|
نفي الشعب الشيشاني: ما هو، وهل يمكن نسيانه؟*
أمين شمس الدين
الحوار المتمدن-العدد: 5794 - 2018 / 2 / 21 - 21:59
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
نفي الشعب الشيشاني: ما هو، وهل يمكن نسيانه؟* (بمناسبة مرور 74 عاما على نفي الشعبين الشيشاني والإنجوشي) الملخص في المقالة تحليل للأوضاع المتعلقة بإجلاء الشعب الشيشاني عن وطنه التاريخي، ويُظهِرُ بُطلان التُّهَم التي نُسِبَت إليه من قبل نظام ستالين، وكذلك الأهداف المُغرِضة في محاولات لإنعاش تلك التهم. كما وتُعيرُ المقالة اهتماما بحيوية كشف الأقنعة عن التقديرات ذات الجوهر المعادي للشعوب في عصرنا الراهن والآثار المأساوية لتقديس شخصية ستالين، التي أوضحها في حينه ن. خروشوف، إضافة إلى صعوبات عملية رد الاعتبار وتعدُّدِها لضحايا الاضطهاد السياسي لشعوب بأكملها، ومن ضمنها الشعب الشيشاني. وينتقد المقال بحوث بعض المؤلفين، والتي تظهر فيها محاولات متحّيزة لتسويغ نفي شعوب الاتحاد السوفييتي الذي قام به ستالين و بيريا. ويتم التأكيد على أن مثل هذه التلفيقات لن تساعد في التغلّب على "الماضي الجارح" المطبوع في الذاكرة القومية التاريخية للشعوب. كما ويتم التأكيد على أهمية دور الحقيقة التاريخية في توفير وضمان وِفاق راسخ بين شعوب الدولة الروسية متعددة القوميات، والذي يُعتبر ضرورة ملِحَّة من أجل تطورها الثابت والمتقدِّم. مقدّمـة صادف عام 2013/2014 ذكرى مرور سبعة عقود من اليوم الذي نفى فيه نظام ستالين – بيريا عددا من شعوب جنوب روسيا بتهمة التعاون مع العدو، والفرار من الجُنديّة، ومقاومة أجهزة السُلطة السوفييتية، والموقف المعادي للجيش الأحمر. قبل انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي وبعده ببضع وقت، بقيت هذه التهم عالقة في الوعي العام لجمهوريات الاتحاد السوفييتي الاشتراكية، كَدَمَغات موسومة على أجساد عبيد أو جُناة. إن محاولات إحيائها لا تنفصم عراها حتى الآن، ومما يدل على ذلك مؤلفات بعض الباحثين والكتاب الاجتماعيين السطحية، والتي بمجملها ذات مدلول يُبرّر نفي الشعوب كإجراء تأديبيّ. إن محاولة إلقاء الضوء على الصفحات المأساوية لتاريخ الشعب السوفييتي متعدد القوميات في أعمال بعض المؤلِّفين كثيراً ما يتناول اتجاها واحدا، ذاتيّاً، وفي الغالب بطابع مضارب صريح. علاوة على ذلك، فهؤلاء المؤلفين كـ إ. بيخالوف، م. بولتارانين، أ. مارتيروسيان وغيرهم يحاولون تبرير الأفعال الجنائية لنظام استبداديّ، ومن ضمنها نفي الشعوب. إنهم يحاولون إثبات تصرفاتهم الجائرة ضد شعوب بأكملها بانتقاء مواد أرشيفية ووثائق تتوافق مع أهدافهم، عن طريق تضليل شريحة واسعة من القراء. بينما الدراسات الموضوعية تقتضي تحليلا مُحْكَما لكامل المصادر الوثائقية و العوامل المؤثرة، وأولها، تلك التي تصف أهداف ومهام القيادة السياسية الستالينية، الداخلية منها والخارجية، في المرحلة الختامية للحرب ضد ألمانيا الهتلرية وأذنابها. ومثل هذه الدراسة لم تجري حتى الآن، على الرغم من أن حيويتها وضرورتها واضحة للعيان بما فيه الكفاية. إن أصحاب هذه المقالة، المولودين في كازاخستان في سنوات النفي، والذين نشأوا وترعرعوا خلال المرحلة السوفييتية، وضعوا أمام أنفسهم مهمة إدراك وتفهم للأحداث التي جرت قبل 70 عاما، وتأكيد تقويمهم بأدلّة وحُجَج، وكذلك اقتراح اجراءات عملية، والتي من وجهة نظرهم قد تستطيع المساهمة في إزالة "الرّواشم العرقية- السياسية" المتعاقبة والموجودة حتى الآن، وأشكال الفوبيا التي تعرقل تعزيز الوفاق الراسخ بين القوميات في الفراغ الروسي متعدد الإثنيات. جزء 8، الإصدار 1-2، 2014، 129 لأجل ماذا تم نفي الشيشان، وكيف؟ في الثالث والعشرين من شهرشباط/فبراير عام 1944م، وبقرار من قيادة جمهوريات الاتحاد السوفييتي الاشتراكية تم تهجير (نفي) الشيشان والإنجوش إلى كازاخستان وقيرغيزيا. وهكذا، وبناءا على إرادة نظام ستالين- بيريا حُرّم هذان الشعبان من وطنهما الإثني، لفترة زمنية طويلة- 13 عاما- مكثوا خلالها في ظل ملاحقة ومراقبة تعسفية من قبل الإدارة الأمنية الخاصة. كانت إجراءات تهجير الشيشان والإنجوش مخطط لها وجاهزة مسبقاً، ومن ضمنها وجهة النظر "الحقوقية". وكما يشير إليه ر. إ. خاسبولاتوف، "يظهر في السابع عشر من شهر تشرين أول/ أكتوبر عام 1943م تقرير سِرّيّ صادرعن اللجنة الشعبية السوفييتية لجمهوريات الاتحاد السوفييتي الاشتراكية عن نفي الشيشان، الإنجوش، الكالميك، القراتشاي"(1). وحسب المعلومات التي بين أيدينا، لم يتم دراسة الوثيقة المذكورة من قِبل الباحثين حتى الآن، كما ولم يتم تداوله ضمن المنهج العلمي. نحن نرى أن نشر هذا التقرير وتحليله بشكل دقيق يُمهّد الطريق بشكل ملموس لتحديد الصورة الكاملة لنفي الشعب الوايناخيّ (هكذا يُسمّي الشيشان والإنجوش أنفسَهم)، وأهدافه وتداعياته. وكما هو معلوم، فإن مرسوم مجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي "عن إلغاء جمهورية الشيشان - إنجوش السوفييتية الاشتراكية ذاتية الحكم، وعن التكوين