أمير أمين
الحوار المتمدن-العدد: 5780 - 2018 / 2 / 7 - 15:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إنها فعلاً إسم على مسمى , فهي جميلة بشكلها , جميلة برقتها وطيبتها وصفاء عينيها العسليتين , جميلة بتعلقها بحزبها ورفاقها , جميلة بطيب معشرها كأخت ورفيقة , جميلة بأخلاقها وتربيتها , جميلة بأفكارها وشجاعتها في تجسيد تلك الأفكار بشكل خلاّق على الواقع ..إنها بوعي وإدراك عالي إختارت أرقى أشكال النضال وهو الكفاح المسلح وحملت سلاح الحزب وجابت الوديان وتسلقت الجبال في ظروف غاية بالقساوة من أجل مباديء حزبها المقدام , ثم إنتقلت من كردستان الى العاصمة بغداد لمواصلة العمل السري مع رفيقاتها ورفاقها الأبطال في ظروف البطش الذي يقوم به النظام المقبور وبحثه عن خلايا الحزب السرية في كل مكان وإستهداف خيوط التنظيم من أجل قطعها وشل حركة الحزب وتفتيت صلاته مع أبناء الشعب وخاصة الكادحين ..تربت النصيرة فاتن وهذا هو إسمها في حركة الأنصار وإسمها الحقيقي جميلة محمد شلاّل في عائلة شيوعية مقدامة , فكان والدها محمد شلاّل تدريسي وشيوعي من الطراز الأول حيث أنه لاقى من التعذيب والسجون الكثير ومنها سجن نقرة السلمان الرهيب ومات في الغربة بعيداً عن وطنه الذي نذر كل حياته في سبيله ودفن في الشام وترك إرثاً ثرّاً من عائلة ثورية وطنية شيوعية واصلت طريقها الصعب والشاق لتحقيق ما زرعه فيها هذا الأب الطيب من خصال حميدة بالإضافة الى تأثيره على زوجته الفقيدة الشيوعية طيبة الذكر أم إبراهيم التي لاقت من التعذيب والسجون الكثير وخاصة مع بناتها وإبنها إبراهيم وعدد من أفراد أسرتها الرائعة وكانت قوية ومتماسكة رغم شدة البطش الذي وجه اليها والى أفراد أسرتها من الجلاّدين المارقين ..في خريف عام 1979 وبعد أن علمت بوصول أخواتي موناليزا وكوثر الى بيروت , تفاهمت مع مسؤولي حينذاك الأخ أبو أمل بأن أسافر لغرض رؤيتهم ,, وصلت الى بيروت الغربية وفي منطقة الفاكهاني التقيت بهن وبقيت معهن بحدود ثلاثة أيام وهناك تعرفت على الشهيدة الرائعة وصال أم رغد فصرنا أنا وهي وأخواتي أكثر من أصدقاء وكنّا نسهر ونحتسي أكواب الشاي ونضحك كثيراً على بعض الأمور على الرغم من شدة الآلام التي نقوم بتذكرها في وطننا المبتلى بالمجرمين وكانت الشهيدة وصال تدخن كثيراً وكنت انصحها بالتقليل منه أو تركه فلم تأخذ القضية على محمل الجد ونضحك كثيراً على ذلك أنا وهي ولم ألتقيها للأسف بعد سفري الى كردستان ولم أعلم عنها شيء سوى أنني حزنت على خبر مصرعها وطريقة استشهادها ...أما النصيرة جميلة أم زينب فقد كانت معي في مفرزة قتالية وكانت أعز رفيقة وصديقة لي ..نجلس كثيراً ونتكلم أنا وهي عن عوائلنا الشيوعية ومصيرها وعن شعبنا العراقي حتى أنها بكت في إحدى المرات حينما تذكرت عدد من أفراد عائلتها واشتياقها لهم لكنها كانت قوية وباسلة وتملك من الوعي السياسي بشكل يفوق عمرها تلك الفترة..