تمعَّنْتُ فيهم واحداً .. واحداً.. أطفالاً وشباباًوشيوخاً، وأمَّا النساء فما كنتُ أستطيعُ الإمعانَ فيهنَّ لأنَّهنَّ تحوَّلنَ إلى كتلةٍ من الأنين.
توغَّلَ ألمُ الفراق في مسامات جلدي .. هذا القلم المتواضع لا يستطيع أن يعبِّرَ عمَّا كان يراودني يومَ الوداع. صوَرُ الأحبّة وهم يودِّعونني لا أستطيعُ أن أنساها أبداً .. مشهدُ والديَّ العجوزين وأنا أودِّعما، مشهدٌ له علاقة بأبجديات الموت قبل الأوان.. آنذاك شعرتُ أنَّ حافّات روحي تحترق بنارٍ ملتهبة .. تتصاعدُ ألسنتها من مسامات قلبي .. هذا القلب الّذي تبرعمَت فيه خلاصة مرارات الحياة.
لا أصدِّقُ نفسي أبداً أنَّني مررْتُ بتلكَ اللحظات الرهيبة .. عبرْتُ ضباباً كثيفاً ثمَّ رحَّبَ بي سرابٌ بلا نهاية .. وتلوَّنَتْ مشاعري بألوانٍ بنفسجيّة مضمَّخة، بعبير الشوق. السراديب المظلمة ابتلعتني ولم أعُدْ أميِّزُ أبجديات السراب الَّذي كنتُ أسبحُ فيه بدون مجاذيف .. والرياح العاتية لطمَتْ خدَّيَّ الحزينَين، فبكَتْ عصافيرُ الدوري من جنون العاصفة!
عبَرْتُ البحار .. وأكلني الشوق إلى أزقَّتي الضيِّقة. شجرةُ التوت الكبيرة تنهضُ أمامي وأراها ـ رغم المسافات ـ تنحني معلنةً الحداد، فتغضبُ ( دجلتي ) مرتِّلةً ترتيلةَ الرحيل.. الدهاليز المعتمة الطويلة عصرَت رحيقي وقمَّطتني الغربة ثوبَ الحِداد .. ويجنُّ جنوني إلى نجمةِ الصباح .. وكم أتذكَّرُ السهرات الممتعة التي كنتُ أقضيها معَ أحبّائي على ضوءِ النجوم وهواء بلدتي العليل كان يبلسم جراحاتنا!
مشاهدُ الوداع تتراقصُ أمامي الآن وأنا محاصرٌ وسط أخطبوط الغربة. أتذكَّرُ اللحظة الّتي رجوتُ أمِّي وطلبْتُ منها أن تسامحني قُبيلَ وداعي الأخير. اقترَبَتُ منها بقلبٍ مدمى قائلاً:
أرجوكِ يا أمَّاه ( اغفري ) لي وسامحيني .. وادعَي لي بالتوفيق .. ها أنذا راحلٌ خلفَ البحار. كانت أمّي غائصة بأحزانِ الدنيا. ما كانت تستطيع أن تحرِّكَ شفتيها .. كان وجهها شاحباً للغاية .. فجأةً ارتجفَتْ شفتاها بسرعةٍ قصيرة ثمَّ توقَّفتا عن الحركة. كان الازرقاق بادياً على سيماءِ وجهها وشفتيها. اقتربتُ منها واحتضنتها .. أحْبَبْتُ آنذاك أن أُدْخِلَها في قلبي وروحي وأتركها هناك معلَّقة بين ثنايا الروح والقلب إلى الأبد. قبَّلْتُ يديها المعروقتَين وعيناي زائغتان تهطلان بغزارةٍ واضحة. حاوَلَتْ أمِّي أن تقبِّلني لكنَّها لم تستَطِعْ أن تفتحَ فاها. تجمَّدَ الدم في شفتيها وتحوَّلَ جسدها إلى ( كتلةٍ يابسة ) وجفَّ ريقها. آنذاك شعرْتُ بضآلة حجمي، وبضآلة الأهداف المرسومة في ذهني أمام الموقف الّذي أنا فيه!
كانت رغبتي الوحيدة في تلك اللحظة أن تقبِّلَني وتعانقني عناقاً طويلاً بكلّ أمومتها الحانية .. (ثلاثة أرباع ) دمها كان متجمِّداً في جسدها الّذي كان ينوء تحتَ خريف السنين. عيناها جاحظتان تحدِّقان في لا شيء. كانت تشربُ مرارة الوداع بشراهة.
وفيما كانت تسبح مع عذابات الفراق أوشكَتْ أن تسقطَ على الأرض لولا أنَّ أخي وأختي تلقفاها على الفور ..!
