بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 5801 - 2018 / 2 / 28 - 20:58
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (109)
فن التجنيد
بشير الوندي
-----------
مدخل
-----------
التجنيد عمل شاق ومضنٍ ويستحق الاهتمام الاستخباري الفائق , وللتجنيد طرائق وفنون تتلخص بايجاد وتفعيل الطريقة المثلى للتلاعب بمقدرات البشر المراد حرف مسارهم واستغلالهم في خدمة الجهاز الاستخباري , سواء كان الامر بمعرفتهم او حتى دون ان يعلمون .
ولأن نقاط الضعف البشري هي المنافذ المثلى للسيطرة على الانسان , ولتعدد تلك النقاط , فان اساليب وفنون التجنيد لاحدود لها من تلك الناحية , الا ان المشترك في كل تلك الفنون هي في اعداد الكفاءآت القادرة على السيطرة على المراد تجنيده , واحاطتهم بكافة الامكانات والوسائل والعلوم اللازمة .
-----------------------
اعداد الكوادر
-----------------------
ان اللحظة التي يفاتح فيها رجل الاستخبارات شخصاً ما بأن يكون مجندا كجاسوس او خائن لبلده هي لحظة حاسمة وخطيرة ومقلقة لرجل الاستخبارات في التجنيد وتأسيس شبكة العملاء .
ولأنها لحظة حاسمة , فانها تحتاج الى ترتيبات وتدريب واعداد وقدرة على الحسم , وهو امر يحتاج الى مران فائق ومعرفة شاملة بالنفس البشرية وطرق اخضاعها , كما يحتاج الى اعصاب فولاذية , فانت قد تفاتح شخصاً ما في بلده وغالباً مايكون مهما ومتنفذاً وبالتالي فإن عليك التهيؤ لرفضه ولما يتبعه ذلك الرفض من تبعات تعرض رجل الاستخبارات للخطر .
من هنا , لابد من اعداد الضباط المختصين بالتجنيد كي يستطيعوا الافلات والمناورة والتملص , وفي ذات الوقت ان تكون لديهم الجرأة والتخطيط السليم لاختيار اللحظة الحاسمة .
ان اللحظة الحاسمة لاتأتي بسهولة , فهي تحتاج الى امكانات لامحدودة مادياً والى النفس الطويل وتهيئة خطط لالقاء الشباك ودراسة الهدف المراد تجنيده ومعرفة قيمته الاستخبارية ودراسة نقاط قوته وضعفه ودراسة الطريقة المثلى لتوريطه سواء كانت بالاجبار او بالاستغلال او بالضغط او بتقديم المغريات او بكلها مجتمعة .
وبلا شك فان التجنيد في تلك الحالة يحتاج الى فريق عمل بحسب اهمية الهدف واهمية المعلومات التي يطلع عليها او اهمية موقعه , ومن هنا قد تطول الاعدادات او تقصر , وفي بعض الاحيان تتم الاستعانة بذوي الخبرة من علماء النفس لدراسة الهدف وتحليل شخصيته , ذلك ان الطبيعة البشرية ليست سهلة المنال وتميل للتبرير ولإظهار خلاف ماتخفيه والى كبت المشاعر والحرص على عدم الافتضاح والازدواجية واخفاء الاسرار .
ان الحصول على اكبر قدر من المعرفة عن الهدف المراد تجنيده هي الخطوة الاولى في سلم الاولويات في عالم التجنيد , فمن المهم للغاية معرفة الاسرار بكافة السبل , وبالتأكيد , لاتعتمد الاجهزة الاستخبارية اية معايير اخلاقية او قانونية لاقتحام العالم السري للضحية وهتك اسراره .
كما ان من المهم معرفة طبيعة الهدف النفسية وصفاته الجسدية وقدراته ونقاط ضعفه ومدى حذره او لامبالاته والكيفية التي يمكن بها جره الى زاوية الابتزاز , فالهدف – لاسيما ان كان متنفذاً وفي موقع حساس – فانه يمتاز بالحذر والشك ومن ثم فان الايقاع به ليس نزهة , فهو لايبين نقاط ضعفه واذا مامارس الممارسات التي اعتاد عليها فانه يحيطها بهالة من السرية .
الاهم من ذلك , ان على ضابط التجنيد وفريقه توقع كافة ردود الفعل والارتدادات او حتى مقاومة الابتزاز , فلابد من توقع الاسوأ , ففي هذه الحالة لابد من اعداد خطة بديلة لحماية ضابط التجنيد كي لايصاب بالاذى او حتى القتل , ومن الافضل ان يكون اختيار المكان الذي تتم فيه المفاتحة مؤمناً ويفضل في بعض الحالات اختيار البلد الثالث لضمان الامان وان امكن اختيار البلد الذي تنتمي اليه الجهة الاستخبارية ذاتها يكون افضل , ومثالها ان تسعى دولة لتجنيد اجنبي اثناء زيارته لها .
ومهما كانت طريقة التجنيد , واياً كان دافع المستَهدَف للرضوخ والقبول , فانه لايجوز ان يكون التجنيد مجانياً , ولابد من بديل نقدي او اي بديل مناسب , فالعميل المجاني خطير .
------------------------
اختيار المجندين
------------------------
اما اختيار الشخص المستهدف فيخضع لعدة اعتبارات , فمن الاعتبارات الاساسية ان نعرف ماذا نريد منه بالضبط , فليس بشرط ان يكون الهدف من التجنيد الحصول على المعلومات , وانما قد يكون السبب هو في مهمة محددة , فالجهاز الذي يسعى لاغتيال زعيم سياسي , فانه يحتاج الى تجنيد احد خَدَمِهِ او عناصر حمايته او طبيبه .
اما اذا كان الهدف هي المعلومات , فان الاختيارات تتجه الى المطلع الرئيسي على الاسرار والوثائق , فان لم يوجد فان الاتجاه يذهب بالاجهزة الاستخبارية الى احد المقربين من المطلع على الاسرار , سواء كان من عائلته او من مكتبه .
كما ان هنالك التجنيد الاستثماري , وفيه تدرس الاجهزة الاستخبارية تجنيد شخصيات تنتظر منها مستقبلاً مهماً , كأبناء الملوك والرؤساء , او بعض الشخصيات التي لها تأثير سياسي ولكنها ليست في السلطة , فيتم التحرك لتجنيدها ومدها بالاموال بانتظار المستقبل .
كما ان الاستخبارات قد تركز على شخصيات في وسط السلم الوظيفي , وتدفع باتجاه تسلمها مناصب عليا او رتب عالية كي توصلها الى مناصب القرار والسلطة , وفي سبيل ذلك لاتمانع من ان تزيح منافسي تلك الشخصيات بمختلف الوسائل .
كما ان هنالك طلب متزايد على تجنيد عناصر في اسفل السلم الوظيفي من اجل المعلومات , فاي خادم او منظف او موظف خدمات في السفارات هو شخص مستهدف للتجنيد , كما ان اي موظف في شركات الاتصالات مهم للتجنيد .
وفي جميع الاحوال فان التجنيد في صورته العامة يجب ان يحقق الانتشار والتوزيع المناسبين والتأكد من الفوائد المرجوة منه.
----------------------------------
التجنيد الجماعي والفردي
----------------------------------
لا يمكن احصاء أساليب التجنيد عدديا لانها بقدر نقاط الضعف وتنوعها , فلكل شخص نقاط قوة وضعف ولكل شخص حالة نفسية واسرار , ولكل انسان دوافع يراها مقنعة لارتكاب ابشع الجرائم , كما ان طبيعة الظروف المحيطة بكل فرد لايمكن احصائها , الا ان الثابت ان هنالك عوامل مساعدة تعتمل داخل النفس البشرية تكسر مقاومتها وتجعلها عرضة لارتكاب الحماقات والجرائم , منها ضعف الهوية الوطنية والشعور بالغبن والظلم او التمييز بكل اشكاله وانتشار الفساد المالي والاداري الذي يولد الفقر . وضعف التربية وفقدات الثقة باجهزة الدولة الامنية .
كما ان هنالك عوامل تتعلق بالاوضاع السياسية والاقتصادية للبلاد , بحسب قوة اجهزة مكافحة التجسس ومدى نشاط اجهزة المخابرات الدولية في البلاد , بالاضافة الى ان هشاشة اللحمة الاجتماعية وروح المواطنة والنسيج والفجوات الاجتماعية تلعب دوراً في تسهيل التجنيد الجماعي وليس الفردي فقط , فاجهزة الاستخبارات تلعب على كل الاوراق من اجل تسهيل تجنيد العملاء , واهمها استمالة الاقليات الدينية والعرقية لتسهيل تجنيد افراد منها او تجنيد احزاب بالكامل لصالحها لاسيما الاحزاب العقائدية او الدينية او القومية.
فعندما أرادت إسرائيل أن تجعل مسيح لبنان إلى جانبها , عمدت الى تنفيذ عمليات قتل سرية والصقتها بالمسلمين , وعندما افقدتهم الثقة بحكومتهم استطاعت أن تجند المئات في جنوب لبنان وتشكل بهم جيشا .
