( هل هي غلطتي
إذا وجدتُ حدودا في كل مكان؟)
*شاتوبريان
قرأت بسرور بيان الاحتجاج والتضامن الصادر من عدد من المثقفين حول ما يعرف بقضية محاكمة الشاعر موسى حوامدة على ديوانه الشعري" شجري أعلى" وبدوري أضم صوتي بقوة ضد مؤسسات المصادرة والمحاكمة في الأردن وفي غيره على أي شكل من أشكال المصادرة والمحاكمة وعلى أي عمل أو نص أدبي مهما كان لأن الأدب لا يخضع إلا لشروطه الأدبية، ويُصنف، ويُعرّف، ويُقرأ وفق هذه الشروط، اختلفنا مع الكاتب أم لا.
الاختلاف شيء،
والمصادرة سلوك شروطي شيء آخر.
لكن الغريب أن أحدا من الأخوة والزملاء سواء الذين وقعوا على بيان الاحتجاج أو الذين لم يوقعوا، لم يحتج لا سرا ولا علنا، لا في مقال ولا في رسالة، لا في حلم ولا في وهم، على مصادرة علنية تمت لرواياتي من قبل دار الرقابة الأردنية العام الماضي ومنعت بكتاب رسمي من دخول الأردن.
أخطر من ذلك، أن صحيفة " الزمان" رفضت نشر حتى مقالة لي أحتج فيها على هذا المنع مع نسخة من كتاب المصادرة، وطلب المحرر الثقافي للجريدة في سلوك لا يتسم بالنضج واحترام التقاليد الإعلامية، من عاملة الهاتف في الجريدة أن تتصل بي هي وليس هو لتقول لي محرجة أن الزملاء ابلغوها الاتصال بك لأن مقالك لن ينشر.
ومرة أخرى بدون سبب واضح عدا استرضاء مؤسسة الرقابة الأردنية على حساب شرف الكلمة.
وحقيقة لم أستغرب مثل هذا المنع الآخر لأن المؤسسة القمعية ليست بالضرورة أن تكون سلطة أو مؤسسة حاكمة، بل هي عقلية وذهنية وسلوك وطريقة تفكير. كما لم أستغرب سلوك المحرر الثقافي ولا سلوك غيره، وأنا العارف كيف تدار الأمور في صحف الساعات الأخيرة المسافرة غدا إلى بغداد لقيادة المؤسسة الإعلامية مرة أخرى.
وكما قال الشاعر العراقي اليهودي الصديق إبراهيم عوبديا في قصيدة له تعود إلى الخمسينات عن صحف تلك الحقبة:
( من ذا يحاسبهم على أعمالهم
ملكون أم عوني أم السمعاني؟).
وملكون هو جبران ملكون صاحب جريدة" الأخبار" وعوني هو عادل عوني صاحب جريدة" الحوادث" والسمعاني هو توفيق السمعاني صاحب جريدة" الزمان" وهي صحف مرتزقة.
فما أشبه اليوم بالبارحة كأننا ندور في زمن مغلق.
ويضيف عوبديا:
( وجرائد العملاء في إسفافها
شحنت رؤوس الشعب بالأضغانِ
والمستغلون الصحافة منبرا
للقذف والتحريض والبهتانِ ).
وكنا نعتقد أن زمن ملكون وعوني والسمعاني قد ولى يوم خرجت الجماهير تهتف على جسر الشهداء، وكل جسور الشهداء التي مضت والتي في الطريق، لكنه الزمن العراقي الرديء الذي يجعلنا نخرج دائما إلى المنافي أو السجون أو المصحات العقلية، في حين يخرج هؤلاء من لمناصب والمواقع إلى المنافي، مع الخدم والحشم والحاشية ولا يموتون إلا مع الحاشية على طريقة الفراعنة.
يخرجون إلى المنتجعات والصحف الجديدة والمؤسسات ويشكلون أحزابا مرة أخرى، للتحكم فينا من جديد.
نخرج عراة بلا جواز أو نقود أو حذاء،
وهم يخرجون برصيد البنك وبثياب الصيد.
صيد فريد.
نحن نخرج إلى البرية في تيه جديد مع موسى آخر. أخرج إلى البرية يا موسى حوامدة أو أي موسى آخر.
