|
حول تجربة الشاعر بن داوود: حين يصير للقصيدة ألف لسان
بدرالدين القاسمي
الحوار المتمدن-العدد: 5831 - 2018 / 3 / 30 - 21:55
المحور:
الادب والفن
يتميز الشعر عن باقي الأجناس الأدبية شكلا ومضمونا بحساسية جمالية وفنية تجعل منه تجربة تتجاوز التعبير اليومي البسيط الغارق في الرتابة والوصف السطحي للأشياء إلى تجربة ترتكز على تكثيف المعاني والانزياح باللغة وتصوير الانفعالات والمشاعر والأفكار بشكل مجازي بالاعتماد على إيقاع موسيقي معين يتماشى والدفقة الشعورية للشاعر. فالشعر أساسا ليس كلاما تقريريا، إنما هو رؤية ورؤيا، اذ يستوحي جماليته من صوره البلاغية وتعابيره الضمنية. وهذا ما يجعل القارئ أو المتلقي ملزما بأن لا ينطلق في فهمه وتأويله لفحوى القصيدة مما تقوله بشكل مباشر إنما مما لا تقوله، معنى هذا، أن المعنى ليس واردا مذ البداية، إنما المعنى يبنى. فالنص الشعري خاصة والأدبي عموما ليس فعالية ثابتة، إنما تعبير متحرك يعيش دينامية محتملة، لذا ليس له معنى نهائي ولا يحيل إلى فكرة واحدة معينة، فبتعدد القراءات تتعدد المعاني. والقارئ طبعا كشريك يساهم في انتتاج هذا المعنى ومنح النص ذاكرة جديدة. واللغة كإرث ثقافي ومجتمعي، تجعل نقل عمل أدبي من لغة إلى لغة أخرى أمرا صعبا، يتطلب من المترجم ليس فقط تمكنه من اللغة لكن من الثقافة أيضا. هذا وقد لعبت الترجمة منذ فجر التاريخ دورا رياديا ومهما في تواصل الشعوب فيما بينها، اذ تعد جسرا حقيقيا يسهل السبل للتبادل والتلاقح فيما بين الأمم. إلا أن الاختلاف حول ماهيتها بين المفكرين واللغويين جعل منها قضية تتطلب منا الوقوف عندها ولو بشكل موجز ومقتضب. فالترجمة حسب راينا لا تعد فقط نظرية علمية لها قواعد وأسس توصي باحترام معنى وأسلوب النص الأصلي، ونقل الأفكار بكل أمانة، إنما هي موهبة وتذوق فني وجمالي للنص الأصل، فمثلا لو قلنا: un magnifique jardin يمكننا أن نترجمه إلى العربية على الشكل التالي وهو طبعا صحيح: حديقة خلابة، لكن اذا اردنا ان نضفي جمالية على هاته الجملة، قلنا: حديقة غنَّاء. نظرا لكون المترجم كاتب ثانيا للنص، ليس عليه بالضرورة ان يتقمص أسلوب وروح وأحاسيس الكاتب الفعلي بحذافيرها، لابد ان ينعم بحيز من الحرية ، فحسب السيميائي الإيطالي امبيرتو ايكو تستحيل الترجمة دون خيانة النص الأصلي، فكل لغة حسبه تعبر عن المراد من المعنى بشكل مختلف. والمترجم المشتغل في الحقل الأدبي، بالإضافة إلى مهاراته اللغوية يجب ان يتوفر على مقدرة أدبية كما سبق واشرنا لذلك، بمعنى انه يلزمه تقييم للجوانب الإبداعية للغة والجوانب الإيقاعية التي تزخر بها القصيدة دون إغفال انفعالات وعواطف الشاعر. والمترجم لا يقوم هاهنا بالمحاكاة فقط، إنما يجعل حدسه الشخصي ومهارته وقدرته الفنية في خدمة النص الأصلي، وهكذا يصبح شريكا للمؤلف في العمل الإبداعي. في نفس السياق، نرى انه من الضروري على المترجم ان ينخرط في النص بشكل كلي محملا باستراتيجيات قرائية يجابه بها مسكوت النص وغموضه، ويستنطق بها معاني النص ويرمم بها تفاصيله. وبالانتقال إلى ترجمة الشعر، فان هاته القضية تكاد تستقطب كل الجدل حول الترجمة