|
-حبر على قلق- قصائد حب وغضب وأرق
رياض كامل
الحوار المتمدن-العدد: 5832 - 2018 / 3 / 31 - 16:08
المحور:
الادب والفن
"حبر على قلق" - قصائد حب وغضب وأرق د. رياض كامل مقدمة تستهل الشاعرة فردوس حبيب الله كتابها "حبر على قلق" (2018) بمقدمة قصيرة مكثفة تعبر فيها عن قضيتين هامتين؛ مفهوم الشعر كما تراه، والدافع من وراء كتابته. تستحق المقدمة منا وقفة مطولة، في مناسبة أخرى، لأنها تثير تساؤلات عدة نظرا لما فيها من طرح مستفز مفتوح للرؤية والنقاش. مهما يكن من أمر فإن فيها ما يوحي بحساسية مرهفة إزاء الكلمة والحرف ودورهما، وفيها مسؤولية كبيرة تعي الشاعرة معناها، وفيها قلق وأرق مما ينتظر الديوان بعد صدوره وخروجه من دائرته الضيقة، دائرة الأنا، ليصبح ملكا للقارئ. فإن كان "موت المؤلف" قد أشغل رولان بارت وآخرين، إلا أن الأمر يشغل الأدباء أكثر، لذلك تجدهم قلقين بعد إصدار أعمالهم الأدبية ومتابعة ما يكتب وما يقال، حتى وإن عبّر البعض منهم عن عدم اهتمامهم بما سيقال لاحقا. ومع ذلك يتابع الأدباء في عملية الإبداع والإنتاج لدوافع عدة يجملها جورج أورويل في أربعة، منها حب الذات الصرف؛ الرغبة في أن تكون ذكيا، تشغل الناس بالحديث عنك ويذكرونك بعد مماتك. نقرأ في المقدمة الجملة التالية: "الشعر هو أن تتقن الشموخ والتطلع إلى السماء في حضرة الشمس مهما حثتها الصحراء على السطوع". ونقرأ على غلاف الكتاب الأخير ما يلي: "ما زلت أقترف نصا بريئا لا حول له ولا قوة. نص أشبه بطفل يعيش على سجيته يمارس حقه في الخطأ والسقوط...". فكيف ينسجم هذا مع ذاك؟ نرى نظرتين فيهما ما يؤكد على أهمية الكتابة التي تبعث الثقة بالنفس، وترضي الغرور، وفيهما ما يبعث على القلق بعد خروج النص من ملكيته الخاصة ليصبح ملكية عامة، وهو قلق مشروع لدى كل المبدعين، نحسه نحن أيضا حين ندلي برأينا في القضايا الأدبية لأنها مسؤولية كبرى تفرض علينا التحلي بالحذر إزاء كل حكم نطلقه. بعد ولوج عالم الديوان نجد شاعرة تحمل الكثير من الهم والقلق ما يكفي لنثره على رؤوس البشر فيغرقهم حزنا وألما وغضبا، ويفتح عيونهم ليروا ما قد رأت، وكأنها تدعوهم للمشاركة في مواجهة هذا الواقع المؤلم والمقلق والمحير في آن معا. ونقف في حضرة شاعرة ثائرة كنمرة جاهزة لغرز أظافرها في وجه كل من يعتدي على الحب والجمال، ومن يعمل على تشويه صورته، ونرى شاعرة حساسة رقيقة كرقة الحرير. وفي كل الأحوال نحن في حضرة شاعرة تعلن بصوت واضح لا مراء فيه غضبها وثورتها كامرأة عربية ترى نفسها في موقع المسؤول. أليست شاعرة؟! لقد تناولت الشاعرة العديد من المواضيع، ولكنها خصصت حيزا كبيرا من ديوانها للمواضيع النسوية كنقطة مبدئية تعلن من خلاله ثورتها وتحديها لبعض المسلمات، وبالذات إشهار صوتها قبل إشهار كتابها. يكتشف القارئ منذ القصيدة الأولى التي جاءت تحت عنوان "شيزوفرينيا" أنّ هناك نقاشا مفتوحا لا هوادة فيه مع ما هو قائم ومتّبع، ومع المسلمات والقواعد التي يسير الناس وفقها، فتعلن صراحة ودون مواربة، موقفها المناقض، داعية إلى دخول الفردوس بشروطها هي لا بشروط وضعها آخرون (لقد وظفت اسمها الشخصي "فردوس" في الكثير من المواقع): ما نال في الفردوس حظّا كل من صلى كحنّا أو ورا عبدِ الصمد ما نال في الفردوس