--------------------------
اصناف المجندين
--------------------------
لاتدل صفة التجنيد بالضرورة على خيانة الوطن , فالمجند قد يكون مواطناً يعمل مع الاجهزة الاستخبارية لبلاده داخل البلاد او خارجها , وفي هذه الحالة هو يقدم خدمة لاتخلو من ان تكون مذمومة مجتمعياً – كمن يتجسس على ابناء جلدته في الجاليات - الا انها لاتصل الى خيانة الوطن بالتأكيد .
وقد يكون المجند للعمل الاستخباري اجنبياً تم تجنيده ضد بلد ثالث وليس ضد بلده , كتجنيد ايطالي من قبل الموساد للتجسس على ليبيا , وفي هذه الحالة يكون جاسوساً ضد بلد غير بلاده , الا ان مثل هؤلاء يكون لديهم الاستعداد لخيانة اوطانهم اذا تطلب الامر , لان الدافع المادي غالب عليهم ومستعدون ان يفعلوا اي شيء من اجله , ناهيل عن انهم يقعون تحت طائلة قوانين بلادهم بجريمة التخابر .
لكن كأيتم يتم التركيز عليه , هو تجنيد مواطن ما للعمل ضد مصالح بلاده وشعبه , وهذا من اخطر انواع التجنيد , ويعد تحت طائلة الخيانة العظمى وعقوبتها – غالباً – الاعدام , مما يتطلب ان يكون اغراءه بالتعاون كبيراً جدا قياساً الى خطورة العقوبة .
كما ان المصادر والمخبرين والمتعاونين ينقسمون بالاساس الى ثلاثة اقسام :
القسم الاول هو العميل المرسل الذي يتم اختياره والايقاع به وتدريبه وتجنيده من قبل الاجهزة الاستخبارية , أي أنه يعمل منذ البداية تحت سيطرة الاستخبارات , وهي التي تضعه في المكان الذي تريد التجسس عليه او تريد خدمات منه.
والقسم الثاني هو العميل الوافد , وهذا النوع من العملاء هو الذي يعرض خدماته على الاجهزة الاستخبارية لقاء الحصول على اموال او امتيازات .
والقسم الثالث هو العميل المزدوج , وهو مجند بالاساس لصالح جهة استخبارية , الا انه يعرض خدماته لجهه استخبارية اخرى , او ان الاجهزة المكافحة للاستخبارات تكشف ارتباطاته مع جهة مخابرات اجنبية , ولكنها لاتعاقبه وانما تعرض عليه ان يكون عميلاً مزدوجاً .
وفي حالات نادرة , يعمل بعض الاشخاص مع العديد من الاجهزة الاستخبارية الاجنبية في آن واحد , وبعلم الجميع .
طبعا ضابط التجنيد أيضا هو من يتعامل مع نوعي المصدر المرسل و المصدر الوافد , لأنه هو المختص على ضرورة تأكيد صحة التجنيد , اما المصدر المزدوج ففي اغلب الأحيان يجند من خلال ضابط تجنيد لصالح مكافحة التجسس او الحرب النفسيه او جهاز أمن الاستخبارات او العمليات الخاصة , وغالباً ما يبعد المصدر المزدوج من أي ارتباط بالخدمة السرية (ذراع المصادر البشرية في الجهاز الاستخباري ).
وفي كافة الاحوال , فانه ماان تتم مرحلة التجنيد , يسلم المصدر إلى ضابط ارتباط , أي أن مهمة ضابط التجنيد تنتهي عند موافقه الشخص بالعمل وارتباطه بالاستخبارات , أي أن ضابط التجنيد لا يستمر بالارتباط مع الهدف في الاجهزة المحترفة , الا في حالة شبكات التجسس حيث يمكن لرئيس الشبكة ان يجند شخص ما ويرتبط به ضمن شبكته , ولكن الامر لايتم الا بعد دراسات مستفيضة وموافقات المركز.
---------------------------------
كلمة السر : نقطة الضعف
---------------------------------
ذكرنا في مبحث سابق (انظر مبحث 20 تجنيد العملاء ) تسعة انواع لاساليب التجنيد هي باختصار ( تجنيد وظيفي , تجنيد قهري او ابتزازي , تجنيد عقائدي , تجنيد ثاري او انتقامي , تجنيد مالي , تجنيد ايهامي ( خلف ستار ) , تجنيد اختباري , تجنيد عكسي او مزدوج , تجنيد استثماري)
ان التجنيد يرتكز بالاساس على نقطة ضعف الهدف والنفاذ منها لتجنيده , من جهة العميل ذاته , فانها تعتمد على مدى تضخيم نقطة الضعف عنده والتي تؤدي به للوقوع في شباك الاجهزة الاستخبارية . وكذلك في العمل دوما على تغليف نقطة الضعف تلك بسوليفان شهي ومؤثر .
