|
استراتيجية التفكيك في النقد العربي : كتاب (فتنة المتخيل) لمحمد لطفي اليوسفي أنموذجا
أيوب بن حكيم
الحوار المتمدن-العدد: 5812 - 2018 / 3 / 11 - 01:30
المحور:
الادب والفن
تقديم : أحاول في هذه المقالة التي بين أيديكم الكريمة، تلمس طريق ممنهج بحثا عن الجانب المنهجي والمعرفي في الدراسة، ناقدا معرفتها راصدا منهجها مستقصيا الخلفيات التي تصدر عنها مناديا على جل مساحاتها، مركزا على فصول الجزء الأول مزاوجا بين الاستشهاد النصي والمبادرة بنقده بعد اكتناهه، موازيا في بعض الأحيان بين بعض فصوله وبين دراسات عنيت بمواضيع تلك الفصول، وتجدر الإشارة ان منهجي هو نفس منهج (اليوسفي) لأظهر خطورة التسليم لاستراتيجية التفكيك بمحاكمة النصوص العربية عموما والنصوص الشعرية والأخبارية خصوصا. تقديم الدراسة: محمد لطفي اليوسفي ناقد تونسي معاصر يدرس حاليا في جامعة قطر بالدوحة، له دراسات هامة أهمها "الشعر والشعرية: الفلاسفة والمفكرون العرب ما انجزوه وما هفوا اليه" الصادرة سنة 1992، و"فتنة المتخيل" الصادرة في 01/01/2002 عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، وهي دراسة ضخمة تقع في ثلاثة أجزاء من القطع المتوسط حجم 17 على 27 سنتيمتر على ورق شامواه أملس، وهذه الأجزاء الثلاثة هي: - الجزء الأول: الكتابة ونداء الاقاصي في 461 صفحة. - الجزء الثاني: خطاب الفتنة ومكائد الاستشراق في 412 صفحة. - الجزء الثالث: فضيحة نرسيس وسطوة المؤلف في 427 صفحة. مفاهيم وتعرفات لا بد منها: -------- مفهوم التفكيك: déconstruction فك الحرف لدرك المعنى المسكوت عنه، وكذلك الاشتغال على المعنى لتشريح بنيته وأصوله الأولى او تعرية مسبقاته ومحجوباته او تبيان خدعه وألاعيبه، أو فضح سلطته وتحكماته للكشف عما يمارسه الكلام من الحجب والخداع والاعتباط والادعاء والتحكم والمصادرة، كل شيء ثابت وبدهي وجوهري ومركزي ومعقول ومشروع ليس هو كذلك، فبالتفكيك يصبح مبنيا تاريخيا ثقافيا عرضيا نسبيا متحولا وزائلا. -------- مفهوم التنادي: او النصوصية عند دريدا، أي نصا ما يجب قراءته في ضوء النصوص السابقة والمعاصرة له (1)، أي لا وجود لكتابة من الصفر، كل نص هو عبارة عن نصوص سابقة ومعاصرة. -------- مفهوم الارجاء: différence أي ان معنى نص ما يكون مثار اختلاف وتعدد ولا مجال للقبض عليه، فهو دوما مؤجل ومرجأ(2). -------- مفهوم التاريخية: أي ان نصا ما يعيش لحظته دون الزحف الى ما بعدها وهذه دعوات العروي وغيره(3). -------- مفهوم اللاتاريخية: أي ان نصا ما له سطوة المرور من زمن ايجاده الى ازمنة بعدية لذلك يقال إن القرآن نص لا تاريخي، وهذه دعوات الأصوليين من جهة، ودعوات منظري التأويل، التلقي والتفكيك من جهة أخرى، وان باختلاف الرؤى. -------- مفهوم الواقع: الوقع ليس هو اثر النص الذي يخلق استجابة جمالية كما قد يبتدئ من التسمية. بل هو وقت اصطدام القارئ بنص له عناصر تجعل المتلقي قابلا لأن يتفاعل وينتج، الوقع برزخ بين عالم النص وعالم القارئ ولا يكون الا تفاعلهما عنصرا وايجادا (فولفانغ إيزر) -------- مفهوم العلة والمعلول: قلب الشروط المنتجة لعملية القراءة من خلال هدم démolition العلاقة الشرطية بين الدال والمدلول وقلبها، وهو مفهوم فلسفي عند نيتشه بمثال شهير "عندما تخزني الابرة فمنطقيا وزمنيا علي ان افكر في أداة الوخز ثم قالبا بذلك علاقتي بالوجود". وهذا ما سينقله دريدا ويطوره في دراساته. -------- مفهوم الكامل واللاكامل: مفهوم نشأ في التحليل النفسي عند س.فرويد يعني به أنه لا وجود لنظام كامل دون ام يكون هناك نظام غير كامل، لمعرفة التلميذ المجتهد لا بد من وجود تلميذ كسول، وسيستغل فوكو في "تاريخ الجنون" ودريدا هذا المفهوم (4) -------- مفهوم التلقي: القراءة ليس بوصفها تمريرا للبصر على السطور، لكن بوصفها انتاجا لا يقل أهمية عن الإنتاج الأول: النص.. لا وجود للنص دون وعي القارئ به ولا وجود للقارئ دون نص. -------- مفهوم الوعي في الفينومينولوجيا الهيدجرية: تحرير العقل من المتعاليات (كما يرى هرسول) وتوجيه قصدية شعوره الى الموضوع الحسي (الحقيقة والمنهج: ذهنية ايجادية للأشياء الحسية حينما نستوعيها، ولا وجود لاي شيء في الكون خارج كوننا نشعر به: "الطاولة لا توجد انطولوجيا الا حينما نشعر بها، ليست هي الطاولة لذاتها، بل هي الطاولة كما تحددها ثقافتنا ونفسيتنا واعرافنا.. اما الطاولة لذاتها فلا يمكن لأحد ان يشعر بها. -------- مفهوم المدينة: نسق من الأفكار هو الذي صنع الابداع الرسمي، اذ ان ابداع الشعراء وغيرهم لم يكن ناتجا عن الصورة التي حصلت لهم عن ذواتهم، بل كانت نظاما من المقول جاء به المبدع اسهاما منه في تأسيس المدينة وتقنين المعنى داخلها او التمرد عليها. ولم تكن محاولات التمرد على المدينة، سوى جزر مضيئة داخل مسار قائم من الخضوع (6)
