|
الاختزال و التّكثيف في القص إلى أين؟
عماد نوير
الحوار المتمدن-العدد: 5822 - 2018 / 3 / 21 - 00:05
المحور:
الادب والفن
الاختزال و التّكثيف في القص إلى أين؟
ينتظر القارئ شيئا جديدا في المواضيع المبحوثة سابقا، فإن خذله المحتوى، و لم يُسْفِر إلّا عن تكرار و إعادة و شرح و إسهاب في نفس الأفكار السابقة، كانت خيبة الكاتب تتجلى بوضوح أمام المد الحداثوي، و انهزام طرحه أمام ذكاء القارئ و متابعته الدؤوبة لكل ما يطرح على بساط النقد و البحث و التّقصّي في مضمار ما! و هنا لا بد من الإشارة إلى أن التعرّض لفكرة الاختزال و التكثيف و الإضمار و الاقتصاد اللغوي، هو أمر في غاية الحسّاسية من حيث ترقّب القارئ لما هو طارئ و جديد، فالرّهط الأول و أهل الدراية و الاختصاص و المحدثين قد أفرغوا عصارة جهدهم و كنوز فكرهم لتوثيق كل ما هو متعلّق بمقومات و أركان الجنس الأدبي المعشوق، القصة بكل أنواعها، و من ضمن ما كُتب عنه هو الشيء الأهم من حيث اعتباره التحديث الدائمي للقصة، ألا و هو التكثيف و الاختصار و الضغط الشديد للقصة، حيث كان مطلبا يناغم و يلبي متطلبات الزمن المتحرك بسرعات قياسية، احتاجت إلى نَفَس قصّصيّ سريع هو الآخر، ليكون موازيا لنفسية القارئ و الكيفية و الوقتية التي تلائم ظرفه حسب ما أملته عليه المتغيرات سياسيا و اقتصاديا و معرفيا و فكريا و نفسيا. و لا يخفى على الجميع الولادات و الاستنساخات المتطوّرة للقصة عبر تأريخها الحديث، فتناسل الأجناس القصصية كان يأتي في الدرجة الأساس من حيث التكثيف و الاختزال، و اقتصاد المفردة في النص، و إعطاء المفردة الواحدة دورا أكبر من الأدوار السابقة، و تعظيم و تضخيم وظيفتها في النصّ، و التّسريح و الاستغناء عن المرادفات و الإضافات التي باتت في نظر الكلّ حشوا لا يخدم القصة في شيء. و لابد من التّأكيد على أن الاختزال أو التكثيف، ليس تكثيفا في عدد الكلمات، أو يمكن تسميته اقتصادا لغويا و لكن هو تكثيف للفكرة ككل، و توسيع من جانب خفي لقدرة الكاتب على عرض مضمونه بالكيفية التحريضية، لا الطريقة الاستغبائية للقارئ، أي بمعنى أن تأتي الاختزال بطريقة ترميمية لشيء مضمر، يحاول به الكاتب أن يدفع القارئ و محرّضا إيّاه إلى اكتشاف سر الحكاية العالق و المستتر في ثوب الجمل الضيّق و لبوس الكلمات المطاطة، و ليس بطريقة الاستغباء التي تأخذ اسم الرمزية الثقيلة و الإشارات المبهمة، فتُضجر القارئ و تحسسه بالبلادة و الحيرة من مرامي الكاتب، ثم بعد ذلك أهمال النص و النقمة من الكاتب، و الأمَرّ هو الدخول في حالة تقهقرية للجنس الذي تكتب فيه، بدل ركوب موجة الحداثة و التطوّر، و بدل أن نرضي طموح القارئ، في تقديم منتج مضغوط و مكثّف بطريقة أدبية و فنيّة مشوّقة، نكون قد قَدِمنا على تشويه النظرية التي يحاول القارئ أن تتطبق على يدي المهَرّة من الكتّاب. و بما أن التكثيف بمعناه الحقيقي هو جعل مفردات النص تنطق لنا حكايته دون زيادة، لذا فأن اجتزاء أي مفردة من النص سوف تودي به إلى التشويه و التدمير، و هذا هو المراد من التّكثيف و ليس اقتضابا لا روح فيه سوى الاقتصاد العيني! و حيث قلنا أن تكرار الطّرح قد أَشبع الجمهور، و سوف لن يغني المتلقي، و ستصيبه الحيرة ما لم يلحظ أمرا آخر، و المراد هنا أننا أزاء تساؤل لا أكثر، هل وصل القص إلى أقصى درجاته من حيث الاختزال و التكثيف و الإضمار و التّلميح و الحذف و الاقتصاد، و المسيرة حافلة بتطوّر هذا الشكل من الأشكال القصصية، فالقصة و القصة القصيرة و القصة القصيرة جدا خير مثال على ذلك، و القصة القصيرة جدا ذات الأربعين كلمة أو أقل، حتى وصلت إلى مسمّى آخر و هو ضمني داخل أُطر القصة القصيرة جدا، حيث جاءت قصة الجملة الواحدة، لا تتعدى مفرداتها العشر كلمات، و هذا ما انتهجه بعض الكتّاب في نهايات القرن الماضي((حب تعسفي/ كان ينتظر اعتقالهما معا...لتضع يدها في يده ولو مرة واحدة/ حسن برطال))، و هناك عشرات القصص أو المئات على هذا الشكل، فالإغراء اللغوي كفيل بإعطاء بعدا واسعا لنص في أقل من سطر واحد، و حذا هذا الحذو كتّاب القصة في الوطن الكبير في بداية ظهور القصة القصيرة جدا و التي وصلت لهذا المسمّى بعد مرورها بتسميات كثيرة، و قد واجهت بعض المتاعب أسوة بكل حديث، كشعر التفعيلة أو أي نهضة حداثوية جديدة، و قد استطاع هذا الجنس الأدبي من مواكبة العصر، و فرض حضوره بقوة على الساحة الأدبية، ليصبح فيما بعد الجنس الأدبي المقدَّم و المحبوب. ثم بدأت حركة التكثيف مرة أخرى في بداية العقد الثّاني من القرن الحالي، و انبثاق القصة الومضة، كوريث شرعي من رحم القصة القصيرة جدا، و قد استطاع المحدثون من وضع أُسسها و مقوماتها و بناءها الأدبي و الفني، لتستقل بذاتها، و لتنزل الميدان بثوب جديد، و رغم أن شرعيتها لم تأخذ إلّا من خلال المواقع الاجتماعية و الألكترونية بادئ الأمر، إلّا أنها نزلت إلى أرض الواقع بعد سنتين أو ثلاث، مع بقاء بعض من الكتّاب في تحفّظ من هذا الجنس لأسباب قد تبدو محترمة و منطقية. و المهم بالأمر و صدد بحثنا، أننا وصلنا إلى درجات أخرى من التكثيف و الاختزال و الإيحاء مشترطا هذه المرّة الإدهاش و إرباك القارئ إلى أقصى درجاته، و مباغتته بقفلة لا تبدو متوقعة رغم التّسليم بذكاء القارئ، و قد أخذت القصة الومضة عددا محدودا لا يجوز تعديه بأي حال من الأحوال، فهي على شكل شطرين تفصلهما فاصلة منقوطة، تمنح المتلقي التقاط نفس معقول لانفجار الدهشة المرجوّة في الشطر الثّاني، و لا يتعدى الشطر منها أربع مفردات، إضافة إلى العنوان. إيثار اقتنى الفقير حذاءا جديداً؛ انتشى بمنحه فقيرا آخرا. لكن التّكثيف كان يرى أن الجملتين بحاجة إلى ضغط أكثر، و لا حاجة للشرح و إعلام المتلقي أن الاقتناء كان لحذاء جديد، فذكاء القارئ لن يجد صعوبة في استقراء الأمر ، ثم بدأ الاختزال لتكتب القصة الومضة في ست و خمس و أربع كلمات. لاحَ بصيص أمل؛ اتّهموا الشّمس بالعمالة. رسُوخٌ كسّرَتِ العَواصِفُ أَغصانَها؛ جَبَّرها عمقُ جذورها. تلكؤٌ استنهضَ جرأته؛ أجابه الفوت.
جموحٌ جاشَ الرحيلُ؛ استنفرَ الوجدُ.
تَعمّقٌ استُهلكتِ الكلماتُ؛ استحدثَ معانيها. و يبقى عامل التكثيف هو عنصر الحداثة و التجديد دوما، و يبقى الإضمار و الإيحاء و الاقتصاد بالمفردة على حساب البلاغة هي العوامل الرئيسة القابلة للتجديد و المتابعة، فالقصة الومضة هنا، و رغم المعارضة من قبل البعض، إلّا أنها نص متكامل موضوعا و بناءً، فهي قصة بحكاية و بطل و حدث و فكرة و هدف و مغزى و نهاية مدهشة، إضافة إلى اتّسامها بأدب الحكمة. فالتّكثيف يسير بخطوات متسارعة يواكب فيها الإيقاع الحضاري الحديث، و النظرة إلى النص الأدبي على أنه وجبة سريعة تنعش الذاكرة و تغني المخيّلة بأقلّ ما يمكن من المفردات. و بعد أن وصلت القصة إلى هذا الحدّ من التكثيف، هل يمكن أن نغلق هذا الباب، و البحث في الأركان الأخرى، أم أن هناك من يحاول أن يصل بالنص إلى الدرجة القصيّة، و جعل المفردة، الجملة الفعلية، تقول القصة كلها، محاولا بذلك غلق باب الاجتهاد و عدم الغوص في إمكانية البحث في تكثيف نص بمفردتين و عنوان: مدٌّ هاتفها؛ تعطّرت. نقد تمادوا؛ ترفّع. حجٌ جنّوا؛ نجوا. هل وصل التكثيف إلى مبتغاه؟ هل وصل إلى الدرجة التي لا تليها أخرى؟ تحيّتي و مودّتي عماد نوير...
#عماد_نوير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة مع مداخلة شعرية خلّابة للدكتورة الشّاعرة فاطمة الز
...
-
قصة قصيرة بعنوان من مذكرات ميت
-
قراءة في نص ومضي بعنوان ((خيبة)) للدكتورة الشّاعرة فاطمة الز
...
-
ققج بعنوان ((انقلاب))
-
القصة القصيرة جدا إبداع و متعة
-
قراءة في ققج (اكتناف) للدكتورة الشّاعرة فاطمة الزهراء زين
-
صور من بلادي/ ققج
-
مقاربة نقدية في نصّ قصّصيّ
-
مقاربة نقدية
المزيد.....
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|