|
الانفصام
صيقع سيف الإسلام
الحوار المتمدن-العدد: 5817 - 2018 / 3 / 16 - 22:17
المحور:
الادب والفن
إن تجربة مدينة جديدة ليمد الإنسان بشعور عظيم من الحماس و التفاؤل و الأمل الكبير ، هذا ما أحس به وأنا أنزل ضيفا في مكان لم يسبق لي رؤيته . مدينة صغيرة نسبيا بشوارع نظيفة و مصابيح ليلية كثيرة و أزقة ضيقة ، يسكنها مجتمع تقليدي يجد متعته في سرد الأساطير و نقل الحكايات الخرافية ، أول ما وصلت هناك حتى صار الجميع يحدثني عن ذلك المجنون الذي خسر ثروته و لم يتزوج أبدا و كيف أنزل الرب به عقابا ، جعله أبكما لا ينطق ، أبكم من عشر سنوات قالوا ، جزاءا لأفكاره التي يؤمن بها ، خاصة احتقاره للمجتمع و سعيه في تسميم شبابنا . . . هذه كانت البدايات التي عشتها داخل العيادة الجديدة التي بعثت طبيبا فيها ، عيادة مختصة في الذاكرة و الزهايمر ، تعتني خصوصا بالكبار في السن . كان يوم الاستقبال احتفاءا هائلا ، بلغ من ذلك أن المرضى أنفسهم لم يأتوا لزيارة استشفائية بل تهنئة و ترحيبا بي ، كان شيئا جميلا رائقا ، حتى أن بعضهم جلب هدايا خاصة لي ، يعلقون قائلين : لقد أبدلنا الله بذاك المجنون المسخوط إنسانا عظيما مثلك ، هي رأفة و رحمة تنزل من قبة السماء على بيوت مدينتنا الصغيرة . . . كل هذا زاد من فضولي الشديد في معرفة تفاصيل قصة هذا الأبكم الذي لم يسمع الناس صوته من عشر سنوات ، الجميع كان يترنم و يتغنم به كأيقونة ، لوهلة شعرت أنه الشيطان بالنسبة إليهم و هم كانو في انتظار النبي المخلص ، غير أنني كففت عن التساؤل بصدد فضولي تحقيقا للباقة ، و قد سرني أخيرا التوقف عن الحديث في تلك المسألة لما دخل أحد الرجال موقفا النقاش ، رجل طويل ممشوط القوام ، شبيه بأرستقراطي غني ، وجهه مشرق ينم عن ذكاء ، مع ابتسامة لا تفارق محياه ، و سرعان ما أفضى عن مرامه بأنه يود حديثا خاصا في قضية مهمة بل و خطيرة جدا في نظره ، بيد أن الحضور من أصحاب المدينة منعوه و صدوه ، و اعتبروا فعله من قلة الكياسة ، ثم اعتذروا عن سلوكه وتصرفه ذاك ، ولم تسنح لي الفرصة أن أسمع ما يريد ، إلا أن ضحكات هنا وهناك و تسامرا خفيا قد ألمح لي بعبارة غريبة صدرت من الأرستقراطي أنه ينوي محو ذاكرته ، ولم أعتبرها شيئا البتة .
