|
*نازك الملائكة: قارورة الحزن الشفيف
محمد عبد الرضا شياع
الحوار المتمدن-العدد: 1485 - 2006 / 3 / 10 - 11:40
المحور:
الادب والفن
تُعَدُّ نازك الملائكة المولودة في العراق عام (1923) رائدة الشّعر العربيّ المعاصر (الشّعر الحرّ) أو (قصيدة التّفعيلة) بامتياز، ولا ينازعها في هاته الرّيادة سوى الشّاعر العراقيّ بدر شاكر السّيّاب (1927-1964)، إذ تُعَدُّ قصيدة (الكوليرا) التي كتبتها نازك والمنشورة عام 1947 نقطة البداية والانطلاق للشّعر العربيّ المعاصر، ولعلّ عنوان القصيدة يدلّ على المناسبة التي قيلت فيها، وكأنّها علامة دالّة على ظاهرة الحزن التي واكبت شعر نازك الملائكة بشكل خاصّ والشّعر العربيّ المعاصر بشكل عام.
لقد استقامت نغمة الحزن في شعرنا المعاصر حتّى صارت ظاهرة تلفت الأنظار، بل يمكن أن يقال إنّ الحزن قد صار محوراً أساسياً في معظم ما يكتب الشّعراء المعاصرون من قصائد، وقد استفاضت هذه النّغمة حتّى أثارت كثيراً من المناقشات والجدل في المنتديات الأدبيّة الخاصّة والعامّة حول سبب تجذّر هذه الظاهرة في القصيدة العربيّة المعاصرة، وربّما تكمن علّة هاته الظّاهرة في طبيعة الحياة ذاتها، وفي ظروف العصر المرتهن بالفجائع الإنسانيّة، فبالقدر الذي قدّم فيه (العقل) للبشريّة من عطاءات وخدمات تفوق الوصف، ظلّ الوجه الآخر ينغلّ عميقاً ممزّقاً أوتار القلب وراسماً قتامته على أفق الحياة، فلا تجد الرّوح برزخها الآمن، حينئذ تلوذ بوجعها المكتوب بجمر الكلمات... من هنا تقول نازك الملائكة اللائذة بحزنها الشّفيف في قصيدة "كلمات": شكوتُ إلى الريح وَحدةَ قلبي وطولَ انفرادي فجاءت معطّرةً بأريجِ ليالي الحصادِ وألقتْ عبيرَ البنفسَجِ والوردِ فوق سُهَادي ومدّتْ شَذاها لخدّي الكليلِ مكانَ الوسادِ وروّت حنيني بنجوى غديرٍ يُغنّي لوادِ وقالتْ: لأجلكِ كان العبيرُ ولونُ الوهادِ ومن أجلِ قلبكِ وحدَكِ جئت الوجودَ الجميلْ ففيمَ العويل؟ وصدّقتُها ثم جاءَ المساء الطويلْ وساد السكونُ عُبابَ الظلام الثقيل فساءلت ليلي: أحقٌّ حديثُ الرياحْ ؟ فردّ الدُجَى ساخرَ القسماتْ (( أصدّقتِها؟ إنها كلماتْ. ))
هكذا تريد نازك الملائكة لإيقاع كلماتها أن تضطلع بمهمّة تقديم الوجه الآخر للحياة، إذ تحمل كلماتها السّؤال وظلّ جوابه في آن، لتختزل المسافة الممتدّة عميقاً بين الذّات وموضوعها، وذلك لتمزيق القشرة الخارجيّة لما هو سائد ومألوف من خلال ما تنثّ حروف قصيدتها من رجّات تحملها الأسئلة المثقلة بالمعنى، والتي تحملها الأبيات من مقطع لآخر، هكذا تقول: وأصغيتُ في فجرِ عمري إلى أغنياتِ البشرْ وشاركتُهُم رَقْصَهم في شُحُوبِ ليالي القَمَرْ وغنّيتُ مثلهُمُ بالســعادةِ، بالمُنتظرْ بشيءٍ سيأتي، بيوتوبيا في سنينٍ أُخَرْ وآمنتُ أنّ حياةً بلونِ الندَى والزَهَرْ ستمسَحُ أيامنا المُثْقَلات بعبءِ الضجرْ وقالوا لنا في أغاريدهم إننا خالدونْ خُلود القُرونْ وصدّقتُهم ثم جاءَ المساءُ الصديقْ يجرُّ سلاسلَه في جمودٍ وضيقْ فساءلتُهُ: أهوَ حقٌّ هُتَافُ البَشَرْ ؟ فحدّق بي صائحاً: (( يا فتاة ! أصدّقتِهِمْ ؟ إنها كلماتْ. ))
من هنا، إذن، لم تقدّم نازك الملائكة وجهاً واحداً للحياة، بل قدّمت أشكالها المركّبة، مبرهنةً على أنّ كلماتها قادرة على استيعاب التّفاصيل كلّها، وأنّ صورة الحزن ليست قاتمةً كما تبدو في ظاهرها، بل هي قراءة لما يجب أن يُقرأ عبر الخطاب الشّعريّ، وذلك بقراءة الموضوع قراءةً وجوديّة دون الإشارة إلى العلاقة بين العلّة والمعلول أو السّبب والمسبّب، سابرةً بهذا النّهج أغوار النّفس البشريّة الموشومة بجروح الواقع الأسيان الذي يرسم اكتمالَ مشهده كلماتُ المقطع الأخير الذي تقول فيه الشّاعرة: وكم مرّةٍ جَدَل العاشقون الأماني الوِضاءْ وكم عصروا في كؤوسِ التخيّل شهْدَ الوفاءْ وراحوا على حُبّهم يُشْهدونَ نجومَ السماءْ ووقْعَ الندَى فوق خدّ الصباح وصمْتِ المساءْ وكم أقسموا بالهوى أنّهم أبداً أوفياءْ وأنّ الوجودَ يموتُ وحُبُّهُمُ للبقاءْ وقالوا: هوىً واحدٌ خالدٌ يتحدّى العَدَمْ ويَرْضى الألمْ وصدّقتُهُم ثم جاءَ المساء اللطيفْ هنالكَ ذات دجىً من أماسي الخريفْ وساءلتُهُ أهْيَ حقٌّ رؤى العاشقينْ ؟ فغمغمَ مستهزئَ النبراتْ (( أصدّقتِهِم ؟ إنّها كلماتْ. ))
