|
لاَ تَذْكُرُواْ أَمْوَاتَكُمْ بِالْكُمَيْتِ: قِصةٌ وَاقِعِيةٌ مِنْ وَحْيِ الزمَنِ الردِيء
ابراهيم منصوري
الحوار المتمدن-العدد: 5826 - 2018 / 3 / 25 - 13:27
المحور:
كتابات ساخرة
استيقظ أبو الهدى ذلك الصباح مُتْعباً إذ كان في الليلة السابقة منهمكا في كشف حسابات غير مربحة. كان ذلك الصباح مُفعماً بآياتٍ قرآنية تُرتلُ مِلأ الورَى بصوت مرتفع عبر العِمارتيْنِ المتقابلتينِ. سأل أبو الهدى زوجته المصونة عما يحدث في عين المكان فردت أن الحاج بُمْبُم قد توفي رحمه الله في فجر ذلك اليوم الماطر من أيام الله.
لم يكن أبو الهُدى يعرف السيد بُمْبُم هذا الذي أدركته المنون إلا أن حَرَمَهُ ذكرتهُ أن المتوفى رحمه اللهُ هو بالتمام والكمال أبو الشاب الذي يقضي لياليه الندياتِ الحسان مع بواب الحارة يتجاذبان أطراف الحديث حول مواضيع شتى ويرشفان مِنْ مَعِينِ الزطْلَةِ ما شاءا أن يرشُفَا.
حضرَتْ زوجةُ أبي الهُدى قصعةَ كُسْكُس كما هي العادة في جُل مَحازِنِ وَمآتم العالم الإسلامي من المُحيط إلى الخليج؛ خاصة في تلك البُقْعَةِ الجنوبية من مملكة الفوسفات المحروسة. التأم المُعَزون حول قصعات الكسكس اللذيذ فالتهموا مُثلثَ السميد واللحم والخُضر كُل في فلكٍ يلتهمون.
كُنْتُ أنظر إليهم من شرفة بيتي المتواضع وهم يستهلكون الطعام بِنَهَمٍ كبير مُستَذكرين مناقب الرجُل وخاشعين المَوْتَ كما سكراته وأهوال القبر والقيامة والحساب السريع.
رشفَ أبو الهُدى قهوةَ صباحهِ كما هي العادةُ كل صباحٍ مِن صباحات الله ثم لبسَ ثياب دٌنْياهُ يَرجو السلوى لِحضرة الهانِمِ الثكلى كما لجميع عناصر أُسرتها الكريمة. ذهبَ فوْراً نحو الجَمْعِ النهِمِ يَخْطو الخُطى حتى أَلْفى يافِعَيْنِ قدما لهما العزاء اللازم فقالا: "أتريد أن تعزي عائلة المرحوم يا سيدي؟"؛ قُالَ أيْ نعم يا سيداي...
انطلق احد اليافعين كالسهم ثم عاد بمعية السيد "بابا" ابن المتوفى. قدمَ أبو الهُدى عزاءه اللازم للسيد "بابا" الذي رد للتو: "أتريد أن تُعزي ماما يا سيدي؟"؛ أجاب أبو الهُدى : "أيْ نعمْ يا سيدي الكريم الندي". ارتقى الاثنان بعض الأدراج حتى صَادَفَا امرأَة ترتدي ثوباً أبيضَ ناصِعاً كما هي العادة في بلاد المغرب الأقصى وَالسودان كُلما تَوَخى حمام الموت بَعْلاً.
قدم أبو الهُدى تعازيه الحارة للهانِم راجياً لها السلوى وطول العمر كما لذريتها الكريمة الأبية وسط حشود مُعزينَ مِنْ كل لَونٍ وَطُوبٍ. تلعثمت الهانم المحترمة ثم نطقتْ ملأ الحشود: "لقد كان هذا المُعَلمُ زبوناَ للمرحوم". ظن أبو الهُدى على حين غرة أن المرحوم بُمْبُم كان بقالاً والمُعَزي هو الزبون. لم يسأل أبو الهدى الهانم المفجوعة فقد فهم ألا يسأل عن أشياء إن تُبْدَ لهُ تَسُؤْهُ.
