|
الجذور التاريخية للجيوستراتيجيا الاوراسية لروسيا
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 5760 - 2018 / 1 / 17 - 16:35
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
إعداد: جورج حداد*
هناك فكرة اساسية تقول ان الجغرافيا تصنع التاريخ. وهذا ينطبق بشكل خاص على روسيا. فهي بلد اوراسي (اوروبي ـ اسيوي) كبير، يمتد على مساحة اكثر من 17 مليون كلم مربع، ويشغل 40% من مساحة اوروبا. ومساحة الدولة الروسية هي اكبر من مساحة القارة الاوروبية بمجملها (اي بما فيها الـ40% لروسيا). وتمتلك روسيا ثروات طبيعية هائلة. وهي لها حدود برية مع 14 دولة اوروبية واسيوية، وحدود بحرية مع المانيا عبر بحر البلطيق، ومع اليابان عبر بحر اوخوتسك، ومع الولايات المتحدة الاميركية عبر مضيق دوهرنغ. وبهذا الموقع الجغرافي، والمساحة الكبرى، والثروات الطبيعية اللامتنناهية، تمثل روسيا الجسر الاكبر الذي يربط بين اوروبا واسيا. وقد قدم لنا التاريخ المعطيات التالية: ـ1ـ تمتاز الفيديرالية الروسية بالتعددية الهائلة للاقوام والاتنيات التي تستوطن الارض الروسية. وتشد لحمة هذه الاقوام والاتنيات، القومية الروسية التي تطبع بهويتها الثقافية وتوجهها الوطني الاساسي روسيا بأسرها. ـ2ـ ان روسيا بشرا وارضا كانت (ولا زالت) مطمعا للغزاة والطغاة منذ فجر التاريخ. ـ3ـ تميز الروس بقوة الشكيمة والمقاومة الشعبية الشديدة للغزاة والطغاة من الشرق ومن الغرب. وهذا مما يشهد عليه التاريخ الدراماتيكي الفذ لروسيا: أ ـ فالامبراطورية الرومانية التي قامت على النظام العبودي، بعد هزيمة قرطاجة وتفكك نظام الشيوعية البدائية، كانت تنظر الى الروس (السلافيين) بأنهم ليسوا اكثر من كائنات "مزرعة عبيد" متوحشين، حتى ان كلمة (Slav) (=سلافي) اصبحت مرادفة لكلمة "عبد" (slave=) في عدد من اللغات الاوروبية، والكلمة العربية "صقلبي" (=سلافي) انقلبت الى “esclave” (=عبد) في لغات اوروبية اخرى، وكلمة "موجيك" (فلاح) الروسية اصبحت تعني "روسي = كائن بدائي فظ ومتوحش" في اللغات الاوروبية الغربية. وهذه العنصرية الالسنية هي موروثة من العهد الروماني. ولكن مع كل قوتها و"حضارتها" فإن الامبراطورية الرومانية التي انتصرت على اجدادنا الكنعانيين، ثم على الامازيغ والاقباط (=المصريين) والاثيوبيين والاغريق والمقدونيين والصربيين والبلغار، وقفت عند سواحل البحر الاسود واوكرانيا، ولم تستطع ان تخترق الارض الروسية، بفعل شدة المقاومة الشعبية للروس حتى وهم لا زالوا حينذاك جماعات متفرقة وقبل ان يصبحوا دولة وشعبا موحدين. ب ـ وفي القرون الوسطى المبكرة، حينما ظهرت مملكة الخزر اليهودية على مصب نهر الفولغا وسواحل بحر قزوين، وجرى الغزو المغولي ـ التتاري للاراضي الروسية، وتأسست مملكتهم المسماة "الاورطة الذهبية" فوق الارض الروسية (من بحر قزوين وحتى موسكو)، تحولت تجارة العبيد الى احدى اهم مصادر الربح لليهود الخزر وللمغول والتتار وحلفائهم الطورانيين الاتراك والشركس، الذين كانوا جميعا يصطادون الرجال والنساء والاولاد والبنات الروس، ويبعونهم الى اليهود الخزر، الذين يبيعونهم الى اليهود العبرانيين (العرب)، الذين كانوا بدورهم يصنفونهم و"يحضّرونهم" ويبيعونهم، كغلمان وخصيان وعبيد (خدم ومحاربين) واماء وبغايا، الى الامراء والميسورين والقوادين العرب والمسلمين، من الاندلس حتى سور الصين. وكانت الاماء والبغايا في الاصقاع العربية تسمّيْن "روميات" (اي اغريقيات ومقدونيات) والواقع ان قلة من هاتيك البائسات كن "روميات" اما الاغلبية فكن "سلافيات" روسيات. وفي السابق كان الامراء والقادة العرب