فالاجهزة الاستخبارية تتلاعب بالالفاظ مع العميل من اجل مصالحها , ذلك ان قمة نجاح التجنيد لاتتم بابتزاز الهدف بصور جنسية او اسرار لايريد ان تفتضح , وانما النجاح الكبير يتم حين يمكن اقناع العميل ان خيانته لبلده ووطنه فيها اهداف سامية !!!!!.
وغالباً مايتم ذلك من خلال ثلاث انواع من التجنيد هي , التجنيد الانتقامي والتجنيد العقائدي والتجنيد الايهامي , وهو مصداق للمثل القائل "ان افضل طريقة لاجبار شخص على اداء عمل ما , هي ان تحببها له وتقنعه بها".
فالشخص المستهدف إذا كان متأثرا بعقيدة ما , فإن الاجهزة الاستخبارية تتوجه الى تجنيده من خلال عقيدته , بما يجعله يعتقد انه يخدم الفكر الذي ينتمي اليه , فالمتشدد الإسلامي يمكن أن يقع تحت تجنيد داعش أسهل من الآخرين , وهو أخطر أنواع التجنيد وأكثرها قوة , وغالباً الانتحاري والذئاب المنفردة تجند وفق هذا الاسلوب , فالفكر أكثر دواما وتضحية وتمسك وبقاء واستمرار من الأساليب الأخرى.
اما الاساليب الاخرى المعتبرة في التجنيد فانها تتمحور حول الفضائح والمال والجنس , فعندما تبحث الاستخبارات عن شخص لتجنيده تنظر دوما إلى موقفه المالي وميوله الجنسية واسراره التي يحرص على عدم افتضاحها .
وتحت تلك الدوافع الثلاث (الجنس والمال والفضائح ) توجد عناوين كثيرة ومنوعة , فالاسلوب القهري والابتزاز يجبر الهدف على التعاون , وهو الامر الذي يجعل الاجهزة الاستخبارية تسعى للالمام بكل صغيرة وكبيرة حول الهدف بكافة الوسائل , او تسعى لتوريطه بالتصوير والتسجيل في مشاهد مخزية للهدف لاسيما الجنس , فالجنس يستخدم في الاجهزة الاستخبارية للتجنيد والتوريط .
اما الدافع المالي , فله هو الاخر صور عدة , اهمها تورط الهدف بمشاكل مالية ضخمة او تورطه بتعاملات مالية غير مشروعة (فساد مالي ) تضعه تحت طائلة القانون , او ضعفه الشديد امام المال وحاجته الماسة الى اية طريقة للحصول عليه .
ويتبع الدافع المالي , الرغبة في النفوذ , ففي العراق مثلاً , لاتوجد معايير للمناصب العليا , ووصل الكثير من النكرات الى السلطة بحكم المحاصصة , ورأوا الابهة والمال والنفوذ والوجاهة , ومن هنا فانهم يستقتلون من اجل البقاء في المنصب , فيدورون على السفارات ويقدمون انفسهم لقمة سائغة للاجهزة الاستخبارية لتساندهم لاسيما سفارات الدول المتنفذة .
----------
خلاصة
----------
الدوائر الاستخبارية دوائر منتجة , سواء بالعمليات او بالمعلومات وغيرها من المهمات , ومن اجل ذلك فان الاجهزة الاستخبارية المحترفة تعمل وفق خطط وبرامج مدروسة واهداف مرسومة تعتمد على ترشيق الكوادر الوظيفية مع التوسع والانتشار بتجنيد العملاء , ولاجل ذلك يتم الاهتمام بالتجنيد كفن يتمرس ويختص به مجموعة من العناصر الكفوءة المدربة التي تجيد التعامل النفسي مع المستهدف بالتجنيد. ويعتمد فن التجنيد على مايراد من الشخص المراد تجنيده وكيفية تجنيده وتحديد مكان وزمان تجنيده وضمان استثمار التجنيد الى الحد الاقصى . كما ان اتقان الاجهزة الاستخبارية لفن التجنيد يجعلها تتقن بالضرورة اساليب العدو في تجنيد مواطني البلد , مما يفيد في نشر الوعي عند المواطنين والمسؤولين المستهدفين كي لايقعوا في حبائل الاجهزة الاستخبارية المعادية , والله الموفق
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