ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 5811 - 2018 / 3 / 10 - 12:07
المحور:
الادب والفن
الإدارة الثقافية للحوارات... مفهوم الحرية كل متكامل
ضحى عبدالرؤوف المل
تتم الإدارة العلمية المؤسساتية للحوارات الثقافية في المراكز الثقافية والجمعيات الأدبية انطلاقاً من المبادئ الأساسية التالية:
1 ـ الحرية هي كل متكامل، فلا يمكن فصل مفاهيم الحرية عن بعضها البعض بالارتباط مع مجالات تطبيقها، فحرية الفكر (المفترضة نظرياً) مرتبطة تماماً بالحرية العملية (المؤكدة بتطبيقاتها في إطار المجتمع). وفي الوقت نفسه لا يمكن للإنسان أن يكون متحرراً في السياسة ويكون منغلقاً في الدين أو العلاقات الاجتماعية ـ كمثال . والأدب بالذات هو عالم منفتح بالكامل بقدر الحياة نفسها، يجد فيه المبدع عالمه الحر الواسع، متخلصاً عبره من أغلال الواقع الذي يعيشه، ومن التابوهات .المحرمات التي تحاصره فيه. المبدع أختار الأدب (رواية أو شعراً أو مسرحاً) ليعبر فيه عن حريته في نقده للواقع، والحلم بالتالي بحياة أخرى مغايرة. ولتطوير المعرفة بالتعبير عن مكنوناته التي تنطوي على قيم ذات ابعاد مختلفة .. فلا يمكن أن يكون تناول الأدب حرية، ما لم تترافق مواضيعه بكل تنوعاتها بالحرية نفسها، ابتداء من العلاقات الاجتماعية ومروراً بعوالم خبايا النفس وإرهاصاتها، ووصولاً إلى الموقف من الدين وتصورات العالم. وبالتالي لا يمكن لجمعية ثقافية أن تقول أننا نحن متحررون في المواضيع الأدبية فقط، أما بقية الموضوعات الفكرية والحياتية فهي خط أحمر لا نستطيع تجاوزه، فلا انفصام بين الأدب ومواضيع الفكر والحياة بأكملها.
2 ـ عندما يتم دعوة مبدع (روائي أو شاعر أو مفكر أو فنان تشكيلي...) إلى ندوة أو لقاء أو حوار في مركز ثقافي، فإن ذلك يتم لأن هذا المبدع قامة ثقافية متميزة في المجتمع، وفي الأوساط الثقافية بالذات، لها إبداعاتها عبر المؤلفات المنشورة له. وإجراء لقاء معه ما هو إلا محاولة للاستزادة من معرفة رؤيته للحياة عبر حوار معه يضفي نوعا من الحميمية للقاء مباشر معه. والاستماع له هو اقتراب أكثر من عوالمه، بل وكشف لها، مما لا نستطيع معرفته مباشرة عبر نصوصه. ولذلك فإن أساس الدعوة هي الاحترام الثقافي والإنساني للمبدع، وبالتالي بمجرد دعوته، فهذا معناه قبول الاستماع إلى أرائه ورؤيته كضيف ثقافي ـ بغض النظر عن مدى قبول كل فرد بها أو رفضه لهاـ. وبالتالي لا يحق لنا في حوار ثقافي أن نفرض رؤيتنا الذاتية أو النرجسية في وجه الضيف والاستعلاء عليه، وبخاصة عندما تظهر بعض الأمراض الاجتماعية لدى بعض الحضور، كحب الظهور وتخطئ "الآخر"، فقط من أجل التخطئة، دون الاهتمام بمن يدير الجلسة وأصول الحوار. وتزداد المصيبة أكثر، عندما يكون المتحدث من الحضور أمياً جاهلاً بأمور الثقافة والفكر، ومتعنتا برأيه متكبراً لا يأبه ببقية الحضور واحترام رغباتهم في الاستزادة من معرفة رأي الضيف، والأسوأ عدم اطلاعه على منشوراته، وتموضعه ضمن التيارات الفكرية السائدة، فكيف في هذه الحال يمكن لجاهل أن يحاور مبدعاً ( أتذكر حادثة من بين كثير من الحوادث عندما تم جمع حضور سياسي من نساء أميات تم إحضارهن من أماكن الترفيه لملء قاعة مركز ثقافي بمناسبة سياسية، وكان الضيف مفكر سياسي ظن أن اللقاء مع كوادر فكرية سياسية نسائية، فاخذ يتحدث عن ماركس وهيجل ورؤيته للتخلف في العالم العربي ومواجهة العولمة الأمريكية، وعندما بدأ النقاش بدأت النسوة بالسؤال عن ضرورة منحهن جنسية لأولادهن وعن الزواج المدني وشروطه الخ(
3 ـ اللقاء مع المبدع لا يعني أن يستغل شخص واحد ـ أو عدة أشخاص ـ الوقت المخصص للحوار، متجاوزاً متطلبات الآخرين، لعرض أفكاره بدلاً من التعرف على أراء الضيف... فاللقاء هو للاستزادة من أرائه، وليس من أراء الحضور الذي قد يبلغ بعض أفراده درجة عالية من الجهل. ولذلك تتحدد طريقة إدارة الحوار بتجميع الأسئلة كلها دفعة واحدة إما على أوراق مكتوبة، أو عبر الميكرفون، وبالتالي تسجيلها من قبل مديرة الندوة، خلال فترة محددة لا تتجاوز العشر دقائق. ويقوم الضيف ومدير الحوار بترتيبها (فهناك أسئلة متكررة، وبعضها مهم وبعضها الآخر ثانوي)، وهنا تترك حرية الإجابة للضيف ضمن وقت محدد بما يرغب في الإجابة عليه وبالترتيب الذي يرغبه... وبالتالي لا يحق للحضور معارضته إذا لم يعجبهم جواب له، فدعوة الضيف تمت من أجل الاستماع له لا أن نرد عليه، ونثبت خطأه... إذا أراد أحد الحضور الرد مستنكراً رؤية للضيف فليكتب مقالاً وليشتم به كما يرغب.
4 ـ إن مجرد دعوة الضيف إلى ندوة فهذا معناه احترامه، فلا يحق لإدارة الجمعية الثقافية أو المركز الثقافي أن تحدد مسبقاً ماذا على الضيف أن يتحدث والمواضيع التي عليه أن يتطرق لها، فهذا يتنافى مع أدب الدعوة الحضاري. وبالتالي إذا كان للإدارة رؤية سياسية أو فكرية أو دينية معارضة للضيف فينبغي في الأصل عدم دعوته. وفي مجتمع حضاري ينبغي أن يكون أساس عمل الجمعيات الثقافية حرية التفكير وخلق عادات الحوار وقبول "الآخر" وإلا ينبغي تحويل الجمعية إلى حزب سياسي متطرف أو تنظيم ديني متعصب بدلاً من السمة الثقافية. (في مجتمع حضاري في البداية أستغرب كيف يحترم الناس إشارات المرور، وشراء بطاقات الحافلات، والوقوف في الدور عند الشراء، والذهاب إلى الطبيب بموعد هاتفي أو على الا نترنت، بل وفي مكتبة عامة يستطيع القارئ ببطاقته المكتبية الالكترونية أن يستعير كتاباً إلى بيته لوحده ويرده في الوقت المناسب، دون تدخل من موظفي المكتبة... وجميعها مظاهر للتعبير عن الحضارة واحترام الإنسان...
5 ـ الأفراد القياديون في مجتمعاتنا ـ ولا يستثنى منهم المسؤولون عن الجمعيات الثقافية ـ هم أناس متحررون في كل شيء إلا في الأمور السياسية والدينية الخ .... وعلى المشرفين على الجمعيات الثقافية أن يعرفوا أن الأدب هو الحياة بأكملها، وبالتالي يمكن أن يعكس جميع جوانبها، دون الوقوف عند الممنوعات والمحرمات الجنسية على سبيل المثال. وفي الحقيقة، لا توجد أي محرمات جنسية أو ممنوعات شاذة في حياة كثير من الأفراد، فهم يمارسونها في السر، أو في أحلام اليقظة، بينما يتخذون مظاهر الوقار الديني والأخلاقي في الحياة العامة واليومية. الحب والجنس هما أساس الحياة الإنسانية منذ مراهقتنا حتى ولو أصبحنا عجائز ( ضمن الاطر الفاعلة في المجتمع والمتعارف عليها) ، هو متنفس للطبيعي وغير الطبيعي لنا. لكن في مجتمع مكبوت ومعقد يتحول الجنس إلى مرض وشذوذ، وبالتالي تتحول مظاهر الوقار المصطنع إلى مرض وشذوذ... لا يمكن فهم روايات الأمريكي هنري ميللر على سبيل المثال دون فهم الجنس فيها، فهو كاتب يريد تحطيم أسس المجتمع الرأسمالي ليس فقط اقتصاديا وإنما أيضا عبر تفكيك لغته الارستقراطية، ومن هنا يمكن فهم استخدامه للغة الإباحية للشارع التي يستعملها الناس بشكل طبيعي، كمحاولة لكسر اللغة الارستقراطية... كما لا يمكن فهم روايات "علوية صبح " ما لم نعترف بوجود الحالات التي تتناولها راوائيا لتسليط الضوء عليها ومعرفتها ، وايضا لا يمكن فهم جوهر السادية السياسة في "الغرانيق" لدى مازن عرفة أيضاً دون فهم السادية الجنسية كأساس للسادية السياسية.... وأصلاً كلمة سادية تعود في أصولها إلى الجانب الجنسي المريض فينا، وتتبدى ليس في المجال الجنسي فقط، بل وفي أي مجال عنفي .
6 ـ عندما يتم دعوة محاور فينبغي لمن يدير الحوار أن يكون من مستوى إبداعه، متفهما لكتاباته. ومن هنا فإن الأديب هو الأقدر على محاورة روائي أو شاعر أو مسرحي، وبالتالي فمدير الحوار هو شخصية اعتبارية مهمة أيضاً، ينبغي أن لها وزن أدبي وثقافي بقدر الضيف، وبالتأكيد قد قرأ كتبه، وهو له بالتالي حرية القرار في دعوة الضيوف وكيفية إدارة الحوار... يتم تكريم الضيف بإيجاد مبدع ند له يتفهم إدارة إبداعه. ولذلك فإن مدير الندوة أو المحاور ليس موظفاً يقوم بترتيب الطاولة قبل الحوار وإغلاق المركز بعد الانتهاء منه، مدير الحوار هو ضيف مبدع أيضا.... ومدير الحوار شخصية لها حريتها في الاختيار والتعليق واتخاذ القرار بعد تفويض كلي له، ولا يجوز التدخل بالتفاصيل التي يعمل بها حتى يستطيع إدارة الجلسة بطريقة جيدة... وإذا كانت إدارة النادي لا تقبل حرية مدير الندوة فهذه مشكلتها، لكن هذا هو شرط نجاح النشاطات الثقافية حضارياً.
في النهاية اقول ، لقد تجاوزنا بدايات القرن الحادي والعشرين بعقد ونصف من الزمن ، وللأسف فإن الأوضاع الثقافية في حالة متردية في مجتمعاتنا العربية أمام زحف العولمة الاستهلاكية، القراءة في تراجع مستمر أمام زحف الصورة في السينما والتلفزيون.... أما الممنوعات والمحرمات في مجتمعاتنا، فلم تعد ممنوعات ومحرمات بسبب سيطرة شبكة الانترنت، المراهقون يتعرفون إلى الجنس مبكراً في عالمنا المعاصر ويعرفون مجاهله أكثر من رجال متوسطي العمر في القرن الماضي. الرقابة السياسية والتقليدية فقدت معناها، وعلينا أن نغير مفاهمينا إذا أردنا مجابهة الأشكال السلبية الاستهلاكية التي يتم تصديرها لنا . كما أن مفاهيم المحرمات قد تغيرت فلا بأس من القاء الضوء عليها ومناقشتها بشكل بناء وهادف دون الدخول بمهاترات مؤذية ، وينبغي علينا مواجهة الوقائع مباشرة، إنسان القرن الحادي والعشرين هو إنسان يتميز بالمعرفة بوجود وسائل الإعلام المرئية وشبكات الانترنت . لم تعد تستطيع أي رقابة دينية أو أخلاقية أو اجتماعية أن تتحكم بحياته. ولكن من يستطيع التحكم بحياته هو مسار ديمقراطي قائم على الحوار واحترام الذات الإنسانية لديه. ولنعد دائما الى رشد المثقف المدرك لمسؤولياته الاخلاقية والانسانية معا.
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