والمسلمون يتباهى كل منهم كم جوادا يوجد في اسطبلاته،، فصار يتباهي كم غلاما وكم أمة يوجد لديه لتلبية رغباته الجنسية. وكانت كل الاتاوات والمكوس والضرائب والخراج والزكاة والجزية التي يجمعها هؤلاء الامراء والقادة من الرعايا تصب اخيرا في جيوب تجار البشر اليهود العبرانيين والخزر، وليس من الصدفة ان مرحلة توسع وازدهار الامبراطورية العربية ـ الاسلامية تطابق بالدقائق والساعات مع ما يسمى مرحلة "العصر الذهبي" للمؤسسة اليهودية، الدينية والدنيوية، المعادية للبشرية جمعاء، منذ ان وجدت اليهودية كتدرن سرطاني في الجسم الاجتماعي للبشر. ولكن الانتفاضات الروسية المتتالية قضت على مملكتي اليهود الخزر والاورطة الذهبية للمغول والتتار واخرجتهما من التاريخ. ومن تبقى من اليهود الخزر والمغول والتتار والشركس لا يزالون الى الان يعيشون في روسيا كمواطنين عاديين لهم كل حقوق المواطن الروسي. ولا يغير من جوهر العلاقة الوطنية الروسية مع عامة اليهود نشوء الحركة الصهيونية في صفوفهم، الموالية للغرب الاستعماري والمعادية لروسيا، التي انقذت يهود اوروبا خاصة والعالم عامة من الابادة التامة على ايدي النازية خلال الحرب العالمية الثانية. ج ـ وبعد ان سحق الروس المغول والتتار والطورانيين والخزر، وتخلصوا من نيرههم مرة والى الابد، غزاهم "الصليبيون الشماليون" في الوقت ذاته الذي غزا فيه "الصليبيون" الشرق، ومكثوا فيه حوالى 250 سنة. ومع ان الروس كانوا افقر واضعف بكثير من العرب والمسلمين، وكانوا نصف جياع ـ نصف عراة، فإنهم سحقوا سحقا "الصليبيين الشماليين" منذ ان وطئت جحافلهم الاراضي الروسية (ونذكر على سبيل المثال ان الجيش الصليبي السويدي ـ الجرماني كان يتألف من مائة الف فارس مدرع ابيدوا جميعا في معركة بحيرة نيفا المجمدة في شتاء سنة 1242 على ايدي جيش من الخيالة الخفيفة والمشاة الروس كان يتألف من 40 الف مقاتل فقط). وحتى ايامنا هذه فإن "الصليبيين الشماليين" (السويديين والسكندينافيين والبلطيقيين ناهيك عن الالمان والبولونيين) لا يزالون يرتجفون هلعا لدى سماع كلمة "الروس" و"روسيا". د ـ وفي التاريخ القريب شن نابوليون حملته الروسية على رأس جيش مؤلف من نصف مليون جندي هم زهرة شباب فرنسا في حينه، فلم يرجع معه منهم احياء سوى بضعة آلاف. وكان نابوليون قد احتل موسكو، الا ان سكان موسكو احرقوها بأيديهم قبل ان يصل اليها نابوليون حتى لا يجد فيها الجيش الفرنسي رغيف خبز. في حين فر السكان الى الغابات. ولو لم يهاجم نابوليون روسيا ويباد جيشه فيها لما انهزم امام الانكليز في معركة واترلو سنة 1814 ولاستطاع الهيمنة على اوروبا كلها بسهولة. هـ ـ وربما لا حاجة للتذكير بأن هتلر احتل غالبية الارض الاوروبية في بضعة اشهر وسخّر اقتصاداتها وعمالها للعمل لصالح المانيا، كي يستطيع تعبئة اكبر عدد ممكن من الشبان والرجال الالمان لشن "الحرب الصاعقة" ضد روسيا بحيث وصل الجيش الالماني الى مسافة 40 كلم فقط من موسكو ذاتها. ولكن العملاق الشعبي الروسي نهض من كبوة الضربة الاولى لهتلر، وحرر ارضه كلها، ثم سحق الافعى الهتلرية في برلين ذاتها. و ـ وعلينا ان لا ننسى ان الجيش الاحمر (الروسي اساسا) الذي سحق الهتلرية وحرر اوروبا والعالم منها، هو نفسه الذي، بعد استسلام المانيا في ايار 1945، سحق الجيش الياباني الذي كان يحتشد بالملايين في الصين وكوريا وحرر شعوب شرق اسيا والعالم من الفاشية اليابانية ايضا. ـ4ـ امام هذه المعطيات التاريخية من الطبيعي ان الشعب الروسي ينظر الى نفسه بأنه محرر شعوب العالم من النازية والفاشية في الشرق والغرب. والان لو اجتمعت كل قوى الامبريالية