انقضت الأمسية بشكل جيد ، و قد ألح الحضور أن يوصلوني إلى بيتي خوفا علي من المجنون الأبكم ، غير أنني رفضت و قررت المضي وحيدا تحت جنحة الليل . إن المشي في الليل البهيم يمدني بنشوة عظيمة و يساعدني على التوغل لأعماقي و الكشف عن بعض الخبايا المطمورة داخلي ، الليل بالنسبة لي ساعة التواصل الصادق مع نفسي و لا شاهد على ذلك إلا نقط النجوم . عموما أغلقت العيادة و انفصلت عن الحضور ، ورحت أخطو خطواتي ببطء و نسيم الليل البارد يلفح وجهي بنعومة ، و كعادتي أغلقت عيوني و أقللت من سرعة تنفسي و أبطأت من سيري ، طلبا لخلود تلك اللحظة ، و استمرارها إلى الأبد . دوما ما شعرت بشبه هذه اللحظة بتلك التي يعاينها الغريق في وسط المحيط قبل غرقه تماما ، هو يبصر المحيط بجماله المطلق في ذلك الكسر من الثانية ، يبصر المحيط بسكونه وصمته و حكمته ، جمال لامنتهي ، قلت ذلك الكسر من الثانية لو استمر إلى الأبد لما رضي الغريق أن ينجو بنفسه ، بل يظل على غرقه مع ما يجده من جمال المحيط في أعماقه و الصمت يطبق على جميع الجهات ، هذه شاعريتي مع لفحة النسيم تلك في الليل البارد . . . على أن هذه الشاعرية بدأت تفقد جاذبيتها و أنا أسمع حثيثا سريعا يخطو باتجاهي و يهمس بجمل متقطعة : " هل تغفر لي ؟ " ، " هل تفهمني ؟ ، أريدك أن تفهمني فقط " ، " الاعتراف هو ما أحتاجه فقط " . . . التفت خلفي فإذا رجل على رأسه قلنسوة تغطيه يسرع باتجاهي و يدمدم حروفا ما ، أسرعت كي أسبقه غير أنه زاد من قوة سيره ، استدرت في أحد الأزقة الضيقة ، ليستدير هو الآخر ، ولم تمض لحظات حتى أمسكني من كتفي ، و رماني على حافة الجدار ، قلبي يكاد يخرج من قفصه ، و رجفة تصيب جسدي كاملا برعدات من الخوف المميت ، هي نهايتي هكذا خطر لي ، وما ضاعف من رهابي هو أن وجه الشخص مختبئ في مسحة من الظلام ، لا يكاد يبرز شيء إلا عيونه البراقة ، عيون واثقة تثقب الحديد ، ثم أدركت أنه لا يملك سلاحا ، لكن عضلاتي كانت متقلصة متشنجة و لم يخطر في ذهني القيام بأدنى حركة ، كنت مشلولا تماما ، و هكذا انطلق صوت دافئ حصيف يهمس من تلك الظلمة . قال الصوت :
. . . . .
أريدك أن تسمعني فقط ، سأمضي سريعا ، سريعا أقول لك أيها الإنسان الطيب ، أنت بروحك الطاهرة تدرك حاجة الإنسان إلى الاعتراف ، حاجته كي يجد شخصا ولو طفلا صغيرا يغفر له و يعطيه أملا . إن ما يحتاجه كبار المفسدين أحيانا إلا كلمات الصفح و الغفران حتى يستحيل الواحد منهم إلى راهب عظيم و مصلح هائل ، هذه بغيتي عندك أيها الإنسان الطيب ، تسمع لي ، نعم ، نعم ، سوف تسمعني وتغفر لي و يمضي كل منا في سبيله . . . الذنب الذي يؤرقني ويثقل كاهلي أيها الإنسان الطيب أنني سترت جرما عظيما ارتكبه أحد الأرستقراطيين العدميين ، آسف لن أحكي لك الجريمة، إنها شنيعة ، بل ليس هناك أشنع منها ، بشعة تقتل النفس الطاهرة أقول لك ، وإذا علم هذا الأرستقراطي العدمي بأني أخبرتك و أفصحت لك ، سيقدم على قتلي ، هو غير رحيم البتة ، البتة ، اعتذر على كلامي المتفكك و جسمي المرتعش ، لا أستطيع السيطرة على أعصابي ، أنا أنفعل بسرعة و قوة ، يسيرا فأفقد توازني العقلي ، بل لا عقل لي البتة ، أنا مجنون هاهاها . . . حسنا ، إليك التفصيل :
لم يكن هذا الأرستقراطي العدمي إلا فلاحا حقيرا مغمورا في تراب أرضه الصغيرة ، يهتم بها اهتمامه بنفسه ، بل أعظم ربما ، و بقدر غبائه الفطري ، إلا أنه امتلك نزعة تؤهله لاخفاء تلك الغباوة ، أعني امتلاكه لقوة تأمل هائلة تسعده في تحليل الأمور . و لا جرم أنك تدرك ما للحظة صغيرة و موقف بسيط أن يغير من مجريات الحياة و يقلبها رأسا على عقب ، حتى قد يخلق مثل هذا الموقف البسيط من الفلاح الساذج فيلسوفا ضخما ، وهو ما كان لهذا الأرستقراطي ، ففي أحد الأيام شاهد على تراب أرضه طفلا صغيرا مصابا بأحد الأمراض الموسمية ، وهو مرض موسمي له أعراض بارزة على الجسد لا إمكانية في سترها ، احمرار في الأنف ، وسيلان الدموع ، و كحة مستمرة و متقطعة ، و جفاف في الفم . لقد كان الفلاح مصابا هو الآخر منذ عشرة أيام بهذا المرض و قد أرهقه جدا . في اليوم التالي مر ذات الطفل من هناك ، غير أنه بصحة وحالة ممتازة ، ليست عليه علامة مرض واحدة ، حيث أدهش الأمر الفلاح و استغرب لفترة مديدة تلك الهيئة ، على أنه خبير و ملم بمثل هذه الحوادث . لم تشكل القضية سحرا بالنسبة للفلاح فقد عاين نفس الأمراض الموسمية لمدة طويلة ، إن ما خالج ذهنه و نبت في خلده تلك الساعة هو سؤال سوف يصوغه بعد سنوات في هذا القالب : ما الفرق بين الشخص العادي وبين الشخص صاحب المعرفة ؟.