من الملاحظ أنّ القصيدة مقسّمة إلى ثلاثة مقاطع، وكلّ مقطع مقسّم إلى ثلاثة أقسام؛ يتّصف كلّ قسم بنبرةٍ تميّزه عن سواه؛ فالأوّل تصوير للآمال والوعود، والثّاني مكوّن من مفردتين: "فَفِيمَ العَوِيلْ"، "خُلُودَ القُرُونْ"، "وَيَرْضَى الأَلَمْ" وهو إيقاع من تفعيلتين: (فَعُولُنْ فَعُولْ). ويُعَدّ هذا الإيقاع إعلاناً عن إيقاف القسم الأوّل من كلّ مقطع وبداية للقسم الثّالث الذي يسجّل ردّاً نافياً للقسم الأوّل، إذ يحسم عدم يقينيّة الوعود الواردة فيه، وكأنّ الشّاعرة تضع المتلقّيَ أمام حوارٍ مسرحيّ أشخاصه وخشبته واقع الحياة المعيش.
تضمّنت هذه القصيدة أسئلةً وجوديّة مقلقة، لعلّ أبرز ما يميّزها حالة التّبرّم المتّسمة بظاهرة الحزن، وهي ظاهرة إنسانيّة خالصة عمّقتها ظروف الحياة المعاصرة، فباتت هاته الظّاهرة علامة فارقة للشّعر العربيّ المعاصر، وقد تعاملت معها نازك الملائكة تعاملاً وجوديّاً خالصاً انطلاقاً من وعيها الشّعريّ ومن إحساسها المرهف بالوجع الإنسانيّ.
لقد انسكب الحزن في داخل نازك الملائكة كانسكاب السّائل في الدّورق الشّفيف، فحينما نقرأ شعر نازك الملائكة نبصر هذا الحزن في داخلها المرسوم عبر الكلمات، وكأنّنا أمام مواجهة بين الذّات والموضوع، بل أمام تفاعل خلاّق، تفاعُل تبادل فيه الطّرفان الأدوار، حيث يجسّد الحزن في هاته الحالة نوعاً من مواجهة الذّات، وهو في الآن ذاته موقف شعريّ من الوجود والموجودات، يُفعّل عندما تبدو حدّة المفارقات بين ما تتغيّا الذّات وما تصل إليه.
إنّ العين المدرّبة تلاحظ في شعر نازك الملائكة إبداعاً مفعماً بالتّجارب الشّعوريّة المليئة بالحزن الشّفيف الذي جاء على شكل صور متراكمة متضامّة تجلّت من خلال بناء اللّغة الشّعريّة: مفردةً وجملةً وسياقاً، كما تجلّت عبر الأساليب البلاغيّة، و الإيقاع الشّعريّ بنوعيه الدّاخليّ والخارجيّ... فمن يقرأ شعرها يحسّ بإيقاع الكلمات وكأنّه يستمع إلى أزيز سهمٍ يخترق الفضاء فيمزّق الصّمت ليترك صدىً في دواخل الذّات المتلقّية فيحرّك المشاعر ويهزّها هزّاً عنيفاً يجعل المتلقّي وكأنّه يعيش حالة الحزن هاته.
من هنا كانت كلمات نازك الملائكة نموذجاً إنسانيّاً حافلاً بالوجع الشّعريّ الذي لا يقدر على تلمّس أبعاده وتجسيدها على الورق إلاّ من يملك قدرة إبداعيّة متميّزة، وكان ذلك كلّه متمثّلاً في نازك الملائكة إنسانةً وشاعرة تظلّ في كلّ مرّةٍ يقترب منها القارئ متمنّعة عن الإفصاح، فيشعر القارئ ببعده لأنّه يعيش في عالم شعريّ يظلّ رافلاً بغموضه، مطالباً بالكشف والإنصات، ولعلّ قارئاً آخر أو قرّاءً آخرين يسعفهم القدر ليتمكّنوا من جسّ دواخل شعر نازك الملائكة وإظهار معالم الحزن فيه. * إلى الباحث عن (المعنى) الصّديق الأستاذ إبراهيم الأعرجي.
#محمد_عبد_الرضا_شياع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السّفر في عذابات الرّوح
-
الرّؤيا الشّعريّة سفر على أجنحة الخيال
-
دلالة المكان الدّائري في رواية جسد ومدينة
-
خليل حاوي : سنديانة الشعر والموت
-
محمد علي شمس الدّين والتّحولات اللوركية في شعره
المزيد.....
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
-
-مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|