واليهودية والطغيان والعدوان في العالم بأسره فإنها لن تستطيع ان تنال من روسيا بل ستدفن في مكانها بأسرع مما تتصور. والعقيدة العسكرية الروسية الحالية تقول: اننا لن نكون معتدين، ولكننا لن نرتكب خطأ الحرب العالمية الثانية وننتظر تلقي الضربة الاولى، فالضربة الاولى ستكون لنا، وهي ستكون الضربة الاولى والاخيرة لانها ستكون ضربة نووية ساحقة ماحقة من البحر والبر والجو والفضاء الكوني. وبهذه الروحية لرد العدوان والظلم، المتأصلة في الشعب الروسي، تتبنى الانتلجنتسيا والنخبة والقيادة الروسية، وعلى رأسها فلاديمير بوتين، فكرة الجيوستراتيجيا "الاوراسية"، الداعية الى التعاون المفتوح والشامل، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا وامنيا وعسكريا، بين جميع شعوب آسيا واوروبا، واستطرادا جميع شعوب العالم الطامحة الى الاستقلال والتحرر، وان تضطلع روسيا بدور مركزي في هذه العملية التاريخية الكبرى، على غرار ما اضطلعت به في تحرير شعوب العالم من النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية. والركائز الرئيسية التي تقوم عليها الجيوستراتيجيا الاوراسية لروسيا هي: ـ1ـ التقارب والتعاون الاخوي مع الجمهوريات السوفياتية السابقة. واي جمهورية تقف ضد هذه السترتبجبة وتسير في ركاب الغرب، ستدير روسيا لها ظهرها، ويكون مصيرها كمصير اوكرانيا. ـ2ـ توسيع وتعميق التعاون الوثيق سياسيا وثقافيا واقتصاديا وعسكريا مع الصين الشعبية والهند بوصفهما اكبر دولتين في العالم، والعمل على ازالة الخلافات بين هاتين الدولتين والتقريب بينهما لصالح شعبيهما العظيمين وشعوب العالم قاطبة. ـ3ـ احتواء وتجاوز الاختلافات السياسية والايديولوجية والدينية مع البلدان العربية والاسلامية، دولا وشعوبا، ومد يد المساعدة لهذه الدول، بكل اشكالها، والتقريب فيما بينها ودفعها الى توحيد صفوفها والتحول الى قوة تحررية فاعلة في تقرير مصير العالم المعاصر. ـ4ــ هذا من جهة ومن جهة ثانية: مد يد الصداقة الى شعوب اوروبا ودفعها الى طي صفحة الماضي السوداء المتعلقة بالتراث الاستعماري والحرب الباردة والنزاعات الاوروبية القديمة، وتتحلى روسيا بالكثير من الصبر وطول الاناة لتحمل جميع الاستفزازات ومظاهر العداء الاوروبي غير المبرر ضد روسيا. وهذا ما ينبغي التوقف عنده بشكل خاص. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ *كاتب لبناني مستقل
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشعب الكوري البطل كسر التفوق النووي لاميركا
-
تصعيد العدوانية الامبريالية في الميزانية الاميركية الجديدة
-
اميركا المهزومة في سوريا تصعّد الحرب الباردة ضد روسيا
-
سياسة الصواريخ المضادة في تركيا والسعودية
-
الفساد والنزاعات الداخلية سيقضيان على اوكرانيا كدولة
-
سياسة العداء والعقوبات ضد روسيا تنقلب على اصحابها
-
اميركا تعمل لتعطيل مشروع انبوب الغاز الروسي -السيل التركي-
-
تفوق سلاح الغواصات الروسي
-
الجيش الاوكراني يشن هجوما فاشلا على مقاطعة دونيتسك المستقلة
-
اميركا تتجه لاعادة تحريك الازمة الاوكرانية ضد روسيا
-
ولى زمن حاملات الطائرات الاميركية
-
الازمة الكورية الى أين؟
-
الاولويات الحربية للقوات المسلحة الروسية
-
زعزعة العلاقات الاميركية التركية
-
الصين الشعبية على عتبة قفزة تطور كبرى جديدة
-
السعودية على مفترق المصير
-
مقدمات زيارة الملك السعودي الى روسيا
-
التاريخ الاسود للسعودية قبل زيارة الملك سلمان لموسكو
-
الحرب الباردة بين اميركا و...كوريا الشمالية
-
الشعب الكوري سوف ينتصر!
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|