سابقا كان هذا الفلاح يعتقد بأن الشخص العادي الساذج أفضل من ذاك صاحب المعرفة ، أي الشخص العادي له القدرة على عيش التجربة ذاتها و الانغماس فيها و التمرغ في وحلها ، و هذا هو الشعور بالحياة حقا ، في حين صاحب المعرفة أقل عيشا للتجارب و أقل انغماسا و منه يكون إحساسه بالحياة ضئيلا فقيرا . أن يعرف المرء متتالية فيبوناتشي الرياضية في أوراق الزهور ، لا يساوي فلاحا يمسك الزهرة و يستنشق عبيرها و يبصر امتصاص رحيقها وهو قطعا يجهل فيبوناتشي . أن يعرف المرءالقانون الثاني للديناميكا الحرارية لا يساوي شخضا فوق سفح جبل مثلج بارد يستدفئ عند نار دافئة صفراء . أن يعرف المرء نظريات أوجست كونت و غوستاوف لوبون و آدلر لا يساوي شخصا يتعارك مع الحياة داخل المجتمع و يقع في العصاب و الأمراض النفسية . . . ثم جاءت واقعة الطفل ، مرض الطفل استمر يوما أو يومين ، في حين مرض الفلاح استغرق عشرة أيام ، السر هو نبتة علاجية علم بها هذا الفلاح لاحقا . معرفة النبتة تلك هي الشيء الجوهري الذي جعل الطفل يسبق بالشفاء الفلاح مدة ثمانية أيام . هنا برز استنتاج الأرستقراطي : معرفة النبتة قلصت زمن الشقاء و ضاعفت من زمن المتعة و اللذة ، معرفة النبتة ساهمت في رفع رصيد الحياة ، هذه الحيثية تجعل صاحب المعرفة أكثر إحساسا و شعورا بالحياة ، بل و تكشف له النقاب عن شيء مكتوم هو القدرة على تحديد الأهداف الحقيقية في الحياة ، ذلك أن البشر العاديون ممنوعون من قدرة تعيين الأهداف الحقيقية و السعي و البذل لها ، هو السؤال الثاني في قصة تولستوي عن الملاك المعاقب بالطرد من الملكوت ، ولن يعود إلا بالإجابة عن اسئلة ثلاث ، منها : ما الذي منعه الإنسان ؟.
يجب أن أذكر هنا صفة أساسية تتعلق بهذا الفلاح الذي صار فيلسوفا ضخما . إن الوفاء صفة ثابتة في البشرية و لا مناص في التملص منها ، حتى أنها تكون حقيقية و مجازية ، يبقى فقط اختلاف لما أو لمن نحن أوفياء ؟ . بعضنا وفي لنفسه فإذا ما تعلق الأمر بذاته كان راضيا ، مركزيته هي ذاته ليست شيئا آخر يبحث في الشيء المتصل بالذات أهو حق أو كذب ، أهو جريمة أم عمل إنساني ، هذا النوع من الوفاء يبحث فقط على الذات و يقوم باقصاء الغير . بعضنا الآخر وفي لشخص آخر ، فكل ما يرتضيه الشخص الآخر هو مقبول سائغ عنده و لا يتعلق الأمر بإرادته هو ، إرادته هي ما يرضاه الشخص الآخر سواءا كان عشيقة أو أما أو أبا أو شخصية خيالية . الفلاح يختلف عن كل هذا فهو وفي فقط للقيمة ، وفي للمبدأ ، وإذا ما خدش المبدأ يخسر الأرستقراطي نفسه و تنكسر روحه و يصبح كل شيء بلا معنى في نظره و اعتقاده ، ولما كان وفيا للقيمة المطلقة ، وفيا للمبادئ السامية ، استطاع أن يقوض الفلسفة و الفكر و المعرفة عموما ، قلت استطاع أن يقوض كل هذا خدمة للمبدأ و في أمل تغيير العالم ، هو مؤمن مسرف الإيمان بما قاله ماركس أن مهمة الفيلسوف لا تكمن فقط في تحليل العالم بل في تغييره . هذا التغيير للأفضل و السعي لخدمة الإنسانية و الصلب من أجلها حتى لو استلزم الأمر . . . ربما بدأت تفهم الآن أيها الإنسان الطيب أن سبب معاناة الفلاح يتعلق بهذه الصفة خصوصا ، الوفاء للفضيلة و القيمة المطلقة . لقد قابل المجتمع أفكار هذا الإنسان في الرقي بأحوال الناس ، تمت محاصرته و عزله بأفكار دونية تارة و بسذاجات و سخريات تارة ثانية ، لم يعد مفهوما لهؤلاء الناس مجريات الأمور و المقاصد التي يسمو إليها هذا الفيلسوف الفلاح ، وبقدر سخريتهم و صدهم عن سبيله ، ازداد بؤسا و أرقا و كآبة ، تتألم نفسه في سبيلهم و لأجلهم ، إنه في حالات كثيرة يصاب بحالة هيسترية ، يضطرب فيها عقله و يغدو شبيها بإنسان سكران يحاول الهروب من نفسه ، من ذاته . إن عدم تحقيقه لشيء كفيل بخدمة الإنسان و العالم يعذبه ، ويزداد عذابه بمرور الوقت و تعاقب الأيام ، يغدو الألم عميقا و شرسا يفترس كل إحساس بالسعادة ولو صغيرا كان ، أخيرا يستعمر الألم القاتل كل الأحاسيس ، و يستحيل الفلاح إلى كآبة لا تطاق ، لو جاز لها أن تتمظهر على أرض خضراء يافعة لأحالتها لشيء محروق أسود سواد الفحم الخام .
إن كآبته كانت شيئا مدمرا هذا الفلاح ، غير أن شيئا زاد في جرعتها فصارت سما زعافا . زوجته تركته في اعتقاد منها أن زوجها قد تغير و أصابه مس من الجن ، هو مجنون الآن ، مجنون أرستقراطي ، و الفلاح كان يحبها حبا مقدسا إلهيا ، حبه لها كان مثاليا ، حبه لها كان مبدأ بحياله من مبادئه السامية ، ولما افترقا كان يردد دوما و أبدا أنها تعشقه ، فقط هي تجهل ، ذلك أن تمظهرات العشق متعددة ، من عشق الجسد ، إلى عشق المرأة لأبيها في صورة عشيقها ، إلى عشق المرأة لمعشوقها وهو في صورة ابن لها هي أمه . يردد الفيلسوف الفلاح دوما أن تلك المرأة تحبه حبا عارما جارفا لكن هي تجهل بذلك ، و حينما تكبر و تنضج تدرك هذه الحقيقة ، هي تحبه هو الفلاح كشبح في جسد زوجها الجديد لا أكثر .
خسر الفليسوف الفلاح مجتمعه و زوجته ، هناك قرر فكرة من أفكاره تقول : يملك الإنسان أن يعيش فقط داخل ذكرياته القديمة دونما احتياج لخلق ذكريات جديدة ، وبهذه الفكرة انعزل داخل بيته و أرضه الصغيرة التي تحيط بمنزله و تدر عليه من خيراتها، تكمن فكرة العيش في الذكريات القديمة أن لا يكون هناك مستقبل البتة ، فقط خلايا تشيخ و تذبل ، لم يقرأ الفلاح كتابا جديدا ، ولم يستمع لمعزوفة حديثة ، ولم يغير من ترتيب الأثاث ، لم ينظف غرفة واحدة من مسكنه ، لم يتعلم وصفة طبخ أخرى ، الخلاصة لم يأت على شيء جديد مهما كان . . . اعتقد الفلاح أن السعادة لا تكمن في العيش يوما بعد يوم و خلق ذكرى جميلة بعد ذكرى جميلة ، قال لنفسه أن سبب شقائه هو ذاك الأمل بغد أفضل ، الأمل بمستقبل أجمل ، هذا هو الشقاء بعينه ، فقرر قطع الأمل بمستقبل أفضل و العيش مع الذكريات الجميلة التي مرت به ، هي ذكريات محدودة و سيكررها كثيرا ، لكنه على الأقل لن يصاب أبدا بشيء اسمه خيبة الأمل . لم يخرج من منزله ذاك لسنوات طويلة ، دوما يعيد ذكرى جميلة كقراءة كتبه المفضلة ، أو متابعة مذكرات زوجته المضحكة بخطها الركيك ، كذا استماعه لمعزوفات زفافه و كبار الموسيقيين الذين التقى بهم ، يكرر ذلك يوما إثر يوم ، الذكريات الجميلة السابقة يوما إثر يوم ، أيضا صلاته الدائمة في جوف الليل و رقصات المازوركا و الفالس و التعبير الحركي الذي يتقنه ، كتاباته التي قام بها كان يعيد كتابتها بنفس المواصفات كلمة كلمة و بنفس الشروط السابقة التي كتبها بها ، الإنارة المنخفضة ، النافذة المفتوحة ، السمفونية ذاتها تشتغل ببطء و خربشة قليلة ، ثم بعد الانتهاء من التأليف يقوم بحرقها في النار الدافئة حتى يتسنى له تأليفها هي عينها مرة أخرى ، ربما المرة الألف أو يزيد . لسنوات طويلة لم يعرف الفلاح الفيلسوف إلا الماضي القديم بذكرياته اللذيذة . كان الناس يعيشون المستقبل لكن الفلاح جعل الماضي هو المستقبل كفكرة للعيش داخل هذا العالم .
