحال المستضعفين و الكادحين ثم ينصب نفسه مدافعا عنهم، لا عن الخالق لأنه يعلم أن الخالق في غنى عن أي دفاع محتمل و من أي جهة كانت. ربما لهذا السبب الوجيه كان لإبراهيم وقع على تاريخ الإنسان عبر قفزة نوعية جديدة بعدما ساد الفساد و الطغيان و كانت عبادة الأوتان و طقوس ذبح الأطفال تقربا لآلهة مفترضة تعشق الدماء عادات شائعة و بالطبع تجارة مربحة لسماسرة القوم الذين يهمهم أن يستمر الناس بإحياء عادات مرضية من المفترض أن تكون أبيدت بفضل الطوفان.
يطلب إبراهيم إلى إبنه أن يستجيب لقدره المحتوم بأن يموت فداء للآخرين و لأنه ولد صالح فقد لبى النداء طوعا فهو يعلم أن أباه لايمكن أن يأخذ منه الحياة إلا إذا كان صادقا فيما يتعلق بما وراء الطبيعة. ثم بعد ذلك تتحول الأضحية من إنسان إلى حيوان.
هذه القفزة النوعية التي ترفع العاطفة إلى مستوى أعلى جديرة بالإهتمام. فلئن رق قلب آدم إلى حواء الآدمية كما تعلق قلب حام بإنسية قد تكون أما فعلية للإنسان الحديث، فإن ابراهيم و ابنه اسماعيل دشنا عصر العلاقة الأبوية و مفهوم القرابة ليكونا بذلك قد أسسا لسلسلة من التحولات الأخرى لا تقل عمقا عن سابقاتها. تحولات ظل وراءها أنبياء إلى غاية الأربع عشرة قرنا الأخيرة حيث سيتولى المهمة بعد ذلك أناس صالحون يسعون إلى أن ترتقي العاطفة أعلى و أعلى لتشمل كل إنسان على وجه الأرض تحقيقا للعدالة. مؤمنون هم بأنه في ظل الحب الصادق المتبادل بين الجميع يمكن للإنسان أن يحصل على الكمال المنشود فيتخلص نهائيا من بذرة الشر التي تعيق تقدمه الفعلي في مواجهة تحدياته المتعاظمة. و إيمانهم هذا مستقل عن هوياتهم الثقافية و انتماءاتهم الإجتماعية، فقد يكونون مؤمنين بالقدر أو متحمسين لفكرة اللا قدر و لكنهم على اختلافهم صرحاء فيما بينهم حين يتعلق الأمر بمسألة الإنسانية، حين يتعلق الأمر باختبار الماهية.
هؤلاء مؤمنون بأننا لن نعود، أفرادا كنا أو جماعات، مضطرين لمحاولات كثيرا ما تفشل في تشخيص نسبتي الخير و الشر في كل شخص آخر أو كيان، ماديا كان أو معنويا، حين يكون بصدد دخول حياتنا من إحدى النوافذ المفتوحة لدينا جميعا. هنالك عبء كبير إذن قد يزول و هو تكلفة أمننا الباهضة.
يهاجر إبراهيم إلى مفترق طرق هو أيضا نقطة التقاء للمهاجرين المسافرين ما بين خطوط العرض و خطوط الطول فيرفع قواعد قد تكون في الواقع بقايا حطام لتلك الحجارة العظيمة التي تركها الآدمي خلفه فحولها المتحول الجديد إلى أماكن لسفك الدماء محتميا بهيبتها المنتصبة.
لم يكن ثمة بد من تحطيمها إذن حتى تتهيء الظروف لتغيير شامل في عادات الناس تكون نتيجته الإرتقاء إلى مستوى أفضل من مستويات العدالة. لم يكن غريبا أن أتساءل عن سبب تحطمها و حين علمت أن من بينها حجرا أسود مباركا عند الناس خمنت أن قوة ما أرسلت نيزكا في اتجاه النصب الذي صار يعبد لغايات بعيدة حتى عن العبادة نفسها.
فأيا كانت تلك القوة و مهما كان شكلها كان علي أن أشكرها في قرارة نفسي لأنها أتاحت لي ألا أكون شيئا آخر غير هذا الذي يسائل وجوده و ماهيته.
هكذا تبدو الصورة من فوق :" كما لو أن تلقيحا ما كان ضروريا أن يتم في نقطة مركزية كي يتغير وجه العالم من جديد".
التحول القائم و التحول القادم
لا يمكنني أن أتجاهل تلك الآية القرآنية التي تقول حرفيا و بكل وضوح : " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ". فتلك "الرحمة" هي بالضبط ما لقح به الإنسان في كل مرة كان فيها ذلك ضروريا، ثم ليخرج بعد ذلك خروجه المختلف الأرقى.
سلسلة من التحولات العميقة خضع لها الإنسان على هذا الكوكب و من جملتها تحولات رائعة كتلك التي تعبر عنها قصص الأنبياء كما هو متفق عليه عند أهل الديانات و قد نذكر منها قصة يوسف و أباه يعقوب أو قصة مريم العذراء و ولدها عيسى الذي قال ذاث يوم :" إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأعره خدك الأيسر " ـ حسب ما ورد في النصوص المقدسة ـ، و هو أمر قد يبدو ضربا من الخيال فنتاج العدوانية هو العدوانية عند العامة لكن الإحجام عنها حتى في حال القوة يعتبر شهامة لأنه أمرلا يستطيع كل الناس القيام به.
بعد سلسلة التحولات تلك سوف يكون العالم على موعد مع التاريخ من خلال تطور لافت تمثل في ظهور الإسلام الذي سمي حينها دينا جديدا بينما هو في الواقع لا يعدو كونه امتدادا طبيعيا لمفهوم "الضمير الحي" و تطويرا مهما لمفهوم الرحمة. إنها قفزة نوعية أخرى للإنسان. لكن كيف كان ذلك و لماذا و أين و" إلى أين كان ممكنا للتجربة أن تذهب لو كان إنسان ذلك العصر ناضجا كفاية" تبدو أسئلة عريضة على هذا المجال.
بعد آخر نبي لم تعد هناك حاجة إلى المزيد من هذا الفصيل الصالح الأصلح، و هذا لا يعني توقف نمو الإنسان. فالأرض لم تكف و لن تكف عن إنجاب أناس صالحين ساعدوا الأنبياء فيما مضى و أخذوا مشعل الإصلاح فيما بعد عصر الأنوار و مازالوا يناضلون في سبيل تحقيق حلم "النضج الشامل" حتى و إن لم يكونوا مدركين للأهمية الحقيقية لنشاطهم الذي تشبه محفزاته لدى البعض غريزة غامضة غير متحكم فيها في غالب الأحيان.
لم تعد هناك حاجة للأنبياء و لا للمعجزات لأن عصر الكتابة و التوثيق قد حل بكامل حماسه و بالتالي فإنه لا خوف على المعلومة الهادية من الضياع و لأن الإنسان تطور فعليا في اتجاه سن النضج !
إذا جاز أن نشبه المراحل العمرية في حياة الفرد بمسيرة الإنسان في شموليته لكانت الطفولة هي كل ما قبل الستة آلاف سنة الماضية و كانت المراهقة تضم عصرنا الحاضر و كان النضج على الأبواب.
إنه فعلا على الأبواب ذلك النضج المنشود لأن الأحداث تتسارع مثل تسارع حركة الأرض في الكون. لن يتطلب الأمر آلاف السنين الأخرى حتى يفهم كل الناس أن كل شيء قابل للتحول و بعضه للتحويل و أن بندقية قنص قد تتحول فجأة إلى زهرة، بل لن يتطلب الأمر عشرات السنين حتى يتأكد الجميع أن ماهيته المشتركة أولى حتى من ملكيته المشتركة .




#نسيم_المصطفى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل ...
- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نسيم المصطفى - الحلقة المفقودة : خواطر فلسفية عابرة