الإداريّ لأراضيها" تم التوقيع عليه في السابع من شهر آذار/ مارس عام 1944م، أي بعد إتمام عملية "حبة العدسة"- ترحيل الشيشان والإنجوش. واتَّخَذ القرار المذكور قوتَه القانونية بعد سنتين من ذلك. وفي الخامس والعشرين من شهر حزيران عام 1946م اتخذ مجلس السوفييت الأعلى لروسيا السوفييتية الفيدرالية الاشتراكية قانون "عن إلغاء جمهورية الشيشان - إنجوش السوفييتية الاشتراكية ذاتية الحكم، وعن إعادة تشكيل جمهورية القرم السوفييتية الاشتراكية بحيث تصبح إقليم القرم". في البداية، ارتُكِبت القساوة بحق الشعوب، وفيما بعد، بعد وقوع الحادث، وُضع إن "المعايير التشريعية" للدولة، المشار إليها آنفا، لهي بعيدة عن الكمال الحقوقي (القضائي)، عِوَضاً عن كونها معارِضة للدستور. وهكذا، وبمقتضى المادّة 127 لدستور الاتحاد السوفييتي عام 1936م ضُمنت الحُرمة الشخصية لمواطني البلاد، ولا يمكن أن يتعرض أحد ما إلى الاعتقال، وخلاف ذلك فبموجب قرار المحكمة أو عقوبة يفرضها المدّعي العام. والمادّة 128 كفَلَت حصانة مَسْكَن المواطِن وسِريّة المراسلات. غير أن الدولة نفسها، وهي تخالف في ممارساتها المعايير التي تبدو وكأنها معايير دستورية راسخة، والمعترف بها في التطبيق العملي القانوني الدولي، تَعرِض مخالَفتها للقانون، واستباحة كل شيء، والاستبداد. إن ممثلي القوميات المنفية، وأجيالها الجديدة، والذين نشأوا في العقود التالية، يتساءلون، وبحق شرعي تماما: "لماذا رَحّل ستالين شعوبا بأكملها من موطنها؟" ولا ريب في أنّ وثائق الدولة تقوم بتثبيت الدوافع والحجج الرسمية للنفي. إلا أنه من وجهة نظرنا، فإن هذا النفي، والذي اتصف بطابع حملة عقابية، خضع في حقيقة الأمر لمسائل أخرى كليّاً. والمنطق الذي انتهجه ستالين في استراتيجية السياسة الطبيعية لما بعد الحرب، والتي وَجدت أهدافها وغاياتها خطوطا جَليّة عند تحليل أولويات سياسته الخارجية، والتي رُسِمت وجهتها الرئيسة من قبل القيادة السوفييتية، وتحديداً في مؤتمر موسكو لوزراء خارجية بريطانيا العظمى،الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة الأمريكية (تشرين أول/ أكتوبر 1943م)؛ ومؤتمر طهران لقادة نفس هذه الدول (تشرين ثاني/ نوفمبر- كانون أول/ ديسمبر 1943)- تضع أساسا لافتراض أن نفي شعوب شمال القوقاز، ومن ضمنها الشعب الشيشاني، شكّل عاملا لتحقيق خطة بعيدة المدى لبناء عالم ما بعد الحرب. و عموما، فإن يوسف ستالين لم يخفي أبدا علاقاته التي شابتها الريبة تجاه تركيا، كعامل فاعل في الحياة الدولية. كما لم يكن سِرّا رغبته في وضع رقابة على مضيق الدردنيل(2). لذا، يتراءى لنا، بأن ستالين، وعن طريق ترحيل شعوب القراتشاي، والشيشان، والإنجوش، والبلقار، قد وضَعَ ضمانات أمام احتمال ظهور مخاطر غير مرغوبة في حال توتّر العلاقات السوفييتية – التركية. ومن أجل التغطية على هذه النوايا تم تلفيق تهما رسمية ضد هذه الشعوب. بماذا اتهم نظام ستالين الشعب الشيشاني؟ فمقدّمة مرسوم رئاسة المجلس الأعلى للاتحاد السوفييتي "عن إلغاء جمهورية الشيشان- إنجوش السوفييتية الاشتراكية ذاتية الحكم، وعن التشكيل الإداري لأراضيها"- هو بحد ذاته حُكمٌ اتّهاميّ فريد من نوعه. لقد جُرِّم الشعبان الشيشاني والإنجوشي بتهمة خيانة الوطن، والتعاون مع المحتلين الفاشست، والالتحاق بالفصائل التخريبية والجاسوسية، والقيام بتشكيل مجموعات مسلّحة بإيعاز من الألمان لمحاربة السلطة السوفييتية، وترك العمل البار، والقيام بغزوات عصابات على ممتلكات الأقاليم المجاورة، ونهب وسلب وقتل المواطنين السوفييت. وجاء في القانون الذي وافقت عليه رئاسة مجلس السوفييت الأعلى لروسيا السوفييتية الفيدرالية الاشتراكية في الخامس والعشرين من شهر حزيران عام 1946م، إن كثير من الشيشان وتتار والقرم حاربوا وحدات من الجيش الأحمر. في المحصلة، فإن كل تلك الحُجج الاتهامية شكّلت افتراءات ووشايات مُرِيعة، نظمتها ورتّبتها إدارة بيريا. ويأتي في التهمة الأولى للدولة التأكيد على أن "كثير من الشيشانيين خانوا الوطن، وانتقلوا إلى صفوف المحتلين الفاشست". وبسبب صياغة المسألة على هذا الشكل، يُطرح السؤال التالي: "كثير من الشيشان"- كم هذا العدد؟ عشرة، مائة، ألف، عشرة آلاف..؟ كم كان كل عدد الشيشان الذين خانوا الوطن، حتى يمكن عندها نفي الشعب بجُملته؟ وكما هو معلوم لم تخضع أراضي جمهورية الشيشان- إنجوش السوفييتية ذاتية الحكم، باستثناء بلدة مالغوبيك النفطية الصغيرة للاحتلال أبدا. وحتى فيها بقي الألمان لفترة تزيد عن ثلاثة أشهر بقليل. والمساحة المذكورة- لا تشكل سوى مكان صغير في الجزء الشمال – الغربي للجمهورية، يبعد حوالي مائة كيلومترا عن غروزني، على الحدود مع منطقة ستافروبول (آنذاك). وهنا يطرأ السؤال التالي: "كيف باستطاعة الشيشان والإنجوش التعاون بشكل فعّال مع العدو الفاشي، الذي لم تطأ قدماه على أرض يسكنها مواطنو الوايناخ بشكل متراص وبمجموعات بشكل تقليدي؟". والتهمة التالية: التحاق الشيشان بالفصائل التخريبية والجاسوسية، وتشكيل مجموعات مسلّحة لمحاربة السلطة السوفييتية. إلا أنه وحتى الآن لم يستطع أحد أن يُثبت بوثائق هذا الجزء من الاتهام. كما وتظهرتساؤلات أيضا حول مدى نطاق اللصوصية، والفرار من الجيش، والتهرّب من الخدمة العسكرية، والتملّص من العمل المنتج. في الواقع، بعد الهجوم المفاجئ للعدوالفاشي على وطننا، نشطت في الجمهورية كما في كثير غيرها من مناطق البلاد، وبشكل ملحوظ عناصر معادية للسوفييت، وأشخاص عانَوا من ممارسات نزع الملكية، ومرتكبو جرائم جنائية، ولصوص، وقطاع الطرق. وتحديدا لم تكن الأمور هادئة في بعض المناطق الجبلية، مثل: شاتوي، إتوم كالي، غالانتشوج، تشيبارلوي. وأحيانا في منطقتي ويدن وشاروي. وحسب معطيات قسم مكافحة اللصوصية للجنة الشعبية في وزارة الداخلية للاتحاد السوفييتي NKVD USSR التي جاءت في خطاب مكافحة اللصوصية والتهرب من الجيش والعمل، خلال الفترة الواقعة بين الأول من شهرتموز/ يوليو عام 1941م، وحتى الأول من تموز/ يوليو عام 1944م، أي خلال ثلاث سنوات من الحرب الوطنية العظمى، قامت أجهزة اللجنة المذكورة في وزارة الداخلية تصفية الجهات المذكورة أدناه على أراضي الاتحاد السوفييتي: مجموعات قطاع الطرق- 7161 الملتحقين- 54130 منهم: قتلى- 4076 مقبوض عليهم- 42529 إعادة شرعية- 7525 إضافة إلى ذلك، تم في الأقاليم الغربية من أوكرانيا تصفية 34878 فردا من قطاع الطرق، منهم: قتلى- 16 338 أسرى- 15 991 سلم نفسه- 2 549 المجموع الكلي لقطاع الطرق- 89008 شخص وبنفس الفترة جرى في الاتحاد السوفييتي القبض على أشخاص نتيجة: فرار من الجيش الأحمر- 1 210 224 تملّص من الخدمة العسكرية الإلزامية- 456 667 منهم في شمال القوقاز: فرار من الجيش الأحمر- 49362 تملّص من الخدمة في الجيش الأحمر- 13 389 منهم من جمهورية الشيشان- إنجوش ذاتية الحكم: فرار من الجيش الأحمر- 4441 تملّص من الخدمة في الجيش الأحمر- 856 (4) وفي مرحلة التقرير، تم تسجيل 11 851 ظاهرة قُطّاع طرق، تم كشف 9774 منهم (5)، وذلك في كامل الاتحاد السوفييتي. ونتيجة لبروز هذه الظاهرة ومكافحتها حصلت الخسائر التالية: مقتل 342 من النشطاء الحزبيين السوفييت مقتل 187 من أفراد وزارة الداخلية NKVD ومخابرات كي جي بي НКГБ مقتل 392 من أفراد وضباط الجيش الأحمر ووزارة الداخلية مقتل 2 013 آخرين المجموع- 2 934 شخص وحتى بداية الحرب الوطنية، كانت على أراضي جمهورية الشيشان السوفييتية سبع مجموعات من قطاع الطرق تعمل بشكل منظم، و14 مجموعة ظهرت تعمل من جديد، عدد أفرادها الإجمالي- 96 شخص(6). وإجمالا كان الوضع العملياتي في كامل الاتحاد السوفييتي حتى بداية الحرب الوطنية، على الشكل التالي (في إطار مكافحة اللصوصية): وخلال أشهر نيسان وأيار وحزيران عام 1941م قامت الأجهزة الأمنية NKVD القضاء على: 58 مجموعة قطاع طرق، عدد أفرادها- 665 شخصا. وحتى الأول من تموز عام 1941م، تم تسجيل الأعداد التالية من أفراد العصابات، منهم: في الاتحاد السوفييتي ككل- 196971 في أوكرانيا- 94476 في روسيا البيضاء- 1790 في شمال القوقاز وما وراءه- 65285 في باقي مناطق الاتحاد السوفييتي- 20120(7) وكما أشار إليه القرار، "مع بداية العمليات العسكرية نشّطت عناصر العصابات المتمرّدة أعمالها العدوانية في كل مكان. واهتداء بقدوم الألمان بدأت المجموعات المسلحة المعادية للسوفييت، وأفراد المنظمات المتمردة على الثورة، والقوزاق البيض السابقين (من بقايا الجيش الأبيض- المناشفة- المترجم)، والكولاك (الأغنياء، الذي استثمروا عمل غيرهم- المترجم)، وقطاع الطرق، والمنتمون للطوائف الدينية، بدأت كلها بالتجمع والتكتّل. وقامت هذه العناصر المذكورة بنشر دعايات اندحارية مناهضة للسوفييت بهدف تقويض القوة العسكرية السوفييتية، كما أخذت تدعو المنتسبين للجيش الأحمر إلى الهروب والشباب إلى عدم الخضوع للتجنيد الإلزامي. وعن طريق استمالة العصابات والفارين من الجيش والتجنيد وغيرهم من المختفين عن الأنظار، قام هؤلاء بتشكيل مجموعات قطاع طرق - عصاة متمردين، واضعين أمام أنفسهم هدفا لتنظيم انتفاضة مسلحة خلف خطوط الجيش الأحمر. إن الأنشطة التخريبية للعناصر المعادية للسوفييت تعزّزَت إثر تقدُّم الجيوش الألمانية إلى عمق بلادنا. وقبيل شهرتشرين أول/ أكتوبر عام 1941م، ظهرت مجموعات متمرّدة بأعداد كبيرة في عدة مناطق خلفية للاتحاد السوفييتي. وفي النصف الثاني من عام 1941م، تم تصفية المجموعات المتمردة من قبل أفراد الأجهزة الأمنية لوزارة الداخلية NKVD، كما هو آت (في عموم البلاد): مجموعات قطاع طرق- 178بعدد أفراد- 1 604 شخص (8) القبض على: هاربين من الجيش الأحمر- 710 755 فارين من وجه التجنيد الإلزامي- 71 541 وخلال النصف الثاني من عام 1941م تم تسجيل 50 حالة ظهور مجموعات قطاع طرق في الاتحاد السوفييتي، تم الكشف عن 21 منها (9). وفي الثلاث سنوات الأولى للحرب الوطنية العظمى (من الأول من شهر آب عام 1941، وحتى الأول من شهر آب عام 1944 تم في أراضي جمهورية الشيشان- إنجوش من قبل أفراد الأجهزة الأمنية لوزارة الداخلية NKVD القضاء على 185 عصابة، بلغ إجمالي عدد أفرادها 4368 شخصا (10). والتهمة الثالثة التي ألفقت بالشيشانيين- قيامهم بالغزو على كولخوزات (مزارع تعاونية- المترجم) في الأقاليم المجاورة، وبالسلب والنهب وقتل الناس السوفييت. يجب الاعتراف، بأن مثل هذه الجرائم الجنائية وُجِدت في بعض مناطق الجمهورية. ولكنّها كانت تُرتَكَب بشكل فرديّ، أو بمجموعات صغيرة. وما علاقة ذلك بالشعب بأكمله؟ وفيما يتعلق بالتهمة الرابعة، فيبرزُ هنا ادّعاء، وكأن كثير من الشيشان قاموا بمحاربة الجيش الأحمر. وتم صياغة هذه التهمة بتاريخ رجعي (للوراء)، أي بعد مرور عامين وخمسة شهور من نفي الشيشان. كم نَوَدُّ أن نعرف، كم كان عدد الشيشان الذين حاربوا الجيش الأحمر، وأين حصل ذلك تحديدا؟ لم تكن هناك إجابة بأدلّة على هذا السؤال، أبدا. إننا على يقين، بأن ما مِن باحثٍ باستطاعته أن يجد إثباتا على أن الشيشان والإنجوش كافة قاموا بحرب موجّهة ولغرض معيّن، ضد الجيش الأحمر، الذي قاتل في صفوفه عشرات الآلاف من أبناء هذين الشعبين. يؤكد المنطق الرسمي الذي قام على أساسه نفي الشعب الشيشاني، على أنه لا يَحتَمل حتى نقدا أوليّا بسيطا، لأنه قائم على أسس مفَبرَكة. ولكن، الاتهامات الخطيرة المشار إليها تم جمعها في عُرْمة، بهدف إقناع الناس بها، ولُصِقت بالشعب الشيشاني كرُقع مُرعِبة. لقد أمضى الشعب الشيشاني 13 عاما، عانى خلالها مآسي لا يمكن تصوّرها، وضغوط التكيّف مع ظروف الإبعاد في كازاخستان وقيرغيزيا. وأثناء ذلك جُرّد المستوطنون جميعهم من حقوقهم المدنية والاجتماعية. وعلاقة السلطة والسكان المحليين تجاههم لم تكن دائما حسنة. كما انتشرت بين السكان دعاية- أسطورة عن كون الشيشان "أكلة لحوم البشر". وفقط، بعد موت ستالين (الخامس من أيار عام 1953م) بدأ يُلاحظ تخفيف شدة الأحكام على المستوطنين المنفيين. نقد خروشوف لتقديس الفرد وإعادة ترحيل الشعوب المنفية إلى أوطانها سُمِع أول نقد رسمي لنفي الشعوب في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي. فقد أعلن نيكيتا سيرغييفيتش خروشوف في خطابه المكرّس لنزع تقديس ستالين، جاء فيه: "يُعتبر الاتحاد السوفييتي وبحقّ أنموذجاً لدولة متعددة القوميات، إذ أن المساواة في الحقوق والصداقة بين الشعوب القاطنة في وطننا العظيم، عمليّا مكفولة". لا سيما وأن ما يثير الاستياء، هي الأعمال التي كان ستالين صاحب المبادرة لها، والتي هي عبارة عن انتهاك صارخ للمبادئ اللينينية الأساسية في السياسة القومية للدولة السوفييتية. يدور الحديث عن تهجير بالجملة لشعوب بأكملها من أماكنها الأصلية، من ضمنها الشيوعيين جميعهم والكُمسومول، وبدون أي استثناءات. زد على ذلك أن مثل هذا النفي لم يُملى أبدا من اعتبارات عسكرية. وهكذا، ففي نهاية عام 1943م، عندما تَحَدّدَ أثناء سير المعارك على جبهات الحرب الوطنية العظمى انعطاف شديد لصالح الاتحاد السوفييتي، اتُّخِذَ ونُفِّذَ قرار نفي جميع القراتشاي من أماكنهم. وفي الفترة ذاتها، في نهاية شهر كانون الثاني/نوفمبر عام 1943م، حَلَّ نفس هذا المصير بجميع سكان جمهورية الكالميك ذاتية الحكم. وفي شهر آذار/ مارس (في الحقيقة شهر شباط/ فبراير- المؤلف) عام 1944م، تم ترحيل الشيشان والإنجوش من موطنهم. وتم إلغاء جمهورية الشيشان - إنجوش ذاتية الحكم. وفي شهر نيسان/أبريل (في الحقيقة شهر آذار/ مارس- المؤلف) عام 1944م، تم ترحيل جميع البلقار من جمهورية قباردينو- بلقاريا ذاتية الحكم إلى أماكن متفرقة. أما الجمهورية فتم تغيير اسمها إلى جمهورية قباردينيا ذاتية الحكم. والأوكرانيون تفادَوا هذا المصير لكثرة عددهم وعدم توفر مكان لتهجيرهم إليه، وإلا كانوا لاقوا نفس المصير. لايمكن أن يستوعب وعي الإنسان الماركسي- اللينيني، ولا وعي أي شخص آخر سليم العقل موقفا كهذا- كيف يمكن وضع مسؤولية أعمال عدوانية لأفراد أو مجموعات على كاهل شعوب بمجملها، ومن ضمنهم النساء، والأطفال، والشيوخ، والشيوعيون، والكومسمول وإخضاعهم لنفي شامل، وتعريضهم لشتى ألوان الحرمان والآلام؟!(11) واتّهم ن. س. خروشوف في خطابه جوزيف ستالين، بخرق فظّ للمبادئ اللينينية في السياسة القومية للاتحاد السوفييتي، والذي تجلّى في نفي شعوب بأكملها، وإلغاء بنية دولهم - القومية. ---------------------------------------------------------------------------- بداية إعادة الاعتبار السياسي- الحقوقي بعد انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي حلّت نقطة تحول في سياسة الدولة تجاه الشعوب المنفية. وعادت كل الجموع تقريبا إلى مناطق عيشها السابقة، وتم إعادة بنيانها السيادي- القومي، وإيجاد الظروف لتطورها الاجتماعي – الاقتصادي، والثقافي. ولا شك بأنها واجهت صعابا ومشاكل في المسكن وإيجاد فرص العمل، وارتُكِبت أخطاء في السياسة التنظيمية والكوادر.. الخ. وبعد مضي 46 سنة من النفي، وفي 26 من شهر نيسان/ أبريل، عام 1991م، تبنّت الدولة قانونا لجمهورية روسيا الفيدرالية الاشتراكية عن "إعادة اعتبار الشعوب المنفية". وفي مقدّمة هذا القانون، وللمرة الأولى في التطبيق العملي للتشريع