محمد بن زكري
الحوار المتمدن-العدد: 5832 - 2018 / 3 / 31 - 23:55
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لقنونا في المدارس ، ضمن مقررات التعليم الرسمي ، في مادتي التاريخ و التربية الإسلامية ، ما سطره كتبة السير من أضاليل و اختلاقات ، يظهر فيها المسلمون الأوائل من أصحاب النبي محمد ، و خاصة منهم ورثاء طبقة الملأ القرشي ، و كأنهم كائنات فوق بشرية ، أقرب في سلوكهم و أخلاقهم إلى الملائكية ؛ لنكتشف بإعادة قراءة التاريخ الإسلامي في مراجعه الوثائقية (كتاريخ الطبري و طبقات إبن سعد و سيرة إبن هشام) ، أنه كان تاريخا دمويا ، تناسل في سلسلة متصلة الحلقات ، من أحداث التآمر و الاغتيالات و الحروب ، من أجل السلطة و المال ، منذ مؤتمر السقيفة ، الذي جمع نخبة النخبة من صحابة النبي محمد ، و انتهى إلى اقتسام السلطة بين المهاجرين و الأنصار ، و حتى اللحظة الراهنة .
و يكفي دليلا على دموية تاريخ الإسلام و المسلمين ، أن ثلاثة من الخلفاء (الراشدين) ، قد ماتوا اغتيالا ، على أيدي الصحابة أو بتدبير منهم ، فمقتل الخليفة عمر ، على يد أبي لؤلؤة ، لم يكن إلا محصلة مؤامرة للتخلص منه ، جراء حزمه في التضييق على الولاة و كبار الصحابة الذين أثروا ثراء فاحشا ، بعد (الفتوحات) ، و كان كعب الأحبار على صلة بالمؤامرة ؛ حيث نجد ما يشير إلى ذلك في عديد الكتب التراثية ، و منها تاريخ ابن جرير الطبري ، الذي يروي أن كعبا جاء عمر بن الخطاب في بيته ، قبل مقتله بثلاثة أيام ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، إعهد فإنك ميتٌ في ثلاثة أيام ، قال و ما يدريك ؟ قال : أجده في كتاب الله عز وجل التوراة ، قال عمر : آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة ؟! قال : اللهم لا و لكني أجد صفتك و حليتك و أنه قد فني أجلك ، قال : وعمر لا يحس وجعاً و لا ألماً ، فلما كان من الغد جاءه كعب ، فقال : يا أمير المؤمنين ذهب يوم و بقي يوم و ليلة ؛ و هي لك إلى صبيحتها، قال : فلما كان الصبح ، خرج إلى الصلاة ، و كان يوكل بالصفوف رجالاً ، فإذا استوت ، جاء هو فكبر ، قال : و دخل أبو لؤلؤة في الناس ، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه ، فضرب عمر ست ضربات ، إحداهن تحت سرته ، و هي التي قتلته . و يعلق أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام ، على هذه الرواية ، بقوله : " وهذه القصة إن صحَّت ، دلَّت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، ثم وضعها هو في هذه الصيغة الإسرائيلية " .
و كما كان المال و السلطة في أساس مؤامرة الصحابة أثرياء حروب الغزو و التوسع الاستعماري العربي الإسلامي ، للتخلص من عمر و عدالته بين قومه العرب ؛ فكذلك كان المال و السلطة في أساس موت أبي بكر ، اغتيالا بالسم على يد عمر ، كما يرى شيخ القرآنيين أحمد صبحي منصور ، في كتابه الموسوم (المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين) ، حيث يورد ما نصه : " إنّ أبا بكر مات مسموما بمؤامرة ( عمر ) . فقد كان المسيطر على أبى بكر في خلافته ، ثم كان المستفيد من موته فتولى الحكم بعده . و ساعده طلحة و عثمان و عبد الرحمن بن عوف . و قد كانوا مع عمر في مشهد موت أبي بكر و دفنه و مبايعة عمر بعده . و سنراهم في مؤامرات تالية " ، و يضيف القرآني منصور في موضع آخر من نفس الكتاب : " و لأنها مؤامرة قتل ، فإن عمر أسرع بدفن الضحية ليلا ، و قبل صباح اليوم التالي ، و دون جنازة يحضرها الناس ، بل و منع النواح عليه . و الروايات كلها تتفق في دفن أبي بكر ليلا بمجرد وفاته ، دون أن ينتظر عمر للصباح " ! .
و هكذا تنحسر الستارة ، عن مشهدية مقتل الخلفاء (الراشدين) الأربعة ، غيلة و على أيدي الصحابة من السلف (الصالح) ، في حمى الصراع على السلطة و المال ، التي شهدت أبشع فصولها دموية ، في اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان .
و عودة إلى موضوع المقال ، بعد هذا الاستطراد الطويل نسبيا ، الذي أردنا منه وضع مقتل الصحابي سعد بن عبادة ، في سياقه التاريخي من تنازع السلطة و المال ، بين رموز (السلف الصالح) من الصحابة و التابعين ؛ فإنه ما أن مات النبي محمد ، حتى سارع زعماء الأنصار إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة ، كما هو معروف (جزئيا) لدى أغلب المسلمين ، لكن ما لا يعرفه الأكثرون ، هو حقيقة ما حصل من تنازع شرس - لا أخلاقي - بين كبار الصحابة ، صراعا على السلطة . فالأنصار كانوا يعتزمون تنصيب كبيرهم (سعد بن عبادة) خلفا للنبي محمد ، في حكم الدولة الإسلامية الناشئة ، لكن خطتهم باءت بالفشل . و هو ما نتطرق إليه فيما يلي باختصار شديد ، نقلا عن كتب التاريخ و التراث الإسلامي ..
عَلِم عمر بقرار اجتماع الأنصار - من طرف واحد - فعمد إلى (جر) أبي بكر للحاق بالاجتماع ، قائلا له في الطريق : " إنهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر ! " ، و في الاجتماع وقف عمر ليخاطب زعماء الأنصار بقوله : " والله لا ترضى العرب أن يؤمِّروكم ونبيها مِن غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تُوَلي أمرها مَن كانت النبوّة فيهم ، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين " . فعمر كان يريد أن تؤول السلطة إلى قبيلته قريش (المهاجرون) ؛ حيث أردف قائلا : " من ذا ينازعنا سلطانَ محمد وإمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلّا مدلٍ بباطل أو متجانف لإثْم ومتورط في هلكة " !
وينهض أبو بكر ليخطب بدوره في المجتمعين بسقيفة بني ساعدة ، ليشق صف الأنصار (من قبيلتيْ الأوس و الخزرج) بقوله : " إنّ هذا الأمر ، إنْ تطاولتْ إليه الأوس ، لم تَقصُر عنه الخزرج ، وإنْ تطاولتْ إليه الخزرج ، لم تَقصر عنه الأوس " ، ثم يُردِف : " نحن الأمراء وأنتم الوزراء " !!! .
ويحتد الجدل بين (السلف الصالح !) ، فيقف من الأنصار الصحابي الحُباب بن المنذر ليرد على كل من عمر وأبي بكر ، مخاطبا قومه الأنصار : " إنْ أبى هؤلاء إلّا ما سمعتم ، فمنّا أميرٌ ومنهم أمير ؛ فإنْ أبوْا ، فاجلوهم عن هذه البلاد " ..... فيرد عليه عمر : " إذن يقتلك الله " . ويرد الحباب : " بل أيّاكَ يقتل " .
وتفلح كلمة أبي بكر في استثارة الشقاق القديم بين الأوس والخزرج ، فيقوم رجل من الأنصار يدعى بشير بن سعد (وهو من الأوس) ليقول : " هم - يقصد المهاجرين - أول من عبد الله في الأرض ، وآمن بالله ورسوله ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلّا ظالم " . ثم يتقدم ليبايع أبا بكر - موقعا بذلك الانشقاق في صفوف الأنصار - فيتبعه عمر بالمبايعة ثم أبو عبيدة .. ثم بقية الحضور .
على أن شخصا واحدا من الحضور ، رفض أن يبايع أبا بكر بالإمارة ، و ظل مصرا على أنه هو الأحق بها دون غيره ، هو كبير زعماء الأنصار ، الصحابي الجليل (سعد بن عبادة) ، الذي اشتهر بالكرم و الجود ، منفقا ثروته في سبيل الإسلام ، إلى درجة انه - في أولى أيام الهجرة - بينما كان الشخص من الأنصار يستضيف على مائدته مهاجرا واحدا أو اثنين ، كان سعد بن عبادة يستضيف بالثمانين مهاجرا من قريش . و فضلا عن كرم سعد و ما أنفقه من ماله ، في دعم الدين الجديد و شد أزر المهاجرين بدينهم ، عندما كان و كانوا في أشد الحاجة إلى الدعم و المؤازرة ، سعد فقد كان مقاتلا مقداما و مقدّما في غزوات النبي محمد ، إذ بينما كان علي بن أبي طالب يحمل راية المهاجرين ، كان سعد بن عبادة يحمل راية الأنصار . لكن كل ذلك لم يؤهله في نظر عمر (القريشي) ليكون خليفة و أميرا للمؤمنين ؛ فالتساوي بين المسلمين في صفوف الصلاة ، لا يمتد ليشمل التساوي بينهم في السلطة و المال .. في دين قبيلة قريش ! و ينقل لنا الرواة قول عمر ، في معرض الحديث عن خلافه مع سعد بن عبادة : " فقلتُ و أنا مُغضب : قتل الله سعدا ، فإنه صاحب فتنة و شر ، و إنّا و الله ما رأينا فيما حضر من أمرنا ، أمرٌ أقوى من بيعة أبي بكر ، فخشينا إن فارقْنا القوم قبل أن تكون بيعة ، أن يُحدثوا بعدنا بيعة ، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى ، و إما أن نخالفهم فيكون فساد " . هكذا بكل وضوح : إما أن تؤول السلطة إلى قريش و تنحصر فيها ، و إما الفتنة و الفساد ! .