الأدبية، وقد تم التطرق اليها منذ القدم على يد الجاحظ مثلا. هناك من المفكرين من يرفض بته ترجمة الشعر من لغة إلى لغة ، لأنها في نظرهم، عملية تخل بالنص وتفقده جماليته ورونقه وتخل بعناصره الفنية، وهو حكم مسبق، إلا ان البعض الأخر يرى ان ترجمة الشعر صعبة لكن ليست مستحيلة. فالجاحظ مثلا، ينطلق من تصور سكوني للنص الشعري، اذ يقتصر مفهوم الشعر لديه بالأساس على الوزن والقافية، وهما في نظره يخصان القصيدة العربية فقط.. حسب باكويسون تستحيل ترجمة الشعر وليس من الممكن نقله نقلا خلاقا، لان الشعر قائم على الإحالة الذاتية ومفهوم العدول. و اللسانيات البنيوية تتعامل مع النص الأدبيّ على أنّه نسق لغويّ مغلق على ذاته ذو حدود نهائيّة لا تربطه صلات مادية حقيقيّة بالمرجع الواقعي، وهي تفيد تبعا لذلك أن الترجمة الأدبية عموما مستحيلة، استنادا على مبدأ الدال والمدلول. اذ، أن ترجمة ملفوظ النص (الدال) لا تضمن بأي حال من الأحوال ترجمة المضمون (المدلول) لما بينهما من تباعد من جهة، ومن جهة أخرى ولأن النص المترجَم سيخلق علاقة جديدة في اللغة المنقول إليها بين دال ومدلول جديدين. وبذلك فالنصّ المترجم هو نصّ قائم بأصله لا علاقة له بالنص الأصل. إلا أنه في رأينا ترجمة الشعر أمر واقعي، وحاجة حضارية تسهم في التعريف بالثقافة وضمان انتشار ونجاح النص وبلوغه قراء جدد. فكل أدب في حاجة للاستمرار والتجدد عبر لغات أخرى، فلولا الترجمة لضل كل إبداع سجين حدوده ومنعزلا في رقعة جغرافية محدودة الأفق والصدى. كما ان تواجد ترجمات بالعربية للشعر الغربي، على سبيل التوضيح، أدى في القرن الماضي إلى تغيير الإحساس بماهية الشعر ودوره الحقيقي، بل وادى إلى ظهور رؤى واتجاهات جديدة، ونقصد هاهنا قصيدة النثر. وبالعودة إلى تجربة الشاعر الفرنكفوني المغربي نجيب بن داوود فإننا نجد من خلال أعماله الشعرية سواء مقتطفات من ديوانه "حنان" أو ديوانه "ميرا" أو "نهود مضنية"، فإننا نحس أن شعره يتميز بحساسية فنية وجمالية تجعل منه شعرا قابلا للترجمة دون الإخلال ببناه الموسيقية والإيحائية، وهذا في نظرنا راجع بالأساس إلى الأسباب التالية: أولا: اعتماد مفهوم حديث للشعر، حيث من خلال اطلاعنا على بعض القصائد مسجلة كانت أو منشورة، يتضح من الوهلة الأولى أن الشاعر يكشف عن زيف اللغة البلاغية والالتزام الموسيقي الصارم، فلغة الشعر في أعماله تتمتع بخصوصية في الصور الإيحائية والحس الشعوري العام بعيدا عن قوالب الشعر الكلاسيكي التقليدي الذي يشل حرية المبدع ويقيده بقوالب لا تتناسب ومشاعره. وعليه فان شعره ترجمة لتجارب وجدانية وعاطفية، تمزج بين النوسطالجيا والحلم: نوسطالجيا لارتباطه بالماضي مرا كان أو حلوا، وحلم في محاولة منه للهروب من الواقع وتشييد واحة من السلام يعمها الحب والسكينة والأمل والشغف. كما أن قصائده انعكاس عفوي لانفعالات نفسية، فالشاعر لا يوجد خارج نصه إنما هو داخله دون تصنع أو مجهود مضن. إذن، فالكتابة عنده ليست حرفة أو تمرين مهني، إنما حاجة ليس يختارها ولكن تختاره، ليس يتناولها وإنما هي التي تستهلك كلماته كما لو انه غدا خبزا يوميا لها. ثانيا: ما يثير القارئ في حضرة نص نجيب بن داوود، هو احتفاءه بالمرأة بشكل مفصل ودقيق روحا وجسدا. وهو ما يجعلنا نلقبه بنزار قباني الفرنكفوني، اذ يقترب هو الأخر من تفاصيل المرأة ولغتها اليومية، ويصاحبها فنيا وجماليا كأي شاعر يمتهن عشق النساء ويغتني بهن لما يمتلكنه من رقة وأنوثة. وأغلب قصائده تدور في دائرة الغزل الحسي القائم على الشوق العارم لمفاتن الجسد بتكوينه وانثناءاته. ينصرف إلى النهود المضنية والمتعبة، إلى الشعر المنسدل ومنه مرة أخرى إلى الشفاه ، لكن المرأة لا تأخذ معنى الجسد فقط إنما هي أيضا قضية من قضاياه، فهي تعيره صوتها، لتحريرها من قيود المجتمع والعادات، وإنشاد الحرية والعشق والحب. وعلاقة بالترجمة، فان اختياره لموضوع المرأة كقضية معاصرة يجعل شعره وليد عصره ووليد تجربته، خصوصا وانه يعبر عن ما يخالجه بشكل بسيط، مما يدل على تمكنه وموهبته. ثالثا: ان انفتاح الشاعر على أشكال ثقافية وفنية متعددة، الثقافة الفرنسية والأندلسية الإسبانية والعربية، تجعل من قصيدته فسيفساء تلتقي عندها ثقافة عديدة ومتعددة. ويتبدى هذا جليا في الجانب التصويري والموسيقي منه. فصوره البلاغية في العمق مستوحاة من قراءاته لأشعار مختلفة بلغات مختلفة، كما ان بنية قصائده الموسيقية متنوعة لا رتيبة، تلتقي فيها جملة من الإيقاعات والألوان الموسيقية. وهذا، يجعل شعره قابلا للاحتفاظ ببنيته الموسيقية وان قرأ بلسان غير الفرنسية. رابعا: ان المسألة الرابعة عموما تتعلق بالجوانب اللغوية والتصويرية، عموما يستعل الشاعر قاموسا لغويا سلسا متداولا في الحياة اليومية، مما يجعل إيجاد مقابل لمفرداته امر ليس بالعسير في اللغات الأخرى، كما ان أسلوبه يتسم بالبساطة باعتماد الجمل القصيرة وصور شعرية حديثة. خامسا: يبقى شعر نجيب بن داوود تجربة إنسانية بامتياز، لأنها تحتفي بقيم سامية كالحب والسلم والتسامح وغيرها، وهي نقطة قوية تجعل شعره عابر للحدود والجبهات دون جواز. لان هاته القيم مشتركة بين الإنسانية جمعاء. في الختام، يمكن القول أن بالنظر لما تزخر به تجربة نجيب بن داوود العاطفية والإنسانية من حساسية جمالية وفنية تصويرية حداثية وبنية موسيقية تلتقي فيها مجموعة من الإيقاعات وتتقاطع فيها عدة ثقافات، تجعل من نصه فسيفساء عابرة للحدود، وقابلة للترجمة بألسنة أخرى دون الإخلال بالمستويات الجمالية لنصوصه، وبالطبع هذا يتوقف دون ادنى شك بمدى تمكن المترجم وحنكته.
#بدرالدين_القاسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دم وبنادق
-
اسخيلوس
-
المجلس القروي لسيدي رضوان: من ازمة التنمية الى تنمية الازمة
-
شتات و أرق
-
فوضى وجودية
-
بسمة غضب
-
ورقة توجيهية عن حركة شباب اجمع الوقفة
-
نرسيس يفنى
-
فَجْرٌ ضَيِّقْ
-
كستنائية
-
بيان : الشبيبة الاتحادية وتموقعها من العمل الحزبي والسياسي.
-
محاولة للبحث عن بديل سياسي
-
الى من طاردت وجهها في المطر
-
غرنيكا من زاوية سيميولوجية: من الصورة الى النص
-
ينسيني المساء
-
العلمانية والديمقراطية والاسلام
-
سجنتني عصفورة
-
حبك واذار
-
اُورَفْيُوس
-
أعود صمتي
المزيد.....
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|