موعدُ الانطلاق وتوديع أزقَّتي قد حان .. وأمّي لم تقبّلني بعد .. وضَعْتُ خدّي على شفتيها اليابستين وقلتُ لها: أمّاه أرجوكِ أن تقبِّليني قبلة الوداع الأخيرة. كانت تمعنُ النظر إليَّ ولم تنطق بكلمة. ما كانت تصدِّق أن فلذة كبدها سيودّعها ( إلى الأبد ) بهذه البساطة. كانت تبكي بكاءً مرّاً. الألم الّذي توغَّلَ في شراييني، في تلكَ اللحظات، تعجزُ كلّ اللغات عن الإفصاح عنه. توسَّلْتُ لآلهةِ الحبّ والرحمة أن تبعثَ الحياة والحركة في شفتيها .. ووضعتُ راحة يدي على ثغرها اليابس. فجأةً ارتعشَتْ شفتاها، فقلْتُ لها: أرجوكِ قبِّليني يا أمَّاه! .. وبصعوبة بالغة استطاعَتْ أن تقبِّلَني قبلة يتيمة واحدة!
الجميع من حولي يغلِّفهم البكاء والصراخ. أحد المارّة نظر إلينا مشدوهاً .. تصوَّرَ أنَّ ( كارثةً ) ما قد وقَعَتْ .. تمتمَ قليلاً ثمَّ تابعَ متعثِّراً في خطاه.
عبَرْتُ مطبخي المتواضع. شعور عميق بالألم كان يهيمن عليّ. عيناي حمراوان وحزينتان. استقبلتني المرآة بعد أن غسلتُ وجهي البائس.. لم أعرف نفسي .. كان وجهي شاحباً للغاية إلى درجة ما كنتُ أصدِّق أن ما أراه في المرآة هو وجهي. كانت عيناي تلخِّصان مرارة الفراق وتهطلان دون استئذان الغيوم. ارتجفَت يداي وازداد قلبي خفقاناً وكأنَّ وحشاً مفترساً كان يطاردني. غسلتُ وجهي ثانيةً .. تذكَّرتُ أحبّائي الّذين كانوا يرتادونَ بيتي. تلمَّستُ برّادي ثمَّ فتحته وشربتُ قليلاً من الماء. تألَّمْتُ جدّاً عندما وقع بصري على أدوية قديمة لأمّي .. وبجانب الأدوية كان يوجد قليل من اللبن وثلاث بيضات. إحداها كانت مكسورة من خاصرتها .. ولكنّي وضعتها بهدوء في الزاوية العليا من البرّاد. أحد المودّعين كان يراقبني دونما قصد منه .. تقدَّمَ نحوي ثمَّ حضنني بكل عفويَّته .. هطلَتْ عيناي دموعاً غير مرئيّة .. كانت تخرُّ نحو القلب مباشرةً وتصبُّ أخيراً عندَ شواطئِ الروح!
الآن! .. من خلفِ البحار، أتذكَّرُ العناقات الطويلة، أتذكَّرُ كيف عبرتُ غرفةَ والديَّ، أبحثُ عن منديل. كان والدي الّذي خلّفَ وراءه أكثر من ثمانية عقود من الزمن، يصرخُ ويبكي كالأطفال. تقدَّمتُ نحوه وحضنته بحنانٍ عميق، فازدادَ صراخاً وأنيناً .. قلتُ له لماذا كلّ هذا البكاء؟
أجابني: سأموتُ ولن أراهُ مرَّةً أخرى!.. ( قُشَعْريرة حارقة توغَّلَتْ في ظلالِ الروح ) .. ثمَّ قلتُ له: بلى ستراه.
أجابني باصرار: لا .. سوف أموتُ ولن أراهُ مرَّةً ثانية.
فقلتُ له: ها أنذا بين يديك.
فقالَ: ما شأني بكَ طالما ودَّعني ولدي وأنا في خريف العمرِ الأخير .. تركني هنا أجترُّ همومي وجهي بوجه الحائط!
شعَرْتُ أنَّ ناراً ملتهبة تشتعلُ تحتَ أقدامي عندما سمعته يقول: ( تركني هنا أجترُّ همومي وجهي بوجه الحائط! ) .. ثمَّ قلت له بحرقةٍ ابنكَ لم يودِّعْكَ بعد يا أبتاه .. وها أنذا أمامكَ و ..
قاطعني وهو يبكي بمرارة قائلاً: قبل قليل رحلَ ابني الّذي كنتُ ادلِّله.. وكم حملته على كتفي في مواسم الحصاد الأخيرة .. وأدخلته المدارس .. وعندما أصبح شابَّاً قرَّرَ أن يرحلَ بعيداً عنّي .. رحلَ وتركني ميّتاً بين الأحياء!