السوفييتي تمت الإشارة إلى أن هذه الشعوب تعرّضت لـ "الإبادة بالجملة والحَمَلات الاتهامية الباطلة". وفي البند الأول من القانون ثُبِّت "إن التصرفات والأفعال التي نُفِّذت بحق هذه الشعوب المنفية معترف بكونها غير قانونية، وبأنها جنائية"(12). وبدون أدنى شك، كان لهذا القانون أهمية سياسية، وحقوقية، ومادية، ومعنوية كبيرة. وكَفِعْل تشريعيّ وحياتيّ ضروريّ، ساعد على عودة العدالة التاريخية. ولا ريب، في أنه لعب دورا مهما في إعادة كامل اعتبار الشعوب المنكّل بها. وقبل فترة وجيزة أصدر رئيس روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين مرسُوما "عن الاجراءات بخصوص إعادة اعتبار شعوب الأرمن، البلغار، اليونان، تتار القرم، الألمان ودعم الدولة في إحيائها وتطورها" (13). وهكذا، اتُّخِذت الخطوة التاريخية التالية المهمة في إعادة اعتبار هذه الشعوب. وعلى هذا النحو، من الضروري، كما نعتقد، تحليل نتائج تطبيق قانون جمهورية روسيا الفيدرالية الاشتراكية، على مستوى الدولة، والذي ينص على "إعادة اعتبار الشعوب المنفية"، وبالخصوص الشعب الشيشاني. عن الزَّيف وضرورة القيام بدراسة معمّقة عن نفي الشعوب من بين الباحثين المحليين، ذوي الاهتمام الكبير في دراسة المسائل المتعلقة بنفي الشعوب، ومن ضمنها الشيشان، هو الباحث ن. ف. بوغاي. و بوغاي كشف عن مصادر وثائقية عديدة. غير أن وجهة نظره فيما يخص الأسباب التي بموجبها تم نفي الشيشان وغيرهم من الشعوب تصب تماما في المجرى الستاليني، ولو أنه يعتبر بعض أشكال التهجير الجماعي طُبِّقت كإجراءات وقائية أيام الحرب بحق "الإثنيات المشكوك فيها"(14). وهنا يُطرح السؤال التالي: ما هي المعايير التي حُدِّدت على أساسها سابقا، وتحدَّد اليوم أمانة وثقة الإثنيات أو عدم أمانتها؟ ولماذا طُبقت تلك الإجراءات في ذلك الوقت تحديدا حيث لم يكن لها أي ضرورة عسكرية ملحّة وواضحة؟ إن أي تقسيم للشعوب إلى درجات بناءا على سمات ودلائل لا أساس لها "الأمانة" و "عدم الأمانة" يتعارض مع الفكر السليم. ومن المحتمل بأن هذا التصنيف اكتشفه المؤلف في وثائق الجهاز الأمني الداخلي NKVD، التي استطاع، بعكس غيره من الباحثين، الوصول إليها بشكل رسمي في حينه. وإذا كان موضوع عدم أمانة الشعب الشيشاني يقوم على أساس الافتراءات الباطلة، فمن المستبعد أن يكون مقبولا لتحليل علمي. وفي غضون ذلك، فإن الذاتية (الذاتانية)، سواء في السياسة أو في العلم- ظاهرة خطيرة. عندئذ، تجدر الإشارة إلى أن ن. ف. بوغاي، يعتبر أن "الحكومة السوفييتية ارتكبت أخطاءً خطيرة كما غَداة الحرب، وعند سيرها بالخصوص، وذلك خلال تطبيقها للسياسة القومية. إذ قامت حكومة الاتحاد السوفييتي بوضع الحلول من أجل استقرار الأوضاع في الأماكن، التي شاهدت ظروفا إثنية- سياسية حرجة، عن طريق عملية النفي بالتحديد" (15). وحسب رأي الكاتب، "سارت الأمور على نحو يكون فيه تهجير ونفي هذه المجموعة الإثنية أو تلك أمراً أسهل لهيئات السلطة، من أن تقوم بإجراءات دقيقة ومتعبة لتستقر الأوضاع" (16). ويتابع مؤكداً:"وكان أكثر شيء معاد للإنسانية، هو، قرار حكومة الاتحاد السوفييتي استدعاء ممثلي الشعوب المنفية، أولئك الذين قاتلوا ببسالة في جبهات الحرب الوطنية العظمى"(17). وهذه الفكرة يكرّرها الكاتب أكثر من مرة. وهو يأتي بمعطيات تثبت أن أعداد ممثلي الشعوب المنفية، الذين تم تسريحهم قسراً من صفوف الجيش الأحمر- الجيش الذي كان يحارب ألمانيا الفاشية، شكلت في الفترة 1944-1945 156843 شخصاً. والنتيجة التي توصل إليها ن. ف. بوغاي: "جميعم اعتُبِروا أعداء الشعب". كان من ضمنهم 8894 شيشانيا، و 4248 إنجوشيا(18). وطبقا للمعطيات التي استخدمها ن. ف. بوغاي في عدد من منشوراته، تشكلت على أراضي جمهورية الشيشان- إنجوش 17 تشكيلة لوحدات الجيش الأحمر، عُبّئت بأكثر من 50 ألف مقاتلا، منهم 30 ألف شيشاني. و ن. ف. بوغاي على يقين، بأن "سياسة الترحيل القسري للاثنيات حملت معها أوجاعا ومعاناة لا تُعد ولا تُحصى، ولا يمكن تقييمها إيجاباً، وهي تستحق الإدانة والشّجب من قبل المجتمع الدولي" (19). و إ. بيخالوف، يرى السبب في نفي الشيشان، قائلا: "لقد قام الشيشان و الإنجوش خلال سنوات الحرب باقتراف جرائم، وبشكل أخطر بكثير من قصة الحصان الأبيض سيئة الصيت، والذيين زعَموا بأن شيوخ الشيشان قدّموه لهتلر (20). ويحاول إ. بيخالوف حتى عن طريق الترويج لهذه الصياغة المُريبة، تبرير الفظائع التي ارتكبها ستالين، والتي هي بدون شك نفي الشعوب عن بكرة أبيها. يحصل هذا رغم اعتراف التشريعات السوفييتية وتشريعات روسيا الاتحادية بأنها مخالفة للدستور، واعتبرتها جرائم. وهو كثيرا ما يشير إلى الوثائق الأرشيفية، والذي نفترض بناءا على أسس، بأنه لم يقم ببذل جهد ما في البحث والتنقيب. وهو يفضّل الأكذوبة على الحقيقة العلمية، ومن ضمنها خرافة "الحصان الأبيض". إن المصادر الموثقة التي بحوزتنا، تشهد، على أنه ما من شعب تعرّض خلال الحرب الوطنية العظمى لنفي جماعي، كانت له علاقة ما، نحو حصان تم تجهيزه هدية لهتلر. إن