مساءلة العنوان: فتنة المتخيل: الكتابة ونداء الاقاصي فتنة: تعني لفظة "فتنة" عند ابن منظور اختلاف الناس بالاراء وتعني الحب والوله والاعجاب كما ان الفتان هو الشيطان وتعني أيضا الامتحان والاحراق وقد عمد الباحث الى اللفظة فأخد منها ما يتساوق ومقارباته للنصوص وحدثها، اذ انه يستعمل "فتنة" بمعنى اختلاف الناس الناس بالاراء عندما حاور مفهوم الانحطاط في الثقافة النقدية العربية فصل الانحطاط: الوعي والفجيعة 27-156 وتوسل ب "فتنة" بوصف إبليس هو الفتان الأكبر وهو صنو الشعراء اللصوص الامويين (فصل المدينة وطاردة جند ابليس 157-222) كذلك في استخدامه لنفس اللفظة حين تحدثه عن الغزل في (فصل دروب الانشقاق 223-242) كما لا يخفي فتنته (اعجابه) بالمتنبي (فصل ثارت الشعر 291-419) كما أحال لفظة "فتنة" على ابليس/ الفتان مرة أخرى في ج 2 فصل خطاب الفتنة (13-128) وعلاقة الفتان الأكبر بفتنة الحب والهوى عند المحاسبي وابن القيم وابن الجوزي وغيرهم. المتخيل: يستعمل الباحث لفظة "متخيل" بدل لفظة "مخيال" التي درج النقاد على استعمالها، اذ ان اسم الالة "مفعال" يدل على الجمود، تباعا على موميائية النصوص، بينما تدل لفظة "متخيل" على تمثيل الفكر للتسليم بتراكمية التراث، ولا تاريخية نصوصه، ان نصوص التراث لا تزال متسترة على كنوزها نتيجة "صورة مخترعة" عن قديمنا في اذهان ما نظنه انتاجا نقديا حداثيا، الا ان المتخيل العربي يتطلب منا إعادة قراءة فإعادة هدم فإعادة بناء الكتابة: المثير في العنوان الفرعي اكثر هو لفظة "كتابة" وكأني بالباحث يلمح منذ لبداية ان مغازلة الشعر ستكون بنصوص نثرية على وصف ان الشعر في المتخيل لا يكتب لكن الخبر والسيرة وغيرهما تكتب، انها نصوص مدونة لتكون شاهدة على ذاتها وعلى النصوص الشعرية فتمهد لها، تفضحها، تضعها في سياقها التاريخي بوصفها حدثا انها شاهد غير زور اذن، لكن الكتابة مع اليوسفي ستتحول فعلا الى شاهد زور يغالي ويكذب ويأسطر من اجل ادانة الشعر، فإذا بالباحث يدين هذه الإدانة ويشهر بها "بوعي" فاجع وادراك شكاك في نيتها، ان الكتابة وهي تمهد لنصوص الهامش تساهم في ابتناء النسق غالبا، لكن بتفكيكها والغوص لتلقف خطابها نراها وكأنها تمجد الشاذ والوحشي والمارق، وكأنها حنين الذات الجمعية لانتقام من السلطة (الدولة، الدين الجديد، المجتمع، الاخلاق، العقل) فان الأوان إذن للحفر فيها واخراجها واستنطاقها. نداء: الكتابة نداء والقراءة النقدية استجابة بذلك النداء، النداء هو الحياة، حياة النصوص لكن ليست اية نصوص انها نصوص ضفاف الثقافة العربية المسكوت عنها، والقراءة الجيانولوجية هي التي تمكننا من إعادة النص/المومياء (المتخلى عنه) الى الحياة، في نفس الان تحيل لفظة "نداء" على مفهوم "التنادي بين النصوص" الذي طبقه اليوسفي، لا وجود لنص دون ان يكون نتيجة نص اخر. الاقاصي: الاقاصي هي نصوص لقيطة مطرودة، الانا الممسوخة المتبرأ منها*، المشهر بها (الحكايات والخرافات، شعر اللصوص، شعر الغزل، كرامات الاولياء) وطردها دليل على تردي الثقافة العربية ونفيها للانا/ الغير عملا بما يسميه دولوز (اذ ل تكن مثلي اقصيتك او قتلتك). وقد انتقد اليوسفي المفكرين العرب حينما اشتغلوا ما سموه "الثقافة العالمة" (علم النحو، البلاغة، أصول الدين (علم الكلام) أصول الفقه الفلسفة فين حين تجاهلوا ما ظنوه ضفافا وحواش، لكن اليوسفي سينادي بأخلاقية الاقاصي ودونية المركز في قلب للعلاقة بينهما مخلصا لمبادئ التفكيك والحفر.
*-هذا ما سيفعله فوكو في "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" و "ميلاد السجن" حيث سينادي على المتخلى عنه، المسكوت عنه، الطرود من مدينة العقل، واليوسفي يبدو انه متاثر بعمق بفوكو دون ان يثير اليه.
قراءة في الاهداء: يسمي اليوسفي اهداءه تنويرا، يكتب: "بيلا ورواء..لينا وعلاء..يدا بيد..انها فتنة مغوية" لطفي فيتخلى عن اسمه الأول "محمد" ويحتفظ بالاسم الثاني المصاحب، ولم نعرف من هؤلاء، لكن رواء مؤكدا انها ابنته، وهي مصممة غلاف الأجزاء الثلاثة، انها رسامة تبدع بالريشة كما يبدع ابوها نقدا. بتأويلي للتنوير بدا لي مايلي: - ان اليوسفي في ذكره أربعة أسماء ثم عبارة "يدا بيد" يلمح الى انه سيشهد بأربعة نصوص خبرية للحدث الشعري الواحد، وعبارة "يد بيد" تحيل على مبدأ التنادي بين النصوص، وكذلك سيكون. - نفس الأسماء قد تعني ان اليوسفي ضد الطائفية والعدوات الدينية ف "بيلا" اسم مسيحي، و"لينا" اسم يهودي/مسيحي، وروء وعلاء اسمهان عربيان اصيلان، هي دعوة للتعايش اذن، ونبذ مكائد التفرقة والاستشراق بين المغرب والمشرق، وهذا ما سيعالجه الباحث في الجزء الثاني من كتابه. 1- منهج الدراسة: لا يصرح الباحث بمنهجه في المقدمة (25 صفحة) الا اشارت طفيفة لا تكاد تكتنه، عكس ما اعتدنا مع كثير من الباحثين الذين يستغلون المقدمات للإعلان عن مناهجهم، بل يخصصون اقساما نظرية تمهد لمشاريعهم النقدية ونقصد بالمنهج الخلفية المنهجية الغربية، اما من حيث تصور المعرفة، فقد أشار ان: "النظرية النقدية النقدية القديمة لم تنشد فهم النصوص بل هفت الى احتوائها واحتواء الانسان بلجم نزوعاته واهوائه وترويض رغباته الفردية، فهي ميدان من ميادين عمل السلطة للمنع والخطر، للزجر والاقصاء.." بمعنى اخر فإن نقده للنصوص لن يكون نقدا ادبيا، بل هو يناقش النصوص الأدبية من حيث خطابها واخلاقيتها وقيمتها التاريخية. ان التراث عند الباحث "صنو البلى لدى الداعين الى تخطيه وتجاوزه وهدمه كما انه "صنو الخلاص ومجمع الحلول لدى المنادين باحيائه والاهتداء به" فيقف الباحث موقف النوفيق حيث يصر منذ البداية ان تأصيل نظرة نقدية عربية لا يكون بإعادة انتاج أسئلة تمكن المنظرون القدامى من صياغتها لحظة قراءتهم للنصوص المعاصرة لهم ووقعها عليهم، بل بتمثلها ومفارقتها والمناداة على نصوص تتقاطع معها، خصوصا ان نصوص التراث، تدخل في علاقات سرية مع حشود من النصوص السابقة والمعاصرة، حتى لكأنها تحاورها وتتفاعل معها وتتنافذ، لكن قراءة هذه النصوص لا مفر لها منهجيا من الاغتداء من مناهج الغرب، لكون هذه الناهج تراكما للانا ، في نفس الان علينا قراءة نصوصنا وليس القراءة عنها، لكن دون ان نصف فهمتها من معاصريها بكونه حقيقة تاريخية وحدانية مطلقة، بقدر ما هو لمحة امتلكها أجيال عاصرت النصوص، بذلك تنفتح نصوصنا وترغم نفسها على الإفصاح في وقت لم تفصح فيه ان انتاجها، فداورت وخاتلت نتيجة خوف المعرفة من السلطة، دعوة اليوسفي اتجهت الى التماهي مع الثرات في معاصرته لنا ومعاصرتنا له، والمناداة بالقطيعة مع مفهوم القطيعة. ومن خلال محاولتنا اكتناه مساحات الدراسة، تتوضح الرؤية اكثر، حيث نوع الباحث من اجراءاته المنهجية بخلفيات فلسفية ونقدية تمتح جلها من فكرها بعد الحداثة . واهمها نظرية التلقي واستراتيجية التفكيك، فلسفة التأويل، الانثروبولوجيا والميثولوجيا. أ- المنهج وخلفياته: "القرآن لا يتكلم، والرجال تكلمه" الامام علي (ك)، نهج البلاغة "النص الإبداعي لا يتكلم ابدا، والقراءة هي التي تستدرجه الى الكلام" محمد لطفي اليوسفي، فتنة المتخيل. "النص فارغ ونحن تملأه" دريدا، في الكراماتولوجيا. - التفكيك: استراتيجية التفكيك هي الممارسة النقدية الكبرى التي حاكم بها الباحث نصوص الخبر والشعر... وتواشجت وفلسفة التأويل ونظرية التلقي. الدال على التفكيك لا يدل على مدلول بعينه، تباعا لا تعطينا الدلالة ارتدادا امينا لوجهي العملة، ان الكلمات تمحو وتحجب وتخفي ولا يبقى لنا منها الا اثرها، اتباعا فالنص لا يقول شيئا، انه نص فارغ لا قيمة له ومتلقيه هو الذي يعطيه الوجود، اكتناه النص ها هنا ينطلق من معرفة خطابه والنسق المتحكم فيه، النص يسكت عن خطابه، النص ليس انتاجا بشريا محضا، إنه انتاج نسق ينفي الإرادة، النص كذلك لا يمكن ان يفهم كما هو فهما نهائيا، فمعناه دائما يحتاج الى إعادة فهم متجدد باستمرار. في نفس الان لا كتابة من الصفر، فكل نص هو فسيفساء (كريستيفا) ولا قراءة من الصفر، اذ ان كل قراءة هي حشد لاليات معرفية وثقافية ومنهحية في مواجهة النص، اذن لا توجد قراءة بريئة. التفكيك يقوم فيما يقوم به، على قلب المرجعيات والعلاقات بين الأشياء والشك في المعرفة اليقينية، والنظر الى الخطاب بوصفه نظاما غير منجز الا في ملفوظه، ويستند اليوسفي الى مفاهيم تفكيكية معقدة: مفهوم الوعي الظاهراتي، مفهوم الظاهرة، مفهوم العلية، مفهوم الأثر، مفهوم الارجاء، مفهوم التكرارية، بخلفيات فلسفية هيدجيرية نيشوية وفرويدية والفكرة / الأساس عند التفكيكيين: ما الذي يمنح معرفة ما كونها يقينية؟ ولا يتم نقض هذه اليقينيات الا عبر تفكيكها في سياق الكتابة والاثر، الاختلاف الزيادة، الهامش والاطار، والتفكيك ليس نقدا جاهزا او تحليلا او منهجا بقدر ما هو ممارسة، انه بمعنى من المعاني قريب الى ما دعا اليه سارتر "العمل العمل" لا يوجد الانسان الا عندما تتجلى عبقرية في العمل*، ولا توجد استراتيجية التفكيك الا عندما تمارس، حتى دريدا لم يستطع تقديم إجابة واضحة عن ماهية التفكيك واكتفى بقوله "لمعرفة ما هو التفكيك يجب معرفة ما ليس هو التفكيك - التلقي: هذه النظرية بجانبها الألماني تحتفي بالمنطقة الواقعة بين النص والقارئ، ان القراءة انتاج للنص ف "القارئ طاقة تشارك في انتاج التاريخ" في نفس الان فإن معاصر النص ليس بالضرورة هو الاقدر على على فهمه " ان معاصر نص ما يخدع نفسه حين يتوهم في موقع محظوظ من هذا النص بالنسبة لمؤولي العصور اللاحقة" وتنادي النظرية بنفس ما ينادي به التفكيك وهو التكرارية بوصفا النص انتاجا متكررا في اطار تاريخي للإنتاج، ان النص في النظريتين معا " نص يتعدى مؤلفه ويفيض عن منطوقه بفراغاته ومفارقاته والتباساته لكي يشكل امكانا لإعادة التفكير والفهم على نحو مختلف" ويتموقع اليوسفي على ما بدا لنا في موقع الذاتية النسبية من نظرية التلقي التي قال بها ايزر، مع ميل كذلك "لستانلي فيش" في تحديده لوظيفة القارئ المنتج للمعنى في اطار الجماعة المفسرة. للنص عند اليوسفي وجودان: وجود تاريخي بمتطلبات تاريخية وجمالية لمعاصريه تم وجود لا تاريخي يمكن النص من الإفلات من سلطة التاريخ ويبقى بذلك قابلا للقراءة والتأويل والتجدد، وقد توسل اليوسفي بالنصوص الشعرية بكثافة، لكن ليس بوصفها تحققا فنيا جميلا وبنيات صوتية "وتركيبية" تنتج المعنى، بل بوصفها نصوصا صدامية توسلت بالفن لأجل غير الفن، لذلك كانت نتائج هذا الاشتغال مباينة لبعض الدراسات التي احتفت بنفس النصوص (نصوص الغزل والصعاليك والمتنبي...) اذ ان هؤلاء الباحثين لزموا الحياد إزاء نصوصهم وحافظوا على مسفة بينهم وبينها، خلاف اليوسفي الذي عد نفسه طرفا في بحث المعنى المتواري خلف الدوال اللغوية. ويلاحظ ان اليوسفي في كل فصل يوظف الى جانب التفكيك والتأويل والتلقي مناهج أخرى تفيد في خصوصية نصوص كل فصل على حدة (المنهج الأسطوري، الانثروبولوجيا، النقد الثقافي) وحاول اشراك القارئ وكأنه هو الذي يتوصل الى الحقيقة وليس اليوسفي. ب- أجرأة المنهج: منذ البدء دعا الييوسفي الى مفهوم المثاقفة ليعطي شرعية لاستقدام منهج غربي " إن تاريخ المفاهيم والمقولات تاريخ هجرة لا إقامة، تاريخ عبور وترحال من ثقافة الى أخرى" وكأنه يجيب على سؤال سؤال مفترض من ناقد اصولي عن جدوى اسقاط منهج غربي على نصوص مختلفة عن منابته. ويلح الباحث انطلاقا من استقدام التفكيك والتأويل ان الثقافة العربية ثقافة "اسمية" تعتمد اللقب بوصفه مكيدة لاستصغار الخارجين عن قيم مدينة العقل (الغزل، اللصوصية) وبتأويل بعض النصوص السردية الوعظية يرى الباحث أنها هدمت نفسها بنفسها عبر خطاب ينادي بعكس ما ينادي به ملفوظه (البيهقي، ابن القيم، المحاسبي) ويقلب الطاولة على الامام ابن الجوزي حيث اول وفكك وعظة في ذم الحب، لكن الوعظة ستتحول مع الباحث الى عكس ما اريد منها، حيث حكى "ابن الجوزي" مستسلما لفتنة السرد حكاية مثيرة لامرأة شبقة شهوانية، فأراد بها نهي الناس عن الهوى صنو الأبلسة، فيما خطاب الحكاية يمعن في المناداة على الشهوة والجنسانية لدى المتلقى، اذا قارئ حكايته يستحضر تفاصيل الحكي عن المرأة ذات الجمال والجسد والشبقية والنزوات مع الرجال ومع ابنها، فهدم بذلك صاحب "ذم الهوى" قيمة وعظه وبنى خطابا يلح على الفجر والاثم والرذيلة بدل الفضيلة والصلاح والعفة. كعب بن زهير: حيث سكت الشاعر واندحر الشعر (فصل دروب الهوان 243-281) يظهر مبدأ قلب المرجعيات جليا عندما ناقش الباحث قصيدة "بانت سعاد" فهذا النص الخالد عند اليوسفي ليس هو ما درج النقاد القدامى على فهمه: "فلم ينكر عليه النبي (ص) قوله، وما كان ليوعده على باطل بل تجاوز عنه ووهب له بردته، فاشتراها منه معاوية ب 30 الف درهم، وعي يتوارثها الخلفاء ويلبسونها في الجمع والاعياد تبركا بها" بل لأنها تملق وتسليم لمفاتيح مدينة الشعر الهوجاء الى مدينة العقل واستخدام الفن الجميل والتقسيم التقليدي لايفاء حق رجل عظيم مثل محمد (ص)، في المقابل استقبل النبي (ص) هذه المدحة وفيها ما فيها من "الغزل"، ليس لكونه يتفهم ان عمود الشعر المدحي يستوجب بداءا به، وانما لانه – بذكاء مفرط- عرف ان سلطان الشعر والكلمة بوصفها فعل وجود خطير سيسلم أخيرا الى "المدينة"، لذلك سيهديه –مقايضة ومكرا- بردته التي ستصبح رمزا للتوبة، لكنها في حقيقة الامر رمز لانحطاط الشعر العربي، ولهذا السبب سيلبسها الخلفاء تأكيدا منهم ان الشعر اصبح في يد السلطة، فبقلب العلاقات سيتوصل اليوسفي الى ان عصر انحطاط الشعر العربي بدأ في الوقت الذي نظنه مجدا وعصر اوج له، فليس من الغرة ان نرى كلمات ابن خلدون طافحة بنعي الشعر: "صار غرض الشعر في الغالب انما هو الكذب والاستجداء، فأنف منه اهل الهمم والمرائب من المتأخرين، واصبح تعاطيه هجنة ومذمة... والله مقلب الليل والنهار". لحظة عمر بن ابي ربيعة: حين نطق الشاعر وانبعث الشعر (فصل دروب الهوان 223-242). يلمح ابن خلدون الى ان الشعر انما يصدر عن الاهواء والتمرد لا الخضوع والانصياع ، وفي ذلك يقول اليوسفي: "لقد حرص العرب القدام على تدجين هذا الطابع الانشقاقي والحد منه، فسموا شعر الحب "غزلا" واعتبروا الغزل داخلا في باب المدح ...." عمر بن ابي ربيعة سيكون أولَ شاعر ينشق عن مدينة العقل، لكن من داخلها، سيقبع فيها ويعاندها من الداخل، لكن الحكايات والتسميات ستحاول الانتقام منه عبر تدجين مصطلح "شعر الحب" الى شعر الغزل في اذانة للقول العمري، فجاءت مكائد التسمية موارية تخفي وتتكلم عن هدفها وهو المحو، لكن عمر سيرد بقوة، اذ انه تجاوز القول الى الفعل امام الملأ (تغزله بأم البنين، وبزوج ابي الأسود الدولي امام أستار الكعبة)، وسترد النصوص الخبرية حيث حكت ان عمر الماجن ولد ليلة قتل عمر الفاروق، فهل صدفة؟ بل هي هذه حقيقة؟ ان التاريخ يكتبه المنتصرون، وقد انتصرت مدينة العقل، فلها اذن ان تدون ما تشاء، فهل كان عمر شهوانيا عابثا فقط كما تصوره لنا اغلب اخباره؟ ان انه تجسد رفض لقيم الامويين وسلطانهم؟ كان بإمكان عمر ان يمارس دون القول عن الممارسة، لكنه اصر على الاشهار تأكيدا على فلسفة في الحياة وفي الشعر، عبر ادانة مسكوت عنها وجهها لشعراء المدينة* (كما ابي نواس ووضاح وبشار)، انها لحظة اكد الشعر فيها على وجوده وانبعاثه كما يصرح ابن خلدون. لحظة الشعراء اللصوص (فصل المدينة ومطاردة جند ابليس 157-222) ثاني الانشقاقات الكبرى في الشعر العربي، هي لحظة خروج الصعاليك عن السلطة الأُموية، هؤلاء "الفتاك الشطار" لو يكونوا متوسلين بالسلاح المادي فقط، بل بسلاح اشد مضاء وهو فعل الكلمة؟ كلمة الشجاعة والصدق والإخلاص والمبادئ والخروج على الدولة الظالمة المغتصبة للحكم، فنبع بعضهم تمردا كمالك بن الريب وجعفر بن معاوية، وانشقاقا وفرارا كالقتال الكلابي وعبيد الله بن الحر وعبد الله بن الحجاج الثعابي**. صعليك بن امية عانوا من نفس ما عاناه شعراء ما قبل البعثة "الاستبعاد الاجتماعي"، لكن من سوء حظ صعاليك الامويين، وجود سلطة مركزية تحكم باسم الدين والعقل والوحدة، لذلك ستبخس الناس مركز الصعلوك بعدما كان ممجدا في الماضي، وستنتقم السلطة منهم حينما سيتحول لقبهم الى "الللصوص"، يقول القالي مثلا: "وكان جحدر لصا مبرا..." اذن فقد تحول الشاعر الصعلوك من كونه روبن هود وارسين لوبين، الى مجرد لص وقاطع طريق في المتخيل الجمعي. لكن الحكايات فيما هي تظن انها تدين "الشاعر اللص" ستمعن هذه المرة في فضح السلطة، وستتعاون مع الاخبار يدا بيد لتمجيد الشاعر المنشق، رغم خروجه عن الدين (تليد الضبي): يقولون جاهريا تليد بتوبة وفي النفس مني عودة سأعودها الا ليت شعري هل اقودن عصبة قليل لرب العالمين سجودها وعن السلطة السياسية (مالك بن الريب): أحقا على السلطان اما الذي له فيعطى واما يراد فيمنع فشأنكم في ال مروان فاطلبوا سقاطي فما فيه لباغيه مطمع وبفضل "اعتقال" هؤلاء الشعراء، سينشأ شعر جديد لدى العرب هو "شعر السجون" الذي صور غلطة الجلادين وفظاظتهم، حيث تفنن "الحجاج" في تعذيب "جحدر" قبل ان تنتقم الحكاية من "الحجاج" وتنتصر للصعلوك بعدما فاز في معركته مع الأسد واطلاق سراحه بعد ذلك، كما ستعد الحكايات عند الطبري والبغدادي لترقية "اللص" ابن الحر الى مرتبة الرمز، وستحيطه بهالة نورانية لكن لم شهرت الحكايات والاخبار بعمر وشعره، ومجدت "اللصوص" واشعارهم؟ سؤال لم يشغل الباحث نفسه به، وفي رأي ان الاخبار والحكايات وهي تشهر بعمر قد انتقمت منه حب الاخلاق والعفة والدين السوري، وهي نفسها ستعلي من شأن اللص الاموي لكونه خارجا عن السلطة الظلمة النغتصبة التي لا تحكم بما انزل الله، تباعا فليس من الغرو ان تمجد الحكايات من ينشق عنهم. حاول اليوسفي الإحساس بمطالب الشعراء اللصوص في إقامة العدل والمساواة، لذلك ستختفي الصعلكة فترة حكم النبي وخلفائه الأربع، ان دولة الامويين ليست دولة، بل عصابة تلقفت الحكم، فالدولة حسب العروي (مفهوم الدولة ص:12) "تنظيم اجتماعي فهي اصطناعية، فإذا هي منعت الفرد من ان يلبي الدعوة الموجهة الى وجدانه او ضايقته فهي مرفوضة لا شرعية، سيئة وليدة الطبيعة الحيوانية في الانسان" فكفت دولة الامويين عن كونها دولة، وأضحت تنظيما يرهب الطامحين الى العدالة والشرعية التي تفتقدها، لذلك ستهب الأموال الطائلة من اجل قمع الشعراء جند إبليس، وستبذل على شعراء المدينة "الثالوث الاموي"، ان تمجيد شعر اللصوص في حقيقة الامر بيوتوبيا لم يتحقق، فحاول الاخباريون تحقيقها في الكتابة واقاصيها. لحظة المتنبي: حينما اصبح الشاعر والسلطة سواء (فصل الشعر ص 291-409) يبدو اليوسفي مفتونا بأبي الطيب اذ خصص له 128 صفحة، وسيمهد له بأخبار ابن نباتة الشاعر المستجدي ليظهر عظمة المتنبي عن طريق مفهوم الخلف، ان لحظة المتنبي من اللحظات القليلة التي استرد فيها الشعر مجده وانتقم من السلطة، لكن النسق البعدي القريب سيثار من ابي الطيب، وسينشغل جاذبية القيم لدى العامة والخاصة، انه سارق لشعر غيره (ابن وكيع) مدع للنبوة، عاشر القرامطة المتألهين، نسب مشكوك فيه (الحاتمي العميدي)، في نفس الوقت لم تعدم الثقافة العربية مناصرين له (ابن جني، المعري، ابن الاثير) وسيلح الباحث على وجوب التفرقة بين النقد الذي ترك المجال مفتوحا امام المتلقي للحكم، وبين الحكايات التي اخترقت النصوص النقدية ماكرة بالمتلقي موقعة به من اجل التسليم بأن المتنبي ليس شاعرا عن طريق ابلسته، النقد هنا علم، والحكاية سرد فاتن يمرر خطاباته المحتقرة*. ان المتون القديمة حاولت فضح المتنبي فيما هي تعلي من شأنه وتعظمه، ان ابراد حكايات عيابة عنه يعني أنها ملفقة ولو جزئيا، ويعني كذلك انها لم تكن لتتناسل بكثرة لولا شاعر كبير فعلا. ج- حدود المنهج: لاحظنا بعض الملاحظات على اجرأة المنهج عند اليوسفي، للإشارة فنقدنا المنهج لن يكون من حيث كونه نظرية بل من جهة كونه آلية قراءة عند الباحث. توسل الباحث في كثير من نقاط الدراسة بالانثروبولوجيا والميثولوجيا، وهما علمان يفترضان وجود عجائنية وغرائبية في النصوص المساءلة لتبني فرضية تمركز حول ذاته وعندما تكون الغرائبية ذاتا لا توصف بكونها غرائبية، لانها لا تنتمي الى ثقافة أخرى، تباعا كيف ساءل الباحث اناه وهي منه، كيف وصف الذات بوصفها آخر؟ . هدم اليوسفي حدود الاجناس الأدبية، ليتواشج الشعر بالحكاية والسيرة والخبر، للكشف عن نظام الخطاب، لكنه حاكم الشعر بنصوص نثرية، فلماذا لم يعمد الى مقاربة الشعر بالشعر خصوصا انه تأثر بمفهوم التكرارية (التناص) عند دريدا؟ لم يسال اليوسفي ابن منظور والزبيدي عن موادها اللغوية، واكتفى بالاستنجاد بهما كلما اوعزه دليل على قوة وجود مصطلح، أي انه خان مبدأ التفكيك والقلب ورضخ المعاجم، في حين لم يخضع للاخبار والحكايات توسل بها ففضحها، اوليس المعجم صناعة نسق؟ هدمت الدراسة الفواصل الزمنية، ورفضت التقسيم التاريخي للادب، في حين حاولت بلقنة الادب والفكر (ادب تونسي، جزائري، مغربي...) يتناقض اليوسفي في الاتي: يصف الباحث عمر بن ابي ربيعة بأنه بطل نطق في وقت سكتت فيه الشعراء (ج1 ص 233 وما بعدها) ثم يورد نص للشابي ويعضده في الجزء الثاني: "هل سمعتم من المجنون او ذوي الرمة او عمر بن ابي ربيعة حديثا صادقا لذيذا عن نشوة الحب فكم لم تسمعوا مثل هذا الحديث ولا من غيرهم" وتناسى قوله الانف في "شعر الحب" عند عمر، خصوصا انه تحدث عنه بوصفه صادقا معبرا عن الذات قولا وفعلا. عاتب اليوسفي المفكرين العرب لتعاليهم عن الابداع بينما توسل اكبر الفلاسفة بالابداع بوصفه انتاجا عبقريا ومنهم دولوز/ فوكو، باشلار، الياد (ج2 ص 272) وفي رأيي ان هذا الكلام مغلوط من جهتين:
1- من حيث ان من المفكرين العرب من اشتغلوا على الشعر: ادونيس، العقاد، طه حسين، احمد امين، الرافعي، صدقي الزهاوي، معروف الرصافي.... 2- من حيث ان المسألة تصنيفية تخصصية، والا على المفكرين العرب معاتبة النقاد على عدم اشتغالهم في الثقافة العالمة، ولعاتب الأطباء الفلكيين على عدم اشتغالهم في جسم الانسان غيب اليوسفي الذات المبدعة بوصفها خالقة للابداع الجميل، وحولها الى انتاج ثقافي، وحول ابداعها الى نسق رافض او خاضع. يبدو لي ان اليوسفي لم يستطع الانفلات من جاذبية الثنائيات البنيوية: حذاثة – تراب، ثقافة عالمة – ثقافة شعبية، الانشقاق – الهوان، مغرب – مشرق. المبالغة في التأويل، فمثلا عد "حسين عطوان" يائية مالك بن الريب توبة واستغفارا، فيما حسبها اليوسفي امتثال الشاعر لقيم المدينة (بالضبط كما فعل على حرب مع توبة رابعة العدوية، اذعدها استمرارا في اللذة بتغيير من اللذة الحسية الى الروحية: الممنوع والممتنع) توسل اليوسفي بالتفكيك الذي يؤمن بتعددية الحقيقة ويفتح النصوص على نهاية المعنى وهلامية العلامة واقصاء المدلول، فنتساءل مع حمودة "اين المشار اليه؟ اين النص؟ 2- معارف الدراسة: أ- المادة المعرفية: اعتمد اليوسفي على المصادر التراثية أولا ان يستأنس بآراء المحدثين والمعاصرين من النقاد، وتوسل بكتب الاخبار والنقد والسير وركز على الجانب المغمور من ثقافتنا (النصوص المتخلى عنها) واعتمد بكثرة على المعاجم القديمة لتأصيل مصلحاته كما ساءل النصوص العالمة في بعض الفصول واستنجد الباحث بكتاب "الأغاني" اكثر من غيره واستخرج منه الجم من الاخبار والحكايات. يقرأ اليوسفي النصوص بالفرنسية ولا يعتمد على الترجمة مثلا كتاب DE LA GRAMMATOLOGIE لكننا لا نجده بين مراجعه للباحث معارف عميقة بالبويطيقا العربية فلاحظنا انه اعتمد على دراسته الاكاديمية اللامعة " الشعر والشعرية"... يعترف اليوسفي ان هناك من سبقه الى تبني "تفجيع التراث" (سلامة موسى، ادونيس، يوسف الخال...) تزمينيا بدأ الباحث من لحظة وقوف كعب بن زهير امام النبي الكريم (ص) وانتهى الى خطاب الحداثة مع ادونيس و الجابري والعروي وطيب تزيني...، وهي مساحة زمنية هائلة. تلقف الباحث ما دعا اليه دريد (قلب المرجعيات) وفوكو (فضح الخطاب والتداء على المسكوت عنه) وبييربورديو (علاقة الرمز بالسلطة) كما تلقى دعوات الجابري والمرزوقي وحنفي لبحث واحيائه. 134 كتبا بيت مصدر ومرجع وتوسل بالمواقع الالكترونية (الوراق) والاقراص المدمجة بكثرة في خطوة جريئة. نوع الباحث من استشهاداته فأتى بالبيت والبتين والمقطوعة، لكنه لم يأتي قط بقصيدة كاملة. اعتمد على مخطوطتين: رسالة عبد بن الطيب فيالدفاع عن الشعر ومخطوط بعنوان: "المشرع الملكي في سلطنة علي التركي "لمحمد الصغير بن يوسف. ب- الأسلوب: أسلوب اليوسفي فاتن آسر، سهل ممتنع وكأني به يسرد ويحكى لكن هذه المتعة لم يفسدها سوى تكراره الالفاظ تشي بالفجيعة والحسرة ابرزها: مأزق، مزالق، القتامة، الهوان... يشبه أسلوب الباحث أسلوب طه حسين في إصراره على التكرار، تكرار العبارات والكلمات مثلا: الصفحة والسطر العبارة المكررة صفحة 8 "من هنا تستمد القراءة النقدية خطرها" صفحة 9 سطر 12 "من هنا تستمد الكتابة الإبداعية خطرها" صفحة 9 سطر 19 "من هنا يستمد التأصيل أهميته"