و عندما تولى عمر الإمارة ، ظل سعد على موقفه المعارض ، فلم يبايع عمرَ . و هنا تبدأ قصة (اغتيال الجن للصحابي سعد بن عبادة) .
و في ذلك يقول طه حسين ، في مؤلفه الموسوم (في الأدب الجاهلي) ما نصه : " و في الحق أن النبي لم يكد يدع هذه الدنيا حتى اختلف المهاجرون من قريش و الأنصار من الأوس و الخزرج في الخلافة أين تكون ، و لمن تكون ، و كاد الأمر يفسد بين الفريقين لولا بقية من دين و حزم نفر من قريش ، فما هي إلا أن أذعن الأنصار و قبلوا أن تخرج منهم الإمارة إلى قريش ، و ظهر أن الأمر قد استقر بين الفريقين ، و أنهم قد اجمعوا على ذلك لا يخالفهم فيه إلا سعد بن عبادة الأنصاري ، الذي أبى أن يبايع أبي بكر و أن يبايع عمر و أن يصلي بصلاة المسلمين و أن يحج بحجهم ، و ظل يمثل المعارضة ، قوي الشكيمة ماضي العزيمة ، حتى قتل غيلة في بعض أسفاره . قتلته الجن فيما يزعم الرواة " .
و تخبرنا كتب التراث الإسلامي ، أنه بينما كان عمر - ذات يوم - يقوم بجولاته المعتادة في دروب يثرب (المدينة المنورة !) ، التقى بسعد بن عبادة ، فبادره بالقول : إيه يا سعد ! فقال : إيه يا عمر ! فقال عمر : أنت ما أنت صاحبه ؟ (أي هل لا زلت على موقفك من رفض المبايعة ؟) ، فقال سعد : نعم .. أنا ذاك ، أما و قد أفضى إليك هذا الأمر ، فو الله لقد كان صاحبك (يقصد أبا بكر) أحب إلينا منك ، و قد أصبحتُ كارهاً لجوارك . فقال عمر : إنه من كَرِهَ جِوارَ جاره تحوّل عنه .
و من ثم فقد اشتعل العداء - علنا وجها لوجه - بين الاثنين ، فما كان من سعد غير أن يخرج من المدينة ، قاصدا الشام ، مبتعدا بنفسه عن طائلة يد عمر للانتقام منه . لكن عمر لم يترك سعدا يعيش بأمان في منفاه الاختياري ، فلربما يستغل سعد وجوده في الشام - بعيدا عن أعين عمر - ليشكل هناك قوة معارضة سياسية مسلحة للإطاحة بإمارة عمر ، و قد يستعين في ذلك بحاكم الشام القوي (معاوية) ، الذي يطمح هو أيضا للانفراد بالسلطة .
و هكذا .. ففي ذات يوم ، وُجد سعد بن عبادة مقتولا (و الفاعل مجهول) ! و حتى لا تطال تهمة اغتيال سعد الخليفة عمر بن الخطاب ، لسابقة ما كان بينهما من خصومة سياسية حادة ، فقد لفق المسلمون (السلف الصالح) حكاية خرافية ، تنسب مقتل سعد بن عبادة إلى الجن ! فتخبرنا المصادر الإسلامية ، أنه بينما كان سعد يبول واقفا ، وقع بوله على نفر من الجن ، فغضبوا منه و قتلوه ! و لم يكتف الجن باغتيال سعد بن عبادة (جرّاء تبوله عليهم) ، بل قالوا في ذلك شعراً ، يفتخرون فيه بقتله !
" نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَهْ .. رَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِئْ فُؤَادَهْ " .
و يعقب طه حسين على ذلك بقوله : " و العجب أن أصحاب الرواية مقتنعون بهذا الكلام من شعر الجن ! " . و نحن لا نملك إلا أن نتعجب مع طه حسين ، من شاعرية الجن قتلة سعد بن عبادة !
فكم هو تاريخ الإسلام و المسلمين مليءٌ بالدسائس و المؤامرات الخسيسة و الصراعات الدموية على السلطة و المال ، و كم هو تاريخ ملوث لا يشرف أحدا من أتباعه ، وكم هم الصحابة و التابعون و تابعو التابعين سلف غير صالح أبدا ، و كم هو مسلم اليوم ، المبرمَج سلفيا ، كائن شبحيّ ، يعيش منفيا خارج التاريخ ، مستأنسا بصحبة أبي هريرة ! .
#محمد_بن_زكري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.