حظّا من لغير الحب في الأوطان يوما قد سجد" العنوان لا يسعنا الدخول في عالم الديوان دون أن نتوقف عند العنوان، وقفة سريعة، دون الرجوع المسهب إلى الباحثين والدارسين من أمثال جيرار جينيت وهنري متيران وغيرهم، الذين أولوا أهمية كبرى في دراساتهم الخاصة بهذا الجانب، وهي دراسات مثرية وهامة تثير قضايا هامة حول علاقة العنوان بالنصوص كونه عتبة النص أو "النص الموازي" كما يقول جينيت. يشي العنوان بما سوف يأتي، فلا تنتظر طويلا لتحصل على الإجابة حتى ترتطم بالصفحة الأولى ترسم فيها الشاعرة، في مقدمة مكثفة، معنى أن تكون شاعرا: "أن تقع في الشعر يعني أن تتقن الوقوف وحدك عند كل منحنى". تتلوها القصيدة الأولى بعنوان "شيزوفرينيا"، عنوان بحد ذاته فيه من الألم والوجع ما يكفي، ثم قصيدة "سؤال" تطرح فيها تساؤلات عدة حول حيرتها وقلقها وتفكيرها في المواضيع التي ستكتبها أولا وآخرا. فالمواضيع التي تقلقنا/ تقلقها، والقضايا التي تؤرقنا/ تؤرقها كثيرة، حاضرة في كل مكان وفي كل زمان. والأفكار تلح وهي كثيرة والهموم تحيطنا/ تحيطها من كل حدب وصوب، حول وضعنا السياسي والاجتماعي والفكري، وكأن لسان حالها يستذكر ما قاله المتنبي: أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام وكلما دخلنا أكثر في عمق الديوان وقعنا على نصوص محيرة مقلقة تشغل بال الشاعرة، وهي في مجملها هموم نعيش معها في محيط يضج بالقضايا الصعبة على الصعيد الاجتماعي وعلى الصعيد السياسي، فضلا عن الجانب الديني الذي بات مؤخرا موضوعا مفتوحا على مصاريعه. وكأننا بحاجة إلى فتح أبواب للنقاش حول قضايا كانت نائمة ثم هاجت وماجت وغلت وثارت كما البركان في وجه الخليقة على امتداد مساحة الكرة الأرضية، من مشرقها حتى مغربها، فولد "حبر على قلق"، لا مجرد "حبر على ورق". السخرية تلجأ الكاتبة إلى أسلوب السخرية المؤلمة لتعبر عن ألم في النفس إزاء ما ترى، فتثور وتهيج وتنتفض غاضبة. ما كان بالأمس ما زال له شبيه؛ هموم ومتاعب ومصاعب، وتخلّف فكري، واجتماعي، وسياسي. وهناك احتلال "يوزّع" الهدايا على الأطفال في أعياد ميلادهم فتبدّدت الأحلام وغدت مجرد وهم لأنّ الحقيقة الرابضة أمام العين لا تبعث إلا على الأرق: ""وطني الذي نامت على أكتافه أحلامنا لفظ الشهادة واتقد". هنا يتشح العالم بالغم وبالسواد، إذ يتسلم كل مولود إضافة إلى شهادة ميلاده، شهادة "أنت متهم" ليقضي كل عمره في الدفاع عن ذنب "اقترفه" حين ولد لأبوين ارتكبا خطيئتهما الأزلية، في هذا الانتماء العرقي "البغيض". وهناك قلق وأرق إزاء ما يحيط بنا ونحن نهدِم كل أمجاد أمتنا، كقلعة بناها طفل من رمل الشواطئ فهدها بلمسة من يديه. في ظل هذه الظروف تستجيب السخرية كوسيلة نفرغ فيها كل ما فينا من غضب وألم ومرارة. والسخرية سلاح لجأ إليه البشر منذ فجر التاريخ. وقد يكون سلاح المظلوم والفقير والمغتصبة حقوقهم: "أعن التاريخ أكتب عن أمجاد أمّتنا التي صارت تبيع اللحم في سوق الغرائز وعن دنيا تريد الحُرَّ أن يعنو لأصحاب السعاده هل أكتب الأمجاد بين ماضينا وحاضرنا الذي أعلنتُ للدنيا فساده" السخرية أسلوب اتبعه العديد من الشعراء الفلسطينيين مما يستدعي الاستفهام الاستنكاري، والتكرار على أنواعه، وطرح التساؤلات وإبراز حالات المفارقة للتعبير عن ألم في النفس عميقٍ بسبب ما آلت إليه أحوال الأمة وهي تتمرغ في وحل الرذيلة: "عيب عليكِ تبرّجا يحيي الغريزة في الرجال عيب إذا جالسْتَها "عوراتها" بنزين يجعل من صمودك عرضة للاشتعال" والسخرية مرة ومؤلمة منها ما يوجه نحو الآخر ومنها ما يوجه نحو الذات. وقد تزرع البسمة المرة حين تصير تهكما من وضع يتناقض فيه العقل مع ما هو قائم، خاصة عندما تتحول الضحية إلى مذنب دون جرم أو خطيئة. أخذت فردوس حبيب الله، كما يبدو، على عاتقها أن تكون صوت المرأة التي تذود عن حق النساء في مجتمع يمارس "رجولته" ووصايته، كما يمارس الوصيّ الخائن للأمانة دوره مع يتيم فقد والديه فبات لا حول له ولا قوة. فكانت جريئة ولاذعة تواجه أصوات التخلف مباشرة، بصراحة متناهية ودون لف أو دوران. فالسخرية عنصر بارز في شعرها بصور مختلفة فاعتمدت في بعضه على المبالغة في التصوير، كما هو الحال مع الرسم الكاريكاتوري، أو قامت بخلق صورة مباشرة فاضحة، أو حالة مناقضة للعقل والمنطق، فتمكنت من إثارة البسمة والألم في آن معا. الصوت النسوي/ الأنثوي يولد العربي، كما ذكرنا، يحمل خطيئته الأزلية في انتمائه العرقي، أما المرأة العربية فتولد حاملة خطيئتين أزليتين، هما انتماؤها العرقي تعارك من أجله مع الآخر الغريب الذي انتهك حرمة الوطن وعِرض الأمة، وانتماؤها الجنسي (الجندري) الذي تعارك في سبيله في الداخل، بدءا من جدران البيت وامتدادا لجدران القبيلة والعشيرة وجدران الرذيلة التي ترافقها شهادةَ ميلاد وشهادةَ استشهاد في آن معا. خصصت الشاعرة لهذا الجانب حيزا لا بأس به من فضاء شعرها. فوجدنا فيه تحديا مع من يستهين بانتمائها العرقي، وانتمائها الفكري وانتمائها الأنثوي، من ناحية، ووجدنا امرأة حساسة رقيقة من ناحية أخرى. فبرز في شعرها صوتان نسويان، تلك المتمردة المتحدية، وتلك المرأة الأنثى العاشقة الرقيقة. 1- المرأة المتمردة وهي المرأة التي تصرخ بثقة القادر على التحدي والصمود في وجه من يعتدي على حرية المرأة ويطالب بوضع حدود لطموحاتها وانتماءاتها لا لسبب إلا لأنها "قاصر" وتحتاج إلى من يحميها ويصونها، وكأنها خلقت لتكون تحت عين الرقيب منعا من أن تتسبب في ارتكاب أحدهم خطأ تكون هي الدافع له لكونها امرأة. فأعلنت ثورتها وصرختها في وجه المجتمع في عدد كبير من قصائدها، كما ينعكس في قصيدة لها بعنوان "مريمنا": "أنا العربية الأولى أنا العربية الأنثى على المسلخْ سكاكين الردى تدنو لتقتلني ولكنّي أنا السكين أقطع حبل مغتصبي ولا أرضخْ أنا الأنثى وفي رَحِمي حقيقة كل صوفيٍّ يناجي الله كي يشطحْ أنا العذراء آهاتي فرغم ولادة الأبطال لا تنفضُّ عذرائي ولا أُشرخْ" تسيطر نبرة الغضب على النص أعلاه كما في نصوص أخرى كثيرة في الديوان إزاء ما يحدث، نتقدم مع الزمن إلى الأمام ونسير بأفكارنا إلى الوراء، وباتت البوصلة مزيجا من خرافات وشعوذات وسحر، نبحث عما نفخر به وما نفاخر به بين الأمم فإذا بنا نغرق في متاهات "الرجولة" المشوهة، والبطولات الزائفة: "شعب يصر على الخرف وعلى التفنن بالجرائم والقرف شعب تفاخر بالشوارب بالعمائم والترف" هناك في النص أعلاه انسجام تام بين المعنى واللفظ وفي تقطيع النبرات انتهاء بالقافية الساكنة التي تسهم في إبراز نبرة الغضب واللهجة الساخرة. 