الكتّاب أمثال ب. لوغينوف، أ. مارتيروسيان، م. ن. بولتورانين، إ. بيخالوف، يستندون على معطيات ملفّقة، ويصيغون استنتاجات مشكوك فيها حول عصابات جماهيرية شاملة في جمهورية الشيشان – إنجوش السوفييتية الاشتراكية ذاتية الحكم، في نهاية ثلاثينيات- وبداية أربعينيات القرن العشرين، وحول الفرار من الجيش وتعاون الشيشانيين مع الفاشست. وهكذا، فـ أ. مارتيروسيان، مؤلف كتاب في الدفاع عن بيريا، يَزعُم بشكل باطل، بأن أعدادا كبيرة من ممثلي الشعوب المنفية، ومنها الشيشان والإنجوش، ارتكبوا في سنوات الحرب الوطنية العظمى جرائم آثمة من مختلف الأشكال، باستحسان يكاد يتناول الأغلبية الساحقة من قبل هذه الشعوب نفسها (21). كما ويكتب، قائلا: "لو أن هيئة دفاع الاتحاد السوفييتي، وشخصيا القائد الأعلى جوزيف ستالين كانوا قرروا التعامل مع هؤلاء الأنذال والمجرمين طبق أقسى العقوبات الجنائية التشريعية آنذاك، مع مراعاة خصوصيات زمن الحرب، لَتمّ عملياً إعدام كل رجال هذه الشعوب رميا بالرصاص". لكن القيادة السوفييتية "الإنسانية" تختار النفي، والذي يعتبره الكاتب أودَع وأليَن بكثير، وأسلوبا من حيث الجوهر بعيدا عن مفهوم الإبادة الجماعية (22). بالنسبة إلى أ. مارتيروسيان، فإن الشعوب المنفية - نَذِلَة ومُجرِمة، ونفيها برأيه، لا يُعتبر إبادة جماعية. و من كونه مستهتراً ومزيّفا للأحداث التاريخية، فهو يُعلن، بأن الشعوب المنفية تكاثرت في المنفى بشكل لا بأس به. ومثل هذا التصرف، يَسمَحُ به لنفسِه، فقط المشترِك المباشر في السُّخرية والاستِهزاء على الشعوب المنفية، أو خَلَفه، الذي يحاول تسويغ شرعيّة ما اقتُرِف من جرائم بحق الشعوب. في غضون ذلك يؤكد قانون روسيا السوفييتية الفيدرالية الاشتراكية "عن إعادة اعتبار الشعوب المنفية"، على أن الشعوب المنفية "تَعَرّضت لإبادة جماعية و حَمَلات من التُّهم الباطلة" (23). وفي الحالتين، فهو يُظهِرُ ليس جهلهُ لحقوقه فحسب، ولكنه أيضا يُمارِسُ تهماً باطلة واضحة، ويُهين المشاعر القومية للشعوب التي نُفِيَت. نرى ضرورة أن يخضَع العمل المذكور أعلاه لِتقويم خُبراء ومتخصصين من أجل تحديد فيما إذا كانت تكتنفه دلائل وسمات تطرف. ومن المهم الإشارة إلى أن الستالينيين الجدد المعاصرين و البيريين الجدد (نسبة إلى بيريا)، السائرين في ركاب التفكير و"الحُجج" المتقادم، يرفضون وبشكل كامل قوانين دولة روسيا الاتحادية، والتي اشتملت على تقييم موضوعيّ وأخلاقيّ - إنسانيّ في موضوع النفي، الذي طال ملايين الناس وشعوبا بأكملها. لا توجد حتى الآن إجابات دقيقة على أسئلة كثيرة، تخصّ مقدّمات النفي وأسبابه وعودة الشيشانيين إلى الوطن. وللأسف الشديد لا توجد إجابات عليها حتى في مجلّد "تاريخ الشيشان منذ الأزمنة الغابرة حتى اليوم"، والصادر عام 2008م. وفي غضون ذلك، كان ينبغي أن يتناول الكتاب شرحا متينا عن مرحلة معقدة ومتناقضة، السابقة للنفي، ونشاطات أجهزة السلطة الموجهة نحو تحقيق خطط الاقتصاد الوطني، والحفاظ على الاستقرار السياسي، والمقاومة الفعّلة للعناصر الإجرامية؛ وعن مسائل إعادة تشكيل جمهورية الشيشان- إنجوش السوفييتية الاشتراكية ذاتية الحكم، والمعارضة التي وقفت ضد ذلك، إضافة إلى أحداث سنوات 1958-1959. ومن الطريف أنْ نسمع تصريح م. ن. بولتورانين، الرفيق المقرّب لـ بوريس نيكولاييفيتش يلتسين، عن مِزاج نخبة السلطة الحاكمة تجاه عودة الشيشان والإنجوش إلى وطنهم، حين قال: "الوايناخيّون- عبارة عن ثلم متأصل أمام دفاعات البلاد من الناحية الاستراتيجية. مما يَعني، ليس لهم الحق في العودة إلى وطنهم، ويجب أن يقام في أراضيهم وإلى الأبد قرى عسكرية للقوزاق، وقرى روسية، وقرى جبلية أوارية. مما سيشكل ركيزة أمينة للدولة في شمال القوقاز. ونفس شمال القوقاز سيتوقف من أن يكون شوكة عميقة ومؤثّرة في مؤخرة (قفا) البلاد- لا راحة في الجلوس، ولا في الوقوف بدون الشعور بألم حادّ" (24). إن م. ن. بولتورانين في صياغته هذه لا يؤكد سوى تلك التقييمات السلبية، التي شاعت حول الشعب الشيشاني في محيط يلتسين، والتي كانت سببا في بث الاستفزازات وإشعال النزاع العسكري في بلاد الشيشان في تسعينيات القرن العشرين. علاوة على ذلك، يقوم م. ن. بولتورانين في تصريحاته المقتَبَسة، بخلط الحوادث الحقيقية للحقبة الستالينية مع الانفعالات السّقيمة في ما يتعلق بالمكانة اللينة والحليمة للبلاد. يبدو بأنها الناحية الجوهرية لعقيدة هذا السيد ولفلسفة الحياة ونمطها عنده. لِزامٌ على الباحث أن يفصل البذور عن الشوائب. ولا شك بأنه لو بقي ستالين على قيد الحياة، لما تم إعادة الشيشان إلى الوطن. أما فيما يتعلق بأراضيهم، فكما هو معلوم، لَسَكَنها آخرون. إن ادّعاء الموظّف، الذي خان معبوده وصديقه- "القيصر بوريس" بـ "ثلم متأصل أمام دفاعات البلاد من الناحية الاستراتيجية" - موضوع ملفّق كاذب. استطاع علماء الجمهورية نقد المجلّد رقم 58 من الموسوعة الروسية، الصادرة عن دار النشر "تيرّا". والتقوييم الاختباري من قبل المتخصصين في غروزني وموسكو مكّن عن طريق القضاء، الاعتراف بكون هذا الإصدار متطرفا، ومصادرة نسخه من الأسواق والمكتبات، ومنع استخدامه مستقبلاً. ويدعم هذا المجلّد عملية نفي الشيشان ويضع لها أعذاراً. علاوة على ذلك، يكاد ينظر إلى حقيقة إعادة تشكيل جمهورية الشيشان السوفييتية الاشتراكية ذاتية الحكم كخطأ صدر عن السُّلطات، كما ويُقرّ بأن الشيشان أثناء عودتهم إلى وطنهم التاريخي لاحقوا الروس، واستولوا على مساكنهم. ومن الصعب حتى تصوّر هبوط شخص سليم العقل إلى هذا المستوى من الجهل والكذب، ويحاول جاهدا نسج الافتراءات عن الشعب الشيشاني. و تنتشر اليوم بأعداد هائلة كتب ومؤلفات أدبية واجتماعية و"علمية" عن الشيشانوفوبيا، والتي تقوم بتزوير عَلَني لماضي الشعب وحاضره. كما وتوجد مصادر إنترنت، تقوم ببث مواقف سلبية تجاه بعض القوميات، ومن ضمنها الشيشانية. ويمكن تقويم هذا الوضع كأنشطة إعلامية معادية ذات نَزَعات مشبوهة، لِعرقلة الوئام والوفاق بين أقوام وشعوب روسيا الاتحادية. هناك أيضا مقالات تستدرك العقاب القضائي على الافتراءات والتهم الباطلة، والكسينوفوبيا (الخوف من الآخر وعدم تقبل ما يؤمن أو يفكربه- المترجم)، وإشعال روح العداوة والشقاق بين القوميات، والاستهزاء والسخرية على الأحاسيس والمشاعر الدينية، والتي تدعو إلى فرض الحظر على الاصدارات المتطرفة. والسلطات تتخذ تدابير عملية موجّهة لقطع الطريق أمام هذه الظواهر، والتي من شأنها أن تفاقم حدة التوتر بين القوميات. غير أنّ المشاكل موجودة. وعلوم التاريخ مدعوٌّة لتلعب دورا ملموسا في وضع الحلول لها، والتي بالنسبة إليها تعتبر الحقائق التاريخية مقاييس ومعايير أساسية. في عام 2011م، نُشِر عمل رصين، استُخدِمت فيه وثائق أرشيفية كثيرة جداً، بعنوان "الوايناخيون وامبراطورية السلطة: مشكلة الشيشان والإنجوش في السياسة الداخلية لروسيا والاتحاد السوفييتي (بداية القرن التاسع عشر- أواسط القرن العشرين)". وجاء في هذا العمل شرح جديد للنفي: "قرار نفي الشيشان والإنجوش، هو، قرار استفزازيّ، مثَبّتٌ بظروف محدَّدة بالمكان والزمان. كان عبارة عن محاولة مُستَعجلة للتغلب على مشكلة قائمة بفترة طويلة ليس فقط ما قبل الحرب العالمية الثانية، وإنما قبل مجئ البلاشفة إلى السلطة: إن الصمود الداخلي الفائق لهذا الشعب، و"صورته غير المريحة"، وقدرته ليس فقط على مجابهة الانصهار الامبراطوري و "امتصاصه له"، بل وأيضا على الأتوميزاتسيا atomization (تفتيت النسيج الاجتماعي بالكامل- المترجم) السوفييتية للمجتمعات الإثنية؛ المستوى العالي للمجابهة العلنية وجاهزيتهم للاندفاع نحو توتير النزاع" (25). وكُاتبا الفقرة المقتبسة ف. أ. كَزلوف و م. إ. كَزلوفا، مُظهرَين هذا الوضع من التجهيزات (التقييم) المستندة إلى رأي هادف، يصفان المغزى المعادي للشعوب للنظام الاستبدادي، الذي نَكّلَ بشعوب بأكملها، كانت تُعتبر جزءا لا يتجزأ من الشعب المسمَّى السوفييتي حسب الوَحدة التاريخية الحديثة. إن دراسة مسائل النفي وإعادة الاعتبار للشعوب المنفية لم تنته بعد. وواضح بأن أول شيء يجب القيام به هو توسيع قاعدة المصادر (الأرشيفية- الوثائقية)، وتحليلها بشكل عميق وشامل. الذكرى الجماعية للنفي النفي، العنف، مخافة القوانين (طغيان) تترك وراءها أثراً لا يُمحَى من الذاكرة التاريخية لأي شعب. وهي تخلق الغضب، الذي يمتد لأمد بعيد، ويشكل مفهوما سلبيا في العلاقات بين القوميات، والسياسة القومية للدولة. وحكيم هو، ذلك الذي يتعامل بإنسانية مع أوجاع وآلام الشعوب المنفية ومصائرها. ويُبدي لهذا الأمر ممثلو النخبة القومية، والباحثون الذين ينتمون إلى الشعوب المنفية اهتماما في مختلف الندوات العلمية- التطبيقية، التي تعقد على المستويين الإقليمي والاتحادي. وهذا تم التأكيد عليه في المؤتمر العلمي - التطبيقي الدولي، المنعقد في خريف عام 2013 في مدينة إليستا، المكرّس لدراسة المسائل المتعلقة بالنفي وإعادة اعتبار الشعوب المنفية، وذلك بمناسبة مرور 70 عاما على نفي شعب الكالميك وإلغاء إقليمهم القومي الذاتي. أشار روسلان فيروف، نائب رئيس حكومة جمهورية قباردينو- بلقاريا في الاجتماع التأبيني في ذكرى مرور 70 عاما على نفي الشعب البلقاري، والذي انعقد في الثامن من شهر آذار/ مارس عام 2014م، أشار إلى أن ذكرى الصفحات المأساوية لتاريخ نفي الشعب البلقاري "جمعت صفوف جميع مواطني الجمهورية مدركين بأن هذا الأمر يجب ألا يتكرر أبدا" (26). أما القائم بأعمال رئاسة جمهورية قباردينو- بلقاريا، يوري كوكوف، والذي خطب أيضا في ذلك الاجتماع، أكّد أن "قبل 70 عاما ارتُكِب خطأ كبير- بناءً على قرار جنائي لحكومة ذلك الوقت تم نفي الشعب البقاري" (27). إن التعاطف مع الشعوب المنفية، ومعالجة المشاكل المنبثقة عن النفي على مستوى الدولة- شرط أساسي لتذليل سلبيات ما طُبع بالرَّشَم، وضمان التقارب والوفاق ما بين القوميات، وخلق الثقة في مستقبل لن تتكرر فيه مثل هذه الفواجع والمآسي. --------------------------------------------------------------------- الخاتمة دراسة المسائل المتعلقة بنفي الشعوب، وكذلك