|
استنطاق التاريخ وتطويعه في رواية حُب في ظلال طاووس مَلَك
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5830 - 2018 / 3 / 29 - 11:05
المحور:
الادب والفن
صدرت عن "بيت الكتاب السومري" ببغداد رواية "حُب في ظلال طاووس مَلَك" للقاص والروائي العراقي حمّودي عبد محسن، وهي روايته الخامسة بعد "الدفّان والغجريّة"، "المِزمار"، "حكاية من النجف" و "امرأة الحُلُم"، ويبدو أنه استمرأ تقنية الرواية التاريخية الحديثة التي لا يستنسخ كاتبُها أحداث التاريخ حرفيًا وإنما يلتقط اللمسات الوجدانية المسكوت عنها أو التي غفلها المؤرخون أو تفادوها عمْدًا. وبما أنّ الرواية كجنس أدبي حديث لا يتقبل الوقائع التاريخية القارّة فعلى الروائي المبدع أن يطوّعها، ويستدعي روحها، ويستنطق زمانها ومكانها النائيين، وأكثر من ذلك، أن يستجلب عبقها المخبأ بين طيّات السنين. وهذا ما فعله حمّودي في روايته الأخيرة التي حرّرها من سطوة التاريخ وألبسها حُلّة أدبيّة قشيبة مُطرِّزًا إياها ببعض القصص والحكايات الأسطورية التي تمزج الخيال بالواقع في محاولة جادة لترويضه واستساغة شطحاته الفنتازية بُغية إبقاء القارئ في الفضاء الروائي الآمن الذي تتماهى فيه الشخصيات بالأحداث وتُصبح جزءًا من نسيج الثيمة الروائية التي اشتغل عليها الكاتب منذ جملته الاستهلالية حتى خاتمة نصه الروائي. لم يشأ حمّودي أن يكتب عن المجزرة الأخيرة التي ارتكبها الدواعش بحق الإيزيديين، وسبيّ نسائهم، وبيعهنَّ في سوق الرقيق الأبيض لأن الرواية تتحدث عن مجازر وإبادات جماعية عديدة وقعت على مرّ التاريخ وكانت آخرها مجزرة سنجار التي تحمل الرقم 73 بعد أن انسحبت وحدات البيشمركة في ظرف غامض وتركتهم يواجهون مصائرهم المُفجعة. لم يقع الروائي أسيرًا لهذه المجازر الوحشية خشية من السقوط في الجانب التقريري، فالرواية لا تؤرخ للأحداث، بل تكشف التاريخ، وتعرّيه، وتعيد صياغته من جديد على وفق الرؤية الإنسانية التي تتوهج في ذهن كاتبها الموضوعي والمُحايد في آنٍ معًا. وحتى الثيمة الرئيسة ذهبت أبعد من حدود المجازر الدموية لتركِّز على الإنسان الإيزيدي البسيط، وخصاله النبيلة التي تشبه خصال العاشق ميرزا، بطل الرواية الذي لم يفارقنا إلاّ في الصفحات الأخيرة من هذا السِفر الأدبي المؤثر الذي يلامس وجدان القارئ ويهزّ مشاعره الإنسانية الرقيقة. تشكِّل قصة الحُب البرئ، والطاهر بين ميرزا وهنار العمود الفقري لهذه الرواية، وقد أقسَمَ هذا العاشق الولهان مع نفسه بأنه سيظل يحبها، ويخلص لها حتى الموت، لكن القدر كان يقف لهما بالمرصاد إذ لسعتها نحلة ذهبية وماتت تاركة إيّاه يتخبط في محنته التي لن يتجاوزها بسهولة. لم يكتفِ الكاتب بهذه الثيمة التي سينبثّ لهيبها في تضاعيف الرواية كلها، بل قفز منها إلى دائرة أوسع حينما تساءل مستفهمًا:"أليس الإيزيدي في السومرية هو الإنسان السويّ المستقيم، والروح الخيّرة غير الملوثة الذي يسير في الطريق الصحيح؟"