كما يكرر لفظة "ثمة" مثلا ثلاث مرات في سطر واحد في صفحة 199. استخدم الباحث بعض الالفاظ التي يظن انها عامية وهي صحيحة فصيحة واهمها "الشطار، قدام..." يلاحظ تجنب الباحث بعض الأخطاء الشائعة، فمثلا عوض ان يقول "الشعرية العربية كمنهج" نراه يقول الصواب "الشعرية العربية بوصفها منهجا" ج- شكليات واحصاءات: يستعمل الباحث مصطلح مسرد عوض كشاف او فهرس، او ليس هو يسرد النقد ويحكيه؟ قسم الباحث مساره الى اقسام: "مسرد اعلام ومفاهيم، مسرد المراجع والمصادر، مسرد المحتويات" حيث استخدام 189 مفهوما منها ما هو تراثي ومنها ما هو حداثي وما بعد حداثي، للتأكيد على ثنائية المناولة النقدية، ويبلغ عدد اعلام الدراسة 185 علما اهمهم المتنبي حيث ورد اسمه 62 مرة، يليه الاصبهاني 34 مرة، وابن رشيق 33 مرة. رتب الباحث مسرد المصادر والمراجع حسب ألفبائية المؤلفين، والملاحظ انه تخلى عن لقب "دكتور" فيما لم يتخل مثلا عن لقب "الامام" مع ابن الجوزي. استعمل اليوسفي الخط المغربي في عناوين الفصول في عودة لخصوصية الكتابة والنقد في شمال افريقيا، معمقا بذلك تأويلا من التفرقة بين المغرب والمشرق (خصوصا اذا علمنا ان المشارقة يحتقرون هذا الخط: انظر مثلا سخرية واحتقار عبد السلام هارون للخط المغربي في كتابه: تحقيق النصوص ونشرها) طبعة الفتنة انيقة جدا كما عودتنا المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بورق غليظ نسبيا ووزن خفيف. لون غلاف الجزء الثاني هو الأزرق، وهذا الجزء يعالج مكائد الاستشراق، ولا ننسى ان اللون الأزرق في المتخيل هو لون الغداء الذي كنه العرب للبيزنطيين خصوصا، والمستشرقون كما يتبدى تخييلها عيونهم زرق. لون غلاف الجزء الثالث بني فاتح، وهو لون بشرة الانسان، والجزء يتحدث عن نرجسية الادباء والشعراء والمفكرين العرب، وكأني بالاحث يتساءل، اين الانسان فيكم؟ كما ان اللون لون التراب، فيا أيها النرجسيون كلكم الى الاديم ذاهبون فلم النرجسية والغرور...؟ د- مؤاخذات على المادة المعرفية: السكوت على بعض الدراسات: يسكت الباحث عن بعض مراجعه مما يطرح علامة استفهام كبيرة عن موضوعية دراسته وامانته فيها، حيث في الفصل الذي عقده للحديث عن الشعراء الصاليك تجاهل الباحث كليا دراسة يوسف خليف "الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي وخليف هو السباق الى مفهوم الخلع والاستبعاد وتصنيف الصعاليك*، لكن اليوسفي لم بدرج ولو إحالة واحدة عنه، واكتفى بالاستشهاد بدراسة تلميذه حسين عطوان. كما سكت اليوسفي أيضا عن دراسة م.ع.الجابري "التراث والحداثة" حينما ناوش الأخير مصطلح "تراث" يقول:- لفظة تراث في اللغة العربية من مادة (و.ر.ث)، وتجعله المعاجم القديمة مرادفا للإرث والورث والميراث، وقد وردت كلمة تراث مرة واحدة في القرآن الكريم..، اما كلمة ميراث فوردت مرتين...اما لفظ تراث فلا نكاد نعثر له على اثر في خطابهم يقول اليوسفي ص17 "ان التراث صنو البلى والموت وان عبارة تراث في حد ذاتها صورة مخترعة" كذلك سكت اليوسفي عن مراجع مفاهيمه الغربية، اللهم اشارتان الى كتاب في الكراماتولوجيا (في النحوية) لدريدا في ص 9و10. دخل الباحث معركة وهمية (ثقافة عالمة مقابل ثقافة شعبية) (السلطة والبويطيقا مقابل الشعر) (المركز مقابل الهامش)، فلو كان شعر الغزل او شعر اللصوص هامشا ومتخلى عنع لما وصلنا ديوان القتال الكلابي وديوان عمر بن ابي ربيعة الضخم مثلا. يصر اليوسفي ان السلطة تريد طمس الثقافة الشعبية، لكن حتى الثقافة المفكرة كانت تلجم وتطمس ان هي زاغت (حرق كتايات ابن الرواندي والغرزالي وابن رشد الحفيد، محن ابن حنبل، الطبري، ابن تيمية...... ونصر حامد أبو زيد وعبد الصبور شاهين) الباحث لا تهمه جودة التحقيق فمثلا اعتمد تحقيق محمد نصر الله لرسالة الغفران عوض تحقيق عائشة عبد الرحمان والأخير اشهر واجود كما اعتمد تحقيق محمد رشيد رضا ل "دلائل الاعجاز" بينما تحقيق العلامة محمود محمد شاكر هو افيد واجرى، واعتمد على طبعة غير محققة لديوان المتنبي؟؟ في تجاهل أمهات شروح ديوانه، وفي مقدمتها شرح البرقوقي. انتقائية المعارف: لم يشر الباحث لا من قريب ولا من بعيد الى توبة عمر بن ابي ربيعة، وانتقى من حياته وشعره ما هو تهتك ومجون، والادهى ان اليوسفي اعتمد كثيرا على "الأغاني" لتلمس اخبار الشاعر، وفي ""الأغاني" نفسه خبر طويل يحكي توبة الشاعر وموته مجاهدا في سبيل الله ومدينة العقل وأصر على عمر مات غرقا بعدما نفاه الخليفة الخامس عمر. رغم حرص الباحث على تتبع الاخبار، الا انه يتنبه الى خبر هام – او لعله تجاهله – كان بالإمكان ان ينسف بعض كلامه عن نقد النقاد للمتنبي، والخبر هو ان عائلة ابن وكيع صاحب المنصف هربت من موطنها خوف من بطش القرامطة، والمتنبي، قضى امرا امدا غير يسير في كنف القرامطة وعاشرهم، فقد كره صاحب "المنصف" للمتنبي راجعا الى ذلك اذن فنقده إياه شخصي، ولا علاقة بعنف السلطة.
تقويم واستخلاصات من حيث المنهج: اصبح النقد مع اليوسفي ذاتا تصدر الاحكام وطرفا يتعين عليه استكناه خفاء المعنى والبحث عن علاقة ممكنة بين الدوال وآثارها، لذلك سنرى احكام القيمة تخترق الدراسة. دعا اليوسفي الى إبداعية النقد طلبا لاكبر عدد من القراء والمفتونين بحرية النقد، فإذا كان معدل القراءة في العالم العربي هو سبعة اسطر في السنة لكل فرد، فمع من يريد اليوسفي ان يتحدث؟؟ منهج اليوسفي لا يتصادم مع ذاته اذ ان نظرية التلقي جزء من استراتيجية التفكيك، والتفكيك والمنهج الأسطوري يتوسلان بفلسفة التأويل فتحا لافاق الترميز. تحول اليوسفي في الفتنة من ناقد الى مصلح وداعية وقاض في نفس الان*، وتجاهل كون محاسبة الفن بوصفه حدثا خاضعا للنسق يفترض تغييب إرادة الانسان فيما هو انتاج انساني، او ليس نقده بهذا المعنى خاضعا لنسق ما. غيب اليوسفي الفن لذاته وحاكم الفن بوصفه حدثا وليس خلقا جميلا، مما يعني انه لا فرق بين الشعر والاحكام الفقهية والاساطير والخرافات، الذي عنده هو الخطاب المشترك بين هذه الفنون والعلوم. من حيث المعرفة: قراءة "الفتنة" تتطلب عدة منهجية ورصيدا معرفيا ضخما جدا – لا ندعي الإحاطة به – في مجال الفكر والنقد والادب والفلسفة والفقه والوعظ والتصرف واصول الدين والانثروبولوجيا، خصوصا ان اليوسفي سكت عن خلفياته المنهجية، مما يعني انه يخاطب الانتلجنسيا العربية وليس قارئا خالي الذهن. ما يؤاخد على الباحث هو توسله بباحثين مغمورين من قطره تونس، وسكوته عن بعض الدراسات، والاستشهاد بنصوص تحقيقاتها ضعيفة او بدون تحقيق... في فتنة المتخيل وعي فاجع يصاحب تفكيك النصوص وتأويلها فأليس يمكن ارجاع طبيعة الؤال الاساسا لمحرك للدراسة الى الواقع الاني الفاجع الأليم المتردي الذي تعيشه الامة اليوم؟
هوامش: (1) مفسر القرآن الكريم كانوا سباقين الى هذا المفهوم، انظر في ذلك مثلا: مقدمة احمد محمد شاكر في "عمدة التفسير لمختصر شرح ابن كثير" (2) **الجميل ان فرقة أصولية "كلامية"، وهي المرجئة، تحدثت عن مفهوم الارجاء بوصفه " ليس هناك حسم بين المتنازعين" للمزيد: مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين: أبو الحسن الاشعري من ص 138-154 وكتاب "المواقف" للامام عضد الدين الايجي وهذا الأخير اوفى واشمل بكثير، واخذت الفكرة الجميلة من علي حرب: نقد النص. (3) يرى د/محمود امين العالم ان قراء العروي لم يفهموا قصده، وانه لم يرد القطيعة مع التراث والا لما توجه إليه يستقصيه، الوعي والوعي الزائف ص 13 وما بعدها. (4) **هذا المفهوم سيصبح مطية جديدة لدى المشككين في نظام الكون، فساءلوا الفلكيين والفيزيائيين "اذا كان الكون منظما، فأين نموذج الفوضى في كون اخر حتى تحكموا الكون بأنه منظم؟" (5) يسمى علي حرب هذه الإشكالية القرائية ب "العائق الانطولوجي" (مقدمة الممنوع والممتنع) ويسميها ابن سينا في "التعليقات" ب الإضافة الوجودية". (6) إذن النسق هو الذي يصنع وليس الانسان: انظر في ذلك نظام الخطاب: ميشيل فوكو ترجمة: محمد سبيلا. (7) لسان العرب المجلد 9 / 193 بولاق 1303.
#أيوب_بن_حكيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة وصفية في كتاب إيثار الحق على الخلق
-
راهنيَّةُ أفهومِ الأندلسِ في الأنْطُولوجيا الجمعيَّةِ العربي
...
-
مفهوما الأفهوم والمفهوم
-
اللغة واللاتواصل عند التفكيكيين
-
في نقض أغلوطة عدم وجود مخطوطات البخاري بخط يده
-
عرض لكتاب: مابعد الاستشراق لفاضل الربيعي
-
نظرات في كتاب محوري: شفاء السائل لتهذيب المسائل لابن خلدون
-
في أصول النضال ..إهداءً لمجتمعاتنا المنفصمة نخبا وعواما
-
الشعر بين تعالي الفلاسفة العرب المعاصرين واهتمام فلاسفة أورو
...
-
في الميتودولوجيا بوصفها ميثولوجيا
-
حواري مع الفيلسوف الأخلاقي طه عبد الرحمان
-
2 / نظرية المؤامرة أم مؤامرة -نظرية المؤامرة- / نَمَوْذَجٌ م
...
-
نظرية المؤامرة أم مؤامرة -نظرية المؤامرة- / نَمَوْذَجٌ مستو
...
-
[ الهندسة التفكيكية ؛ ثورة الإنساني على الأوقليدي و الوظيفي
...
-
اللغة بين مارتن هيدجر و إيمانويل لفيناس
-
[ حوار بين عاشقين بعناوين الأغاني الكلاسية ]
-
روح المؤخرة
-
الصعلكة ، الحلقة الأخيرة / قراءة نقدية في أهم الدراسات التي
...
-
3 الحلقة الثالثة / الصّعلكة ؛ قراءة ٌ نقدية ٌ في أهمِ الدّر
...
-
الصّعلكة ؛ قراءة ٌ نقدية ٌ لأهمِّ الدّراساتِ التي عُنيتْ بصي
...
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|