ربما استمرت فكرته في عيش ذكريات الماضي السعيدة لعشر سنوات أو يزيد ، لكنه أخيرا في ظلمة الليل خرج هائما سائحا مضطربا يبكي بحرقة و يحاول أن ينشد نشيدا يحفظه ، ينطلق كلماته بصعوبة وتلعثم ، كان منظرا مؤسفا ، أحسستني أرى الفلاح الفيلسوف من داخل عقله ، كأنني هو ، شعور تملكني تلك اللحظة و شعرت بصداع شديد إثر ذلك ، لم يدم طويلا ، استفقت سريعا ، فإذا بالفلاح على رأسي يبكي و يسألني المغفرة ، راح يردد كلمة التوبة التوبة ، لم أتحمل المشهد ، راح يهذي و يمسكني و يهزني قائلا أن أعده بشيء واحد : لا أكشف سره لأحد ، حاولت تهدئته لكن أضحى منفعلا بشدة ، فوافقت على وعده ، هناك اعترف لي بأنه خان زوجته .
بقدر ما تبدو خيانته لزوجته أنها شيء غير مفهوم بل سخيف باعتبار ما ، بأكثر من اعتبار حتى ، إلا أن الصفة الأساسية للفلاح الفيلسوف كانت هي الوفاء للمبدأ ، الوفاء للفضيلة . حبه لزوجته لم يكن في نظره شيئا حبيسا في قوقعة المشاعر فقط ، بل حبه كان عقيدة ، كان مبدأ بحياله . خيانته لزوجته كانت خيانة للمبدأ ،و لأن المبدأ و الفضيلة هي حياة الفلاح كاملة ، فقد خان حياته كاملة ، خان نفسه و دمرها و أذكى نار الكآبة فيها ، وبدل فشله في تقديم شيء للإنسانية ، انضاف إلى ذلك خيانته للمبدأ ، خيانته للفضيلة ، مرة أخرى خيانته لحياته ككل ، و حقيق أن زوجته ليست زوجته ، لكنها بالنسبة له مبدأ و المبادئ خالدة سرمدية لا يجوز نقضها في سائر الأوقات . . . هكذا سعى في أن يجد شخصا ما يغفر له و يستمع له ، سعى الفلاح الفيلسوف و الأرستقراطي عندي كي أغفر له خيانته لزوجته و كي اطمئنه في فشله لتقديم عمل حقيقي للإنسانية ، كنت عزاءه الذي ينجح في تسكين نزعته المثالية . . . ها أنت تراني أنا أيضا مصاب بكاهل مثقل ، أعترف لك أيها الإنسان الطيب ، يا مبعوث السماء ، سأرحل ولن تراني أعدك ، أريدك فقط أن تحقق طلب الأرستقراطي الذي زارك مبكرا في هذه الليلة ، أريدك أن تقتله إن لم تستطع محو ذاكرته ، ها أنا أرحل ، ارحم ذاك الإنسان و ارحمني معه ، هو دوما يأتي يطلب المغفرة عندي ، لا تفزع ها أنا أبتعد ، أبتعد ، وداعا أيها الطبيب ، وداعا ...
. . . .