إعادة اعتبارها لم تُستَكمَل بعد. ولا بد من تنشيط أعمال العلماء، واستخدام أساليب حديثة، ووضع حلول لمسائل عملية محدَّدة، تهدف إلى حماية الشعوب في المستقبل من مآسي مشابهة. يجب معرفة كل الحقيقة عن نفي الشعوب، وتفهّم ما يتمخض عنها من عواقب. من المهم توحيد جهود أجهزة السلطة، الإقليمية والاتحادية، والمنظمات الاجتماعية، والعلماء، من أجل الوصول إلى تقارب راسخ، وتعزيز الوحدة، وتطوير العلاقات المتسامحة بين شعوب وديانات وثقافات روسيا الاتحادية. ومن الضروري تعميق الأسس المدنية والديمقراطية للعلاقات ما بين القوميات، والمهمة لدرجة كبيرة لوحدة وتقارب عامة الشعوب. ويجب الاعتراف، بأن اليوم في جمهورية الشيشان، وفي شمال القوقاز، وفي البلاد كلها تجري تغيرات اجتماعية- اقتصادية، روحية - ثقافية إيجابية، تُوطّدُ قواعد لنمو وازدهار ناجحين مابين قوميات وثقافات شعوب روسيا الاتحادية. نعتقد بأن مثل هذا التطور كان سيسير بخطى أنجح، لو أن الدولة والمجتمع قاموا بتلاحمهم معا بتحقيق ما يلي: 1) إدانة شديدة للتصاريح (على أي مستوى كان) القادرة على زيادة حدة التوتر والاستفزاز وبث الفرقة بين القوميات، وتقويض وحدة شعوب روسيا الاتحادية. 2) دراسة عميقة وموضوعية لـما يسمى بالبقع البيضاء للتاريخ، ومن ضمنها كذلك الأوجه الإقليمية. 3) المراقبة الدورية لما يتم نشره ويلقي الضوء على ما يخص القوميات. 4) إجراءات مخصوصة على المستويين الاتحادي والمحلي تتناول الدعم المادي والمعنوي الموجه للشعوب المنفية. 5) إنشاء مجمع تذكاري في مركز كل عاصمة من عواصم الجمهوريات التي تم نفي شعوبها. ---------------------------------------------------------------------------------------------------------------- * المصدر: القوقاز والعالمية معهد الدراسات الاستراتيجية للقوقاز القوقاز والعالمية مجلة الدراسات الاجتماعية- السياسية والاقتصادية الجزء الثامن الإصدار 1-2 2014 CA&CC Pres نفي الشعب الشيشاني المؤلفون: واخيت أكاييف دكتوراه عليا في العلوم الفلسفية، أستاذ، رئيس باحثي مجمّع معهد البحوث العلمية، المسمّى باسم خ. إ. إبراهيموف، والتابع لأكاديمية العلوم الروسية (غروزني- روسيا) عبدالله بوغاييف دكتوراه في فلسفة العلوم التاريخية، أستاذ مساعد، رئيس قسم الدراسات الإنسانية في مجمّع معهد البحوث العلمية، المسمّى باسم خ. إ. إبراهيموف، والتابع لأكاديمية العلوم الروسية (غروزني- روسيا) مجاميد دادُوييف دكتوراه في فلسفة العلوم السياسية، كبير باحثي مجمّع معهد البحوث العلمية، المسمّى باسم خ. إ. إبراهيموف، والتابع لأكاديمية العلوم الروسية (غروزني- روسيا) ДЕПОРТАЦИЯ ЧЕЧЕНСКОГО НАРОДА: ЧТО ЭТО БЫЛО И МОЖНО ЛИ ЭТО ЗАБЫТЬ? (К 70-ЛЕТИЮ ДЕПОРТАЦИИ ЧЕЧЕНСКОГО И ИНГУШСКОГО НАРОДОВ) Вахит АКАЕВ Доктор философских наук, профессор, главный научный сотрудник КНИИ (Комплексного научноисследовательского института) им. Х.И. Ибрагимова Российской академии наук (Грозный, Россия). Абдула БУГАЕВКандидат исторических наук, доцент, заведующий отделом гуманитарных исследований КНИИ им. Х.И. Ибрагимова Российской академии наук (Грозный, Россия). Магомед ДАДУЕВКандидат политических наук, старший научный сотрудник КНИИ им. Х.И. Ибрагимова Российской академии наук (Грозный, Россия). ИНСТИТУТ СТРАТЕГИЧЕСКИХ ИССЛЕДОВАНИЙ КАВКАЗА
КАВКАЗ & ГЛОБАЛИЗАЦИЯ Журнал социальнополитических и экономических исследований Том 8 Выпуск 1–2 2014 CA&CC Pres
#أمين_شمس_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاستسلام غير المشروط: لماذا الغرب لا يمكن أن يغفر للجيش الأ
...
-
في الذكرى المئوية لثورة أكتوبر الاشتراكية والشيشان
-
هل الشيشان- إنجوش شعب قديم؟*
-
ما نأمله من -راديو مارشو-...
-
الطقوس الدينية عند الشيشان قديما*
-
الطبيعة والأطفال*
-
رئيسا أحماتوفا/ شاعرة شيشانية
-
لا زالوا يشوهون سمعة الشيشان
-
شمس الدين عبد الرزاق داسي
-
لغة المستقبل (3)- تطورالكمبيوتر وشبكة توارد الأفكار
-
موت اللغة.. ولغة المستقبل (2)
-
لغة المستقبل: الانجليزية أم المندرينيّة (1)
-
أهمية قديروف والنموذج الشيشاني في سياسة روسيا الاقليمية
-
اللغة الشيشانية وتطورها كتابة وأدبا
-
اعتراف الأمريكان بانتصار الروس في سوريا
-
في إحياء الذكرى ال 72 -يوم نفي الشعب الشيشاني-!
-
الشيشان كعنصر فاعل في السياسة العالمية*
-
حول مسألة العلاقات الإثنوجينية (المنشئية) للناخيين مع شعوب آ
...
-
الشيشان – تاريخ قديم ومعاصر
-
من مفتي.. إلى رجل سياسة.. إلى قائد دولة
المزيد.....
-
وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
-
مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
-
-تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3
...
-
ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
-
السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|