(ص59). ونظرًا لخبرة جده العميقة في الحياة فإنه ينصحة بالذهاب إلى معبد "لالش" والاعتكاف هناك عسى أن يصل بتأمله إلى قنديل العرش، ويتحدّ نوره مع نور الخالق. وبعد مرحلة طويلة من التعبّد ومُجاهدة النفس يصل ميرزأ إلى مرتبة "الفقير" وهو أعلى مستوى يبلغه الكاهن الإيزيدي لكنه ما إن يعود إلى المقبرة ويحتضن قبر حبيبته هنار حتى يفارق الحياة بينما تغطي طيور السنونو سماء المقبرة قبل أن تتلاشى في المدى البعيد. تعتمد الرواية على تعددية الأصوات فالجد كنجي يروي لحفيده ميرزا قصصًا مُعبِّرة لكنها لا تخلو من جوانب أسطورية ورمزية، وهو يروي هذه القصص إلى حبيبته هنار وهكذا دواليك حتى يتكشف لنا التاريخ بأوجهه المختلفة التي لم تسلم من الحذف، والإضافة، والطمس، والتحريف. سعى حمّودي إلى خلقِ نسقٍ موازٍ للقصة العاطفية التي يقوم عليها النص الروائي مُقدمًا فيه عددًا كبيرًا من القصص والحكايات التي لا نعرف حجم التغييرات التي أحدثها فيها لكن من المؤكد جدًا أنه طوّعها وجعلها تنقاد بسهولة ويُسُر في أنساق الحبكة الروائية التي تُدين رموز الشر والجريمة سواء أكانوا حيوانات أم بشرًا متوحشين مثل الدبّة، الذئب الأسود، كسرى، فريق باشا، الأمير الأعور، بدر الدين لؤلؤ وما إلى ذلك من شخصيات شرّيرة تحركت على مدار النص الروائي وتفاعلت بقوة مع حبكته التي تريد القول بلسان فصيح "لا أحد يُهلِك الشمس"(128). وكلنا يعرف سلفًا أهمية الشمس في الديانة الإيزيدية. تبدو هذه الرواية وكأنها "قصة إطارية" بطلاها ميرزا وهنار لكنها تضم بين دفتيها عددًا كبيرًا من القصص والحكايات مثل الغزالة البيضاء التي تظهر مرة واحدة كل مئة عام وتنثر المسك من سُرّتها، والمُستبصِر الذي يحطم الثلج ويلج في إحدى معاصر الزيتون كي يتخلص من حُمّاه، وشجرة الزيتون التي جلبها الشيخ عادي من بعلبك إلى لالش، والشقائق التي ظهرت بعد قتل النعمان بن المنذر تحت أقدام فيلة كسرى، والقيصر الروماني الذي أحبّ الباشق الذي يصطاد الأرانب والغزلان، والحيّة التي أنقذت السفينة من الغرق، والأمير ئال الذي خطف الوردة الحمراء من شَعر الأميرة طاووس فمات في سجنه حتى نصل إلى خروج روح ميرزا من سجن الجسد وصعودها إلى السحابة الوردية التي جمعت الروحين النقيين الغارقين في المحبة الأبدية. تتمثل الخبرة الفنية للروائي حمّودي عبد محسن في ليّ عُنُق هذه الرواية التي تشظّت خارج المساحة السردية المُخصصة لها ويبدو أنه انتبه في خاتمة الأمر لهذا التشظي فقرر إنهاء الرواية بحدثين مهمين استقاهما من مخطوطتي "الأمير الأعور" و "بدر الدين لؤلؤ" حيث ذهب الأول بقدميه إلى حتفه بعد أن قتل قرابة مئة ألف إيزيدي، فيما ذاق الثاني مرارة الذل والهوان على يد هولاكو الذي أوغل هو الآخر في دماء الإيزيديين قبل أن يواجه مصيرة المحتوم غير مأسوف عليه من قِبل المواطنين الموصليين الذين سامَهم سوء العذاب. تمّ العثور على