أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدين المناصرة - (الشاعر المستقل)... خائفاً ومخيفاً: المنع يُوَلِّدُ سحرَ المنع!!















المزيد.....



(الشاعر المستقل)... خائفاً ومخيفاً: المنع يُوَلِّدُ سحرَ المنع!!


عزالدين المناصرة

الحوار المتمدن-العدد: 5767 - 2018 / 1 / 24 - 11:52
المحور: الادب والفن
    


(الشاعر المستقل)... خائفاً ومخيفاً:
المنع يُوَلِّدُ سحرَ المنع!!
(ليس معقولاً أن تقتلني، ثم تدّعي كذباً أنني قتلتُ نفسي )!!
(شهادة )

• عز الدين المناصرة
القصيدة – كتلة لغوية مجازيَّة تقع في مساحة من الصفاء الذهني بين العقل والقلب، تعتمد الخيال والعاطفة مجالاً للتحريض الوجداني، وتعتمد المفارقة والإدهاش والبساطة وغموض الوضوح، والايقاع المنتظم والصورة المفاجئة والإستعارة والقناع والترميز والإيحاء والإيماء والمعنى واللامعنى وما وراء المعنى وما قبل المعنى، وما بعد المعنى، وسيلة لتحديد هوّيتها كجنس أدبيّ مستقل. أما تاريخ القصيدة فيبدأ من نصوص الكاهن الكنعاني إيلي ملكو وملحمة جلجامش، وقصائد الحب الفرعونية المصرية، ومن أغاني الرعاة والحصادين والعمال – مروراً بسجع الكُهّان، والمعلقات، وأناشيد النساء قبل الإسلام، وأشعار عمر بن أبي ربيعة، وأبي نواس وأبي تمّام، وشعراء النقائض، والشعر العُذري، وشعراء الخوارج، والموشحات الأندلسيّة وأشعار الصوفيّة – حتى حركة (الشعر الحر التفعيلي) اعتبارا من 1953 تقريباً – كذلك حركة قصيدة النثر (نص مفتوح عابرٌ للأنواع)، حيث تمتلك درجات من الشاعرية – والشعر اللهجي وشعراء الهجرة اللغوية.
وقد قرأت للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث – الحائز على جائزة نوبل – مقطعاً شعرياً، يمكن من خلاله معرفة منطقة الشعر:
بين ما أراه... وما أقوله
بين ما أقوله... وما أصمت عنه
بين ما أصمت عنه... وما أحلم به
بين ما أحلم به... وما أنساه
هناك يكون الشعر.
فالشعر ينطلق من تمازج الواقع بالخيال والحلم والماضي والحاضر والمستقبل غير المرئي. وبالتالي، فالشعر مرتبط بالحرية. وهو مرتبط بلغة ما فوق الواقع، تلك اللغة المجازية البعيدة عن لغة البرهان العقلي المنطقية، رغم أن الشعر لا ينطلق من فراغ، بل هو ينطلق من الواقع ليحوله ويزيحه إلى لغة ما فوق الواقع، تحت سماوات الحريّة المفتوحة بلا حدود.
- لقد بدأت القصيدة من حريّة تفجر الغريزة البشرية الأولى، ومن صفير الإنسان الأول في الوديان، لكي يستمع لصدى هذا الصفير، وبدأت القصيدة من صلواته في المعبد، خارج النظام الرسمي لحياته اليومية المليئة بالقهر والكبت. آنذاك كانت القصيدة حُرَّة، قبل أن تندرج الصلوات في النظام الرسمي لاحقاً. لقد بدأت (الموشحات الأندلسية) مثلاً من حركة الحياة الموشّاة بأصوات الطيور والنوافير وصالونات الشاعرات في القصور الفارهة – لكن الموشح وصل بعد الهزيمة إلى حالة من التعبير عن عقدة الذنب – كما في حالة – موشح التكفير بعد سقوط الأندلس. أي أن عصر الحرية الأندلسي هو الذي أنتج – موشحات خضراء مبللة بالرذاذ، بينما أنتجت الهزيمة منذ عام (1492) – موشحات رمادية. حينذاك قالت (ولاّدة بنت المستكفي) – الخليفة الأندلسي:
أنا والله أصلحُ للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أُمكّنُ عاشقي من صحن خدّي
وأعطي قُبلتي من يشتهيها
قبل ذلك، ظهرت المعلقات في المدى المفتوح لحريَّة الصحراء، تلك الحريَّة غير المحدودة، لنجد شاعراً مثل أمرئ القيس يقول:
فَمِثْلكِ حُبلى قد طرقتُ ومُرضعٍ
فألهيتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ
إذا ما بكى من خلفها انحرفَتْ له
بشّقٍ وشِقٌّ تحتنا لم يُحوَّلِ.
لقد وصف الشعراء المرأة من رأسها إلى خلخالها وصفاً دقيقاً، فالجسد لوحة تشكيلية جميلة يرسمها الشاعر مُبرزاً تفاصيل التفاصيل خصوصاً إذا كان عاشقاً، انطلاقاً من القاعدة الشرعية التي تقول:
خلقتَ الجمال لنا فتنةً
وقُلتَ أياً يا عبادي اتقّونْ
وأنت جميلٌ تحبُّ الجمالْ
فكيف عبادُكَ لا يعشقونْ!!
لقد تميز العرب بثقافة جنسية واسعة، في التراث – فلم ينظروا للجسد بصفته – كتلةً آثمة، بل مجّدوا جماليات الجسد، بصفته كياناً حُراً، لأنه يمتلك حركية الحياة، وكانوا على علم بعلم تشريح الجسد وتفاصيله – لنأخذ مثالاً واحداً وهو – (القصيدة اليتيمة) وهي من أشهر قصائد التراث. وتنسب للشاعر دوقلة المنبجي ومن أبياتها(1):
1- هَل بِالطُلولِ لِسائِلٍ رَدُّ
2- دَرَسَ الجَديدُ جَديدُ مَعْهَدِها
3- مِن طولِ ما تبكي الغيوم على
4- لَهْفي على دَعْدٍ وما خُلِقَتْ
5- بَيْضاءُ قد لبِسَ الأديمُ بها
6- وَيَزيِنُ فَوْدَيْها إذا حَسَرَتْ
7- فالوَجْهُ مِثْلُ الصُّبْحِ مُبْيَضٌّ
8- ضِدَّانِ لمّا استَجْمَعا حَسُنا
9- والصدر منها قد يزينه
10- والمِعْصَمان فما يُرى لهما
11- ولها بَنانٌ لو أرَدْت َ له
12- وكأنما سُقيتْ ترائبها
13- وبصدرها حُقان خلتهما
14- والبطنُ مطويٌّ كما طويتْ
15- وبخصرها هيفٌ يزيّنهُ
16- .................................
17- .................................
18- والتفَّ فخذاها وفوقهما
19-فقيامها مثنى إذا نهضت
20- والساق خُرعُبَةٌ منعمّةٌ
21- والكعب أدرمُ لا يبينُ له
22- ومشت على قدمين خُصّرتا
23- ما عابها طولٌ ولا قصرٌ
أَم هَل لَها بِتَكَلُّم عَهدُ
فَكَأنما هي رَيْطَةٌ جَرْدُ
عَرَصَاتِها ويُقَهْقِهُ الرعْدُ
إلاّ لِطولِ تلَهُّفي دَعْدُ
ء الحُسْنِ فَهْوَ لِجِلْدِها جِلْدُ
ضافي الغَدائرِ فاحمٌ جَعْدُ
والشَّعْرُ مِثْلُ الليلِ مُسْوَدُّ
والضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ
نهدٌ كحُّقِ العاج إذ يبدو
مِنْ نَعْمَةٍ وبَضاضَةٍ نِدُّ
عَقْداً بِكَفِّكَ أمْكَنَ العَقْدُ
والنحر ماءَ الورد إذ تبدو
كافورتين عَلاهما، نَدُّ
بيضُ الرياض يصونُها الملْدُ
فإذا تنوء يكاد يَنْقدُّ
.......................................
.......................................
كَفِلٌ- بجانب خصرها - نَهْدُ
من ثِقلهِ وقعودها فردُ
عَبِلتْ فطوقُ الحجل منسدُّ
حجمٌ وليس لرأسه حَدٌّ
والتفّتا فتكامل القَدُّ
في خلقها، فقوامها قصدُ.