وهم يخرجون إلى المصرف والمؤسسة والجريدة والمنصب الجديد.
نحن نمضي إلى الهامش، بل اقل من الهامش، وهم يمضون إلى المؤتمر والصالة والقرار.
نحن نبحث عن قبر في الوطن،
وهم يؤسسون شركات.
نحن نسمع أخبار الحرب من الشاشات،
وهم يقررونها في المؤتمرات.
هم البداية والأصل،
ونحن الذيل.
نحن عبيد أبدا.
وهم سادة أبدا.
نحن نكتب في كل زمان ومكان،
وهم يحذفون ويرفضون في كل زمان ومكان.
نحن من سلالة رمل،
وهم من سلالات ذهب.
حتى عبورنا الحدود على أزيز الرصاص هو، في تقاليدهم، عورة، أو جريمة، أو جنون.
وعبورهم الحدود بالرصيد والمشروع والجواز والعائلة هو سفر مقدس.
هذا هو التلمود العراقي.
نحن ندخل مصح الموت أو الحنين كما يدخل اللص.
لا يحق لنا حتى المرض أو الموت.
إذا ضربت أحدنا صاعقة أو نيزك هارب من مداره أو فاجأنا حلم قديم هارب من أزمنة قديمة، أو داهمتنا شيخوخة مبكرة في قطار أو رصيف غريب، صرنا في تقاليدهم شجرا مخيفا.
صرنا عقدة.
وكلهم علماء نفس.
هم يدخلون دوائر المخابرات الأجنبية لما فيه صالح هذا الوطن، ويتاجرون به لصالح الوطن، ويبشرون بتمزيقه، في عناوين كبيرة، لصالح الوطن.
ومسكين يا هذا الوطن.
وفي كل مكان أو زمان كانوا هم وليس نحن أول من يشكل الحزب والجريدة والمصرف والنظرة والعقلية.
أننا مؤجرون إلى الغيب والحرب والرجم.
كل شيء حولوه إلى حزب أو مبادرة.
حتى الغوغأة صارت حزبا.
حتى الصبينة صارت ايديولوجيا في هذا الفراغ الضاج.
حتى المراهقة تحولت إلى قضية.
حتى الخرف صار مشروعا وطنيا.
إن الاحتجاج على منع كتاب هنا، ومصادرة كتاب هناك، هو قضية واحدة، ومبدأ التضامن الأخلاقي واحد لا يتجزأ، ولا يمكن الصمت هنا على جريمة مصادرة أو محاكمة والصراخ هناك ضد أخرى.
كانوا يطلبون منا في السجون أن نعوي كالكلاب.
واليوم، وفي هذه المنافي، يطلبون منا أن نعوي أو نصمت.
لكن لماذا تمنع رواياتي في المملكة؟.
لم يقل مدير الرقابة في كتاب المنع كلمة واحدة باستثناء" تمنع!" عن السبب وهو معروف ومفضوح وهو أن هذه الروايات تتعرض بقسوة للمرحلة الفاشية في العراق وتعري التواطؤات وتكشف المسكوت عنه.
لكن المفرح، وهذا دليل إضافي على غباء مؤسسات الرقابة، أن رواياتي تتداول في الأردن بصورة طيبة، وتم إدخالها إلى هناك بطرق عدة، بل تم توزيعها في العراق وهي تُقرأ على نطاق واسع.
كيف يستطيع عقل المؤسسة أن يفهم أن الجلوس خلف منضدة وشطب العمل الأدبي أو محاكمة الشاعر أو الروائي، سوف يشطب النص من ذاكرة الناس؟.
وكيف يُسمح لقوات المارينز ورجال القوة الثالثة، سي، آ، إيه، من دخول هذا العالم العربي المفتوح الفخذين من محيط القهر إلى خليج الحاملات والبوارج، ولا يسمح لأعمالنا بالدخول ونحن الأحق بهذا الدخول؟.
كيف تسمح مؤسسات الخوف والقمع بدخول رجال المخابرات الأجنبية، والأساطيل، والطائرات، ولا تسمح بكتاب أو قصيدة؟.
كنت قادما من دمشق إلى عمان في حزيران العام الماضي حين سألني شرطي حدودي أردني عن مهنتي، فقلت له خطأ" صحفي" فبحلق في وجهي كما لو أني لص هارب.
قال: ( من سمح لك بالدخول؟!)
أجبته بقرف:
ـ تستطيع أن تمنعني إذا شئت. أنا مواطن أجنبي وجوازي ليس عربيا.
وكانت طفلتي على صدري حين باغتني سؤاله:
ـ وهل هذه طفلتك؟!
ـ نعم. طفلتي.
ـ كيف تثبت أنها طفلتك؟
قلت على حافة انفجار آخر:
ـ ألا ترى كيف تنام على صدري بوداعة؟!
من أكثر خطورة على الأمن القومي العربي اليوم وغدا:القوات الأجنبية، أم القصائد والنصوص العارية؟.
وكيف تخاف مؤسسة عريقة في القمع تمتلك كل هذه القوات من الشرطة والأمن والجيش والطائرات والدبابات من قصيدة أو رواية؟.
إن المؤسسة غير الشرعية تخاف من كلمة عابرة أو صيحة لفقير أو صرخة شحاذ على رصيف.
كان معاوية بن أبي سفيان يصاب بالرعب من المرور اليومي لأبي ذر الغفاري من تحت شرفة قصره كل فجر وهو يردد الآية:
( الذين يكنزون الذهب والفضة بشرهم بعذاب أليم).
في تلميح صريح للبذخ الأموي الناشئ وبدايات نشوء الانقسام الخطير في الدولة وتحولها إلى إمبراطورية ملكية وراثية لا تزال مستمرة حتى اليوم وسقوط مبدأ الشورى.
ومعاوية الذي كان يتبختر أمام الجيوش الرومانية بكل صلابة وشجاعة بكامل ثيابه وحلته، كان يصاب بالهلع من صيحة أبي ذر الغفاري، فكتب إلى الخليفة بأن: (أنقذني من أبي جندب ) وهو لقب الغفاري.
سلطة الحاكم الخائف هشة.
يكسرها صراخ صوفي أو شحاذ أو سكير.
قصيدة ترعب ثكنة.
والملك عقيم كما قال هارون الرشيد لأبنه المأمون حين زاره الأمام الكاظم وهو رث الثياب لأنه يريد أن يهين الدنيا.
ودعه إلى الباب الخارجي حافي القدمين وحين ركب الأمام الزاهد حمارته التي كان يتعمد ربطها إلى باب القصر، سأله ابنه:
ـ من يكون هذا الإعرابي الرث الثياب حتى توصله إلى الباب حافي القدمين؟
فرد عليه هارون كما لم يرد حاكم من بعد بكل صدق وصراحة وشراسة:
ـ هذا أحق بالخلافة مني؟.
ـ ولماذا لا تعطها له يا أبتي؟
ـ لو نافستني على هذا الأمر( أي الحكم) لأخذت الذي فيه عينيك. الملك عقيم.
مبروك للشاعر موسى حوامدة وهو يقف في القفص متهما بالقصيدة.
مبروك له متهما بالعري الشعري.
بالوضوح.
بالفرادة.
بالجمال المدهش الذي يرعب الثكنة.
بالشجر العالي الذي ستنحني له الدبابات يوما.
وغدا، يا موسى، سيصدأ ويهرم كل شيء، كل شيء:
الكرسي، والثكنة، والسجن، والقفص، والعتمة، والأسلاك، والشرعية المرتجلة، وشهوة الخوف والمطاردة.
هي حرب المثقف والمختلف والأعزل.
المختلف قوة تهديد للسائد.
لا شبه له.
لا أصل، لأنه أصل نفسه.
هو بداية جديدة كل يوم.
هو مطرود من المؤسسة والمحفل والمهرجان.
لأنه ليس رقما،
ليس عادة،
ليس كتلة.
يرفض أن يعيش كرقم أو نسخة أو شبه.
لكنه المغني الأبهى في أيام مخبوءة في الجذور.
هو المغني الوحيد في حفل العشق والاختلاف .
ويوم يمضي هؤلاء إلى النسيان،
لن يبقى إلا شجرك العالي.
ــــــــــــ*
من سلسلة مقالات" محنة البطريق"