2- المرأة الرقيقة فهل يتناقض هذا البحر الهائج مع الأنثى العاشقة التي تبحث عن دفء الكلمات وحديث العيون إلى العيون، وتمسيد اليدين الرقيقتين؟! تجمع فردوس حبيب الله في شعرها صوتين لا أراهما متناقضين أبدا، بل إن أحدهما يكمل الآخر. فمن ناحية هناك صوت الأنثى الثائرة على ما هو قائم، كما رأينا أعلاه، وهناك صوت المرأة ذات المشاعر الصادقة التي تعشق وتحب فينعكس ذلك عبر الصور الرقيقة للأنثى: "يوم التقينا كنت قد أيقنت أني قد ولدت وأنني أبدا سأحيا في دناك يومها رقصت ضلوعي حين مرت في مساحاتي يداك حين جالت حين صالت فوق خارطتي عيونكَ ليس يتقن صولَها أحدٌ سواك" هي صورة الأنثى الرقيقة التي تبحث عن نصفها الثاني، تحتاجه ليكتمل كيانها ووجودها الدافئ، وكأني بهذه المرأة النمرة التي رأيناها في مواقع أخرى تخلع عنها رداءها المرقط وتبدله بحس المرأة المتعطشة إلى الحياة، تنهل من رحيقها وتمارس روحُها رجفاتِ العشق والوله: "بعصاه شق البحرَ موسى للنجاة وقد نجا لكنّه سلب المياه سكونها وهدوءها هل كنت يا هذا نبيا مثل موسى؟ ولكي تمر شققت قلبي! وأنا القصيدة مثل ماء البحر حالي نصفين بيتي لا سكينة بعدما أوهمته وطنا وميعادا وموتا في الهيام خذ كل ما أعطيتني. خذه وخذني دون إذن مني فأنا ركام أنت أولى بالركام" لعلنا في سياق الحديث عن شعر الغزل نشير إلى الفرق بين الغزل الذكوري والغزل النسوي. ففي حين ينقسم عند الرجال إلى حسي يتحدث عن مفاتن الأنثى، وإلى رقيق يتحدث عن الألم والوجع والشوق والهيام، فإن الغزل عند المرأة ينصب معظمه حول المشاعر والأحاسيس أكثر مما ينصب على الحسي. شاعرتنا خصصت لشعر الغزل كمّا لا بأس به من قصائدها، فرأينا المرأة العاشقة الولهة التي تبوح بضعفها وشجنها واشتياقها ولوعتها للحبيب، ووجدنا صوتا جريئا يلامس الحسي كما نرى أعلاه، دون التطرق إلى جمال الرجل ومحاسنه ومفاتنه، كما هو مألوف في غزل الرجال بالنساء. لكنها وغيرِها من شاعرات اليوم بقين على الحد الفاصل بين التمسك بالمألوف والمرعي وبين البوح بالثورة على كل ما هو قائم، وإن وجدنا أن هناك جرأة في بعض قصائدها التي تلامس فيه الغزل الحسي كما في قصيدة "وجه القمر". "شفتاك ترتسم ابتسامة عاشق فأخالها كأسا تداعب مبسمي" تبدو المرأة في شعرها، أحيانا، متوثبة للصراع، وأحيانا، ركاما بانتظار من يرمم وجودها، لكن الشاعرة، ربما، منعا للبلبلة جاءتنا بقصيدة تحمل هاتين الصورتين مجتمعتين في نص واحد: "تارة قلبي رقيق ناعم مثلَ حبات الرذاذ على الزجاجْ مرة ألقاه صلبا قاصدا وخزَ السكينة مثل أنثى تنقر الصمتَ احترافا كلما هزّت برأس الكعب أوتارَ المزاج" هذا التوصيف أعلاه كما يلوح في النص هو تصوير، برأينا، غاية في الدقة لكل إنسان سواء كان رجلا أو امرأة، لكنه حين يصدر عن امرأة بمثل هذا البوح فإنه يحمل خصال امرأة جريئة قادرة على المواجهة. وما هذا التصريح إلا نوع من التحدي. التناص التناص وسيلة لجأ إليها الشعراء والأدباء منذ القدم، وله أدوار عدة وطرق عدة، لن ندخل في تفاصيلها في مثل هذه العجالة، فهو يغني النص من ناحية، ويفتح بابا للحوار مع دلالاته، من ناحية أخرى، وقد وردت في التراث العربي تحت مسميات عدة مثل التضمين والاقتباس والمعارضات والسرقات الأدبية. هناك عدة أنواع من التناص منها؛ التناص الديني، التاريخي، الأسطوري والأدبي. وقد تطور هذا المصطلح وبرز بشكله الحديث على يد الباحثة جوليا كريستيفا وآخرين، ثم انتقل بصورته الحديثة إلى الأدب العربي، بعد أن انتبهت إليه الدراسات العربية النقدية وإلى دوره في إظهار جماليات النص، وفي تكثيفه وإغنائه وانفتاح دلالاته، منذ الربع الأخير للقرن العشرين، وبالتحديد في دراسات المغرب العربي، نتيجة اطلاعهم المباشر على الأدب الغربي وعلى الأدب الفرنسي على وجه الخصوص. لقد اتفق الدارسون أن التناص هو ضرورة ملحة في كل الأنواع الأدبية، لا يستغني عنه الأديب المثقف والناقد المثقف. وبالتالي لا يستطيع الشاعر أن ينجح في التأليف والتجديد والإبداع إذا لم يكن على اطلاع واسع وشامل على ثقافات عدة، كما لا يستطيع الناقد أن يقوم بدوره إذا لم يتزود بهذه الذخيرة الواسعة من المعرفة. وهذا ما يؤكده الشاعر والباحث الكبير أدونيس في كتابه "زمن الشعر" إذ يرى "أن الشاعر يطوّف عبر الزمان والمكان ويستحضر من التراث ما يناسب مضمون نصه [...] ونحن لا نبدع المستقبل إلا في لحظة تتصل جوهريا بالأمس والآن" (أدونيس، زمن الشعر) إن التناص وسيلة تكشف عن الذخيرة المعرفية التي يخزنها المبدع في ذاكرته فتخرج من هناك إلى الوجود لتثري وتغني وتجدّد. والقارئ المتمرس لنصوص فردوس حبيب الله يعثر على هذا الإرث الثقافي الموظف بطرق ووسائل عدة، ومن الواضح والجلي مدى اعتمادها على الموروث الديني، وعلى الموروث الشعبي والميراث العربي الغني، فضلا عن ثقافات شعوب متعددة. فاغتنى به نصها، وكانت على دراية بدور هذا الأسلوب في إثراء النص وانفتاحه أمام القارئ. لقد لفت نظرنا الكمّ الكبير من العناوين المستوحاة من الموروث الديني، ولنا على ذلك أمثلة عدة منها؛ "على الطريقة الصوفية"، "صلاة"، "اقتراف"، "معراج الروح"، "فردوس العدم"، "موسى"، "مريمنا". هذا فضلا عن توظيف التناص الديني داخل النص نفسه مثل: "وتحملني العيون إلى رباها كما حُمل النبي على البراق" ومثل: "هل من ربيع يزهر النوار فيه والعطايا لو أن صيفا دام في أرواحنا حبلا مسد" إحدى مهمات التناص هو خلق نص جديد من نصوص سابقة، لكن ذلك لا يعني ولا بأي حال من الأحوال تكرار المعنى، بل هو توظيف ما سبق لخلق ما هو جديد غير مطروق فيفاجأ القارئ ويُستفز. وقد وظفته شاعرتنا فبرز التناص مع موروثنا الشعري الكلاسيكي: "فجاء الليل كي يلقي ستائره ودثرني أنا الجذلى بلوعتها وفرقاها
تركتُ البحر والأمواج تنبئني نساءُ العشق بين الناس أسعدها وأشقاها" لقد اعتمد النص على "وصف الليل" كما ورد في معلقة امرئ القيس: وليل كوج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي لكنه لم يكن طبق الأصل أبدا، ولم يكن الليل هنا هو ليل امرئ القيس في طوله الذي لا ينجلي، بل قامت بتقطيعه وبنائه من جديد ليأخذ معنى جديدا وحالة شاعرية مغايرة عما كان في الأصل، مع الحفاظ على بعض معانيه، فبدا النص يلبس حلة جديدة تناسب الشاعرة المرأة. ولنا على ذلك أمثلة عدة، فضلا عن المثال السابق مثل: "سقمت وزاد سقمي من عذابي ك ليلى حين ماتت في العراق" ليس بخاف أن البيت أعلاه يعتمد على النص الأصلي الشهير من قصيدة قيس العامري صاحب ليلى الذي هام بها حتى لقب بالمجنون، قال فيها: يقولون ليلى في العراق مريضة ألا ليتني كنت الطبيب المداويا وقد تلجأ، أحيانا، إلى تحوير جملة مأثورة أو حكمة عربية لدى العامة فتوظفها لتغني المعنى، كما في النص التالي، إذ وظفت جملتي "أكل الهوى" و"بيع الهوى" من الموروث الشعبي في خدمة السخرية المرة: "في شرقنا لا شيء يُشرق عندنا غيرُ الهوى أكلُ الهوى بيع الهوى" نؤكد مرة أخرى أن تداخل النصوص ببعضها واستحضار حالات عدة والمزج بين الماضي والحاضر كان نقطة القوة الأهم في شعر فردوس، وإن كان لنا ما نقوله هنا أو هناك إلا أن هذه التقنية هي التي أثرت النص، وجعلته مفاجئا ومحفزا ومستفزا. فالتناص هو شهادة للمبدع أنه على اطلاع على ما كان، وأما تداخل القديم بالجديد ليأخذ صورة جديدة فهو مهارة هامة من مهارات الأديب، وقد أحسنت فردوس في توظيفها، فخلقت حالة من التفاعل بين أكثر من نص وبالتالي أكثر من صوت، كما سنبين لاحقا. الشعر المموسق: لا نأتي بجديد حين نتحدث عن موسيقا الشعر، فهو أمر مألوف في شعرنا منذ "قفا نبك.." وحتى اليوم، لكني أرى أن الشاعرة فردوس حبيب الله تعنى بالموسيقى الداخلية فضلا عن موسيقى الوزن والقافية، وقد وجدت أن تكثيف النبرات الموسيقية يخدم المعنى ويتماشى معه، فبدا لي أن عنفوان الشاعرة وهِياجَها الفكري يحتاج إلى قراءة تنسجم فيها اللفظة ومعناها وتتجاوب مع نبرة الغضب والعتب: "لا حول لي إلا بحرفي ما قوتي إلا بنبض الشعر شريانا يصبّ الحبّ في رأسي وفي كأسي فأرفع نَخب ميلادي وموتي فيك أغنيةً على ورق على حبق على قلقٍ" نلاحظ اللفظة المائجة في ارتداد الصوت والصدى، عبر التجنيس الداخلي الذي يعتمد على التجنيس الحرفي، وفيما يشبه التصريع في تكثيف الموسيقى الداخلية، مما يساهم في انسياب النص وانسياب القراءة بانفعال دون وقفة، إلا الوقفاتِ القصيرةَ التي تتماشى مع الدفقة الفكرية والصوتية في آن معا. لذلك أرى أن هناك شعرا حماسيا ثائرا، ونبرة خطابية جديدة لا نبرة الخطابية الكلاسيكية، لكنه عند فردوس حبيب الله هو حماس المرأة العربية الثائرة. ليس بخاف على القارئ المتمرس اعتماد التشديد مرتين في حرف الباء في كلمتي "يصبّ" و""الحبّ"، والتجنيس الحرفي في كلمتي "رأسي" و"كأسي"، وما يشبه السجع، بين الكلمات "ورق"، "حبق" و"قلق" وهو نوع من أنوع الموسيقى. هذه النبرة الموسيقية بارزة في شعر فردوس، وهي كما ذكرنا ميزة من ميزات شعرها أحسنت الشاعرة في توظيفها، لأن موسيقى الشعر عامل من العوامل النفسية المؤثرة في النفس البشرية، وهي وسيلة لتجنيد القارئ للتجاوب، والتواصل بين المرسل والمرسل إليه، أو المتلقي، وبالتالي يتحقق أهم أهداف المبدع، كما قال جورج أورويل وغيره. لكنا نحذر من التقليد والتكرار والانجرار وراء النبرة الموسيقية والغرق فيها، لأن التلوين أكثر قدرة على مخاطبة قارئ اليوم، وأكثر استجابة لمتطلبات العصر. ولنا على ذلك أكثر من مثال منها قصيدة "عليّ" وقد جاء فيها: "نديّ الروح هب روحي صباها فعدل الأرض لم ينصف رجاها قُبيلك لم يكن للعمر جدوى فجئتَ تعيد للدنيا شذاها وقلبي رام لو تأتي فإني سأعبدها العيون ومن رماها سهاما أوغلت حبا بصدري وأردتني قتيلة منتهاها" قصيدة رومانسية لطيفة، لكننا نتساءل أين المعاني الجديدة؟ وماذا يحمل لنا الطرح من جديد؟ المعاني ليست مبتكرة فهي مكررة ومطروقة منذ العصور الأولى للشعر مرورا بالشعر النيوكلاسيكي الذي قلد السابقين، حتى جاءت الثورة على ما كان مألوفا من قبل فولدت قصيدة التفعيلة وما تلاها مثل قصيدة النثر وتداخل الأجناس الأدبية ببعضها وانعدام الحدود الفاصلة التي وضعها الدارسون الأوائل وفق حدود "جغرافية" لا تتعداها الأنماط المألوفة. لذلك لو عدنا إلى القصيدة كاملة لوجدنا أننا في حضرة شاعر يعيش أيام السيف والرمح والقوس والترس، فلحاظ المعشوق قاتلة كالسهم. والدنيا لم يكن لها طعم قبل التلاقي. تعدد الأصوات بعد قراءة ما قاله المنظرون عن "التناص" وعن "موت المؤلف" وعن "الكاتب الضمني" وما كتبه علماء النفس، وبالذات فرويد، أراني أتساءل هل ما يكتبه المبدع هو ما يبدر عنه في حالة الوعي الكامل أم في حالة اللاوعي، أم في مرحلة ما بين هذي وتلك؟ مهما يكن من أمر فالشعر ليس صورة طبق الأصل عن صاحبه وإن كان يحمل الكثير من "جينات" صاحبه، فهو يتنقل من مزاج إلى مزاج ومن وضعية لأخرى. لقد تحدث ميخائيل باختين عن تعدد الأصوات في الرواية، وإني لأرى أن الأمر يمكن تطبيقه بصورة ما على الشعر، فتتعدد أصوات الشاعر داخل قصائده، أو بالأحرى تتعدد الأصوات الشعرية في الديوان الواحد وفقا للحالة النفسية ووفقا لتطور الفكر، فالإنسان مخلوق مركب ومعقد وهو ذاته ليس واحدا في كل الأوقات وفي كل الأماكن. فإن كنا نتحدث عن الراوي ودوره في الرواية وعن انفصاله عن الروائي، فإن ذلك ينطبق، برأينا على الشعر، إذ هناك ظاهرة تعدد الأصوات وقد انتبه إليها بعض شعرائنا فوظفوها بوعي تام، وهناك من وظفها دون وعي. وهو يبرز من خلال الحوار والمونولوج والتساؤلات الاستنكارية والتناص على أشكاله لفتح أبواب التأويلات. ولو قمنا بدراسة للشعر القديم معتمدين على التنظيرات الحديثة لوجدنا أن بذور التعدد الصوتي قائم منذ القديم. فماذا نسمي ما جاء على لسان الأعشى في قوله الشهير؟ ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل لقد استحضر الشاعر شخصية أخرى يخاطبها وكأنه يقوم بالفصل بين ذاته الأولى وذاته الثانية فأصبح المعنى أقوى وأجمل وأوسع، فانتشر البيت وما زال يتكرر على الألسنة. قامت الشاعرة بتوظيف هذه التقنية بوسائل عدة منها أسلوب القناع، فبدت كمن تلبس طاقية الإخفاء من خلال شخصية أخرى تقول من خلالها ما تريد هي قوله، في مثل قصيدة "مريمنا"، حتى وإن طرحت بضمير المتكلم، أو بضمير المتكلمين مثل قصيدة "هل نستحي". أو توظيف صوت آخر مثلما حدث في قصيدة "ألا هذي الصبية حيرتني" فالصوت فيها هو صوت شاب عاشق، وليس صوتا نسويا: "لها عينان سبحان التجلّي بسحر سهامها قصدا رمتني" ولذلك فقد رأينا أن صورة المرأة على سبيل المثال في شعر فردوس حبيب الله ليست هي نفسها في كل القصائد، فأحيانا متمردة وأحيانا من حرير، وأخرى تجمع بين الحالتين. فإن كانت أحيانا تأخذ عن قيس بن الملوح فإنها في مواقع أخرى قد تأخذ من غرور أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة. وما دمنا مع هذين الشاعرين فحري بنا أن نذكر أن قراءة متأنية لشعرهما تظهر غرورهما واعتدادهما بذاتهما، من ناحية، ورقتهما وضعفهما من ناحية أخرى. فهل التناص هو العودة إلى النص الأصلي فقط والأخذ منه وتوظيفه كتقنية؟ لماذا لا يكون "تناصا" (أو تقمصا) لحالة من سبق من الشعراء، إن صح لنا التعبير؟ لقد تقمص الأدباء كثيرا من شخصيات من سبقوهم دون وعي، إذن فلنقل إن تقمص شخصية معينة في وضع معين لخدمة النص هو أيضا نوع من أنواع التناص. نستغل هذه المناسبة لندعو فردوس وغيرها من الشعراء لتوظيف الدرامية أكثر حتى تتمكن من التنويع والتلوين والتجديد. فالدرامية هي التقنية القادرة على إحداث الدهشة والرعشة في القارئ، سواء كان قارئا متمرسا أم قارئا عاديا لأنها تثير خلخلة في مسار النص الذي يهز القارئ ويلفت انتباهه دون وعي. خلاصة - نجحت الشاعرة فردوس حبيب الله في إغناء نصوصها من خلال توظيف الموروث الأدبي والفكري العربي والموروث الشعبي، فضلا عن التناص الديني، مما جعل نصها قابلا للانفتاح والمحاورة. - شاعرتنا مثلها مثل أي مبدع آخر قد تبدع ما هو جميل وقد تبدع ما هو أجمل، وهي همسة خفيفة لطيفة حتى تقسو على نصوصها أكثر، رغم أنها قست ما فيه الكفاية، لكنها برأينا قادرة على إعطائنا كل ما هو جميل من عالم الشعر. - وظفت الشاعرة الموسيقى الشعرية تجاوبا مع النبرة الحماسية الغاضبة الثائرة فانسجم هذا مع ذاك. ولكنها في مواقع معينة قادها الوزن نحو المألوف فدخلت في إسار التقليد والتكرار. وبما أنها شاعرة تبحث عن الثورة اجتماعيا وفكريا فإننا نرى أن أفكارها الثورية بحاجة إلى ثورة شكلية تتماشى مع ما يميز قولها وتوجهها الفكري الذي يميل بقوة نحو الانفتاح. لذا فإن توظيف العناصر الدرامية سيساهم أكثر في ارتقاء أشعارها. - الشاعرة فردوس حبيب الله تبحث عن الجديد وتحمل فكرا متنورا فلا تهادن ولا تتردد في توجيه سهامها نحو من تجنى، ولم تتردد في إشعال طرف الفتيل كي تأكل النار ما علق بثيابنا من "رذائل" فكرية، فوجدت في السخرية ملاذا، ووسيلة تفرغ بواسطته ما يعتريها من هم وأرق وقلق، فصوبت سهاما قاتلة جريئة نحو أكثر من مصدر. - إننا نعول كثيرا على دور الشاعرة فردوس حبيب الله ونرى أنها مزودة بكل الوسائل والتقنيّات الفنيّة التي ستأخذها بعيدا، وقد وضعت رجلها في منطقة متقدمة على سلم الشعر وسوف تتمكن من اعتلائه درجة إثر أخرى. رياض كامل
#رياض_كامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأثر المفتوح- قراءة في ثلاثية فريد غانم
-
جولة قصيرة في نصوص سعيد نفاع
-
وقفة على حافة السيرة الذاتية في نوم الغزلان
-
خصوصية المكان ودلالاته في شعر جهشان
-
نشأة المسرح العربي الحديث
-
-أنا هو الشاهد- وعلاقة العنوان بالنص
-
الخطاب الفلاحي في شعر سعود الأسدي
-
قراءة تمهيدية في شعر سميح القاسم
-
بقايا فرح في ديوان -هذا العالم ليس بريئا- للشاعر حسين مهنا
-
-نجمة النمر الأبيض- بين العاطفة والخيال
-
الرواية الفلسطينية بين التوثيق والخيال
-
-فاطمة- هوية اللغة ولغة الهوية
-
اللغة في الخطاب الروائي- يحيى يخلف نموذجا
المزيد.....
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
-
مدينة حلب تنفض ركام الحرب عن تراثها العريق
-
الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في ا
...
-
-الحريفة 2: الريمونتادا-.. فيلم يعبر عن الجيل -زد- ولا عزاء
...
-
لماذا يعد -رامايانا- أكثر أفلام بوليود انتظارا؟
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|