- من المؤسف أنَّ الرقابة المعاصرة، منعت القصيدة بسبب البيتين (16+17)، في حين يمكن إدراجهما في البدهي من المقدمات العامة في الثقافة الجنسية العامّة جداً. وقد وردت في سياق طبيعي غير مفتعل، لأنَّ القصيدة تتحدث عن أغراض أخرى غير وصف الجسد، كذلك فإنَّ البيتين المذكورين يحتاجان أصلاً لشروحات تفسيرية بسبب انفصال القارئ المعاصر عن لغة الشعر القديم. ذات مرّة كنت في زيارة لرقيب، وكانت أمامه رواية (إنانة والنهر) لحليم بركات. لقد ورد فيها بيتان شعريان باللهجة اللبنانية يرددهما بطل الرواية أمام حبيبته، ويتضمنان تلميحات وإيماءات جنسية. سألني الرقيب: هل تقبل أن يقرأ أولادك في المنزل هذين البيتين. قلت له: أقبل بذلك، لأنني إن منعتهم من القراءة، سوف يستمعون لما يطابقهما في عرس شعبي أمام آلاف من البشر:
يُومّا يا يُومّا حبيبي وينو
حطوا لي البحر ما بيني وبينو
لاركب البحر ونام في حضينو
ومُصّ خدودو مَصّ الليمونا.
وبعد أن كاد يفتك بالرواية بالمنع، تراجع ولكنْ لسبب آخر. وهو أنني سألته عن أسباب إجازته لكتاب عن السحر والشعوذة – فأجابني: نخشى غضب التيار الإسلامي!! إن منعناه!!.. قلت له: أيهما أكثر خطراً على الجمهور: أبياتٌ شعرية تثير ابتسامة أم كتاب محشوّ بالخرافات؟!!. لقد عبّر المثقفون العرب في التراث عن معاندتهم لدكتاتورية الثالوث المحرّم (الجنس – السياسة – احتكار التفسير الديني). لكنهّم تعرضوا للتفكير والقتل والنفي وإحراق الكتب. ألم يَقُل (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) بأن (النفي والإبعاد... جريمة بحق الإنسانية).
- لقد اتهم (أبو العلاء المعري) بالكفر والإلحاد رغم أنه كان فيلسوفاً شاعراً يحاول فك رموز الكون الغامض:
1- ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
2- يُحطمنا صَرْف الزمان كأننا
وحق لسكان البرية أن يبكوا
زجاجٌ ولكن لا يعاد له سبك(2)

وصلب الحلاج لنفس لسبب، بسبب سوء فهم النصوص. واغتيل: أمرؤ القيس والمتنبي وطرفة بن العبد. ومات لسان الدين بن الخطيب منفياً في سجنه (لأسباب سياسية)، وأحرقت كتب (ابن رشد) لأسباب دينية، لكن (تيار التسامح) في التراث ظلَّ يستند إلى ثلاث قواعد:
الأولى: لا إكراه في الدين.
الثانية: ناقل الكفر ليس بكافر
الثالثة: استند النقد الأدبي التراثي إلى مقولة أبي بكر الصولي: (ماظننتُ أنَّ كُفراً ينقص من شعر، ولا أنَّ إيمانا يزيد فيه). وقد قالها بعد أن اتهم قومٌ – الشاعر أبا تمام بالكفر. أما السبب الحقيقي للطعن في إيمان أبي تمام، فهو أنه كان مسيحي الدين(3).
- هذه القواعد الذهبية الثلاث يمكن أن تكون مقياساً حقيقياً لتقويم الأدب من الزاوية الأخلاقية. فالقصيدة إذا كانت مليئة بالإيمان أو الكفر، لا تكون جميلة لمجرد امتلائها بالإيمان ولاتكون القصيدة جميلة أو قبيحة لمجرد احتوائها على الكفر، لأن النص لا يتحدد جماله بالإديولوجيا سواء أكانت إيمانية أو إلحادية أو جنسية، ولا بموقفه السياسي سواء أكان موقفه موقفاً موالياً للسلطة أو معارضاً لها، بل يتحدد جمال النص الشعري بتحديد – درجات الشاعرية فيه: (الصورة الشعرية – الصفاء الشعري – الإضافة الجديدة – الجاذبية النصية). فالموضوع مرمي في الطريق العام ولا فضل لنا في اكتشافه – وإنما في كيفية التعبير عنه. وعندما نقول (ناقل الكفر ليس بكافر)، فإن – مؤلف الرواية يختلف عن السارد في الرواية وهذا التمييز يعني أن المؤلف هو (ناقل وقائع قد تكون واقعية أو متخيلة)، يعبر عنها على لسان السارد. وما دام الواقع مليئاً بالجمال والقبح، فإنَّ المؤلف مجرد ناقل تشكيلي خلاّق ولم يمنع الإسلام – أيّ نوع من أنواع الفنون – طبقاً لنصوص القرآن والسنّة النبويّة – وإنما أسيء تفسير بعض النصوص... يقول (محمد شحرور):
1- الصوت: لقد جاء في القرآن في بيانه بإيقاع ونغمة في تلاوته، سهلة السماع على الأذن العربية، تطرب لها النفس. وما الموسيقى إلا مجموعة من الأصوات ضمن إيقاع ونغمة معينة. وعندما قدم الرسول محمد مهاجراً إلى (المدينة) استقبله الأنصار في يثرب بالأغاني والغناء الجماعي وضرب الدفوف، لأن هذا الذي كان متوافراً عندهم، ومن هنا يتبين أن الموقف الذي اتخذه الفقهاء من الفنون هو موقف تاريخي كان صالحاً لفترتهم وعصرهم. وقد تغيرت الفترة والعصر وهذا مسوغ لتغير المفاهيم. لذا فإنّ الموقف الذي يمنع الغناء يعتبر موقفاً غير إسلامي. كذلك فإن الفنون والشهوات هي من الدين الإسلامي وهي بطبيعتها حنيفية غير مستقيمة أي خاضعة للتطور مع تطور المعارف ووسائل الإنتاج الإنسانية.
2- الشعر: ورد في القرآن (والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنّهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون) يرى الدكتور شحرور أن القرآن لم يمنع الشعر، وإنما انتقد الشعر غير الملتزم الذي يؤدي بدوره إلى ظاهرة (الشعراء المرتزقة) الذين يقولون ما لا يفعلون.
3- النحت: يقول شحرور أنّ العقيدة الإسلامية قد سمحت بالنحت ولم تمنعه إطلاقاً. لقد وضح الإسلام ذلك في القرآن (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) قال الأوثان ولم يقل الأصنام، لأن الأصنام أحد مظاهر الوثنية. لذا أمر الله باجتناب الرجس من الأوثان وليس باجتناب الأوثان ذاتها.
4- الرسم والتصوير: اعتبر الاسلام الفنون هي من الفطرة الإنسانية فالأساس في الأمور الإباحة وليس التحريم(4).
- أما موقف الإسلام من (الجنس) فقد عالجه (عبد الوهاب بوحديبة) في كتابه (الإسلام والجنس)، حيث يرى أن المجتمع المتوازن يفرز علاقات جنسية متوازنة وليس العكس. فالإسلام لا ينتقص من أهمية الجنس ولا ينكرها، بل على العكس تماماً – يضفي الإسلام على الجنس – معنى رفيعاً ويجلله بالإيجابية الكاملة، الأمر الذي يزيل أي أثر للشعور بالإثم أو الخطيئة. تبعا لهذا المنظور – يضيف بو حديبة – يسمح الإسلام للغريزة أن تتجلى ببهجة وصفاء بحيث تصبح الحياة صيغة متكاملة، تسعى جاهدة للحصول على رضى الله من جهة وممارسة الجنس وفقاً لأخلاقيات راقية من جهة أخرى(5).
فالاسلام عقيدة والتفسير للقرآن والسنة – فعل بشري خاضع للجرح والتعديل. أما النص الأدبي فله منظوره الخاص من حيث الطبيعة والوظيفة. أما مفهوم الأخلاق فهو عام ومختلف بين شعب وآخر وبين عصرٍ وعصر، لأن الثقافة الشعبية تلعب دوراً في تشكيل روحية الإنسان. ولا نستطيع نفي تأثيرها القوي في حياة الإنسان حتى لو تناقضت مع العقيدة أحياناً.
- لقد مُنعت في القرن العشرين – أشعار أبي نواس وكتاب ألف ليلة وليلة وكتاب جلال الدين السيوطي (الإيضاح في علم النكاح) وكتاب الشيخ النفزاوي (الروض العاطر في نزهة الخاطر) وكتاب ابن حزم (طوق الحمامة) وكتاب ابن كمال باشا (رجوع الشيخ إلى صباه) – رغم أن بعض هذه الكتب أرقى بكثير من كتب علماء الجنس المعاصرين في أوروبا المعاصرة. بل حللت هذه الكتب – ظاهرة الحب والعمليات الجنسية تحليلاً دقيقاً. وهي أيضاً لا تتناقض مع المفهوم الإسلامي للجنس. لقد سمحت الطبقات العليا المسيطرة (السياسية والدينية) لنفسها بقراءة هذه الكتب سراً، لكنها منعت الجمهور من قراءتها. بل تقوم طبقة رأس المال التجاري أحياناً بالترويج للمنع لإثارة خيال القارئ من أجل المزيد من الربح المالي، ودائماً هناك سبب آخر غير معلن للمنع إذ ما كانت الضحية صادقة في موقفها:
- في عام 1925، صدر كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبدالرازق – أحد علماء الأزهر، وأحد قضاة المحاكم الشرعية والحاصل على شهادة العالمية عام 1911. وبعد صدور الكتاب، اجتمع علماء الأزهر وأصدروا قراراً بطرد الشيخ من عمله: (ويترتب على الحكم المذكور، محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته من أية جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية). ووقع القرار أربعة وعشرون عالماً من هيئة كبار العلماء (حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالماً معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبدالرازق أحد علماء الأزهر والقاضي بمحكمة المنصورة الإبتدائية الشرعية ومؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم – من زمرة العلماء). لقد ألغى مصطفى أتاتورك نظام الخلافة الإسلامية في الثالث من شهر آذار لعام 1924.. فحاول ملك مصر أحمد فؤاد، الاستفادة من قرار الإلغاء للدعاية لنفسه كخليفة للمسلمين، لكن كتاب الشيخ عبدالرازق قال بأن الاسلام لا يوافق على (حكومة دينية) وأن الاسلام لا يوجب أن يكون للأمة خليفة وأن هذا المنصب لا علاقة له بالدين، وهكذا كانت محاكمة الشيخ محاكمة سياسية لها علاقة برغبة القصر الملكي المصري في الخلافة. فاعتزل الشيخ سنوات طويلة بعيداً عن الناس، لكن الأزهر عاد بعد سنوات واعترف بخطئه وأعاد الاعتبار للشيخ، لكن الشيخ رفض العودة إلى الأزهر(6).
- وقد اتخذ قمع النص الأدبي في العصر الحديث أشكالا عديدة منها:
1- الاغتيال: اغتيل الشاعر الإسباني (لوركا) ليس لأنه جمهوري ضد الدكتاتور فرانكو فقط، لكنه اغتيل لأنه شاعر مؤثر وقد اعترف القتلة لاحقاً بذلك بعد أن ظلوا سنوات طويلة ينكرون. واغتيل سنة 1942 الشاعر البلغاري (نيكولا فابتساروف)، شاعر المقاومة ضد الاحتلال الألماني، بإعدامه رمياً بالرصاص بعد محاكمة شكلية سريعة، واغتيل شاعر التشيلي (بابلو نيرودا) من قبل قوات الدكتاتور بينوشيه، كذلك المغني الثوري التشيلي (فكتور جارا)، وقبل ذلك اغتيل الشاعر الروسي (بوشكين) في مبارزة بعد مؤامرة حيكت في قصر القيصر. أما في الوطن العربي فقد اغتيل عدد كبير من المثقفين، لقد اغتالت اسرائيل – القاص والإعلامي ماجد أبو شرار والروائي غسان كنفاني والشاعر كمال ناصر، واستشهد الشاعر عبدالرحيم محمود في معركة الشجرة عام 1948 واستشهد الشاعر علي فودة في حصار بيروت 1982، واغتيل وائل زعيتر في روما من قبل إسرائيل. أما الذين اغتيلو من قبل جهات عربية فهم كثر، نتذكر منهم: المصور السينمائي هاني جوهرية، الرسام اللبناني إبراهيم مرزوق، وأغتيل عزالدين القلق في باريس وسعيد حمامي في لندن وعصام الصرطاوي والصحافي حنا مقبل في قبرص ونايف شبلاق وسليم اللوزي ورياض طه في بيروت والشيخ صبحي الصالح وحسين مروة ومهدي عامل (حسن حمدان) في بيروت. والمغربي المهدي بن بركة في باريس والمصري فرج فودة في مصر، كما اغتيل عدد كبير من المثقفين الجزائريين بما يشبه المذبحة (الطاهر جعوط، بختي بن عودة، الشاعر يوسف سبتي الذي ذبح بالسكين وعبدالحميد بو صوارة) وغيرهم. واغتيل مئات الصحافيين في مناطق متعددة من العالم أثناء تأدية واجبهم الصحافي. أما اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في لندن عام 1987، فقد كان اغتياله أكبر فضيحة في تاريخ الثقافة الفلسطينية لأن بعض المثقفين ساهم في التحريض على القتل، ولم تنشر الحقيقة كاملة حتى الآن رغم أن الجميع يعرف التفاصيل. وقد أجمع كثيرون على أن أسباب اغتيال (ناجي العلي)، تتعلّق برسمتين كاريكاتوريتين، هما: (هل تعرف رشيد مهران) – (ومحمود خيبتُنا االكبيرة)!!. هذه الأسماء نوردها على سبيل المثال لا الحصر.
2- التحريض على القتل: جرت تهديدات كثيرة لمثقفين بالقتل، إن لم يتوقفوا عن كشف الحقائق.
3- الإبعاد والنفي والمنع: رغم أن الإبعاد محرم دولياً، إلا أن حالات كثيرة من الإبعاد والنفي مورست من قبل أنظمة عربية، كذلك منع عدد من المثقفين من دخول هذا البلد العربي أو ذاك. ويعتبر (النفي والإبعاد)، لأي سبب (جريمة في حق الإنسانية) حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
4- الإستجوابات الأمنية: تعرض مئات من المثقفين في الوطن العربي للإستجواب الأمني في بلدانهم، ومنعوا من السفر أو صودرت جوازات سفرهم أو تم توقيفهم في نقاط الحدود.
5- القوائم السوداء: وضعت أسماء مثقفين في قوائم سوداء وتم إبلاغ وسائل الإعلام الحكومية بعدم نشر أي مقال إيجابي عن الأعمال الأدبية لمن وردت أسماؤهم في القائمة.
6- الإرهاب النفسي: مورس الإرهاب النفسي ضد المثقفين لتحديد نشاطاتهم الثقافية وذلك بالتحريض الشفهي ضدهم.
7- الفصل التعسفي من العمل: فصل عدد من المثقفين من عملهم بسبب مواقف سياسية وثقافية اتخذوها كذلك بسبب احتجاجهم على الفساد في المؤسسة التي يعمل فيها. أو احتجاجهم على تدخل الأجهزة الأمنية في جامعاتهم.
8- إغلاق الصحف: أغلقت صحف كثيرة إغلاقاً تاماً أو جزئياً، لأسباب تتعلق بحرية التعبير.
9- التكفير: وجهت تهمة الإلحاد والكفر لمثقفين حاولوا الاجتهاد فكرياً أو أدبياً، وتم التحريض على إباحة دمهم، لمجرد سوء الفهم للتفسير الديني، وتم احتكار التفسير الديني من قبل جهات لا تعرف حقيقة التسامح الإسلامي.
10- التحريض على الطلاق: لأسباب فكرية وشعرية وأدبية طالب البعض المحاكم بضرورة انفصال المثقف عن زوجته بتهمة الإلحاد – (نصر حامد أبو زيد).
11- السجن: دخل كثير من المثقفين في الوطن العربي السجون، لأسباب تتعلق بحرية التفكير والتعبير عن آرائهم.
12- المحاكمات: تعرض مثقفون لمحاكمات أمام القضاء بسبب أعمال أدبية وفنية لأسباب كيدية.
13- منع الاسم: عندما يمنع ويصادر كتاب واحد لمثقف، فإن المنع قد يتجاوز منع الكتاب الممنوع إلى منع الاسم، أي منع كافة أعماله الأدبية لمجرد وجود اسم مؤلف الكتاب الممنوع على كتب أخرى غير ممنوعة.
14- المنع من المناهج المدرسية والجامعية: عندما ننظر للخارطة الحقيقية للشعراء الأكثر تأثيرا في المجتمعات العربية، نجد أن معظمهم قد منع من دخول المناهج المدرسية والجامعية، واكتفت المناهج بالترويج لشعراء متوسطي الحال موالين للسلطة غالباً، مما أثر سلباً على درجة تذوق النص الأدبي في المدارس والجامعات، ويتم المنع للاسم من الدخول في المناهج لأسباب سياسية وأسباب منطقية جهويّة. وهكذا يقرأ القارئ – الشعر الحقيقي – خارج المدرسة والجامعة.
15- المنع في التلفزيون والانترنت والصحف: تختارالتلفزيونات – نصوصاً أدبية (لا تضر ولا تنفع) وتروج للثقافة السطحية، وتخشى محاورة الشاعر الحقيقي والروائي الحقيقي والناقد الذي يمتلك عقلا نقدياً، وتفضل المثقف الموالي للسلطة والمثقف الحائر، حتى لو ينتمي لدرجة هابطة من الإبداع. وتفضل أيضاً محاورة الشعراء الذين يمارسون التجسير بين العرب وإسرائيل، مع أن الأرض ما تزال تحت الاحتلال. أما الملاحق الثقافية في الصحف فتمارس التوجيه والإخفاء والمنع والترويج غير العادل، فتتحول العلاقة بين المثقف والصحيفة كمؤسسة إلى علاقة شخصية مع المحرر الذي قد يتخذ موقفاً سلبياً شخصياً من المثقف لأسباب عديدة – أمّا الانترنت (في المواقع المهمة) – فهو مكان لمن يمتكلون المال من الشعراء لهم صلة بأصحاب رأس المال أو سلطة الجهة – المؤسسة فالمنع هنا من نوع (المنع المقنع). ونلاحظ ظاهرة المنع في (تليفزيونات وصحف وطنية وقومية!!)، تمارس الوطنية والقومية فعلاً في سياساتها أمام الرأي العام – لكن المفارقة الصارخة هي (معاداة ثقافة المقاومة الحقيقية – وتبرز ثقافة التطبيع)!!.
16- بلطجية رأس المال: يلعب رأس المال الوطني في المجتمعات الديمقراطية الحضارية – دوراً إيجابياً في دعم الثقافة والفنون والتعليم، لكنَّ بلطجية رأس المال في الوطن العربي – يمارسون الترويج لأعمال أدبية وفنية رديئة، وهنا يبرز المثقف الإنتهازي (مثقف العلاقات العامة) أو (مثقف تلبيس الطواقي) الذي تدعم كتبه أو لوحاته التشكيلية لمجرد إتقانه لفن العلاقات العامة. حينئذٍ يبتعد المثقف الحقيقي باتجاه العزلة وتظهر الكتب الرديئة لإشباع الفراغ الثقافي. أما في مجال التعليم الجامعي، فقد يصبح الفساد المغطى بنزعة تبريرية من أجل المال، سمة مسيطرة على الجامعات.
17- الرقابة: الرقيب الموظف (موثوق وطنياً) لدى السلطة – أما الروائي المثقف أو الشاعر أستاذ الجامعة فهو (قاصر) من وجهة نظر السلطة ، لهذا يجب إرشاده وتوجيهه، وعادة ما يتم المنع وفقاً للثلاثي المحرم (الجنس، السياسة، الدين) وهي ثلاثية غامضة يختلف تفسيرها من شخص إلى آخر ومن عمل أدبي إلى آخر. فالموظف الرقيب ينطلق من مفهوم معادلة النص الأدبي بالواقع. مع أن النص الأدبي لشاعر ما لا يتطابق بالضرورة مع سيرته الذاتية، وذلك بسبب (ماهية النص). ففي ظل (ثورة الفضائيات التلفزيونية وثورة الانترنت والثورة الجينية) أصبحت مفاهيم الرقابة حول (الجنس في الأدب) و(الدين في الأدب) و(السياسة في الأدب) أصبحت مفاهيم قديمة لا تتماشى مع متغيرات العصر. ولهذا اضطربت معايير القياسات.
18- التأثير السلبي على دور النشر: يواجه الناشرون عدة مشاكل منها: منع الكتاب ورفع أسعار الورق وعدم شراء الكتاب من قبل المؤسسات الثقافية والجامعات، أما دعم الكتاب من قبل مؤسسات حكومية أو خاصة، فقد تولدت عنه ظاهرة صدور الكتب المتوسطة المستوى والرديئة – ما دام المال هو الذي يحكم صدور الكتاب أو يمنعه، كما أنتج ضغوطات من الناشرين على الكتاب الكبار الذين يطالبون بنسبة في الربح هكذا ينشر (الناشر والموزع) – لحم الكاتب، ويقتسمانه بالتساوي – ويكتفي الكاتب بإيجابية صدور كتابه.
وهناك ظاهرة سلبية أخرى هي ظاهرة (الكتب الأكثر مبيعاً) التي تروج لها الصحف بأمر من الناشر، حيث نلاحظ أن كتباً هي الأقل مبيعاً ترد في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لقلة الإقبال الفعلي عليها، وهناك ضغوطات على المكتبات تتم لعرض كتب محددة مع أن أحداً لا يشتريها.
19- رقابة عشائرية وعائلية: النص الأدبي كتلة لغوية وليس واقعاً حقيقياً رغم أنه ينطلق من الواقع، لقد تعرضت بعض الأعمال الأدبية للرقابة العائلية والعشائرية والجهوية لمجرد تطابق صفات بطل في رواية مع شخصية حقيقية أو لمجرد إيحاء بأن هذه القصيدة تعني فلاناً من الناس.
20- الرقابة الذاتية: تتولد الرقابة الذاتية من الخوف، مع أن مهمة الكاتب هي التحرر من الخوف، وهكذا يراقب الكاتب نفسة من أجل منع المنع، وهذا يؤثر على مستوى النص الأدبي إبداعياً.
21- رقابة المثقفين ضد زملائهم: أكثر أنواع الرقابة قسوة هي رقابة المثقف على المثقف بسبب الاختلاف أو الغيرة وتصفية الحسابات الشخصية والتحالفات الشخصية (الشلة) وتحالف المثقف مع السلطة ضد زميله، ونحن نقدم الأمثلة بدون تعليق:
أولاً: مؤخراً اتهم الشاعر السوري أدونيس في حوار معه أجرته مجلة الدراسات الفلسطينية في بيروت – زميله الشاعر علي الجندي والقاص زكريا تامر – بأنهما مارسا الرقابة والمنع في الستينات لمجلة شعر اللبنانية من دخول سوريا. وكان الرد من قبل الكاتب إنعام الجندي (شقيق علي الجندي) – على أدونيس مع المكتب الثاني أي المخابرات اللبنانية لمنع المقالات(7).
ثانياً: تم الاعتداء بالضرب على الروائي السوري (نبيل سليمان) من قبل جهات مجهولة لكن أحد الكتاب تطوع بالقول (أن المسألة جنائية تتعلق بالسرقة) – حتى قبل أن يصدر تقرير الجهات المختصة التي تحقق في الحادثة(8).
ثالثاً: جرت معركة إعلامية وقضائية بين وزير الثقافة المصري (فاروق حسني)، وتيار واسع من المثقفين بسبب منع ثلاث روايات مصرية اتهمت بالجنس، لكن المثقف اليساري صلاح عيسى يعلن أن (الوزير من أعظم بناة المؤسسات الثقافية، ويجب أن لا نسيء استخدام الهامش الديمقراطي المحدود)(9).
رابعاً: رغم أن الديمقراطية لا تتجزأ، لكن بعض المثقفين يرفض أو يتهرب من التضامن مع شاعر ممنوع أو رواية مصادرة، مع هذا نجد هذا البعض يكتب عشرات المقالات عن الديمقراطية وضد المنع. وهناك من يوقع على بيان تضامني مع مثقف له صلة شخصية به ويمتنع عن التوقيع على بيان تضامني مع مثقف آخر. وهناك أعمال أدبية لم تمنع، لكن جهات غامضة تروّج لها.
خامساً: التنافس والغيرة الايجابية – أمر مشروع بين الشعراء – خصوصاً إذا تم التنافس لإبداع – ما هو جديد لكن تدمير الشعراء لبعضهم البعض بالعنف اللفظي يساهم في خلق حالة من اضطراب المعايير النقدية تجاه الشعر، أما النقد العقلاني المعرفي الشجاع فهو مطلوب لتنقية البيئة الشعرية من الأوبئة. شاعر كبير يزعم أنه الشاعر الأوحد (م. د.) في بلاده، ويصل به جنون العظمة إلى القول (كلّ الشعراء نسخ مشوّهة عن تجربتي الشعرية) بل ويطلب من سكرتيره الخاص (ز.م.) أن يكتب ما يلي (كلّ الشعراء، إما انطلقوا منه أو كانوا ردّ فعل عليه) ولا يستثني أحداً..!! رغم أن كل هذه الأقوال ليست صحيحة. وقبل سنوات كتب الشاعر عبدالوهاب البياتي في (جريدة لقبس الدولي، لندن، 14/12/1988) ما يلي حرفياً: (إن نزار قباني ينتمي للشعراء المرتزقة الذين يظهرون في عصور الأوبئة والطاعون، فهو يحمل شيخوخته المهترئة إلى مهرجان المربد – ويضربها أمام الجمهور بالسوط. ولو ظهر شاعر مثل نزار في فرنسا مثلاً لرماه الناس بالحجارة)، ويقول – بول شاؤول (كاتب قصيدة نثر لبناني)، في جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 29/12/2000 ) ما يلي حرفياً: (أدونيس والسياب وسعدي يوسف... لم يضيفوا شيئاً، لأنهم تافهون ولصوص وتابعون). ‏وهناك شعراء أشبه بالخبراء الإعلاميين فهم يستثمرون كل ما يكتب عنهم سلباً أو ايجاباً، وتنظر إلى قصائدهم، فإذا هي تلخيص واضح لقصائد شعراء آخرين مع قدرة على تغطية ذلك إعلامياً بمنع أي مقال نقدي سلبي، فهناك من هو فوق النقد بصفته مقدساً لا تسمح السلطات ووسائل الإعلام بنقد نصوصه فالمسموح به هو المدح فقط. – (حالة محمود درويش!!).
- لقد تمت حالات منع ومصادرة وتكفير كثيرة في الوطن العربي: نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) وليلى بعلبكي (سفينة حنان إلى القمر) في الستينات، صادق جلال العظم (نقد الفكر الديني)، حسين مروة (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية) في السبعينات، وحيدر حيدر (وليمة لأعشاب البحر)، محمد شكري (الخبز الحافي)، فاطمة المرنسي (عدة كتب)، مارسيل خليفة (أنا يوسف يا أبي - جفرا)، نصر حامد أبو زيد (عدة كتب فكرية)، واتهمت بالكفر أو الجنس أعمال قصصية وشعرية لكتاب كثيرين. أما قبل ذلك فنحن نتذكر المنع الذي طال بعض الشعراء العرب.
وكانت أسباب المنع (سياسية أو دينية أو جنسية). وفلسطينياً مُنعت في ظل الثورة الفلسطينية 1964-1994 عدة كتب منها: عزالدين المناصرة (عشاق الرمل والمتاريس – 1976) أنيس صايغ (الموسوعة الفلسطينية). وفي ظل السلطة الفلسطينية منع كتاب سياسي لإدوارد سعيد عن اتفاق أوسلو (لأسباب سياسية)، وصدرت قرارات سريّة وزّعت على بعض الصحف والتلفزيونات، بمنع أسماء محددة: (غسّان كنفاني – عزالدين المناصرة – ناجي العلي). – وانتحر ستة شعراء عرب هم: عبدالباسط الصوفي (سوريا)، وتيسير سبول (الأردن 973))، خليل حاوي (لبنان 1982)، ستار قناوي حسن (عراقي في صوفيا)، وعبدلله بو خالفة (الجزائر، 1988) وسلامة شطناوي (الأردن) وغيرهم. وأعتقد انهم دفعوا للانتحار، تحت وطأة ظروف شخصية وعامة قاسية. كذلك شمل المنع (كتباً فكرية وسياسية، مجموعات شعرية، روايات، مجموعات قصصية، أفلاماً سينمائية، لوحات تشكيلية، موسيقا وغناء، مقالات صحفية) وغيرها. ومن مفارقات اعتقال المثقفين الحادثة التالية: الدكتور خليل رزق – فلسطيني أقام في لبنان بعد عام 1948 – هاجر إلى الولايات المتحدة للإقامة مع أشقائه، بعد أن علّمهم بصفته الشقيق الأكبر، عمل استاذاً لنظرية الأدب بجامعة تلمسان الجزائرية، ولم يتزوج، وكان في الخامسة والستين من عمره عندما زار بلداً عربياً، لشراء بعض الكتب الأكاديمية، وفي طريق عودته اعتقل في مطار ذلك البلد، حيث سجن لمدة أسبوع، التهمة هي (قيادة تنظيم إسلامي متطرف اسمه (عباءة الله)!! لكن الطريف في الموضوع أن الدكتور خليل رزق – فلسطيني وطني من (قرية كفر برعم) التي دمّرها الإسرائيليون وهو مسيحي ماروني!!!). لقد كان الأمر أشبه بنكتة سوريالية.
* * *
أزعم أن أي شاعر عربي – لم يتعرض لقسوة المنع مثلي. وقد تمَّ هذا المنع في ظلّ تواطؤ المثقفين العرب بالصمت في أغلب الأحيان، وفي ظل (احتجاج المثقفين العرب الشرفاء) أحياناً أخرى، كذلك لعبت الأحكام العرفية دوراً في إجبار المثقفين على الصمت في بعض الفترات الزمنية. لستُ مثقفاً موالياً للحكومات ولستُ مثقفاً معارضاً، ولستُ مثقفاً حائراً بين السلطة والمعارضة. إنما هي معاناة – المثقف المستقل – الذي انتمى لمنظور ثالث – هو (الحساسية الشعبية) في الوطن العربي. لقد عشت في ظل ستة أنظمة عربية ودولة أوروبية شرقية، هي (الأردن، مصر، فلسطين الثورة، لبنان، تونس، الجزائر، جمهورية بلغاريا الاشتراكية).
- ولدت في الخليل عام 1946، وغادرت فلسطين عام 1964 ولم أدخل فلسطين حتى الآن، لأنه لم يسمح لي بدخولها، رفضتُ أن أدخلها (سائحاً) ولم أستطع الحصول على حق المواطنة لأسباب عديدة، لا مجال لذكرها، (فالجسد ممنوع والنص ممنوع، لكن خيالي يقتحم كل الحواجز والحدود).
- وهذه بعض الحقائق المحددة التي تتعلق بالشاعر خائفاً ومخيفاً أوجزها فيما يلي:
أولاً: امرؤ القيس في القائمة السوداء، منذ 1967، أصبح رمز أو قناع امرئ القيس، علامة مركزية في تجربتي الشعرية، لكن قصيدتي (أضاعوني) بلسان امرئ القيس نشرت في إحدى البلدان العربية، فأصدر وزير إعلامه آنذاك (1969) قراراً بوضع اسمي في القائمة السوداء، ولم أكن قد زرت ذلك البلد. ورغم أن ذلك البلد ينتمي لجبهة الرفض، فقد ظلت وسائل إعلامه تتجاهلني، بينما كانت تروج لشعراء التجسير بين العرب وإسرائيل.
ثانياً: قصيدة أضاعوني، ألقيتها مرة أخرى في بلد عربي آخر في إحدى جامعاتها فاستدعتني أجهزة الأمن، حيث اعتقلتني يوماً واحداً بتهمة تقول: أن القصيدة تعني رئيس ذلك البلد، حدث هذا بتاريخ 1/9/1969.
ثالثاً: قصيدتي (ناطوران) تم حذفها عام 1968، عندما صدرت الطبعة الأولى من مجموعتي الشعرية الأولى (يا عنب الخليل) لأسباب رقابية.
رابعاً: صدرت مجموعتي الشعرية (الخروج من البحر الميت) عن دار العودة في بيروت ديسمبر 1969، وقد أبلغني صاحب دار العودة آنذاك أنها منعت من دخول سبع دول عربية، لأسباب سياسية ودينية، وفي عام 1970 – شاركت في أول مهرجان عربي للشعر الحديث في بيروت – حيث ألقيت قصيدتي (أبو محجن الثقفي أثناء تجواله) وفوجئت بهجمة قادتها (مجلة الجمهور اللبنانية) ضدي وضد الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي – حيث مورس التكفير.
خامساً: صدرت مجموعتي الشعرية (قمر جرش كان حزيناً) عام 1974 في بيروت. وقد منعت من دخول ثلاث دول عربية.
سادساً: صدرت مجموعتي (بالأخضر كفناه) عام 1976 في بيروت، وقد منعت من دخول بلد عربي واحد، بسبب قصيدة (امرؤ القيس يصل فجأة إلى قانا الجليل).
سابعاً: صدر كتابي (عشاق الرمل والمتاريس) في بيروت عام 1976، فصدر قرار بمصادرته ومنع توزيعه، كما منع من دخول بلدين عربيين.
ثامناً: صدرت الطبعة الأولى من مجلد أعمالي الشعرية في بلد عربي، لكن شرطة ذلك البلد صادرته من المعرض الدولي للكتاب الذي أقيم فيه عام 1987، بعد ساعة واحدة من عرضه، والأسباب كما يقول الناشر سياسية دينية، وما زالت رسائل الناشر محفوظة لدي.
تاسعاً: عام 1983 منعت من إلقاء قصيدتي (حصار قرطاج) أمام المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، رغم أني تلقيت دعوة شخصية لإلقائها من الرئيس عرفات، والدعوة محفوظة لدي.
عاشراً: انسحب (وفد إحدى البلدان العربية) في مهرجان الشعر العربي الذي انعقد في الجزائر 1984، انسحب أثناء إلقائي قصيدتي (حصار قرطاج) احتجاجاً على القصيدة لأنها تحدثت عن امرئ القيس!!!
احد عشر: ربيع 1986 انعقد مؤتمر (جدوى الأدب في عالم اليوم) في جامعة باتنة الجزائرية، فألقى الشيخ محمد الغزالي محاضرة فيه بعنوان (الوثنية الكنعانية والشيوعية في شعر عزالدين المناصرة) حيث اتهمني بالإلحاد والشعوبية، وزعم أنني أدعو للوثنية، وتلقفت التهمة جهات جزائرية غامضة، فبدأت حملة إعلامية ضد قصائدي في جريدة النصر الجزائرية التي تصدر في قسنطينة في هيئة مقالات نقدية استمرت حتى صيف 1987 حيث فُصلت من عملي كأستاذ بجامعة قسنطينة، فصلاً تعسفياً بقرار من الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بتهمة (الوثنية الكنعانية) والإلحاد والشيوعية، بتحريض من وزير الأديان الجزائري (بوعلام باقي) – لكن رئيس الوزراء عبدالحميد إبراهيمي كشف السبب الحقيقي للفصل التعسفي، حيث أرسل برقيةً إلى رئيس الجامعة تقول (المناصرة لا يطبق عليه قانون الجزأرة) لكن دون جدوى. وفي ربيع 2000، وجهت لي جامعة قسنطينة دعوة شخصية، حيث تمّ تكريمي واعتذر أشخاص شاركوا في الحملة ضدي عام 1987، أمام أساتذة وطلبة الجامعة وشرحوا لي أسراراً لم أكن أعرفها أهمها رئاستي لـ - اللجان الفلسطينية الموحدة الوطنية في الجزائر.
اثنا عشر: بعد أن عشت حصار بيروت عام 1982، عاد آلاف من الفلسطينين الذين يحملون الجنسية الأردنية إلى عمان، بعد اتفاقات بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية لكن السلطات الأردنية أبعدتني مع زوجتي وابني بتاريخ 10/12/1982، وسحبت مني جواز سفري، حيث عشت في تونس والجزائر، والسبب هو مجموعتي الشعرية (قمر جرش كان حزيناً). وقد ظلت أعمالي الشعرية ممنوعة في الأردن طيلة أكثر من ربع قرن، وسمح لي بالعودة إلى عمان في صيف 1991، وسمح لمجلد أعمالي الشعرية بالدخول عام 1994، حيث طبع في بيروت وأعيد لي جواز سفري بتاريخ 18/9/1991.
ثلاثة عشر: في عام 1977، جرت (محاولة اغتيالي في مدينة صوفيا البلغارية) بسبب احتجاجي على الفساد في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في صوفيا، وفي عام 1987، جرت محاولات تهديد بالقتل لي بسبب احتجاجي على اغتيال الرسام ناجي العلي، الذي اغتيل بطريقة تحمل معنى النذالة!!
أربعة عشر: صيف عام 1994 – فصلت تعسفياً من عملي كعميد لكلية العلوم التربوية (الأونروا) حين قررت الأونروا إغلاق الكلية تحت حجة قلة الأموال، وعندما يغلق باب بيتك بالشمع الأحمر، فمن حقك الاحتجاج في الشارع العام، هكذا اتخذت قرار الاحتجاج العلني ونجحت في حماية الكلية حيث تراجعت الأونروا بعد حملة الاحتجاج عن قرار الإغلاق، لكن آلتر توركمان المفوض العام ظل مصراً على فصلي، حتى لا تنتشر الاحتجاجات إلى قطاعات أخرى في الأونروا، كما قال.
خمسة عشر: أخذت قراراً شخصياً منذ بداية عملي في التدريس الجامعي عام 1983، ألاّ أقرأ قصائدي في الجامعة التي أعمل بها – وقد التزمت بهذا القرار حتى الآن، بسبب عدم تمييز الآخرين بين (الشاعر ومهنته) بين النص والسيرة الذاتية، لهذا لم أقرأ شعري مثلاً في جامعة قسنطينة التي عملت فيها أستاذاً في الفترة (1983-1987) لكنني قرأت قصائدي فيها لأول مرة عام 2000، أي بعد غياب، مع هذا كنت أقرأ قصائدي في مراكز المدينة الثقافية وفي المهرجانات الشعرية الجزائرية خارج الجامعة، إنه تعبير عن الخوف من سوء الفهم. أما مسألة حذف بعض قصائدي (الممنوعات) من دواويني فقد تم الحذف لأسباب رقابية، أما من جهتي فلم أحذف حرفاً واحداً لأسباب سياسية بل حذفت بعض المقاطع لأسباب فنية فقط، أي لترقيع الحذف، بإضافة بسيطة.
* * *
- دأبت (إسرائيل) على اعتقال المثقفين الفلسطينيين حيث دخل السجون الإسرائيلية عدد من الشعراء. كذلك صادرت إسرائيل الكتب السياسية والفكرية والأدبية وقد فوجئت بتاريخ (12/2/1981) بخبر بثته وكالة (رويتر) يقول إن إسرائيل صادرت جميع دواويني الشعرية مع سجن كل من يقتنيها ستة أشهر!!
وفي عام 1987 صدر في الولايات المتحدة كتاب بعنوان (أصوات الفلسطينيين) للبروفسور الإسرائيلي – دوف شينعار، يعترف فيه بمصادرة أعمالي الشعرية. وفي عام 1990 صدر كتاب (انتفاضة) لايهود يعاري مساعد وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، وزئيف شيف المعلق العسكري لصحيفة هآرتس الإسرائيلية – وفيما يلي ترجمة حرفية للشهادتين الإسرائيليتين:
1- دوف شينار: أصوات الفلسطينيين:
في عام 1982 لم تكن (صحافة الضفة الغربية) وحدها التي كشفت إجراءات الرقابة الإسرائيلية، بل كشفها أيضاً صحافيون إسرائيليون وعالميون مثل آموس ايلون (صحيفة هآرتس الإسرائيلية) وأنثوني ليوس (نيويورك تايمز)، وكشفوا أيضاً عن إلغاء الأوامر التي أصدرتها السلطات العسكرية الإسرائيلية المحرجة والتي كانت قد صدرت 1977، حيث صدرت في أيلول قائمة رئيسة منقحة تحتوي (1002) عنواناً ثلثها أعمال (شعرية وقصصية وأدبية وثقافية) كذلك فإن أقل من 10% من الأعمال المراقبة هي أعمال دينية: إسلامية ومسيحية. وفي الحقيقة أن الكثير من هذه العناوين المراقبة كانت لشعراء وروائيين وطنيين من بينهم (غسان كنفاني، سميح القاسم، محمود درويش، عزالدين المناصرة) وهذا يشير إلى تشويه أهمية الأدب الفلسطيني من قبل الرقيب الإسرائيلي. إن نقد المعالجة الأدبية لمعضلة الكبرياء القومي في مواجهة البقاء اليومي ومفارقة المعالجة لواقع معاد ومشوش، يثير أسئلة أكثر تحديداً، بالإضافة إلى نقد الرمزية المنمقة، المسهبة المحاكية لذاتها، فإن التركيز العاطفي والعقلاني على الأسئلة حول ما إذا كان العمل الأدبي قد لازم بالفعل، وحول إذا ما كان بوسع المبدعين الفلسطينيين أن يشبعوا ميولهم الفردية في مواجهة الحجة الجماعية نحو الإلتزام الوطني. السؤال الأول حول التوتر بين الحاجة للتعبير النشيط عن المشاعر العظيمة والضغوطات الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي. وقد صور كلا الخيارين تصويراً مؤثراً فالخيار الأدبي، تم توضيحه. أما الخيار الثاني (اختيار الفعل) فقد مارسه ثلاثة مثقفين فلسطينيين، هم: (الشاعر عزالدين المناصرة، وكمال ناصر، وغسان كنفاني) الذين أضافوا إلى النشاط الأدبي (اختيار الفعل الثوري الكامل) في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. والحقيقة أن كنفاني وناصر قد قتلا في عمل عسكري، (أما المناصرة فهو ما زال على قيد الحياة) – ممّا يجعل التوتر بين الخيارين المتعارضين ظاهرياً، يجعله ملموساً بشكل أكبر(10).
2- إيهود يعاري وزئيف شيف:
(كان الشباب في المناطق المحتلة يتبادلون المنشورات وكراسات الإرشاد والتدريب السري ويستمعون إلى المحاضرات في جلسات مغلقة تعقدها الخلايا السرية. جيل كامل من الشباب الذين تربوا على نظرية النضال وطرقه وأساليبه، الأمر الذي جعلهم متعطشين للعمل، فالكراسات والمنشورات التي صودرت بأيدي السلطات الإسرائيلية أتلفت، واعتقل موزعوها وحكم عليهم بالسجن بتهمة التحريض، غير أن التوزيع واسع النطاق (لأدب النضال). لم يكن بإمكان السلطات الإسرائيلية منع استمراره، مثلما لم يكن باستطاعة السلطات الإسرائيلية منع الشباب في السجون من حفظ أناشيد وقصائد (معين بسيسو – عزالدين المناصرة) التي تمثل روح الصمود(11).
* * *
- ولد الشعر في البريَّة، قرب جبل ياقين شرقي الخليل، حيث فضاء الجبال المفتوح على سماوات مفتوحة في أعالي كنعانياً، حيث صهيل خطوات الأجداد، ولد الشعر طفلاً عارياً بريئاً تحت شجرة كرمة خليلية، كان الشعر كنعانياً آرامياً، وحين تحول العنب الخليلي إلى نبيذ تلحمي، انفجرت أسرار القصيدة. ولدت القصيدة حرة أصلاً، لكنها في جدلها مع الحرية، اكتشفت القصيدة أن الحرية تؤخذ ولا تمنح، عندئذٍ بدأت صراعها مع دكتاتورية الاحتلال وفساد السلطة وبلطجية رأس المال، وإرهاب المعارضة الثقافية التي تريد أن ترسم قصيدتك على هيئتها السياسية. هذه القوى تشكل 15% من المجتمع، لكن فاعليتها النخبوية تغتصب 90% من القرار. أنت كشاعر مجبر على التفاعل مع العوائق أمام التدفق الحر للقصيدة، للتخفيف من سمّيتها، لكن (الانحياز للحساسية الشعبية) هو عنوان المثقف حيث يكون الشاعر المستقل خائفاً لأنه وحيد في غابة الذئاب ويكون مخيفاً لأنه يصعب على التصنيف والتدجين لأنه يرغب أن يظل وحشاً بريّاً مرتبطاً بجذور كنعانيا، لا يخضع لليومي العابر. الشعراء الذين يمارسون نظرية التجسير بين المثقف والسلطة يلتقون في تبريراتهم – مع شعراء التجسير بين العرب وإسرائيل، لقد لعبت الحكومات دوراً في خلق التماثل بين السلطة والدولة، وكان الشاعر يعرف الفارق الجوهري لكنه كان يتعامى ليقنع نفسه بأنه ليس واهماً، من أجل مصالح عابرة، السلطة ليست شراً مطلقاً لكنها مفسدة، حين تقتنص الشعراء لصالحها، ليقبلوا بفتاتها من أجل جعلهم ديكوراً تزينياً لأفعالها. المسألة تتعلق بغياب مبدأ الشراكة، فالدولة الديمقراطية هي التي يتقاسم المثقفون القرار الفعلي معها، دون شعور بأنها هي التي تمنح وتمنع، فالندية في المشاركة أمر ضروري، لقد عشت غريباً وحيداً في هذا العالم، كأنني مقطوع من شجرة لكن الحساسية الشعبية بعناصرها الإيجابية منحتني بعض الطمأنينة وشجعتني على المقاومة، وكنت كلما اقتربت من السلطة، كلما ابتعدت عنها، وكلما اقتربت من سلطة المعارضة، كلما أخافني تقوقعها على نفسها، فالحرية لا تتجزأ" قوميون، يساريون، وطنيون، إسلاميون، لبيراليون، يتصارعون مع السلطة، لكنهم يتحالفون معها فرادى، فيسكت كل واحد منهم عندما لا يكون مقموعاً!!. وهكذا شاعت (الصمت تجاه حرية الآخر) عندما ولدت الفجوة بين النظرية والتطبيق، وعندما شاعت ظاهرة الكيل بمكاييل عدة تجاه قضية واحدة!! فالمثقف الحائر بين السلطة والمعارضة هو مثقف انتهازي، يرغب في أن يمتلك الدنيا والآخرة، هناك (شعراء سلطة) وهناك (شعراء معارضة) وهناك (شعراء الحساسية الشعبية) حيث سادت ظاهرة (المنع من حق الشراكة في الفضائيات والانترنت والصحف بين هؤلاء الشعراء، ونحن نلاحظ أن بعض لشعراء لا يمتلكون الحد الأدنى من الموهبة الشعرية، مع هذا فهم (ظاهرة تلفزيونية) لأسباب تقع خارج منطقة الشعر، ونلاحظ أن شعراء يمتلكون مالاً يحتلون مواقع في الانترنت مع أنهم شعراء من الدرجة المتوسطة، ونلاحظ أن شاعراً ممتازاً مقرباً من السلطة، تفتح له أبواب الفضائيات والانترنت والصحف، وتحشد له السلطة وسلطة المعارضة جمهوراً صناعياً، لا يحلم به لو كان بعيداً عن السلطة، بينما نجد شاعراً ممتازاً ينتمي للحساسية الشعبية تغلق أمامه الأبواب، فيلجأ لجمهوره العفوي غير المنظم، هذا هو (التزوير العلني) (والقمع الخفي). وفي ظل هذه الإشكالية تزدهر ظاهرة توزيع الفتات، وتوزيع الرداءة بموضوعية أخوية!! وهنا يزدهر ما أسميه (تلفيق المنع) وهي ظاهرة خطرة لأنها تغطي على عذابات الممنوع الحقيقي، باختراع منع وهمي، ولأن بعض الشعراء لا يمتلك موهبة حقيقية شعرية، فهو يبحث عن الشهرة من خلال ما نسميه (سحر المنع). فقد روجت السلطة في الوطن العربي لأعمال أدبية لمؤلفين موالين لها بمنع شكلي، من أجل تسويقها، وحدث أن بعض الشعراء الباحثين عن الشهرة بأي ثمن قاموا بالمشاركة في تلفيق المنع بالتحالف مع السلطة أو المعارضة أو عن طريق فن العلاقات العامة الشخصي مع الصحافيين من اصدقائهم. إن الخطر الحقيقي في هذه الظاهرة (تلفيق المنع) يكمن في مصادرة حق (الممنوع الفعلي) في أن يتضامن الجمهور معه، ويكمن في الترويج لأعمال أدبية رديئة من حيث مستواها الإبداعي، إن أي شاعر حقيقي يرغب في وصول أعماله الشعرية إلى الجمهور العريض بعيداً عن سحر المنع، لأن سحر المنع مؤقت. كنت أفرح طيلة الثلاثين سنة الماضية، لسحر المنع، لأن ذلك كان يعني أنني شاعر فاعل ومؤثر، فقد كان الشرفاء ينسخون قصائدي ويوزعونها سراً في بلدانهم، كان هذا يبهجني، لكنه أضر كثيراً بشهرتي الشعرية، فعندما تمنع من دخول بلد ما طيلة أكثر من ربع قر،ن فمعنى ذلك أنك تخسر جمهورك العريض، خصوصاً إذا رافق ذلك صمت المثقفين تجاه المطالبة بالإفراج عن أعمالك الممنوعة!!
- المسألة الأخطر في (سحر المنع) هي ولادة الانحراف الشعري والنقدي تجاه المستوى الإبداعي الحقيقي للنص، فالمنع يولد لدى الشاعر أوهاماً كثيرة، منها أن النص الممنوع هو الأرقى إبداعياً، وبالتالي يصبح تركيز الشاعر على مستوى الإبداع في القصيدة ضعيفاً لأنه يكون منشغلاً بأسباب المنع، وقد يجد الشاعر من يصفقون له من القراء والنقاد مؤقتاً لكنه يكتشف بعد زمن أنه لا يمكن أن يزيل أسباب المنع لتكون جماليات القصيدة أفضل، هذا طبعاً إذا كان سبب المنع سطحياً مباشراً، الإشكالية هنا أن سحر المنع يطغى على جماليات النص، وهنا يولد الانحراف الشعري والنقدي، فالمنع يولد السحر وسحر المنع يولد غياب الجماليات، ونحن نعرف أن بعض الأعمال الأدبية الممنوعة تنتمي إلى الأدب المتوسط الحال، لكن المنع طال أعمالاً أدبية رفيعة بسبب صورة هنا وصورة هناك.
- إشكالية الرقابة هي النظر الحرفي في ثلاثية (الجنس، السياسة، الدين) من خلال مفاهيم مختلف حول تفسيرها وهي قابلة للتغيير والتحول من عصر لآخر، وإشكالية الرقابة الثانية هي النظر الحرفي في النصوص الأدبية باعتبارها حقائق واقعية، والإشكالية الثالثة هي تأثر الرقابة بمفاهيم القوى التقليدية المسيطرة، هذه القوى تنظر إلى الجنس في الأدب بصفته (أدب بورنو) لمجرد استخدام ايماءات وايحاءات جنسية!!! والصحيح أنه إذا استخدم الجنس في النص الأدبي استخداماً طبيعياً أي متلائماً مع طبيعة الشخوص وليس بهدف الاستعراض الجنسي الخالص، فهو مبرر وهناك فرق بين تصنيع الجنس كما في افلام البورنو وأدب البورنو وبين الجنس الإيماني والإيحائي الذي تتطلبه طبيعة وسياق النص، فالإسلام يمتلك الشفافية تجاه المسألة الجنسية، لقد كان القرآن واضحاً في الحديث عن المسألة الجنسية، كما في سورة المؤمنون حيث وصف آلية الخلق في الجوف والرحم والمشيمة، كذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. والإشكالية الرئيسة في النظر تجاه الجنس في الأدب كمحرم يعود بشكل أساسي إلى غياب – الثقافة الجنسية في الأسرة والمدرسة والجامعة. وهذا الغياب يخلق اللاتوازن ويصل حد الاضطراب بسبب التعامل السري مع المسألة باشكالية (احتكار التفسير الديني) والمسألة واضحة في هذا المجال فإذا كان الشاعر أو المطرب يحترم النص الديني الذي يوظفه في النص الأدبي بما لا يتعارض مع القيم الدينية فما الخطأ في ذلك؟ لقد غنى المطرب المعروف صباح فخري الجملة القرانية (إنا اعطيناك الكوثر) في موشح جميل، ولم يعترض أحد فلماذا اعترض البعض لأن مارسيل خليفة استخدم نفس الأسلوب؟ بتقديري، أن السبب يقع خارج القضية المطروحة. لقد تربيت على اللغة القرآنية منذ وقت مبكر، وأنتمي لعائلة متسلسلة هي وريثة (كتاب الإنطاء الشريف) منذ (جدّي الأعلى – نعيم الداري الفلسطيني الكنعاني) – ومنذ أكثر من 1413 سنة، فكيف أستطيع أن أمنع تأثير لغة القرآن، على قصائدي!!! وكيف ندخل القرن الحادي والعشرين بأغاني شعبان عبدالرحيم!!.
- إن القمع يقتل الإبداع ويشوهه، ويولد الرقابة الداخلية، التي هي من ألد أعداء القصيدة الجميلة، صحيح أن القمع يولد التحدي المرتبط بالرغبة في الحرية، لكن القمع هو العائق الأكبر أمام الإبداع.
إن من حقوق الإنسان أن يتحرر من خوفه، ومن حقوقه على الآخرين (السلطة، المعارضة، رأس المال، وسائل الاتصال، والإعلام) أن لا يصنفوه – شاعراً ممنوعا ومخيفاً – ومن حقه أن يكون شريكاً في دولة ديمقراطية، ومن حقه أن يرفض التدجين، وأن يرفض ما يجعل منه مجرد ديكور تزييني يقبل بالفتات – عندئذٍ يزدهر الشاعر المستقل الذي ولد راعياً حراً في البرية، وولدت قصائده في ظل الكرمة الخليلية والنبيذ التلحمي وكرامة الأجداد الكنعانيين العماليق، والفخر بوراثة (كتاب الإنطاء الشريف) في أرض العسل والزيتون والدم، ولكي يكون الشاعر مستقلاً عليه أن يقاوم أشكال المنع كافة، حتى لو حصل على حطام الخسارات، فموقف (المستقل الحقيقي) هو أصعب المواقف.
- اعتقد أن مواقفي السياسية جنت على شعري، رغم أنني أفتخر بهذه المواقف، لأنني انسجمت مع القوى الشعبية المقموعة ولم أستطع الانسجام مع السلطة والمعارضة، لهذا ظلت شرعيتي الشعرية وسلطتي الشعرية محدودة قياساً بالشعراء العرب الذين انسجموا مع القوى المسيطرة، وكانوا جسراً بين العرب وإسرائيل منذ عام 1967، ولست نادما لأنني واثق أن القوى الجديدة القادمة، ستحاول محو هذا الظلم، أما المفارقة المضحكة فهي أن القاتل والجلاد يريد أن يمتلك الدنيا والآخرة فهو يمارس القتل والقمع في زمن ما، ثم يمارس تزوير تاريخ القمع بالكذب، حيث يزعم أن المقموع لم يقمع!!!
- يقول عبدالرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) الصادر سنة 1900 (ما أليق بالأسير في أرض ما أن يتحول عنها إلى حيث يملك حريته، فإن (حياة الكلب الطليق خير من حياة الأسد المربوط).

الهوامش
1) (16 ،17) بيتان محذوفان لأسباب جنسية. لكن من الطريف أن هذه القصيدة كنت أدرسها لطلبتي في الجامعة، وحين سألوني عن البيتين المحذوفين، ضحكت، وقلت لهم: إذهبوا إلى المكتبة، واقرأوا البيتين في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني... فعادوا لي (فرحين) ودون تعليق... فهم لم يسبق لهم أن دخلوا المكتبة.
2) فاروق شوشة: أحلى عشرين قصيدة حب، دار ابن زيدون، بيروت، ط6: انظر: القصيدة اليتيمة لدوقلة المنبجي.
3) أبو العلاء المعري: اللزوميات، المجلد الثاني، ص117، تقديم وشرح، وحيد كبابة وحسن حمد، دار الكتاب العربي، بيروت ط1، 1996.
4) الدكتور محمد مندور: النقد المنهجي عن العرب، دار نهضة مصر، القاهرة (تهمة الكفر لأبي تمام)، ص81-82.
5) الدكتور محمد شحرور: الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة: دار الأهالي، دمشق ط6، 1997، (ص 669-676).كذلك انظر: منى سنجقدار شعراني: تاريخ الموسيقا العربية وآلاتها، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1987 (حديثان للرسول حول الموسيقى، ص28).
6) عبدالوهاب بوحديبة: الإسلام والجنس، ترجمة هالة العوري، دار رياض الريس، ط2 لندن 2001 (انظر: ص20).
7) علي عبدالرازق: الإسلام وأصول الحكم، منشورات، موفم، الجزائر العاصمة، 1988 (انظر: وثائق المحاكمة ص127-179).
8) إنعام الجندي: علي الجندي وزكريا تامر لم يمنعا مجلة – شعر – جريدة (القدس العربي، لندن، 24/7/2000).
9) جريدة (أخبار الأدب): القاهرة، 12/2/2001.
10) صلاح عيسى: يجب أن لا نسيء استخدام الهامش الديمقراطي المحدود – جريدة القدس العربي، لندن، 12/12/2001.
11) Dov Shinar: Palestinian Voices, Lynne Publishers, Colorado U.S.A., 1987 (p.124) + (p.130+131).
12) ايهود يعاري (مساعد وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق) وزئيف شيف (المعلق العسكري لصحيفة هآرتس الإسرائيلية) في كتابهما المشترك: انتفاضة، ترجمة دار الجليل، عمان، الأردن 1990 ص49.
13) عبدالرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد، منشورات موفم، الجزائر العاصمة 1988، ص18.
14) عزالدين المناصرة: مجلد الأعمال الشعرية، الطبعة الخامسة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (بيروت – عمان) 2001.
• استغل بعض (الانتهازيين)، الهجوم على (أدونيس- محمود درويش – سميح القاسم)، بسبب (الحذف والإضافة) في أشعارهم، (لأسباب سياسية)، أي التلاؤم مع (فكرة التطبيع)، استغلوا ذلك، ليلحقوا اسمي، بهؤلاء في مسألة (الحذف والإضافة) لكنهم فشلوا في إثبات أن السبب هو (سياسي)، فقد تبين أن السبب هو (دكتاتورية الرقابات العربية) التي منعت أشعاري طيلة ثلاثين سنة، فاضطررت إلى (الترقيع)، أي تعويض المحذوف، وهناك سبب آخر أن أصول القصائد الأولى موجودة في أرشيفي الخاص!!.. لهذا أقول: (ليس معقولاً أن تقتلني ثم تدعي أنني قتلت نفسي).



#عزالدين_المناصرة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مذبحة اغتيال الشهود في مخيمي صبرا وشاتيلا
- الأصليون (الفلسطينيون) يقاومون الإحتلال: (الأشكي – نازي)، و( ...
- كتاب الإنطاء الشريف، (العام التاسع للهجرة): أول إقطاع في الإ ...
- الدروز الفلسطينيون: من سياسة فرق تسد البريطانية إلى سياسة حل ...
- الآثار تتكلم: القدس الكنعانيَّة الفلسطينيَّة: 3200 ق.م.
- عيسى بن مريم (المسيح): كنعانيٌّ فلسطينيٌّ، جنوبي تلحميٌّ، ول ...
- إشكالية قصيدة النثر


المزيد.....




- وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه ...
- تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل ...
- تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون ...
- محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا ...
- الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا ...
- روى النضال الفلسطيني في -أزواد-.. أحمد أبو سليم: أدب المقاوم ...
- كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا ...
- مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م ...
- “نزلها حالا بدون تشويش” تحديث تردد قناة ماجد للأطفال 2025 Ma ...
- مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدين المناصرة - (الشاعر المستقل)... خائفاً ومخيفاً: المنع يُوَلِّدُ سحرَ المنع!!