هاتين المخطوطتين في صندوق سيدة إيزيدية جليلة خبأته في باطن أرضية غرفتها بوصفها حافظة للأسرار، وحامية للتراث الإيزيدي وحينما رأت الدواعش يدمِّرون كل شيء حتى قبريّ ميرزا وهنار قررت إنقاذ المخطوطتين اللتين تمّ استنساخهما إلى أعداد كبيرة وإرسالها إلى أبناء الأمة الإيزدية التي تشردت في المنافي والأمصار. على الرغم من الثيمة الجيدة، والحبكة القوية للرواية، إلاّ أن هناك إطنابًا واضحًا في سرد الأحداث، وبناء الشخصيات الرئيسة التي خلع عليها الروائي كل الأوصاف الإيجابية التي لا يمكن أن تجتمع في كائن بشري واحد حتى وإن كان سويًا، وَرِعًا، دمث الأخلاق، فثمة غرائز كثيرة تحرّك الإنسان وتجعله عرضة لارتكاب الأخطاء والذنوب الصغيرة. وكنت أتمنى على الكاتب أن يقدّم لنا الشخصيات الإيزيدية كأناس مثل باقي البشر والطوائف التي تعيش حياتها اليومية، وتنغمس في الملذات الدنيوية شأنها شأن المِلل والنحل الأخرى التي نعرفها عن كثب. مِثل عدد غير قليل من الأدباء المُكرّسين في الوسط الثقافي العربي يرتكب حمودي عبد محسن أخطاءً لغوية ونحوية لا يمكن غضّ الطرف عنها مثل همزة الوصل والقطع، والعدد والمعدود، والجموع، وعدم التفريق بين حرفيّ الضاد والظاد، والخطل في استعمال بعض الأفعال مثل (حدقت النظر) بدلاً من (دققت النظر) أو (متنكبًا فرسه) عوضًا عن (ممتطيًا فرسه) و (تسلخ الحيّة جلدها) بدلاً من (تنزع أو تنضو الحيّة جلدها) وأمثلة أخرى تضيق بها مساحة هذا المقال.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحالة الحرجة . . رواية تمجِّد البطل المُغترِب، وتُقارع السر
...
-
لماذا أحبّ القرّاء شخصية عمّو شوكت في رواية -ساعة بغداد-؟
-
حرب الكلب الثانية. . مصير الإنسان في ظل التطورات العلمية
-
زهور تأكلها النار. . . رواية ترصد الإرهاب القديم بعين معاصرة
-
أمواج . . . سيرة ذاتية جريئة أثقلتها حروب القائد المتعالي
-
باسم فرات. . . جوّاب المدن، وعابر المفازات البعيدة
-
الحلقة السادسة من مسابقة شاعر المليون
-
التورية والمجاز البصري في تجربة الفنان التشكيلي عبدالكريم سع
...
-
الفنان سعد علي يخلّد الحُب في حديقة الحياة
-
ساعة بغداد . . رواية تخالف توقعات القرّاء
-
تعويم الزمان، وطمس المكان في رواية -بيت البحر- لفاطمة الناهض
-
تيريزا أكاديا . . ومغامرة الحُب المستحيل
-
أفلام السيرة الذاتية بين الالتزام الحرْفي والتعاطف المُعلن
-
-كل المعارك- وهاجس العنف المضمر في الكينونة البشرية
-
العراق والعالم العربي بعيون أربع كاتبات غربيّات
-
بقايا النهار ونزعة الكتابة البصَرية
-
الخطوة الأولى . . ثيمة سلسة ترصد الفوارق الطبقية
-
قصص بأقلام الأسيرات المُحرَّرات من السجون الإسرائيلية
-
تعالوا معًا. . فيلم يرصد القلق، ويدرس فن العلاقة الاجتماعية
-
قصة مُحكمة، وإيقاع سلس في فيلم قبر لاجئ
المزيد.....
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|