أتذكر مرة إشتركت معي في عملية يقوم فيها رفاقنا بالدخول لقضاء الشيخان ووزعت المهام على الرفاق وكنت معها في مكان واحد كنّا نجلس على صخرة في منتصف الوادي كانت أبرد من الثلج فعلاً ومهمتنا كانت تنحصر بتأمين إنسحاب رفاقنا وقطع الطريق على العدو إن حاول الالتفاف عليهم من الجهة الثانية حينما يتم تنفيذهم للعملية , وكان على مقربة منّا رفيق ثالث بحوالي عشرة أمتار فنراه وإتفقنا معه أن ننسحب سوية حسب ما أخبرنا الرفاق بساعة معينة وقبل شروق الشمس ..كانت البرودة لا تطاق ونحن في عز الشتاء وتجمدنا من جلوسنا عند هذه الصخرة فكنّا أنا والشهيدة فاتن نضحك من شدة الألم وعدم سماعنا أي صوت لإطلاق النار من أحد بينما كانت أصابعنا على الزناد وتمضي الساعات علينا ثقيلة جداً ولا توجد نتائج وكنّا نقوم من فوق الصخرة ونفرك أجسامنا بأيدينا عسى أن يخفف ذلك من شدة البرد لكن دون جدوى ومضت الساعة التي إتفقنا عليها ولم يأتي نحونا أي رفيق من الذين ذهبوا لتنفيذ المهمة فقررنا الانسحاب والبحث عنهم ..! وكانت الشمس قد بدأت بالشروق ومن خلالها ومن خلال السير صرنا نشعر قليلاً بالدفء , ثم ويا للمفاجئة فقد عثرنا على رفاقنا نيام في أوضاع مختلفة منتشرين في عدة أماكن تخفيهم عدد من الصخور والشجيرات ولا يوجد بينهم حرس ! وحينما عاتبناهم عن عدم المرور بنا وتنبيهنا وسحبنا معهم حسبما كان متفق عليه ..صاروا يقدمون الاعذار التي ضحكنا عليها وكانت الشهيدة فاتن تريد التأكد مني بالقول ..هل ان هذه العملية تحسب أننا إشتركنا بها أم انها بلا فائدة وذهبت جهودنا أدراج الرياح !! كنت أضحك وأقول لها ..خليها على الحزب ..!! في ليلة رأس السنة عام 1981 على 82 إحتفلت سريتنا في إحدى قرى برواوي بالا في بهدينان وكنّا نرقص ونغني وكانت الشهيدة فاتن تضحك فقط وتساهم بالتصفيق لكنها طلبت مني الرقص مع الجموع ولخاطرها لبيت الطلب وشكرتني على ذلك بالوقت الذي كنت فيه خجول منهم جميعاً لكن المشاركة الجماعية خففت ذلك وفي يوم 19 شباط عام 1982 وحينها كنّا في قرية سينا اليزيدية وحدثت معركة بيننا وبين الجنود وإستشهد فيها لنا النصيرين البطلين حكمت وعايد كانت الشهيدة فاتن قوية ومتماسكة ولم ترتعب من هول مفاجئة العدو لنا لكنها حزنت عند الصباح على إستشهاد رفاقنا وطلبت مني المنظار لكي تراهم من بعيد وكانوا يسحبون جثث قتلاهم ومعهم رفاقنا الشهداء فشعرت أنها تريد أن تبكي عليهم لكنها تماسكت بقوة وصارت تتذكرهم بالأمس..حكاياتهم ..بطولاتهم.. شبابهم وغيرها ..وكان آخر لقاء لي مع الشهيدة فاتن هو في أسبوع تأسيس حزبنا والاحتفالات بمقر قاطع أربيل في آذار عام 1983 ولي معها صورة كنّا نقف على جانب من الحفل لكن الصورة لو تم تكبيرها أربعة مرات لتوضحت معالمنا بشكل أكبر ..كانت حينها فرحة جداً .. وقلت لها ها..أكو شي..وقصدت من ذلك نزولها لداخل الوطن..فقالت بعد وقت..لكني سأكون هناك ..فطلبت منها أن تحتفظ بهذا الشيء كسر لنفسها فقط وأكدت هي على ذلك وأشارت الى أنك ربما عرفت من غيري عن توجهي القادم..فقلت لها نعم ..ولم أرها بعد ذلك خصوصاً بعد المعارك في أربيل مع مسلحي أوك وانسحابنا الى الحدود العراقية الإيرانية ومكوثنا المؤقت في قرية سيلوة...