بقدر ما هو مرعب هذا الموقف ، أن أعايش أنا الطبيب الذي يزور هذه المدينة لأول مرة ، إلا أن الموقف في ظرف دقائق استحال إلى شيء ودي ، الصوت من الظلمة يتحدث ، و أنا أستمع ساكنا بل مهتما بالقصة ، زال خوفي تدريجيا و ارتفع فضولي أكثر ، و لا جرم أن هدوئي أتى من باب اطمئناني ، لماذا عايشت الاطمئنان ؟ . ببساطة : لأن العيون لا تكذب ، تلك العيون البراقة التي كانت تتحدث من الظلمة بصوت حصيف ، هي نفس العيون للأرستقراطي الذي لمحته داخل العيادة في وقت مبكر . ربما سيبدو هذا غريبا ، لكن الأرستقراطي و الشخص الذي كان يتحدث معي هما نفس الشخص ، الأرستقراطي و الشخص الذي كان يسمع اعتراف الأرستقراطي هما الأرستقراطي عينه . إن انعزاله و عيشه في ذكريات الماضي و جعل الماضي مستقبلا خصوصا بعد فشله في تحقيق عمل للإنسانية ، كل هذا ساهم في تطوير هلوسته إلى مستوى معين ، حتى حادثة خيانة زوجته في أغلبها ناجمة عن تعذيب نفسه في فشله لتحقيق عمل جدير بخدمة البشرية ، هو اعتقد أنه لو تمكن من خدمة الإنسانية بعمل عظيم فقطعا زوجته كانت لتبقى معه ، و لأنه فشل في تقديم عمل كفؤ تركته زوجته ، فلام نفسه أنه قد خان زوجته بفشله الذي كان ، و لأن المجتمع ينبذه مع حاجته الملحة إلى الانفجار و تفريغ ما بجوفه ، انفصمت شخصيته لتخلق شخصيتين مستقلتين ، واحدة هي الأرستقراطي الذي فشل في خدمة البشرية ، وواحدة تغفر للأرستقراطي فشله هذا . الإنسان دوما في حاجة إلى المغفرة ، أن يغفر الرب أو شخص ما للإنسان يعطيه توازنا داخليا عظيما ، فهذا الإنسان حتى اثناء ارتكابه للجرم و حتى مع معرفته كونه غالطا مذنبا ، قلت مع كل هذا يوجد صوت داخلي صغير يهمس قائلا : أنت لست مخطئا ، أنا أغفر لك . . . فإذا لم يجد الإنسان أخا له أو ربا رحيما يغفر له ، صار ذلك الصوت الداخلي الذي يهمس ، صار يصبح قويا إلى درجة قد تجعله كيانا بذاته يبرز في شخصية انفصمت عن الشخصية الرئيسة مثل ما حدث للفلاح الفيلسوف . هذا الذي حدث أصابني بالدهشة كما بالشك في نفس الوقت ، أصابني بالدهشة و أنا أرى تلك الثقة التي يتحدث بها كل من الأرستقراطي و الشخص الذي يغفر له ، كل منهما يتحدث كأنه إنسان لوحده و بحياله ، و هما في الحقيقة كيان واحد ، أما الذي أصابني بالشك فهو إذا كان انفصام الفلاح الفيلسوف يبلغ هذه الدرجة من القوة و التناقض في نفس الوقت ، فلم لا أكون أنا الطبيب انفصاما ثالثا للفلاح الفيلسوف حتى أقتل نفسي كون الانفصام الثاني الذي يغفر لم ينجح في كبت الألم ، ربما لا أزيد على كوني انفصاما ، بل ارتقى الشك بي إلى التفكير في أن العالم كله بملايين البشر الذين يعيشون فيه ما هم في الأخير إلا شخص واحد يملك انفصاما في الشخصية ، انفصام لملايين الشخصيات يعتقدون أنهم مستقلين وهم يستعمرون جسدا واحدا فقط ، ولما لا ؟ ، فربما الكون كله مكون من ذرة واحدة لها سرعة فائقة بها تشكل ما نراه منظورا أمامنا.
#صيقع_سيف_الإسلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكذبة
-
الإنسان المتناقض
-
الجندي المنتحر
-
مرض الوعي
-
العبقري الأبله
-
البطل الفكرة
-
كيف قتلت أبي ؟
-
الطموح و الهوية
-
المثالية
-
الملحمة
-
حقيقة الخديعة
-
الحلم
-
الشطرنج
-
المومس و القديس
-
الحب في الوجودية
-
معطف أوربان
-
ميلينكوليا
-
من أخطأ ؟
-
الاحتواء
-
حفيد شوبنهاور
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|