تأبط أبو الهُدى محفظته السوداء نازلاً الدروج. خرج من بين العمارتين المتقابلتين لا يلوي على شيء: "لقد كنت زبوناً وما زلت للبقالين ومن غير ذاك لم أكن قط زبوناً لِعِلانَ ولا لفلان". هكذا كان المعزي يُهَمْهِمُ في قرارة نفسه قبل أن يتوقف فجأةً في نصف الطريق ثم يتذكر: "أتكون تلك الهانم المفجوعة هي التي دخلت بالخيط الرفيع مع حَرَمِي لِتُخْبِرَهَا عن أشياء عني من الغياهب؟". هكذا تساءل أبو الهدى متذكراَ أقوال حَرَمِهِ عن شخص قريب يقول عنه باستمرار إنه زَبُونُ كُمَيْتٍ. توقف ثانية ثم تساءل: "لقد كنت زبون خانٍ كأُناس آخرين، لكني لا أستطيع تذكر مواقع الخانات ولا أسماء نَادِلِيهَا المُحْتَرَمِين".
من فرط بوهيميته، لا يستطيع أبو الهدى تذكر إحداثيات الأماكن ولا حتى أوجه الناس الذين صادفهم؛ إلا أن ظلم الناس يجبره على تذكر بعض الأشياء. تذكر أبو الهدى أنه كان فِعْلاً زبونا من زبائن الكُمَيْتِ في ذلك الخان في مرة أو ربما مرتين، لكنه لم يستطع أن يتذكر ملامح النادل.
تساءل أبو الهدى للتو فتذكر كل عنعنات الدنيا فأتاه الجواب: "أذكروا أمواتكم بالخير". ربما كان بَعْلُ الهانم المحترمة يوزع أنهار كُمَيْتٍ في الدنْيا؛ وكان أبو الهدى زبوناً في خانه في ذلك الزمن الرديء.
عرف أبو الهدى زبونيته لخان المرحوم الذي لا يتذكر حتى تقاسيم وجهه. كيف فقه أبو الهدى ذلك؟ كان ذاك عن طريق حَرَمِهِ التي تلقفت الخبر عن طريق حرم المرحوم بُمْبُم الذي بدوره أخبر في ما مضى حَرَمَهُ المحترمة والتي أنبأت حَرَمَ أبي الهدى المحترمة والتي أخبرت بَعْلَهَا في آخر السلسلة وِفْقَ نظرية الرابط العجيب. إنها لسلسلة عجيبة تلك التي تربط الناس لفعل الخير كما لفعل غير ذلك.
قال كل ذلك في نفسه فَدَنَت الجنةُ إثر ذاك قدر اثنين وعشرين فَرْسْخاً، ثم عاد للغوص في حساباته غير المربحة؛ وفي الأخير ختم: "ربما يكمن سر الكون كله في الأعداد الأولية، تلك الحسابات غير المربحة آنياَ المُذِرة للمكاسب الإنسانية مستقبلاً ...". ربما...
#ابراهيم_منصوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من وحي عبد الواحد حبابو: الإدارة تأكل أبناءها
-
أُس صِفْر
-
شِعْرٌ فِي اللحميةِ والنبَاتِي
-
شعر في النباتي
-
النباتي والكهرباء والماء وأنا
-
في رثاء الفنان موحى اٌلحُسيْن أَشِيبَان
-
الرافعة الواقعة: حِوار بين شَيْخ ومُرِيد
-
هيثم يبكي
-
الزايدي وباها بين اللجة والسكة
-
عن فاجعتي أحمد الزايدي وعبد الله باها
المزيد.....
-
والت ديزني... قصة مبدع أحبه أطفال العالم
-
دبي تحتضن مهرجان السينما الروسية
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|