كانت فاتن صديقة أغلب الرفاق في المفرزة القتالية , تتحدث بثقة عالية بالنفس وكثيراً ما تضحك وخاصة عندما تدخن وتكون بوضع نفسي جيد فينظر اليها من بعيد الشهيد ناهل ويقترب منها بهدوء وبحمرة الخجل يناديها بكلمة ..فتونة ..تبتسم مدركة مقصده فتقول له ..إصبر شوية وتضحك ثم تخرج علبة سكائرها وتناوله واحدة ..فيشكرها بعد أن يولعها من سيكارتها وينصرف من حيث أتى .لقد خسر حزبنا الشيوعي العراقي بشكل جسيم بإستشهاد جميلة ووصال وبقية أفراد أسرتها الطيبين أناس بمنتهى الروعة.. أنهن باقيات وسيظلن في نفوس وضمائر كل الشرفاء من بنات وأبناء شعبنا الابرار ..وهنا أشير الى شهادات كتبت بحق العائلة وأفرادها المضحين في سبيل حزبهم الشيوعي ومبادئهم العظيمة ومنهم القاضي منير حداد حينما كتب ضمن سلسلة حلقات تحت عنوان ..دماء لن تجف وفي الحلقة رقم 36 ذكر عن الشهيدتين الخالدتين جميلة ووصال , فكتب عن الشهيدة جميلة ..تقدمت مرفوعة الرأس ..شامخة نحو غرفة الإعدام موصية برعاية طفلتها بعد موتها وهي وصية كانت بنبرات تدمي القلوب وتثير الحقد على المجرمين القتلة , هاتفةً .. عاش الشعب العراقي , عاش الحزب الشيوعي ..الموت للمجرمين الطغات ..ثم يواصل القاضي منير قوله ..بقيت السجينات بين البكاء والألم والحماسة والهتاف بحياة الحزب ..وبعدها توجهت أختها الرفيقة وصال محمد شلاّل وهي تمشط شعرها وتعدل في ثيابها المدماة وتقول ..هذا هو يوم زفافي ..هذا هو يوم العرس الذي كنت أتمناه لموتي المشرف , ومع الرهبة والشد والحماس والألم في التوجه نحو المصير .. قالت للسجينات وكأنما تحاول تهدئتهن وتهون الأمر عليهن وتمنحهن دفعة من الصمود ..فلنعشها بكرامة ونموت بشرف ..ثم يقول أن الشهيدة وصال قالت ..كل ما أريده منكم هو أن تزغردوا وكأنني ذاهبة نحو الزفاف .. قالت هذه الجملة وكأختها جميلة خرجت وصال منتشية ورافعة الرأس وتهتف ..عاش الحزب الشيوعي العراقي وعاش الشعب ..ولكن أي من السجينات لم يكن يستطعن وسط هذا الحزن أن يزغرد ..! وعن الشهيدتين ووالدتهن الشيوعية المقدامة شكرية محمود أم إبراهيم تذكر الرفيقة ماجدة الجبوري فتقول عن أم إبراهيم...التقيتها في سجن الرشاد ..كنّا محكومين بالسجن المؤبد ..عشنا سنوات وراء القضبان وتشاركنا الهموم والمعانات والظلم معاً , وحملنا قصص لا زالت تثقل كاهلي ..وتواصل ماجدة القول ..صورة هذه المرأة الشجاعة ماثلة أمامي , يوم إقتادوا بناتها , جميلة أم زينب ووصال أم رغد من سجن الرشاد الى ساحة الإعدام في سجن أبي غريب ومن هناك إقتادوا إبنها إبراهيم وزوج إبنتها وإبن إختها , خمسة من عائلة تم تنفيذ حكم الإعدام بهم جميعاً ..وتواصل السيدة ماجدة شهادتها بالقول ..كان يوم اربعاء من عام 1986 صباحاً حينما نادوا بأسمائهن , والكل يعرف أن يومي الأحد والأربعاء خاصة بالاعدام ..أم إبراهيم كانت صرختها مدويّة وهي الأم , أحتضنت بناتها , أمسكت بأيديهن بقوة لعلها كانت تريد أن تخبئهن في حضنها , أن تبعدهم عن الموت , لكن الايدي القاسية الملوثة بالدماء كانت أقوى , أبكت الجميع , إنه يوم لا ينسى أبداً ..وعن الشهيدة وصال تذكر الرفيقة العزيزة ماجدة الجبوري ما يلي ..وصال وقفت أمام جميع السجينات والجلاّدين وهتفت بأعلى صوتها ..يسقط صدام حسين ..تسقط الديكتاتورية , ويحيى الحزب الشيوعي العراقي , كان آخر مشهد هو ضربها بأخمص البندقية على رأسها , وغابتا عن الانظار الى الموت ..ثم أشارت ماجدة أخيرا الى أن الشهيدة فاتن قالت..خليهم لا ينسونا ..! وتقصد هنا الحزب وكافة الوطنيين الشرفاء ..!وفي حوار أجرته أحلام رهك مع الرفيقة الخالدة أم إبراهيم قبل وفاتها عام 2014 وسألتها ..كيف إستطاع رجال الامن القاء القبض عليكم..؟ فأجابت بالآتي ..بالرغم من الحذر بالعمل لكن عيون الأمن كانت تراقب بناتي فجاء إتصال هاتفي لإبنتي جميلة بأن أب الطفلة يريد أن يراها وكانت تبلغ من العمر أشهر فذهبت مسرعة بإبنتها الى المكان المتفق عليه فوجدت سيارة الأمن تنتظرها فألقوا القبض عليها ..ثم تتحدث هنا عن اعتقالها وتعذيبها من قبل أمن صدّام وحول إبنتها بشرى ..تقوم..أخذوا إبنتي بشرى التي كانت في ريعان شبابها الى مستشفى الامراض العقلية وهي في كامل قواها العقلية ولحد الآن لا نعرف مصيرها ..! وبعد السقوط مباشرة ذهبت بسرعة الى مستشفى الشماعية فلم أعثر على أي دليل لوجودها هناك..! وفي سؤال من قبل المحاورة أحلام ..بعد الاعتقال هل حولوكم الى المحكمة ؟ تجيب الوالدة أم إبراهيم بالقول ..نعم حولونا الى محكمة الثورة وحكم علينا المجرم عواد البندر بأحكام مختلفة فوضعوا النساء في قفص والرجال في قفص آخر , فقد حكم عليّ وعلى بناتي وفاء وإنتصار بالحكم المؤبد والبقية حكم عليهم بالاعدام شنقاً حتى الموت ..ملاحظة ..الشهيدة جميلة محمد شلاّل كانت إبنتها زينب مسجونة معها الى يوم إعدامها وقد ولدت في بغداد يوم 12 كانون الثاني عام 1985 وكانت الشهيدة متزوجة من النصير علي سيد راضي الموسوي أبو عمار , أما الشهيدة وصال فقد تركت إبنتها رغد في الحلّة عند أختها نجاح فلم تعتقل معها وكانت متزوجة من السيد علي جاسم السمّاك ..وقد صدر الحكم عليهم جميعاً يوم 26 شباط عام 1986 ونفذ لاحقاً بالشهداء جميلة ووصال وأخيهم إبراهيم وعادل حمود جبر أبو سلام زوج أختهم وفاء أم سلام وأيضاً بإبن أخت والدتهم أم إبراهيم ....أشير أيضاً الى أن مازن أخ الشهيدات جرى سجنه لمدة ثمانية شهور وتم تعذيبه بقسوة أيضاً ثم أفرجوا عنه ورموه أمام بيتهم وكان فاقد الوعي من شدة التعذيب .. وفي الختام أقول ..الا تستحق هذه العائلة ان ينحني لمآثرها كل شرفاء شعبنا إجلالاً لما قدمته لنا من كواكب تضيء لنا الدرب ..إنهم بحق خيرة بنات وأبناء هذا الشعب ..إنهم خير مثل يحتذى به في البسالة والتحدي والصمود ..المجد لشهداء العائلة البطلة جميعاً ..المجد للمربي الفقيد الاستاذ محمد شلاّل حبيب الصفّار والمجد لزوجته أم الشهداء البطلة شكرية محمود أم إبراهيم...أتعلم أم أنت لا تعلم بأن جراح الضحايا فم.. .
#أمير_أمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