مركز البحوث العلمية -1-

علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 5819 - 2018 / 3 / 18 - 14:05
المحور: الادب والفن
    

رواية - المِذْراة -
*****
الفصل الأول: خمَّارة دليلة والزئبق
الفصل الثاني: رابطة المناجذ الشيوعية
الفصل الثالث: مركز البحوث العلمية
*****

ها قد مضت حوالي ست سنوات بالتمام والكمال على الموعد الذي لن يُنسى، الموعد الذي غيَّر مجرى حياتي، الموعد الذي قذفني قذفاً حراً بحسب قوانين الفيزياء الذكورية، أقصد موعدي مع الرفيقة فاتن والرفيق مجد في يوم الإثنين بتاريخ 28.09.1987 في مدينة حلب.
بين عام 1987 وعام 1993 وقعت تفاصيل حياتية لا يمكن إهمالها ومواقف مفصلية لا يمكن تجاوزها وفروقات غريبة وعجيبة ومفارقات شاسعة، لم أومن يوماً بأنَّني سأبقى حراً ضمن سجننا الكبير، كنت أنتظرهم في كل دقيقة بكامل التوازن والقدرة على المجابهة والتحدِّي، لكن شاءت الأقدار أن أبقى حرأً للأبد.
اِنقضت ست سنوات تعلَّمت خلالها الكثير، تعلمت مثلاً أن أُشْبِعْ إذا أطعمت وأن أُوجِعْ إذا ضربت وان أُسْمِعْ إذا قُلْت. تعلَّمت ألا أتَوَجَّع لمَآسِي سفينةٍ مجروحة أو تائهة، ولأنَّ الوَقْت كان يمضي بسرعةٍ عالية لا يتحمَّلها بعض رُكّاب الحياة تعلَّمت ألّا أفتح باب البيت وحياتي الخاصة إلا لمن اِستحق الدخول إليها حقاً، إلا لمن عبق بتلك الرائحة، بجودتها الكامنة في قدرتها على اِستحضار الماضي الغميق، تعلَّمت أنَّ السفن لا تغرق بسبب إحاطتها بالماء، إنَّما بفعل الماء المُضطرب الذي يدخلها من الوسط المحيط، تعلَّمت ألا أسمح لما يحدث حولي من دُوَّامات أن يجد طريقه إلى داخلي كي لا يسحبني نحو الأسفل، كي لا أضطر للأنين معه ثم الغرق، تعلَّمت القاعدة التي تُنَبِّئُني بأنَّ عملي سيكون قطعاً صحيحاً إذا علمت ما يريده عدويّ وعملت بعكس ما يريد.
*****
في تلك السنوات الست الأخيرة كبرت قليلاً، وتعلَّمت كيف أتعامل مع الفروقات الشاسعة في تفاصيل الحياة بوداعةٍ قلّ نظيرها، أقصد الفروقات التي يجدها الواحد منا في كل مكانٍ، في البيت، في الشارع، في المكتب، في الحقل وفي السيارة. فروقات تعيشها في كل يوم، في كل ساعة وكل دقيقة تقريباً، تعيشها دون أن تعرف أنَّك تعيشها.
هناك فرق شاسع مثلاً بين أن تأكل أو تعد الطعام بيديك، بين أن تشرب النبيذ أو الماء، بين أن تشرب القهوة المُرَّة أو الشاي الثقيل الحلو، بين أن تسمع أغنية أو تغنيها، بين أن تقرأ كتاباً أو تسمعه يُقرأ بصوتٍ غير صوتك، بين أن تلحّن أغنية أو تسمعها مُلحَّنة، بين أن تؤلِّف الموسيقى أو تقرأها مكتوبة، بين أن ترسم لوحة أو تراها مُعلّقة على جدارٍ، بين أن تكتب كتاباً أو يُهدّى إليك أو تشتريه مكتوباً، بين أن تقود سيارة أو تركب فيها، بين أن تعمل أو تعيش من عمل الآخر، بين أن تصطاد سمكة وتشويها في بيتك أو يصطادها غيرك لتأكلها جاهزة في مطعمٍ ما، بين أن تبكي أو تضحك، بين أن تصمت أو تثرثر، بين أن تحمل طفلك بين ذراعيك أو تحمل طفلاً غريباً، بين أن يضحك لك طفلك أو طفل الجيران، بين أن تُودِّع أمك في جنازة أو أم صديقك، بين أن ترتدي قميصاً شتوياً في الصيف أو قميصاً صيفياً في الشتاء، بين أن تكون أصابعك بين شِقَّيّ الرَّحى أو على مقبضها الخشبي القائم، بين أن تكون نائماً في اليقظة أو مستيقظاً في النوم، بين أن تحلم أو تعيش الحلم حقيقة، بين أن تعيش في الصحراء أو قرب البحر، بين أن تعيش تحت سماءٍ تُمطر قنابلاً أو شموساً، هناك فرق بين مجتمع ما بعد بطولي ومجتمع لابطولي، الأول يتذكَّر بطولاته وتضحياته ويتعلَّم من حروبه البطولية التي خاضها بشرفٍ، هناك فرق بين شخص حياته جملة من الإسهالات الفقيرة وشخص آخر حياته جملة من الإمساكات الغنية، هناك فرق كبير بين مجنون يفتح القفص لإطلاق سراح حيوانات حبيسة حتى لو ظنّ أنّها قد صارت مُروَّضة، ومجنون يقفل باب القفص على حيواناته الجريحة من أجل ترويضها، هناك فرق بين من ينظِّف بيتاَ اِستأجره أو بيتاً دفع حقه وامتلكه، هناك فرق بين مطبخٍ ضيق بلا نوافذ أو صنابير مياه وآخر واسع يتجدَّد فيه الهواء وتدخله الشمس وتهدر المياه في أنابيبه، هناك فرق بين عازف الليل وعازف النهار، بين أن تأكل العصيّ أو تعدها، بين أن تكون السجين أو السجَّان، بين أن تكون اِبن العتَّال أو اِبن الشوباصي، هناك فرق بين النجاح والفشل، بين الثبات والهزيمة وبين الخيانة والانهيار.
*****
في صيف عام 1993 تخرّجت من كلية الهندسة الميكانيكية بموجب قرار مجلس الجامعة رقم 277 وحصلت بموجبه على مصدقة التخرُّج مكتوبة بخط يد غير مقروء.
في صباح يوم الثلاثاء الواقع في 28.09.1993 جاءت إلينا الدكتورة هيفاء نائب رئيس مركز البحوث العلمية في مدينة حلب مع طاقمها، عرضت على الطلبة الأوائل من قسمي الهندسة الميكانيكية فرصة الاِلتحاق بدراسة الماجستير في محركات وهياكل الطائرات برواتب جيدة وتجهيزات سكنية مريحة ليصار بعد ذلك إلى إرسالهم إلى جامعات عالمية في أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا.
*****

يتبع
رواية المذراة

#علي_دريوسي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات