|
التأنيث و المنفى
محمد بن زكري
الحوار المتمدن-العدد: 5807 - 2018 / 3 / 6 - 21:53
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
ليس من وجودٍ لجوهرٍ طبيعي ، فوق تاريخيّ ، للمرأة أو الرجل ، و فيما عدا الفروق البيولوجية المتعلقة بالحمل و الولادة (و الولادة هي فعل إعطاء الحياة لإنسان) ، فإن كل الفروق النفسية و الاجتماعية و حتى الفسيولوجية ، القائمة بين الجنسين في الوقت الحاضر ؛ هي فروق طارئة ، ارتبطت في سيرورة التحولات التاريخية للنوع البشري ، بتقسيم العمل جنسانيا داخل العائلة ، منذ استحواذ الذكور على وسائل الإنتاج (الأرض الزراعية) ، و من ثم نشوء الملكية الخاصة ، حيث أسنِدت للمرأة أعمال البيت ، بل و أصبحت هي نفسها جزءً من أملاك الرجل . فدونية وضع المرأة ، في المجتمع المحكوم - تاريخانيا - بغلبة الثقافة الذكورية ، ما هي إلا نتيجة مترتبة عن العلاقات الاجتماعية السائدة ، المؤسسة على تقسيم العمل الاجتماعي ، بين من يملكون و من لا يملكون ، مع نشوء نظام المِلكية الخاصة ، بما في ذلك تقسيم العمل (جنسانيا) بين الرجال و النساء ، و ليست خاصية أنثوية ، مرتبطة بالتكوين البيولوجي للإنسان الأنثى . بل إن دونية المرأة في المجتمع الذكوري (الطبقي بطبيعته) ، لا تختلف إلا في الدرجة - و بخلفية كهنوتية - عن دونية الرجل الفقير .. أو فلنقل الرجل (المُفقَر) إذا أردنا الدقة . و إن ما يحيل إليه المفهوم الذكوري المفخخ ، لمصطلح (الأنثوية) ، من الربط الشرطي بين الأنوثة و بين بعض السمات السلوكية للنساء ، كالعاطفية و الانفعالية و الضعف و الميل للانقياد إلخ ، ليست أنثوية بالطبيعة ، بل هي صفات مكتسبة نتيجة للتكييف الثقافي - الاجتماعي . و إن الفروق الراهنة بين الجنسين ، وظيفيا و سلوكيا ، هي فروق مرهونة ببنية المجتمع الذكوري ، انعكاسا لسيادة الرجل تاريخيا ، و نتيجة لتقسيم العمل جنسانيا ، و تكريسا لثنائية : المتسلط - المقهور ، في النظم الراسمالية و مجتمعات الفرز الطبقي الحاد ، على اختلاف أيديولوجياتها الليبرالية و الشمولية الدينية . فالأنثوية (كمصطلح مموّه) ، هي في المفهوم الثقافي الاجتماعي السائد ، ليست غير تشويه للأنوثة ، و تنميط سالب للإنسان الأنثى ، ترسيخا و إعادة إنتاج للمجتمع الذكوري . و حتى يحافظ المجتمع الأبوي (البطريَركي) الطبقي على تماسكه البنيوي ، و يضمن استمراره عبر الأجيال ، في ملحمة الصراع من أجل السلطة ، معتمدا في ذلك على تأثير موروث الفكر الديني السائد ، ذي المرجعية التوراتية التلمودية ، المعادي للمرأة ، و الذي لا زال بدرجات متفاوتة ، يشكل جزءً من الذاكرة و الضمير الجمعيَّين لغالبية وازنة من الناس العاديين في العالم ، كما يتضح من دراسات علم الاجتماع الديني و علم النفس الاجتماعي ، ذات الصلة ؛ فقد كان كل ما سجله تاريخ النوع البشري ، من أساليب و منهجيات تنميط الأنوثة ، و قولبة الإنسان الأنثى ، في سياق ثنائية (المتسلط – المقهور) ، بكل تمظهراتها الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية ، بما فيها ثنائية : الرجل - المرأة ، أو الذكر - الأنثى ؛ تأصيلا أيديولوجيا للتمييز الجندري ضد النساء . إن تنميط الأنوثة سلبيا ، كان دائما هو الشرط التاريخاني لتبخيس المرأة و تهميشها ، في مسار عملية الفرز الاجتماعي ، و داخل أطر العلاقات التراتبية للمجتمع البطريركي ، تكريسا لمفهوم (الأنثوية) المؤدلج ، كأساس لدونية المرأة وجوديا . و ذلك بواسطة التكييف الاجتماعي و الثقافي ، الذي يستهدف النساء ، بمناهج التعليم ، و بطرق التربية و أساليب التلقين ؛ فالتكييف الاجتماعي هو وحده ما يقولب المرأة في النموذج النمطي للأنثى : المتلقية ، السلبية ، الهشة ، الضعيفة العاطفية ... إلخ من الصفات المرتبطة بالمفهوم المفخخ لمصطلح (الأنوثة) ، في الثقافة البطريركية السائدة عالميا ، التي (تنفي) المرأة خارج ذاتها ، كإنسان أنثى كامل الأهلية الإنسانية و مساوٍ للرجل . فبواسطة منظومة التكييف الاجتماعي - جنسانيا - و بالتالي تقسيم العمل جنسانيا بين الرجال و النساء ، تستبطن أو تتمثل المرأة ، قيمتها و مكانتها المعيارية الأدنى ، قياسا إلى قيمة الرجل و مكانته الأعلى ، و تتشكل لديها مجموعة خصائص سلوكية نمطية ، سلبية الطابع ، هي ما يعتبرونه في الثقافة البطريركية (أنثوية صحيحة) ، و بالتالي يبررون بها قبول المرأة - كإنسان مستلب و مقهور - لدونيتها الذاتية و دونية وضعها الاجتماعي . و يتفق في ذلك المجتمع الشرقي التقليدي .. بثقافته (المحافظة) و المجتمع الغربي البورجوازي .. بثقافته (الاستهلاكية) ، استثمارا استغلاليا في تجهيل النساء بالأساس المادي / الثقافي لدونية وضعهن ؛ تحايلا على الواقع ، و افتئاتا على الطبيعة . و كلنا يعلم أنه منذ السنوات الأُوَل للتنشئة ، و في إطار تقسيم العمل جنسانيا .. في المجتمع البطريركي ، يعمد الأهل إلى تدريب البنت على الأدوار (الأنثوية) ، فيأتون لها بالدمى ، لتقضي الوقت في العناية بها ، تلبسها .. و تهدهدها .. و تضعها في المهد ، و تناولها البزازة .. الخ ، بهدف قولبتها نفسيا و ثقافيا كأنثى ، بالتدريب على أدوار المهن البيْتيّة ، مما لا يمكن اعتباره إلا نوعا من القسر و الإلغاء و التدريب على التبعية و (الخضوع) . بينما يأتون للولد بلعب ذكورية : حصان ، عربة حربية ، طيارة ، سلاح .. إلخ ، ليتدرب على أدوار القيادة و المغالبة و (الهيمنة) و ما إلى ذلك مما يقتضيه شرف الانتساب لعالم الرجال . و كما لاحظت الألمانية أورسولا شوي ، في كتابها الموسوم : أصل الفروق بين الجنسين* ، (الذي تتقاطع معه هذه المقاربة النظرية - كمرجع بحثي - في بعض نقاط التناول) ؛ قد يسمح الأهل للبنت - أحيانا و إلى حدٍ ما - أن تشارك الولد في بعض لُعبه .. كألعاب الكرة مثلا ، لكنهم لا يسمحون أبدا - و بالمطلق - للولد أن يشارك البنت في لُعبها ، فلعِبُ الولد بألعاب بناتية .. لا يستدعي فقط استياء الأهل و تأنيبهم ، بل هو أيضا يستثير لديهم الاستهجان و الازدراء و الاستهزاء به ، فلا يليق بـ (الرجل) أن يتصرف كما (النسوان) ، و إلا جرى اعتباره مخنثا و (بنّوتي) ، ليفقد من ثم اعتباره الذاتي و الاجتماعي كرجل (محترم) في المجتمع ، فالأنثوية تعني (ضمناً) الدونية و النقص ، في منظومة قيم المجتمع الذكوري . و نتيجة لعملية التربية والتكييف الاجتماعي ، المعززة بالمقدس الديني ، تتم صياغة السلوك الجنسي لأفراد النوع البشري ، في إطار إعادة إنتاج البنية التسلطية وتقسيم العمل جنسانيا في المجتمع البطريركي ؛ فالطابع السلبي الذي يغلب على سلوك المرأة في النشاط الجنسي ، داخل الأطر العلائقية للبنية البطريركية ، ليس سلوكا طبيعيا ، بل هو محصلةُ عمليةِ صياغةٍ اجتماعية لبنيتها النفسية والفيزيائية ، تتمثل المرأة بواسطتها عناصر الثقافة النمطية البطريركية ، وتُطور من خلالها أشكالَ وعيٍ وخصائصَ نفسيةً وأنماطا سلوكية مكتسبة ، تتماهى فيها مع ما يعتبره مجتمع الذكور طبيعة أنثوية .
وبالتالي فإن الانقيادية والسلبية و وضعية التلقي عند النساء ، في ممارسة العلاقة الحميمة ، ما هي إلا سمات مكتسبة من خلال عملية التربية والتكييف الاجتماعي للأنثى ، أي إنها تشوهات نمطية طارئة على الأنوثة ، مفروضة عليها من خارجها ، وليست في أصل البنية النفسية والفيزيائية للمرأة ؛ الأمر الذي ينفيها خارج كينونتها الإنسانية ، ويعطل طاقتها الإبداعية ، ويختزلها - بفجاجة - في البعد الجنسي الحسي لجسدها ، ويجردها من طبيعتها الخلاقة الأصيلة كإنسان أنثى . و لذا ، فإنه طالما ظلت الثقافة الذكورية ، السائدة اجتماعيا ، و المحصنة ضد النقد و المراجعة ، بقوة رُهاب المقدس الديني ، هي منطلق رؤية الرجل للمرأة ، في بلادنا المتخلفة حضاريا . و طالما ظلت مناهج التعليم ، و خاصة في مرحلتيْ التعليم الأساسي ، تحشو أدمغة التلاميذ بمقولات : " محمد يكتب ، و أحمد ولد مِقدام / فاطمة تطبخ ، و عائشة بنت مطيعة " ؛ فإنه بالمحصلة ، مهما حاول الرجل الشرقي أن يبدو على غير حقيقته : متحضرا و إنسانيا ، فإنه لا يمكن إلا أن يتكشف بسرعة عن دكتاتور صغير معبأٍ حتى الحافة بكل ميراث قيم التخلف الاجتماعي ، التي تهيئُ له أن المرأة - أيّاً كانت - لابد أن تكون متطابقة مع المعايير النمطية لـ (الأنثوية) ، متجسدة في نموذج (الأنثى الحقيقية) : الهشة ، ضعيفة الإرادة ، الخاضعة ، القابلة (للترويض) ، الباهتة ، المطيعة ، متواضعة القدرات العقلية ، العورة ، العاطفية ؛ التي ما أن تلتقط إشارة رغبة منه ، حتى تشتعل الحرائق في جسدها ، و ما أن تستمع إلى كلمة إطراء منه ، حتى تتلعثم و تحمرّ وجنتاها و تدبّ القشعريرة في بدنها . و من ثَم ، فما أن تبتسم له من باب المجاملة ، أو تتعاطى معه إنسانيا من باب اللياقة الاجتماعية ، حتى يتبادر إلى ذهنه و يستقر في وهمه ، أنه قد ضمن اصطحابها إلى السرير ! بما تستدعيه الوضعية التقليدية لممارسة الجنس ، في المخيال الذكوري ، من تشوهات الصور الذهنية ، لعلاقة الفوق و التحت . و إذن ، فإنه تأسيسا على كل ما تقدم ؛ نخلص إلى القول بأن تحرر المرأة ، لا يكتمل إلا بتحررها من كل الاستلابات الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية ، بدءً من تفكيك العلاقة التسلطية ، في تقسيم العمل جنسانيا ، ضمن تفكيك بنيات نظام الهيمنة الأحادية لمجتمع الفرز الطبقي ، بالتوازي و التزامن مع التحرر من قيود القيم - الدينية - البطريركية ، الملازمة لنظم الاستبداد الشرقيّ ، و المتساوقة مع استبدادية راس المال الاحتكاري المعولم . و إذن ، فإنه لا رقي ولا تحرر لأي مجتمع ، إلا بتحرر المرأة أولا ، لتكون إنسانا كامل الأهلية الإنسانية ، لا مجرد كائن بيولوجي مؤنث ؛ وذلك من خلال إعادة صياغة العلاقات التي تحدد مكانة المرأة في المجتمع ، على أساس المساواة الكاملة بين الجنسين ، و على مستويي القناعة الفكرية والممارسة العملية في آن معا ، سواء في البيت أم في مواقع العمل و في المجتمع ، كما في العلاقة الحميمة بين الذكر والأنثى ، انطلاقا من إلغاء تقسيم العمل جنسانيا بين المرأة والرجل على المستويات كافة ، في سياق ثورة التحرر الاجتماعي ، الواقعة بالضرورة عندما تنضج ظروفها الموضوعية - تاريخانيا و بقوة الوعي - هنا أو هناك ، و التي ستكون النساء في مقدمة طلائعها الثورية ، و هو حُلم .. نعم ، لكنه حُلم واعٍ بجدلية و اتجاه حركة التاريخ . ---------------------- * أصل الفروق بين الجنسين . تأليف أورزولا شوي . ترجمة بوعلي ياسين . الناشر دار الحوار السورية . الطبعة الثانية 1995.
#محمد_بن_زكري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البربر / إمازيغن هم الأحفاد المباشرون ل (كرو – ماجنون) *
-
الشعوبية ، نزعة عنصرية أم حركة تحررية
-
نظرية المؤامرة
-
عندما يصبح اللقّاق و النصّاب و النشّال حكاما
-
شمولية التحرر استجابةً لتحدي شمولية الاستبداد
-
دعوة إلى ثورة شعبية / اجتماعية ، يدعمها الجيش الوطني
-
نانّا تالا
-
التمييز (العنصري) في المجتمع الليبي
-
السلفية .. أيديولوجيا التشرنق في الماضي التعيس
-
فاضت كؤوسُها فكفّ الشرِّ أو الطوفان
-
ليبيا تغرق في البحر الميت
-
لماذا و إلى أين حربهم التاريخية على المرأة ؟
-
هوغو تشافيز و أضاليل الليبراليين الجدد
-
انتهت اللعبة ، فلماذا لا يرحلون ؟!
-
هوامش على الأحداث الليبية
-
قد تكون المرأة أشد ذكورية
-
الحج إلى (إله الشمس) في عرفة
-
الصيام عن كل ما هو جميل و نبيل
-
الصيام عبادة عابرة للديانات
-
هل نسيتم - وين الناتو ؟ - يا ثوار الناتو ؟!
المزيد.....
-
الولايات المتحدة.. النساء نصف المجتمع -سكانيا فقط-
-
دعوة للكتابة في العدد الثالث والعشرين من مجلة طيبة حول النسا
...
-
” راتب من الدار ” منحة المرأة الماكثة في البيت بالجزائر 2025
...
-
مقررة أممية: اعتداءات إسرائيل على النساء الفلسطينيات جزء من
...
-
بين القابلة والطبيبة النسائية.. قيود اجتماعية تعيق وصول النس
...
-
مقتل سيدة على يد شريكها.. إسبانيا تسجل أول ضحية للعنف ضد الن
...
-
من تعدد الزوجات الى التطاول الجنسي على الأطفال
-
“رابط متاح” التسجيل في منحة المرأة الماكثة في البيت 2025 بال
...
-
بالصور| وقفة احتجاجية في ساحة الفردوس ضد تعديل قانون الاحوال
...
-
رابط مُفعل للتسجيل في منحة المرأة الماكثة في البيت 2025 بالج
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|