آهٍ .. آهٍ .. آه! ( استوطنَتْ أحزان العالم في قلبي ) .. ما كان والدي يعرف انّي ابنه. لقد ذبحه ألمَ الفراق وتصوَّرني أحد المودّعين. ما كانَ قادراً على استيعاب تلكَ اللحظات القاسية التي حرقَتْ شيخوخته الباقية. أقسمْتُ له أنّي ابنه فلم يصدِّقْني .. وكان يبكي ويقول ابني راح .. مشى منذ لحظات .. صرختُ بدون وعي وأنا أبكي ( بـا بــــا! ) أَنسيتني فوراً؟! .. وأَيقظَتْ صرختي غيبوبته المنسابة في عالم الألم .. ثمَّ فجأةً حضنني وهو يقهقهُ دونَ أن يكون لديه استعداد لهذه القهقهات المفاجئة .. كانت دموعهُ تنسابُ بغزارة وهو يردِّدُ: أشكرُ الله أنّي رأيتكَ مرّةً أخرى وأنا حي!
المودّعون كانوا ما يزالون ململمينَ حولي. والدتي كانت مرتمية بينَ أحضان أختي وأخي. كانت تظنُّ أنَّ أخي الّذي أخذَ دوري في احتضانها هو أنا! .. اقتربتُ منها ووالدي ما يزال يعانقني ثمَّ حضنتُ والدتي ووالدي سويةً وأصبحتُ في وسطهما تماماً. أحد المودّعين التقطَ صورةً مركّزاً على غزارةِ الدموع. كانت أمّي تضحكُ من شدّةِ الألم .. ووالدي كان يزدادُ صراخاً.
طلبتُ من أحدِ المودِّعينَ أن يقومَ بدوري حفاظاً على استمرارية الاحتضان .. فارتمى أحدهم بين أحضانهما وهما غائصين في بحرٍ من الدموع.
انسللتُ من بينهما بحزنٍ عميق وألقيتُ نظرة وداعيّة عليهما وعلى ساحة الدار .. وودَّعتُ كلَّ الأحبّة الّذين تلملموا حولي واحداً .. واحداً. الطين الأحمر اللزج كان مكتظَّاً حول منـزلي. (شهقتُ شهيقاً عميقاً ) .. وأمعنتُ النظرَ بأكوامِ الطينِ التي رافقتني ثلث قرن من الزمان! .. انحنيتُ متناولاً حفنةً منه ثمَّ وضعتهُ على صدري .. آنذاك وقع بصري على صفٍّ طويل من الأطفال في عمرِ الزهور .. وقفتُ أنظرُ إلى عيونهم البريئة. كانت دموعهم تنهمرُ كالآلئ على خدودهم الحزينة .. وبدأتُ أقبِّلهم .. وأقبِّلهم .. وكانوا ( يحتالونَ ) عليَّ ويصطفّون يالتناوبِ مرّاتٍ ومرَّات .. وعندما استدركتُ اصطفافهم المتناوب، سألتُ أحدهم: أظنُّ قبَّلْتُكَ منذُ قليل، أَليسَ كذلك؟!
نظرَ إليَّ وعيناهُ تلمعانِ براءةً وحزناً ثمَّ قالَ: بلى قبَّلْتَني.
ولماذا اصطفَفْتَ مرّةً أخرى؟
لأنّني ربَّما لا أراكَ بعدَ الآن .. لهذا أريدُ أن تقبِّلَني كثيراً.
نظَرْتُ إلى عينيهِ الحزينتين وشَعَرْتُ أنَّهُ فجَّرَ أحزان العالم في قلبي وشعرتُ أيضاً أنَّ شيئاً ما أكثر مرارةً من العلقمِ بدأَ يخترقُ سماءَ حلقي .. تابعتُ أقبِّلُ الأطفال .. وعندما كنتُ أقبِّلهم، كانت دموعنا تلتقي فوقَ خدودنا مشكِّلةً خطوطاً عديدة تتسارعُ منسابةً نحو أعناقنا .. وأتذكَّرُ جيّداً كيف كانوا ( يهجمونَ ) على يدي اليمنى ويزرعونها قُبَلاً .. آنذاكَ شعرتُ أنَّ رأسي يدور .. ويدور. وبعدها لمْ أشعرْ بالزمن، ابتلعتني غيبوبة خانقة! ...
انطلقَت الحافلة .. أنظار المودّعين كانت مشدودة نحوي .. وعندما غابت الحافلة عن الأنظار، بدأوا يتمتمون ويحدِّقون بحسرةٍ حارقة في الفراغ الّذي خلَّفته الحافلة!
ستوكهولم: تشرين الثاني 1992
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم