|
التَيَقُّنْ - منهج بدائي
محمد عبد القوي
الحوار المتمدن-العدد: 5766 - 2018 / 1 / 23 - 03:11
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ليس من شك أن حواس الإنسان هي أحد أهم النوافذ المعتد بها لتلقي المعارف المختلفة بل لا يكاد الإنسان العادي أن يعترف بوسيلة للمعرفة غير هذه وكل معلوماته ومعارفه مبنية علي ما رآه وسمعه ولمسه بنفسه إن الوجود الموضوعي كله، إنه الذي يحيط به والحقائق التي يؤمن بها ويتصرف بمقتضاها إنما هي التي تقع تحت حسه ومعظم حقائقه إنما هي مدركات حسيه يشعر بها - ينظر إليها ويلمسها ولكن هل هذا الإعتقاد صحيح ؟! هل ما تراه صحيح ؟! إنك لا تستطيع بأي وجه من الوجوه أن تتحقق من صحة المعارف والحقائق التي تقدمها لك حواسك ...إنك لا تستطيع أن تتيقن من صحة ما تنظر إليه وتلمسه وتحسه ...إن حواسك هي التي تخلق المحسوسات أو تنقلها إليك من العالم الخارجي دون أن يكون لديك معيار يجعلك تميز بين ما تنقله وما تختلقه أي بين ما له وجود خارجي وما هو من صنع الخيال والوهم إنك مثلاً تجلس الآن وتقرأ هذه الكلمات أو تزعم لك حواسك أنك تقرؤها فهل هذه هي الحقيقة ؟! هل مزاعم الحواس هذه تنطبق علي الواقع الفعلي ؟! أم هي خداع من الحواس ؟! قد تقول أنها لا تخدعك فأنت تري الكلمات بعينيك وتمسك الكتاب بيديك وأنت متأكد تماماً أنه موجود في الواقع وأن وجوده ليس وهماً أو خيالاً وتظل تردد أنك تراه وتلمسه ولكنك في الواقع تدور في دائرةٍ مغلقة ولا برهان لديك علي صدق حواسك ...ألا يجوز أنك الآن نائم تحلم بأنك تقرأ هذه الكلمات ؟! وأن تمعنك وجلوسك الحالي وأنت تقرأ مجرد وهم وخيال لا وجود لهما إلا في الحلم ؟! قد تقول أنك لست نائماً ولست حالماً فكيف تثبت ذلك ؟! بالطبع ستقول إني أحس أني لست نائماً لأني أتحرك وأغضب وأثور لكلام هذا الكاتب الذي يحاول بكلامه هذا أن يشكك في حواسي ...قد تقول إني أتحرك وأشعر وأتناول الطعام حينما أقرأ ...قد تقول أنك الآن تغامر بفكرك محلقاً مثل الطيور ...قد يكون العالم كله في رأسك الآن ...قد تتذكر ذكرياتك كلها ...قد يمر التاريخ كله علي رأسك ......قد تكون ممارساتك في الحياة برهاناً علي وجودك ولكن هل هذه برهان ؟! هل ممارساتك برهان ؟! هل هي برهان حقيقي ؟! إنك قد تظل تقدم براهين وحجج وأدلة من داخل شيء هو في الأساس خرافة ...قد تبني حلولاُ ومعارف ونتائج والمقدمة ذاتها خاطئة ...قد يكون نقدك للفساد في قومٍ ، إنما يعني الدفاع عن الفساد في قومٍ آخرين ... قد يكون الهجاء مدحاً ...قد تمدح قاتلاً أو شريراً بهجاء منافسيه ... إن من يهجو طاغية وهو راكع تحت أقدام طاغية آخر لهو مادح للطغيان بلغتين ... بصيغتين ...بأسلوبين قد تذهب تقاوم أو تلعن عدواً للحرية ، وأنت مجند تحت أعتي علم للعبودية ...قد تحسب أنك بذلك قد أصبحت حراً ...قد أصبحت نبي الأحرار ...قد تنام حينئذٍ علي بساطٍ واسع ...مريحٍ من الرضا عن النفس ...قد يكون تحطيمك لوثنٍ ما ، تشييداٍ لوثنٍ أعظم ...قد يكون هذا هو قصدك ...قد يكون البشر كلهم مثلك، لا يحطمون الأوثان، لا ينوون تحطيمها، لا يطيقون تحطيمها، وإنما يتوزعون، يتنقلون بين أوثانٍ مختلفة بلا حريةٍ ولا أنفة ، بلا نموذج ، بلا إنسان قد تجد في الكتاب - في الكتاب الذي تقرأه الآن برهاناً لوجودك أي أنك تقرأ لأنك موجود وتحس وتشعر وتعي ويستثار بداخلك التفكر والفكر والمسائلة والتحملق في الوجود - في وجودك وكينونتك ولكن مهلاً ...ألم يحدث لك أنك كنت تحلم أنك مستيقظ تفعل كل هذا ؟! ألم يحدث أنك كنت تحلم بأنك تتحرك وتشعر وتتناول الطعام ؟! ألم يحدث أنك كنت تحلم بأنك تغامر محلقاً مثل الطيور ؟! ألم تحلم كثيرا أنك تسقط من مكانٍ عالٍ وكأنك تسقط فعلاً ؟! ألم يحدث أنك كنت تحلم أنك كنت تحلم بأنك تقرأ وتفكر وتتفكر وتسائل ؟! ألم يحدث أنك كنت تحلم بأنك تمارس كل ممارساتك ؟! ألم يحدث أنك كنت تحلم أنك تمارس كل ممارساتك التي لا تستطيع أن تمارسها حالياً ؟! ألم تمارس في الحلم ممارسات هي التعبير الواضح عن نواياك ورغباتك وإحتياجاتك ؟! ألم تكون ممارساتك في الحلم هي أصدق من ممارساتك الآن لأنها تعبير عنك وعن كل ما بداخلك ؟! ألم يحدث أنك سألت نفسك في الحلم هل هذا حلم أم حقيقة وكنت تجيب نفسك بأنها حقيقة وليست حلم ثم تستيقظ من نومك ؟! ألم تمر بك أحلام كنت تظنها حقيقة بينما أنت تحلم بها ؟! إن جميع الناس لا يصدقون حواسهم حواسهم دون حتي أن يدرون وتستطيع أن تتحقق بنفسك من كلامي إذا ما خالطت العامه من الناس وحديث السراب عند الفلاحين القاطنين علي أبواب الصحراء معلوم ومعروف ليس هذا فقط ولكنك تسمعهم يقولون " خيل لي كذا وظننت أنني رأيت شبحا وسمعت صوتا يناديني " الي آخر هذه الأوهام والخيالات فحتي الرجل العامي لا يثق بحواسه كل الثقه وإن كان يعتقد أنها الباب الوحيد للمعرفه وهو لا يدري بهذا التناقض ولا يعيه يجب أن تتردد ألف مره قبل إثبات شيء من عدمه قديماً نظروا إلي السماء فوجدوا أقمارها وكواكبها ونجومها تدور كل يوم حول الأرض فإعتقدوا أننا مركز الكون ثم جاء كوبرنيكوس وجاليليو ونقدوا ونقضوا هذا الأمر...وإعتقد البشر - وطيلة تاريخهم - أن الكون عبارة عن مجرة واحدة فقط ثم جاء إدوين هابل في أوائل عشرينيات القرن العشرين وهدم هذا الإعتقاد بالتأكيد علي وجود مجرات أخري ...وظل الفلاسفة مقتنعين أن كوننا لا بداية له وأنه ساكن لا يتحرك حتي أثبتت معادلات أينشتاين وأعمال فريدمان ولوميتر وجامو وهابل أن كوننا يتمدد وأن له بداية وله نهاية أيضاً ...ولقد ظل البشر مقتنعين بوجود مجرات أخري تقدّر بمائتي ألف مجرة حتي إكتُشفَ مؤخراً أن كوننا يحوي إثنين تريليون مجرة إنك الآن تنظر إلي الشمس بعينيك في مشهدٍ تستحضر فيه عينيك وكل حواسك لتراها أي الشمس تدور حول الأرض مع أن العكس هو الصحيح والأرض هي التي تدور حول الشمس وإنك تنظر إلي القمر في السماء فتجده أكبر الأجرام السماوية حجماً مع أنه أصغرها ...نعم فالقمر أكبر الأجرام حسب رؤيتك بسبب قرب مسافته إلي الأرض عن الأجرام الأخرى بينما هو في الحقيقة أصغر الأجرام وأنت تنظر إلى السماء على أنها فوق والأرض على أنها تحت مع أنه لا يوجد فوق ولا تحت والأرض جزء من الفضاء ولا يوجد مكون مادي إسمه (السماء) بينما - وللعلم - يستخدم مصطلح السماء في كتب الدين إستخداماً لغوياً بمعني الشيء الذي يسمو فوق الإنسان والأرض أي يعلوها - أي حتي المعني اللغوي للكلمة أنت تتصوره علي غير حقيقته – أي تتصوره مادياً بوجود مكون مادي إسمه سماء وأنت في معاملاتك الإجتماعية لا تستطيع أن تجعل حواسك حكماً علي الأشياء أو أن تستنبط بحواسك الحقائق والمعارف الحقيقية إنك تنظر إلي من يبتسم لك نظرة سخرية ممزوجة بالحزن لأنك تعلم أنه يكرهك ...أنت تراه بعينيك يبتسم لك وتسمعه بأذنك يتودد إليك ...إن هذا المشهد كله يبدو علي أنه علاقة صداقة وود حقيقي ولكن الحقيقة غير ذلك ...الحقيقة تختبيء وراء الإبتسام ووراء الكلام ووراء الأجسام لأنها تكمن في النفوس وأعماقها ونياتها وأفعالها الشريرة وعلي العكس تجد من لا يبتسم لك إلا نادراً ومن لا يقول لك كلاماً مردداً ...إنك تراه لا يبتسم لك إلا نادرأ وتسمعه لا يقول لك شيئاً إلا نادراً ومع هذا فالحقيقة غير ذلك ...الحقيقة تختبيء وراء الخجل والصمت لأنها تكمن في جمال النفوس وأعماقها ونياتها وأفعالها الخيّرة إن اللون الأسود الذي يميز شكل الكلام الذي تقرأه الآن واللون الأبيض الذي يميز الورقة التي كُتِبَ عليها ما تقرأه ما هم إلا وهم صنعه دماغك ...إن الألوان تصنعها الدماغ ...إن مخك يقوم بتحويل مدي معيّن من الأطياف الموجية إلي كل لونٍ تراه أي أن هذه الألوان في حقيقتها مجرد موجات تختلف فيما بينها بحسب الطول الموجي والتردد ولا وجود للألوان في حد ذاتها كما تراها ...نعم إنك تري وهماً جعلته أنت حقيقة ...رسمه عقلك وصاغه مخك صياغةٍ كاملة حتي الكتاب نفسه ...نعم حتي الكتاب نفسه أنت لا تلمسه بالحقيقة إن يديك ليست ملامسة للكتاب تماماً ...إن هناك فراغ ذري ضئيل بين يديك وبين الكتاب ...إن الكتاب وأنت تتكونان من ذرات ...ومن المعروف فيزيائياً أن الذرة تحوي مجالاً خارجياً من الإلكترونات سالبة الشحنة ...وهذا المجال يحيط بنواتها فحينما تتقارب نواتان من بعضهما البعض بدون أن يكون بينهما تفاعل كيميائي فحينها لا تتلامسا إنك الآن - وأنت مكون من ذرات - تمسك الكتاب المكون من ذرات أيضاً ولكن هذا التماسك والتلامس لم يتحقق تماماً ...والسبب بسيط للغاية إن السبب يكمن في تشابه شحنة الإلكترونات السالبة التي تحوي ذراتك - والتي تحيط بأنويتها مع شحنات الإلكترونات السالبة التي تحوي ذرات الكتاب - والتي تحيط بأنويتها أيضاً مما يؤدي إلي التنافر وعدم التلامس الحقيقي الفعلي إنك أيها القاريء ...أيها الإنسان تمارس حياةً متناقضة ...إنك تنام وتصحو ...وتتنظف وتتهندم بأجمل الملابس والعطور ثم تُذّهِبْ كل ذلك بقضاء حاجتك البيولوجية ...ما هو أنت ؟! ما هي حقيقتك ؟! هل أنت الكائن المُهندم المرتدي أجمل الثياب الواضع لأجمل العطور أم أنت الكائن المستقذر الذي يقضي حاجته بكل هوان وألم وتحقير لكل معانيك الأخرى ...أيهما أنت ؟! أيهم !!! ومع هذا فأنت الإثنين - أنت الكينونتين المتضادين ...إن الضدان إجتمعان عندك أيها الإنسان ...إنك خالفت البديهيات ...إنك خالفت المنطق إن حياتك ذاتها أيها الإنسان هي حياةٌ متناقضة متعارضة متضاربة لا تنتظمُ علي شيئاً واحداً ولا تتشكل علي نظامٍ واحد ...إنك أيها الإنسان فاني ومنتهي ومع هذا تحوي الخلود ... وإنك ميت وتحوي الحياة في نفس اللحظة ...وإنك عبداً وتحتضن قلباً حراً ...وزمني وتحتوي علي الأبدية ...وضئيل وتستوعب الكون كله بداخلك ...إن حبك وبغضك ورغبتك وإعراضك وصحتك ومرضك وفكرك وفنك وتفكيرك كلها تدل علي تعارضك وتناقضك ومع ذلك كلها موجودة وهي أكثر الحقائق رؤيةً ومشاهدةً ومعايشةً لك لأنها تمثل كينونتك ...إنها تمثلك أيها الإنسان إن القاعدة المنطقية تقول ((الضدان لا يجتمعان)) ومع هذا تجتمع كل هذه الأضداد والتناقضات والتعارضات فيك - في داخلك وفي قلبك وفي كينونتك وفي حياتك
إن العالم كله يقيدك وجسدك نفسه يقيدك ومع هذا لا تمنعك تلك القيود من أن تتمني أية أمنية وبأن تحلم بأي حلم وبأن ترغب في أي رغبة وبأن تضمر في نفسك شيئاً عظيماً بل وتفرض هذا الشيء علي ظروفك ...إنك ضعيف وتصهر الصلب ...وصغير وتسوي الجبال بالأرض ...إنك بلا جناحات وتطير ...إنك كائنٌ أرضيْ ومع هذا أصبحت كائنٌ سماويْ بذهابك للعوالم الأخرى لتكتشفها وتعرفها وتدرسها وتسيطر عليها أتمنى على العالم كله أن يقوم بعمليات تشكيك شاملة على مستوى عالمي، تعلم الناس ...تعلم كل الناس بكل الوسائل أن يشكوا في يقينهم، في يقين كل فريق بأن ما عنده من المذاهب والعقائد والنظم والتفاهات هو الأفضل وهو الأصدق ...وأتمني كذلك أن توجد في كل المجتمعات عمليات تشكيك من هذا النوع إن هذا التشكيك على المستوى الدولي أو المحلي أسلوب من أساليب الدعوة إلى السلام والحب العالمي وخلق ظروفهما، وأسلوب من أساليب مقاومة البغضاء والتعصب والحروب إنه لا فضيلة إنسانية أروع من أن يرفض الإنسان الإقتناع بأن مذهبه، أو رأيه، أو موقفه أفضل أو أصدق، من مذهب الإنسان الآخر أو من رأيه، أو من موقفه أنت تواجه وتمارس عالماً يناقضك ويؤلمك ويتحداك، ويكون غير ما تريد وتتوقع وتتيقن، وأنت لا تستطيع مفارقته أو التلاؤم معه كما تريد، ولا تستطيع كذلك أن تصمت عن رؤيته أو قراءته أو الإحساس به أو التعذب بذنوبه، إذاً أنت محكوم عليك بأن تشك، بأن تشك فيما تمارس وتري، وبأن تشك أيضاً فيما لا تمارس ولا تري لأنك تشك فیما تری و تمارس أما إذا لم تشك فأنت معجزة في جهلك ...أنت معجزةٍ في قدرتك على الصمت عن الحديث مع نفسك ومع الأشياء التي تمارسها وتمارسك أنت تشك، إذاً أنت حتماً إنسان، وأنت لا تشك إذن قد تكون فقط إنساناً فالذي يشك هو حتماً إنسان، أما الذي لا يشك فقد يكون إنساناً، قد يكون إنساناً تخرق عينيه الحياة دون أن يراها أو يفسرها أو يحاسبها أو يتحدث مع نفسه ضدها أو يتحدث مع نفسه إلي نفسه أو ضد نفسه أو يقرأها أو يحاسبها أو يسائلها أو يفسرها إنه مستحيل أن تقرأ الأشياء والناس أو تراها وتراهم ثم لا تشك، ولكن هل تستطيع أن تتعامل مع الأشياء والناس دون أن تقرأها وتقرأهم وتراها وتراهم، على أي مستوى من مستويات القراءة والرؤية ؟! إن الشك هو الرؤية والقراءة ثم الحديث مع النفس ثم مع الاخرين عن هذه الرؤية وهذه القراءة فالذين لا يشكون هم الذين لا يرون، ولا يقرؤون، ولا يتحدثون مع أنفسهم ولا مع الآخرين إن كائناً ما غير الإنسان لا يمكن أن يشك، وإنه لشيء مثير أن يوجد شاك أو غير متيقن في المجتمعات المتخلفة أو المغلقة، إن جميع ما لدى أمثال هذه المجتمعات من إعتقادات وقبور فكرية ونقائص وتفاهات وآلام يتحول إلى نوع من الأزياء العقلية والتاريخية والأخلاقية التي يخضعون لها جميعاً كما تخضع الطبيعة لقوانينها، ويتتابعون عليها، كما تتتابع قطع الحجارة المقذوف بها إلى أعماق بئر ...إن المجتمعات المتخلفة والمغلقة أو أغلب المجتمعات تتشابه في صفاتها ومستوياتها النفسية والعقلية، فلا تختلف غالباً في فهمها وتقويمها للأشياء وفي الرضا عنها والرؤية لها، كما لا تختلف غالباً في خيالها وأمانيها وهمومها، وفي قدرتها على الغضب العقلي مما تواجه وتمارس إن التفاوت بين أحاد هذه المجتمعات هو تفاوت ضئيل وغير جريء ولا فعال، بل هم متقاربون في صفاتهم الفكرية تقارباً يجعلهم متفقين في أحكامهم علی الأشياء ورؤيتهم لها وتلاؤمهم معها مهما ناقضتهم وآلمتهم إنهم يرون جميع الأشياء من علي بعد واحد، وفي حجم واحد، ولون واحد وهم يمارسونها أو تمارسها دون أن يبصروها أو يسألوها أو يحاسبوها على أي ذنب أو خطأ فيها إن عيونهم حُفَرْ وليست عيوناً، ولهذا تسقط فيها الأشياء دون أن يستطيعوا رؤيتها والتفاوت بين الآحاد لا يوجد أو يكون كبيراً إلا حيث يكون التفاوت بينهم في التفكير والتعبير والمواجهة كبيراً، وهذا لا يكون إلا حيث يكون الشك ...ولكن الشك لا يجب أن يكون فقط شكاً عقلياً، إن هناك شكاً آخر، هو شك السلوك والتعبير، أو الشك بالسلوك والتعبیر، وهو الخروج علي ما هو موجود وكائن وتاريخي والتخطي له بالتغيير والتفوق إن الشك عملية لا يستطيعها أو يتحمل آلامها بكل أعماقها وأحزانها وتحدياتها إلا الإنسان الناظر بكل العيون إلى كل الجهات، المحتج بكل العقول على كل الأخطاء، المتألم بكل الأعصاب على كل الآلام، المفسر لكل الأحداث بكل الاحتمالات، المستمع إلى كل الزعماء من فوق كل المنابر، في كل المواقف، تحت كل الأكاذيب والتناقضات والبذاءات، القارىء لكل الأفكار، بكل اللغات، المفسر للحياة في كل المخلوقات، بكل الإقدام والحماس ولكن هل يوجد من يستطيع كل هذا ؟! إن معنى الشك أن تصرخ بكل صوتك، بكل حزنك وغضبك، من كل ما تراه وتعمله وتمارسه. إن الشك لا بد أن يحول طلعة الشمس وبسمة الزهر وجمال الطفولة إلى تفسير عقلي وعلمي حول حقيقة هذه الأشياء وإلي إحتجاج وهجاء للكون الذي يقتل الشموس والزهور وجمال الطفولة إن عملية الشك عقاب للإنسان، ولكنها مع ذلك عملية تنمي فكره وتقومه وتزيد في قدرته وفي إجادته لقراءة الكون والإنسان كما تفعل التمرينات الرياضية للبدن، إن الشك أسلوب من أساليب المصارعة والملاكمة ضد الكون والناس، وضد المذاهب والتاريخ ...إن الإنسان الذي يكون تحت سبب من الأسباب مستسلماً مستيقناً في جميع تعامله وممارسته لمذاهبه وللناس والأشياء لن يستطيع أن يكون إنساناً محارباً في أفكاره أو في إبداعاته أو في تحديه للتفاهات والنقائص والهموم التي سيجدها مفروضة عليه وعلى جيرانه ومجتمعه وعلى آبائه الذين ماتوا تحت آلامهم ...إن في اليقين كل إحتمالات الجمود والإستسلام والعجز والطاعة والبلادة العقلية والنفسية إنه يميت إحتمالات الإحتجاج والتفكير والمحاولة والرفض وموهبة الخيال، ولهذا فإن جميع الطغاة والمعلمين والمتعاملين على غباء الإنسان وهوانه يقاومون الشك ويلعنونه، ويحاولون تحويل کل شيء حتى البراكين والزلازل والمجاعات والأوبئة والأعاصير إلي منابر وكتب مقدسة تؤكد على مزايا اليقين والمستيقنين ...ما أضخم وأقدم وأغلى الأجهزة الدعائية التي يبتكرها ويتقنها وينفق عليها هؤلاء بجنون ووحشية لتعليم اليقين وتحريم الشك إن أفضل طاغية مصلح معروف بأعظم مزايا الاستقامة ليشمل بفيض تسامحه أفسق الفساق، وأكثرهم سرقة وفساداً، ثم لا يستطيع أن يتسامح أو يفكر في التسامح مع أذكى وأنبل قديس، إذا كان من غير المتيقنين الداعين إلى الشك في قيمة الألم أو الهوان الذي أصبح جزءاً من النظام الذي يقف فوقه ذلك الطاغية كما أن ذلك الطاغية قد يغفر بكل سماحته كل الذنوب والوقاحات والتفاهات التي يأتي بها أغبى الأغبياء، إذا كان من دعاة اليقين الذين يرفضون الشك الذي يمارسه الناقدون للطغاة وللحياة التي تتقبل أن تهون وتخون حتى تهب نفسها للطغاة لكي يحاربوها في جميع مستوياتها الإنسانية ...إن جميع المذاهب والأحزاب في جميع العصور لم تكن في حساب الذين فرضوا الإيمان بها على رعاياهم إلا أجهزة دعائية للتبشير باليقين والتبشير ضد الشك ...إن أي زعيم أو حاكم أو معلم يقف ليثني على أية مذهب أو نظام إنما يريد فيما يريد أن يقاوم الشكوك في المجتمع ويدعو إلى اليقين فالشك عدو متوحش يخشاه كل الطغاة ويناضلون ضده بكل الأجهزة والأسلحة، أما اليقين فهو صديقهم الوديع إن اليقين هو الغطاء الذهبي الكثيف الساتر لآثامهم ...إننا لو خلطنا كبار الزعماء والحكام وكثيراً ممن يعدون أساتذة وأدباء وكتّاباً ومفكرين - إننا لو خلطنا هؤلاء بالجماهير وأبناء السوق الكادحين في المجتمعات المتخلفة، أو في كثير من المجتمعات، ثم حاولنا أن نجد فروقاً بين الفريقين في تفسيرهم للأمور والقضايا الكبرى، وفي قدرتهم على رؤية جمال الكون، وقسوة الأرض، وبذاءة الزعيم، لما وجدنا هذا الفرق، إلا أن يكون فرقاً لغوياً أي فرقاً في التعبير واللغة، فقد يتفوق أولئك في إجادة الكلمات وصياغتها صياغة حضارية وإعرابها إعراباً سياسياً دون أن تستطيع ذلك الجماهير وأبناء السوق الكادحون ...إن لغة الفريقين قد تختلف بل هي تختلف حتماً دون أن تختلف الأفكار والرؤية للأشياء، أو يختلف القبول والرفض والذكاء والغباء، تماماً كما تختلف الملابس والأزياء دون أن تختلف الذوات ليس الفرق بين الزعماء والحكام ومن يعدون أساتذة ومعلمين ومفكرين، وبين الجماهير في كثير من المجتمعات إلا فرقاً في اللغة أو في الملابس، إن أكثر الناس ليتكلموا بأكثر الكلمات تقدماً ليعلنوا عن أكثر المعاني والأفكار تخلفاً ما أكثر الزعماء والمعلمين والكتاب الذين يتحدثون بلغة أرقي الناس ليعبروا عن نفوس وعقول أضعف الناس إن إحدى مشاكل اليوم هي أن جميع المستويات الحضارية والإنسانية المختلفة جداً في المجتمعات المغلقة تتحدث بمستوى واحد من مستويات الفكر والرصانة العقلية أليس أعظم الزعماء والقادة والمفكرين والوعاظ في هذه المجتمعات يشاركون البسطاء جداً في التخوف من حضارة المتفوقين وأساليبهم في الحرية والحياة، وفي لعنهم مهما اضطروا إلى ممارسة ما عندهم على نحو ما تحت الظروف الملزمة ؟! أليسوا جميعاً يحقرون المنطق الإنساني، وينكرون قدرته على أن يكفي نفسه، ويغني عن القبور والنصوص والأصنام التي صارت عندهم مقدسة مهما إمتدحوا هذا المنطق بأسلوب الشعراء والواعظين ؟! ثم أليسوا جميعاً يتلفتون إلى الوراء حينما يفاخرون بأمجادهم المقبورة وبموتهم الخالد الذي لا يموت ؟! إنهم جميعاً يقرؤون النجوم ويفهمون الكون والحياة والإنسان والمجتمع فهماً موحداً متساوياً، أو فهماً ليس متباعداً كثيراً ؟! إن التفاوت بين البشر لا يكون إلا بتفاوت السلوك والقدرة والذات والعقل وذلك لا يمكن أن يتفاوت من دون الشك ...والشك كما تقدم إحتجاج فكري علي الأشياء أو تجاوز سلوكي للأشياء فالذين يؤمنون إيماناً قاطعاً مستيقناً سلوكياً وفكرياً بمسلّمات مذهبية وفلسفية ثم يستطيعون أن ينفذوا إيمانهم السلوكي والفكري، كيف يمكن إذاً أن يتفاوتوا أو يتغير مجتمعهم أو أي شيء فيهم ؟! إن أي عبقري - من حيث توزيع الطاقة المخزونة في ذاته - لن يمتاز علي أي إنسان بسيط لو أنه صرف بحيلة من الحيل عن تجاوز ما هو موجود، وعن أن يشك ويناقش ويخالف مسلّمات ذلك الإنسان البسيط، مهما إختلفا في مقادير ما يملك كل منهما من الطاقة المخبوءة المقتولة بصولة اليقين، المقبورة تحت ثلوجه وهذه البدائية والطفولة العقلية المملوءة بالرغبة في تصديق الحشرات والآلام والعبث، وفي تصديق الكون والزعماء والدعاة حينما يتحدثون عن آثامهم ويحولونها إلي مذاهب ونظم - نعم هذه البدائية إنما تكونت تحت عوامل كثيرة ومعقدة، قد يكون منها التعويد الطويل علي الحفظ والرواية عن التاريخ مع الزجر الدائم المهيب عن الإحتجاج الفكري، كما قد تكون - أي هذه البدائية والطفولة العقلية – مزاجاً ومستوي ذاتياً والمجتمعات التي تقوم تعاليمها علي تحفيظ النصوص والمبالغة في تقديسها قد تتعود علي الإيمان بالإستماع، وتخمد فيها طاقة النقد والمعارضة، وتتقاصر فيها مغامرات الشك وقد تكون هذه الطفولة والبدائية العقلية إستمراراً للطفولة الميلادية فالأطفال محكوم عليهم بأن يكونوا في حالة تلقٍ وقراءةٍ مصدقة، أي في حالة إيمان وإستقبال لما حولهم ولما يسمعون ويؤمرون به لأنهم في حالة فراغ وإستماع فلابد أن تكون آذانهم هي الجهاز الذي يستقبلون به العالم، وأن يتعلموا كل لغة يقع التعامل عليها أمامهم غير مقيدين بلغةٍ معينة سابقة أو مميزين بين لغة ولغة - إنهم لم يتعلموا بعد كذب العقول ومكرها ولا أكاذيب الدعاة والخطباء والقادة والمتحدثين عن المذاهب، ولا أخطاء اللغات والبلاغة وعجزها، ولم يتعلموا كذلك أن أكثر الكلام لم يُرد به أن يكون تفسيراً لقائله أو دالاً عليه، بل تضليلاً عنه وإخفاءً له، ولا أن أكثر الكلام لا يعني به أي شيء، لا يعني المعني الذي يقال به ولا يعني نقيضه، ولا يعني به أن يكون كلاماً علي أي تفسير أو مستوي، وأن المذاهب والإعتقادات لا يمكن أن توجدها أو تصوغها الألفاظ الضارعة أو الحزينة أو المرتجفة أو الصارخة أو المكررة إنهم لم يتعلموا أن أكذب الزعماء والدعاة هم أحياناً أعلاهم صوتاً وأكثرهم توكيداً وقسماً وخطباً وبكاءً ...وإن الكلمة الفصيحة قد تكون أكذب الكلمات وأقلها مستوى أخلاقياً وبلاغياً والأطفال بل وأكثر الناس لا يعرفون أن بين الحقيقة والحديث عنها فراغاً هائلاً تعيش فيه كل التفاهات والدعايات الكاذبة، وتعيش فيه أيضاً الأحلام النبيلة فالطفولة إذاً آخذة فقط، وهي كذلك مصدقة وليست شاكة، لأن الشك أسلوب من أساليب العطاء، لأنه تصدير شيء ما أي تصدير للرأي والإحتجاج والغضب على شيء ما، والطفولة ليست في حالة عطاء على أي معنى من المعاني إنه إذا ظلت جماعة ما سائرة في طريق طفولتها من غير أن تتعلم الخروج عليها والتجاوز لها فإنها ستظل طفولية بدائية في إيمانها وتيقنها وسلوكها ومذاهبها ومنطقها مهما أصابتها شيخوخة الميلاد والتاريخ إن المجتمعات المتيقنة الرافضة لكل مستويات الشك هي مجتمعات قد غاصت في قاع طفولتها الميلادية، فلم تستطع أن تطفو فوقها حتى بعدما أرهقتها الشيخوخة ...كم من التفاوت مثلاً بين أينشتاين - ذلك العبقري الكوني الذي تحرك الكون كله في دهاليز مخه وقبضة قوانينه - ذلك الإنسان الذي كأنما إعتقل في مجاهل رأسه جميع عبقريات الحياة ...نعم كم من الفرق بين هذا الإنسان الخارج علي جميع المقاييس البشرية، الذي شك في الفيزياء الكلاسيكية التي توافقت عليها البشرية كلها وعدوها نهاية العلم وسقف المعرفة ثم جاء وحجّمَها في مواضعها التي تفسرها ثم فسر هو بكلماته القليلة الرهيبة كل قرميدة تنتظم فيها أجرام الكون سابحة في بحر من نسيج الفضاء (الزمكان)، وحولها إلى قوانين رياضية وعلمية رصينة جميلة عبقرية ...نعم کم من الفرق بین هذا الإنسان الذي هو أينشتاين وبين أحد الجماهير في أحد الشعوب الواثقة بكل الدعاة والطغاة الجهلاء، وبكل الكلام الذي ظل يرجم ذكاءها وكرامتها في كل العصور، علي كل مستويات الغباء والأكاذيب والتفاهات ؟! إن الشعوب التي تؤمن أنها قد إمتلكت الحقائق النهائية في كل شيء ووصلت إلي سقف المعرفة هي شعوب بدائية متخلفة ...مازالت تفكر بمنهج القرون السوداء في تاريخ البشرية...كيف تبذل هذه الشعوب البدائية جهداً لتعرف وتبتكر علماً وتحرز إختراعاً وهدفاً وهي تعتقد أنها وصلت إلي سقف المعرفة ؟! لماذا تجهد نفسها ؟! ما هو المعني هنا أساساً لبذل الجهد ؟! إن المنجزات الكبرى التي تعيشها حضارة الإنسان اليوم لم تكن في بدايتها إلا إرتجافاً خافتاً من الشك النبيل تحرك مستخفياً في طريق كله ظلام، متلصصاً إلى أحد الرؤوس وفي أحد الرؤوس العظيمة التي حكم عليها بأن تكون أحد المناجم الحضارية ...إن حضارة الإنسان اليوم لم تكن في بدايتها إلا شكاً وتحدياً وتمرداً علي أوضاع قائمة ظن معاصريها أنها الصواب المطلق والحقيقة المطلقة وأن كل الخارجين عليها هم الأشرار والشياطين والمشعوذين الذين لابد من قتلهم أو تنحيتهم أو عدم السماح لهم بأن يتكلموا أو يظهروا لئلا يحدثوا خرقاً في هذه الحقائق النهائية لأنهم متيقنين من أن أوضاعهم وأفكارهم هي كل الحقائق النهائية وهي كل الصواب المطلق وسقف المعرفة إنك لو تخيلت أنك ستذهب في رحلة إلي الماضي - تعود فيها إلي ثلاثة آلاف عامٍ مضي وقولت لأهل هذا الزمن حينها أنك تستطيع أن تطير بالطائرة بل وتخترق الفضاء وتجوب فيه محلقاً ثم تعود إليهم سالماً لتتناول معهم وجبة العشاء فماذا سينظرون إليك ؟! إنهم سينظرون إليك علي أنك إله مثل الإله أبولو الذي كان يطير في الفضاء في الأساطير اليونانية فهل هم محقين حينها ؟! هل لأن معارفهم قالت أن من يطير هو إله فسيكون ذلك حقيقة وأنت إله فعلاً ؟! هل لكثرة عددهم وكونهم جميعاً مقتنعين أنك إله لأنك خارق بالنسبة إليهم فهل يجعل إجماعهم علي هذا الرأي حقيقة ؟! إنه لو حذف الشك كله من حساب البشر لكان معني هذا حذف الحضارة کلها لقد ظل البشر في جميع العصور وتحت جميع الظروف والمستويات الحضارية والثقافية يملكون يقيناً كثيراً وشكاً قليلاً مهما إختلفت مذاهبهم ونظمهم ...إن هذه أي مذاهبهم ونظمهم حقاً تختلف وتموت، ولكنهم لا يقتلونها أو يرفضونها، وإنما تقتلها مذاهب ونظم أخرى لتحل مكانها إن البشر ينتقلون من إيقانٍ إلى إيقان، إنهم ينتقلون من يقين إلي يقين ولا ينتقلون من يقينٍ إلى شك أو عدم يقين إنهم ينتقلون من اليقين بهذا المذهب أو النظام إلى اليقين بمذهب أو نظام آخر هو أشرس وأقوى ...ولم تكن عملية الإنتقال نوعاً من الشك أو الرفض، بل نوعا من الفرض والإستبدال المحتوم بالقوة لقد كانوا في ذلك كعبيد العصور القديمة الذين ينتقلون من سيدٍ إلى آخر ليواجهوا عبودية قد تكون أقسي وأشرس إن اليقين بحث عن الخضوع لا عن الفضيلة أو الحقيقة، لقد كان اليقين دائماً بحثاً عن القيد لا عن التحرر ...إن اليقين سلاح يستعمله الأقوياء والماكرون والمنتفعون ضد الضعفاء المغلوبين ليست المذاهب والنظريات التي يراد بها محاربة الشك إلا أساليب بدائية يراد بها هزيمة المجتمع وإذلاله والانتصار عليه من داخله إن قوماً يريدون أن ينتصروا على قوم، فيجعلون اليقين من أسلحتهم لبلوغ هذا الانتصار ما أكثر ما يغفر الإنسان لنفسه وما أكثر ما يصبر عليها ويحابيها إن الذي لا يرى إلا نفسه، ولا يرى الآخرين أو الأشياء الأخرى، فلا يرى الشمس أو القمر أو النجوم - لأنه مشغول برؤية نفسه وإستعراض فضائلها - ليس أسوأ أو أقل ذكاء منك حينما تستيقن أن آراءك ومذاهبك هي وحدها الصحيحة، وأن آراء ومذاهب الآخرين هي وحدها الباطلة بأي ذكاءٍ أو وقار تريد أو تفترض أن تكون بمذاهبك وأهوائك مقياساً للآخرين دون العكس، وما الفرق ؟! أي طفل بدائيٌ وبليد أنت ! أليس هذا يساوي إعتقادك بأن لك الحق في أن تقتل كل من سواك ؟! إن اقتناعك بأن أصنامك هي وحدها الجميلة والطاهرة في هذا الكون، وأنها هي التي يجب أن تحكم العالم، وأن تخضع لها كل الأصنام الأخرى ليس أقل وحشية أو بلادة من إقتناعك بأنك أنت وحدك الوسيم الذكي النظيف في هذا العالم، أو بأن أبناءك هم وحدهم الذين يملكون كل ما في الكون من وسامة وفروسية ذهن، وأنهم هم وحدهم الذين يجب أن يتعلموا وتنشأ وتفتح لهم أبواب المدارس والجامعات وأن يسودوا أطفال العالم، بل وأن يقتل جميع الأطفال الموجودين في العالم فداءً لأطفالك وإخلاءً للطريق أمامهم وإبعاداً للمضايقات والمنافسات عنهم، خوفاً عليهم من الحرج أو الغضب أو من أي إنفعال مؤلم أو رديء لو وجد غيرهما إن حماقات البشر ليس لها حد أدنى ترفض الهبوط تحته أو تعجز عن الهبوط تحته ...ومع أنه لا حد لتفوق البشر، فإنه بنفس النسبة لا حد لهبوط ذكائهم ومستوياتهم النفسية والسلوكية إن الشك علامة من علامات الذكاء وسماحة الخلق وصدق الإيمان وشمول الرؤية ...هل يشك إلا الأذكياء المتسامحون الطيبون المحبون للصدق والحقائق، المرتفعون فوق أنفسهم وجدودهم المتفوقون عليهم، الذين يرون العالم والآخرين ويرون لهم كما يرون أنفسهم و کما يرون لأنفسهم إن كل أعمال الإنسان تبدأ أول ما تبدأ ضرورة أو إنفجاراً، متلقياً عن الخارج محرضاته ومثيراته، وعن الذات موهبتها وضروراتها وهذه الإنفجارات والضرورات لن يكون مكانها غير الرؤوس والأعصاب التي تتقاتل فيها الشكوك، وغير الذوات المستجيبة التي تلبي محرضات الشكوك، وتصنع أيضاً محرضات الشكوك إن عبقرية الإنسان وحضارته تعنيان شيئاً واحداً، تعنيان الشك بالفكر وبالسلوك، والأفكار والمشاعر المستقرة - وكذا السلوك المستقر - تصنع شخصية مستقرة أو تنبع عن شخصية مستقرة. وإذا استقرت الشخصية فقد ماتت أو هانت أو هزمت إن الشخصيات الحية النابضة هي الغير المتيقنة المتخطية لوجودها ولما حولها والمحتجة عليه بالتفكير والشعور ...ولئلا تموت الشخصية أو تهون أو تهزم يجب أن تنمو لأن الحياة نمو، وكل من لا ينمو ليسايرها ویتكافأ مع تعقديداتها و ضروراتها و مشاکلها المتراکمة، یتخلف عنها، والتخلف عن الحياة فناء وهل يمكن أن تكون الحياة نامية ما لم تكن أفكارها وعقائدها ومذاهبها ومشاعرها نامية كذلك ؟! وهل يمكن أن تكون الأفكار والمذاهب والعقائد نامية ما لم تكن شاكة وغير متقررة في صورة من صور اليقين ، أو في طور من أطوار الحركة والرؤية ؟! والشخصيات المصابة بالتشكيك والتوجس وبالهموم الفكرية تظل دائماً حية متطورة لا تنال الأيام من حماسها وتجددها، ولا تفرض عليها وضعاً متجمداً متحدداً من الأوضاع، ولا تقيدها بمذهب أبدي ولا بمستوى من مستوياتها ...إن الشك هو شباب الحياة وطاقتها المتحركة المحركة، بل إن الشك هو منهج الحياة، لأن الموتى لا يشكون ...ومهما طويت من الأعوام في حساب حياتك فلن يقتل ذلك عقلك أو يضعف حركته وتطلعه بلهفة إلى الآفاق البعيدة والواسعة والمجهولة ما دام جارياً بعمليات التجديد التي يدخلها علي بنائه والجسم يهرم حين يعجز عن تجديد خلاياه بالأسلوب الذي يجدد به الجسم الشاب عمليات البناء فيه، وكذلك العقل، فالعقل يهرم حينما يكون عاجزاً عن تغيير أفكاره وإضافة الجديد إليها ليزحم القديم ويغني عنه ويطرده وإستقرار الأفكار وتقادمها يجعلانها باردة مسترخية، والأفكار الباردة المسترخية لا تستطيع أن تهب سعادة أو نشاطاً أو فضيلة إن أفضل الأفكار هي الأفكار المفترسة وكثير من الناس يخمدون لأنهم فقدوا الحماس والقدرة على الإفتراس الذي تهبهم إياه الآراء الجديدة المقاتلة، فيعجزون حينئذٍ عن أداء الحياة التي تنكر الوقفة، فيقفون كما يقف من سكن قلبه إن الشك نبض في العقل كما أن الحياة نبض في القلب، وليست وظيفة نبض القلب أعظم من وظيفة نبض العقل أو أنفع للحياة أو للإنسان ...وهل يكون العقل الذي لا يشك نابضاً ؟! إن الإحتياج إلى تجديد الآراء وإستبدالها - وهذا هو الشك - مثل الإحتياج - أو أعظم من الإحتياج - إلى الخلايا الجديدة لتخلف القديمة الميتة في المادة الحية ...والإنسان الذي يعيش بضعة عقود من السنين يتغير جسمه وكل شيء فيه تغيرات كثيرة إلا رؤيته لآرائه ومذاهبه ومواقفه، هل يمكن أن يكون إنساناً ؟! هل يمكن أن يوصف بالكائن الراقي المتسامي المفكر الشاعر الفنان ؟! هل يمكن أن يوصف وجوده بالحياة ؟! إن خفق فكرك بعديد الآراء يشبه خفق قلبك بعديد الأشواق والأهداف: كلاهما يمنحك القوة والمسرّة والحماس المتتابع، وأن الفكرة الجديدة كالرؤية الجديدة كلتاهما حياةٌ جديدة ...إن إستبدالك فكراً بفكرٍ آخر ليهبك النشوة والعافية كما يهبك ذلك أن تستبدل قلباً جديداً ...وليس الشك إلا طموحاً فكرياً - والطموح الفكري هو أرفع أنواع الطموح - إنه طموح إلى إختيار أفضل النظم والعقول والرؤى، كما أن صفة الطموح هي أعظم صفات الإنسان والطموح هنا لا يعني الإنتصار على الآخرين أو التفوق عليهم، وإنما يعني الطموح إلى الإنتصار على الطبيعة لفهمها وقهرها إن التصديق السريع السهل بما يورث ويروى ليس إلا قناعة فكرية، والقناعة الفكرية هي شر أنواع القناعات ...والطامحون بأفكارهم لن يقنعوا بما ورثوا ووجدوا في بيوت آبائهم وفي أحيائهم القديمة من مذاهب ونظم قديمة ومن قنعوا بما ورثوا من ذلك كانوا شرا ممن يقنعون بما يرثون من مال وحياة وحضارة وبيوت وملابس وأشياء أخرى عن آبائهم وتاريخهم القديم جداً، بل بما يرثون من صحة ومستويات إنسانية إن الشك أحياناً علم بما قد كان وتفوق عليه، فغير المتيقن في هذه الحالة يعلم ما يعلمه الموقنون ويزيد عليهم أنه يعلم أشياء أخرى جعلته يشك فيما يعلم، وهم لا يشكون لأنهم لا يعلمون هذه الأشياء الأخرى التي يشك من يعلمها ...إذاً فالكثير من الشكوك هي أقوى من اليقين وأكثر معرفة منه إن الشك هو عقل الإيمان وقلبه، یھبه النبض والحياة والذکاء والرؤية، وإذا فقد الإيمان الشك فقد كل معاني الحياة، وإذا فقدت الحياة الشك فقدت كل مزايا إن الأنبياء الكرام لم يكونوا إلا شكاً، لقد بدأوا سيرهم من الشك فيما حولهم من آلهة وأديان وعبادات وأقوام وأشياء آخری ولو لم يكونوا شاكين فيما هو كائن فهل كان محتملاً أن يكونوا أنبياء وأن تهبط عليهم الرسالات من السماء ليعلموا أشياء جديدة ويقوِّموا الناس من جديد ؟! ولكن واعجباً ...!!! إن الأنبياء الكرام الذين صاغهم الشك أو علمهم الشك أن يكونوا أنبياء ومعلمين للبشر أو هكذا هو السبب العقلي المبدئي في أن يكونوا أنبياء، أي لأنهم شكوا فيما حولهم وتساءلوا عن مدي صوابية ما هو موجود في زمانهم ...إن هؤلاء الأنبياء الكرام الذين حملوا الرسالات والذين صاروا أنبياء لأنهم كانوا يشكون فيما هو قائم ويفكرون ويتساءلون، أتي بعدهم أناس زعموا أنهم يتحدثون بلسانهم ومع هذا حرموا الشك والتفكر والتساؤل !!! في حديث مشهور أن قوماً سألوا النبي الكريم محمد عليه السلام عن الشك فقال : ((تلك محض الإيمان)) أو في رواية أخري ((ذاك صريح الإيمان)) وفي حديث آخر أنه عليه السلام قال : ((نحن أولى بالشك من إبراهیم)) وكان النبي إبراهيم عليه السلام قد أصابه الشك في الإله وفي قدرته وكان قد تساءل : من يكون إله الكون : أهو الشمس، أهو القمر، أهو النجم وبعدها سأل الإله الحق - وحسب النص القرآني - ذات مرة تحت إلحاح الشك قائلاً في لهفة من فقد اليقين }رب أرني كيف تحيي الموتى{ فقال الله سبحانه وتعالي له دون أن يرفض طلبه وتساؤله }أو لم تؤمن{ فقال النبي إبراهيم }بلى ولكن ليطمئن قلبي{ فجاء الرد السريع المجيب }قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم إجعل علي كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم{ أي أن الله سبحانه وتعالي طمأنه بأن يفعل ما أمره به إذاً أيها العرب ...يا كل العرب تشككوا وإسألوا أنفسكم ...أغرقوها بالأسئلة ... إن إتهام النفس بكل التهم بكل القسوة والعنف ...بكل الإعلان عن ذلك طموحاً وتطلعاً إلي الأقوي والأعظم والأجمل لهو أفضل وأنفع وأذكي وأشرف من الإعجاب بها والرضا عنها والمباهاة بها كل الإعجاب والرضا والمباهاة إن هذا الإتهام للذات حياةً وتاريخاً ...ماضياً وحاضراً ...أجداداً وآباءً وأبناءً قد يحفز علي التخطي والتفوق والمفارقة لما كان ولما هو كائن ليأتي البديل الأعظم الأنفع في كل شيء إن نقد الذات هو أعلي أساليب الدفاع عنها وقد يكون أحياناً هو أمكر هذه الأساليب إن نقد الذات هو أبلغ قصيدة ينشدها ناقد نفسه في مدح نفسه علي مستوي قل أن ينقده أو يعيبه أحد بل علي مستوي قل أن يدرك مكره وكذبه أحد...كيف لا يعلم المادحين أنفسهم أن نقدهم لها أي لأنفسهم هو أفضل أساليب مدحها ...ولعل كثيراً من الناس لا يجرؤون علي إمتداح أنفسهم بهذا الأسلوب الذي يجيء فيه المدح بصيغة النقد لأنه إمتداح مبالغ فيه جداً حتي لقد يرفض الناس ولا يطيقون من يمدحون به أنفسهم لشدة غلوة وكبريائه وإثارته ودهائه ولعل آخرين أيضاً كانوا يحجمون عن هذا الأسلوب في مدح أنفسهم لأنهم لا يثقون بذكاء الناس فكانوا يخشون أن يصدقوهم إذا نقدوا أنفسهم دون أن يرتفعوا بهذا النقد إلي أعلي مستويات الإمتداح الذي يقصده الناقدون لأنفسهم وقد يقول البعض : إنه لا بد من اليقين إذا لم يكن بد من العمل والبحث عن الإنتصار، إذ إننا لن نعمل أو نعمل أعمال أقوية أو لن نكون أقوياء في عملنا ما لم نصدر عن يقين ...وهذا إشتراط قد يبدو قوياً ومفهوماً جداً، ولكنه مع ذلك ليس إلا وهماً إن الناس لا يعملون لأنهم يعلمون بل لأنهم يريدون، وهم لا يريدون لأنهم يعلمون بل لأنهم يحتاجون ويحيون ...ليس الذي يدفع الناس إلى الأمر تيقنهم له، بل رغبتهم فيه، أو إضطرارهم أو ظروفهم المختلفة أو كونهم أحياء، كالحيوانات والحشرات التي تندفع إلى الأشياء دون أن تعلم أو تستيقن شيئاً ...إن الذي يقع في ظروف فإن هذه الظروف تدفعه إلى أن يعمل وإن لم يعرف أو يستيقن شيئاً عن النتيجة أو عن قيمة ما يعمل، بل إن كل الناس يعملون ضد يقينهم فليس من المفروض لتعمل شيئاً أن تعلم يقيناً أن ذلك الشيء حق أو أنك بالغه لا محالة، بل يكفي أن تريده أو تضطر إليه أو تقع تحت إنفعالات تجعل الإندفاع محتوماً مهما كان التقدير العقلي ناهياً ومحذراً، ومهما كان إقناعك أو يقينك أو النتيجة التي تبحث عنها، بل مهما كان حكمك الفكري والأخلاقي على الذنب الذي تريد الوقوع فيه، أو العمل الذي تريد ممارسته لقد كان الناس في كل العصور يمارسون كل جنونهم في حروبهم بكل إهتمامهم وقوتهم وذكائهم من غير أن يستيقنوا الحق أو النصر في أية حرب يفرضونها على أنفسهم وعلى الأخرين، وهكذا کانوا جميعاً يعادون، ويخاصمون، ويشاتمون، وأيضاً يتاجرون، ويسافرون، ويغامرون، ويعشقون، ويتزوجون، ويهبون البنين والبنات للحياة دون أن يأخذوا منها، أو من الكون، أو من مذاهبهم أو من المجتمع الذي يعيشون فيه، عهداً مستيقناً بأن من يهبون، أو من يلقون به من بنين وبنات لن يتركوا للضياع والسقوط والشقاء والطغاة ولو كان اليقين شرطاً مرعياً من شروط الحياة، أو شروط قبولها أو العمل فيها بجنون وتوحش لعاف الناس كل - أو أكثر - أعمالهم وأفكارهم ومذاهبهم وإلتزاماتهم وعواطفهم، بل لعافوا ورفضوا كل المستقبل، إذ لا يقين في شيء من ذلك ولعافت حينئذٍ الطبيعة والحشرات والحيوانات كل سلوكها وعبثها وإصرارها الأليم الباهظ على مسيرتها الطويلة الغامضة التي لا تعرف نتائجها أو نهاياتها ...ليت اليقين كان حقاً شرط في الإندفاع، إذاً لتوقف الكون عن المسيرة، ولتوقف البشر عن الإندفاع إلى سخافاتهم الممتدة بلا حدود أمامهم إن المفروض في اليقين أنه يصنع طقساً نفسياً وفكرياً بارداً يصيب مشاعر وإهتمامات وأجساد المستيقنين بالبرودة المميتة، فلا يتحركون أو يرغبون في الحركة إلا ببعض نشاطهم وحماسهم. والأعمال الكبيرة لا يطلقها أو يصوغها إلا الطقس النفسي المتوجس المتقاتل بالإنفعالات المصادمة المتصارعة بالخوف والرغبة في الأمن، بالأمل واليأس ...أما اليقين الموحي بالسكون الداعي إليه، لأنه صيغة واحدة وإحتمال واحد، فهل يمكن أن يكون وقوداً جيداً لحرائق التاريخ الكبري ؟! إن أي قوم يخوضون أية حرب لا يمكن أن يحاربوا حرب إنتصار بكل حيلهم وذكائهم وقوتهم لو أستيقنوا يقينين : لو إستيقنوا أن الحق يقاتل في صفوفهم، أو أنهم هم الذين يقاتلون في جيشه وفي صفه، ثم إستيقنوا أن الحق منتصر ولا بد أنه ينتصر مهما كانت الظروف، أي لو إستيقنوا أنهم منتصرون علی جميع الإحتمالات إن إستيقان النصر في الحرب ضد أعمال الإنتصار فيها، أو هو عائق في صنع ظروف الإنتصار فيها، فالذين يستيقنون أنهم منتصرون لأنهم يجب أن ينتصروا، أو لأنهم يدافعون عن شيء يجب أن ينتصر، حَرِيّون بألا يواجهوا الموقف بكل وجودهم وإحتمالاتهم وبأن يصيبهم الكسل والتواكل والإسترخاء إذ سيرون أن للحق قوة ذاتية تنصره حتماً وإن لم يكن له أية قوة من أنصاره والمؤمنين به، ثم يرون أن إعطاء كل الطاقة والتفكير لقضية محتوم لها أن تنتصر نوع من الجنون أو على الأقل نوع من البلادة والإنتحار أما الذين يشكون في نتيجة الحرب فإنهم سيرون حينئذٍ أن ما يعطونها من قوتهم ووسائلهم المختلفة هو الذي يقرر حتماً مصيرها أي مصير الحرب، وهذا يجعلهم يهبونها كل ما يستطيعون إنهم سيرون الحرب عملاً بشرياً تفصل فيه أعمال البشر وحدهم، فلا يرتفعون بها فوق الأسباب والنتائج القوية والذكية أو الغبية الضعيفة دون أي شيء آخر فلا يوجد حق ينتصر ولا باطل ينهزم، بل لا يوجد إنسان ينتصر لأنه على حق أو يدافع عن حق، ولا إنسان ينهزم لأنه على باطل، أو لأنه يدافع عن باطل، وإنما يوجد إنسان ينتصر لأن وسائله ذكية وقوية، وآخر ينهزم لأن وسائله ضعيفة وبليدة، أو لأن ظروفه غير مواتية إن الذين يشكون في الأشياء وفي نتائجها يعلمون أن عليهم أن يصيغوها، وأن تصرفهم إزاءها هو وحده الذي يصوغها ويجعلها كما يريدون أو ضد ما يريدون، وحينئذٍ يلقون فيها كل ما لديهم من إحتمالات وظروف وحماس، لأنهم يواجهونها وحدهم ...بقوتهم هم الذاتية لا بقوة ما لديهم من كلمات ومصطلحات إننا حينما نشك في الشيء يسعِّر الشك خوفنا وأملنا وتفكيرنا، فيصنع ذلك فينا قوة ومحاولات حذرة نحرص على إتقانها والتفوق فيها لنتقي إحتمالات الشك ومخاطره ومواطنه إن الناس الخامدين والمتبلدين على ما لديهم من حياة وأعمال تافهة ومن مذاهب ومستويات ذليلة هم قوم لا تهزهم أو تحركهم الشكوك المتسعِّرة إن الحياة المتوجسة هي الأذكى والأقوى، إن أحسن ظروف الحياة وأقواها ما كان دائماً مغامرة ومخاطرة وحذراً وشكاً، وبدون ذلك لا إبداع ولا حماس فالمستيقنون لابد أن يصيبهم الخمول والغباء وضيق الأفق والعجز عن الرؤية الشاملة للأشياء وعن القراءة لها والتخاطب أو التحاور معها، إنهم مغلقون، مغلقة فيهم أقوى النوافذ الإنسانية، فلا يبصرون وحوش الصعاب والتعقيدات والموانع التي تحاصر الأمر أو الموقف الذي يواجهونه، ولا يبصرونه كذلك من كل جهاته، إنهم يتحركون وسط الأخطار والأعداء، أو يقفون بينهم بلا رؤية أو حذر، إن الأخطار لتخطفهم بسهولة وتكرار بأسلوب واحد، ومن طريق واحد، أو من كل الطرق، وبكل الأساليب دون أن يتعجبوا، أو يتساءلوا، أو ينظروا، أو يشكوا في قيمهم أو وسائلهم، لقد وهبوا يقينهم بلا حساب أو شروط لكل الطغاة والمذاهب والكون إن قدرتهم على اليقين تتحدى كل ما يعانون ويرون من آلام وأخطاء يمارسونها أو تمارس ضدهم إن المواجهون لكل شيء باليقين يعتقدون الأحداث كلها محصورة في قارورة، هي يقينهم، هي مذاهبهم وآراءهم وتفاهاتهم وتاريخهم، إن كل شيء يتصاغر في حسابهم كما يتصاغرون هم في حساب كل الأشياء، فلا يصنعون حينئذٍ الأحداث، أو يتعايشون معها بقوة أو ذكاء اليقين يسد المنافذ الواصلة بالمعارف الجديدة والمعارف الأخرى، وقد يرفض جميع المحاولات، ويصنع ضرباً من الإكتفاء الذاتي أو الإكتفاء التاريخي، تتقارب حدوده إلى أن يمتليء بنفسه ويضيق عن كل شيء آخر في العالم إن اليقين توكل، والتوكل إستسلام، إن الشك حذر، والحذر نشاط، لأن المتوكل كاليقين معناه أن الحقيقة كلها هنا، هنا فقط ...أما الشك فمعناه أن الحقيقة هنا وهناك وفي كل الجهات، فالبحث عنها يعني الإنتشار والإتساع والكينونة المتطورة إن اليقين ينافي الأخلاق والإنسانية والحياة لأن المتيقن يكون متعصباً وفظاً، بل يجعله إرهابياً فالشخص حتى يكون إرهابياً لابد أن يكون متيقناً تيقناً تاماً أن ما يؤمن به هو الصح الوحيد المطلق والطهارة الكاملة والنموذج الأمثل ، وأن الآخرين على باطل ويستحقون القتل فيغدو القتل هنا ليس فعلاً إجرامياً ولا غدراً ، إنما يصبح قمة الإيمان والتيقن والتصديق بهذا الإيمان ، لهذا يغدو القاتل قديساً بالضرورة فلما لا يستمر الإرهاب والقاتل يكون قديساً وجريمته تكون إيماناً وعملاً نبيلاً ؟! لما لا تستمر المجتمعات المتخلّفة تنزف ويُقتل أبناءها الأبرياء طالما هي تعتقد أي هذه المجتمعات المتخلّفة أنها وصلت إلي الحقائق النهائية وبلغت سقف المعرفة ؟! طالما مُصرّة علي الإستمرار في اليقين ؟! إن اليقين ينافي العلم لأن منهج العلم الشك لا اليقين إن اليقين هو الملاك الأمين الحارس للخرافة والرداءة والجهل ووهم المعرفة ...إنه - أي اليقين - هو الذي يقاتل العلم بتأكيده علي حماية الخرافة والطغيان ونبذ الشك والتفكير إن العلم تفكير ومحاولة وتطلع وتجربة وخطو إلى الأرض وإلى الآفاق المجهولة، إنه سير دائم في طريقٍ ليس تام الإضاءة، وأحياناً ليست فيه أية إضاءة، بل في طريقٍ أجمل، وأثمن وأعمق وأعظم ما فيه الشكوك المتوحشة ...واليقين ينافي التطور لأن المستيقن يحاول ألا يتغير، بل يعادي التغير والدعوة إليه إن اليقين يخالف معنى الحياة لأن الحياة إحتمال، إنها لا تكون إلا إحتمالاً ولا تكون جميلة إلا بالإحتمال، ما أسوأها لو أنها كانت يقيناً بلا إحتمالاتٍ ولا شكوك واليقين يخالف كذلك طبيعة الوجود، لأن الوجود إمكان ...وينافي المساواة بين البشر، لأن المستيقنين يقولون لمخالفيهم إستيقنوا مثلنا، وإلا فليست لكم مثل حقوقنا، إنهم لا يدركون المعاني المشتركة التي تجعل لهم وللآخرين والمخالفين حقوقاً متساوية في الحياة والحرية والتفكير والإختلاف المتبادل تحت الظروف والإمكانات المختلفة ويبطل أو يضعف - أي اليقين - حوافز العمل والمغامرة، لأن الذي لا يشك متوقع منه أن يكون ضعيف الحذر والمغامرة، وألا يهب كل ذكائه وقوته للعمل الذي يحاوله، أو تفرض عليه مواجهته، إذ ما حاجته إلى أن يصنع مصائر قد تقررت في يقينه ؟! لقد كان الإنسان القديم، الإنسان البدائي يهاب الشك، ويرى فيه عدواً رهيباً يخشاه على بحثه عن الراحة والهدوء، لأن الشك إمتداد وإقتحام للمجهول وبحث عنه، وهو جبان ضعيف يرهب الإمتداد والبحث والإقتحام، أو يتعبه ذلك، فكان من أجل هذا يلوذ باليقين الذي يهبه الراحة والأمان والإكتفاء ولو كذباً لقد كانت الشكوك في كل العصور - بمعناها الفكري والسلوكي - هي الأعاصير التي قذفت بسفن التاريخ إلى غاياته البعيدة، وهوت بأقوى وأقدم البلادات والتأخر والفساد والرداءة والطغاة والمذاهب العقيمة إلى قاعٍ أليم ...إلي قاعٍ بلا قرار ...وكل الوثبات الحضارية التي ظلت تقفز بحياة الإنسان وبكل مستوياته كأنها الدورات غير المنتظمة، إنما تؤرخ دورات أخرى غیر منتظمة من الشكوك، تتفجر بها نفوس محاربة مزدحمة بالإحتجاجات والغضب، كما تتفجر الأرض المخزونة الغَضّبى بالزلازل والبراكين، أو بالينابيع والثمار التي لا تعني في أخلاقية الأرض أفضل مما تعني الزلازل والبراکين .
#محمد_عبد_القوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإستهانة بعقل المتديِّن وسلبه من أخطر الآفات المجتمعية
-
حينما تكونُ إنساناً
-
السفر عبر الزمن - مغامرة علمية شيِّقة
-
إمرأة تحرج رجال الدين - واقعة من التراث الفارسي
-
قصة آيات القتال في القرءان
-
ماذا يحدث بعد الموت ؟!
-
كلهم دواعش وإن إختلفت الصيغ والأساليب
-
لماذا تعددت تشريعات الإسلام بالمقارنة مع الأديان الأخري ؟!
-
لماذا يمتليء التراث العربي بتشريعات الجنس والنكاح ؟!
-
هل الإسلام المتداول هو الإسلام الحقيقي أم لا ؟!
-
إلي رجل الدين أو الداعية، المدعو (عمرو خالد) ...
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|