|
قرامطة وشيوعيون ؟
سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 5758 - 2018 / 1 / 15 - 22:06
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يعود بى هذا النص – الذى لم يكتمل - فى الزمن الى اربعة عقود مضت تقريبا – كنا نحن اعضاء وكوادر حزب العمال الشيوعى المصرى قد انخرطنا نقاشا ومناظرة حول نمط الانتاج الاسيوى ، وكان ذلك انعكاسا لندوة جرت بين ماركسيى العالم حوله فى باريس ، مصدرها الوضع الذى اتخذه العالم الثالث فى السياسة الدولية وخاصة مااسمى حركات التحررالوطنى . وفى منتصف السبعينات بدأت موجة من الكتاب ذات تلاوين ديموقراطية وماركسية مختلفة تخترق حقل التراث العربى الاسلامى باحثة فيه عن الفكر الديموقراطى الثورى . فمن احمد عباس صالح ومحمد عمارة وحسن حنفى الى حسين مروة والطيب تيزينى وتوفيق سلوم نشأت موجة قوية اخرجت التراث من ايدى التقليديين ( سبق هؤلاء بكثير فيصل السامر العراقى ، واحمد علبى اللبنانى ) . ووصلت الى ايدينا آنذاك دراسة صادرة عن مجلة الجزيرة الجديدة لسان حال حزب الشعب الديموقراطى ( السعودى ! ) عن القرامطة فى شرق الجزيرة العربية . بعد قراءتى حلقاتها الاربع اصبحت تراثيا ! بذلت الكثير حتى اقتنيت مكتبة تراثية تتمحور حول الحركات الثورية وانتفاضات المضطهدين فى القرون الوسطى – حركات البابكية والزنج والقرامطة – وانهمكت فى قراءة الاصول والمصادر لسنوات وتوالت مكتشفاتى للعقلانى من الكتابات التراثية من المعرى وابن الريوندى والرازى حتى ابوحيان التوحيدى والبيرونى . وعزمت ان اكتب كتابا عن القرامطة لم اكتبه ابدا – ولكنى كنت قد شرعت فى جمع المادة وتكوين الافكار وكان يفترض بهذا النص المنشور هنا ان يكون تقويما نقديا للمصادر والمراجع عن الموضوع حتى تاريخه . ويالدهشتى ان اجد بعض الكتابات الصادرة قريبا تكرر ماسبق ان كتب منذ عقود دون ادنى تمحيص نقدى بل وباجترار لماتردد من اسقاطات تاريخية على واقع ومستوى للتطور الاجتماعى مختلف . يحمل هذا النص بذور الخطوط التى كنت ساستهدى بها . وبعد ان اعدت القراءة وجدتنى مازلت مقتنعا بما كتبت . فقد وضع القرامطة فوق التاريخ لاسباب سياسية معاصرة جعلت الكثيرين يهدرون مبدأ ماديا اساسيا وهو مبدأ التاريخية .لقد آثرت نشر النص كما هو لعل احدا يستلهم بعض افكاره على تواضعها .
انتفاضات القرامطة وتنظيماتهم الاجتماعية فى القرنين الثالث والرابع الهجريين نظرة على الاصول والمصادر مقدمة ان السمة المميزة لتاريخ العصور الوسطى الاسلامية – فى القرنين الثالث والرابع الهجريين – هو أنه كان قبل أى شئ آخر ، تاريخ احتدام الصراعات الطبقية والمعارك الايديولوجية الدينية والفلسفية ،أو هو تاريخ الثورات العامية التى خاضت عمارها طبقات المجتمع الدنيا من فلاحين وبدو وحرفيين وعوام وعبيد . من عرب وزنج وفرس وانباط واكراد . هو عصر الهرطقات الدينية ، والنحل الصوفية ، والتمرد على الشريعه ، والمهديين المنتظرين ، هو دور الاستتار والتقيه فى مدن الضلالة من أئمة الجور . وهو بعد كل شئ عصر القلق الاجتماعي والانتفاض المسلح والحروب الضاربة التى زعزعت سلطة الخلافة العباسية . وهذه الدراسة اذ تتخذ موضوعا لها انتفاضات القرامطة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والفلسفية ، وتنزع قدر الطاقة الى تقديم رؤية شمولية للحركة الاجتماعية الابرز فى انتفاضات القرنين الثالث والرابع الهجريين والتى كانت ذات طابع (خاص) ميزها عن كل ما سبقها من حركات مثل انتفاضتى البابكية والزنج ،فهى لا تفعل ذلك بهدف ان تكون عملا من أعمال البحث الاكاديمي التاريخى ، كما انها بالاحرى لا تصدر تلبية لنزعة غرائبية هدفها اقتناص طرائف التاريخ ، وفى الواقع فان موضوعها يعبر عنه تساؤل الشاعر الفارسي جلال الدين الرومى فى احدى قصائده التى وردت فى ديوانه ، المثنوى ، حيث يقول : ،،هل يرسم أى رسام صورة جميلة حبا في الصورة نفسها دون أن يأمل فى المنفعة من وراءها؟ وهل يصنع الفخارى جره على عجل حبا فى الجرة نفسها دون تفكير فى الماء؟.. والحال أن هذه الدراسة تنطلق من موقع ابراز الجانب الاجتماعى الثورى من تراثنا ، وكشف المضامين الديمقراطية فيه بحدودها النسبية التى حتمها العصر ، وهى تحاول أن تعيد الى ذاكراتنا منهج الاسلاف الذين طرح عليهم عصرهم مشاكله الاجتماعية والفكرية والمذهبية فحاولوا ان يحلوها وفق شروط زمنهم ووعيهم ، فهم حسبما تقول الحكمة التوحيدية الشريفة على لسان حمزة بن على أحد دعاة الحاكم بأمر الله وصاحب رسالة ( السيرة المستقيمة):- (.. .. حسب طاقتهم ومبلغ مادتهم من الزمان تكلموا ، وعلى مقدار المكان والامكان تعلقوا ونطقوا.) وهم ايضا وان كانوا قد استمدوا شكل فكرهم من الماضى فقد اضفوا عليه مضموناً مستقبليا ارتبط بتناقضات واقعهم الحى وكاد المحتوى فيه أن يتجاوز الشكل .
لقد استطاعت حركة القرامطة استنادا الى فكرها الشيعى الاسماعيلي الباطنى ان توظف اشكال الاستياء الاقتصادى والاجتماعي والديني وخاصة بتبنيها حق العلويين (الشرعى) فى الخلافة ، فى اتجاه الاطاحة بالخلافة العباسية ،وابتدعت مذهبا مزج بين العديد من العقائد الدينية الشرقية وبين بعض المذاهب اليونانية الفلسفية وكان اداتها فى ذلك تنظيم سرى شديد الفعاليه لا يماثله فى احكامه سوى تلك التنظيمات التى رافقت حروب الفلاحين فى المانيا فى القرون الوسطى . وقد استطاع مؤرخو العصور الوسطى ان يدركوا خطر هذه الحركة على النظام الاجتماعى وخاصة ما استهدفته من نشدان المساواة الاجتماعية وشيوع الملكية ، وتمكنوا من ادراك الطابع المشترك الذى يجمع بين انتفاضة بابك الخرمى ، وثورة الزنج وبين حركة القرامطة . يقول ( مؤلف مجهول ): (وقيل انه لم يكن فى الاسلام حادث اضر بالاسلام والمسلمين من ظهور بابك الخرمى بتلك المقالة التى تفرع عنها القرامطة والباطنية الى اليوم ، ومن ظهور الورزنينى المعروف بعلوى الزنج ، على انه ايضا الى مقالة بابك الخرمى اسند امره ).العيون والحدائق ،ج4،ق1،ص58) ورغم طوباوية فكرة اقامة ،، مملكه العدل،، على الأرض التى يحققها القائم المهدى والتى اتخذت شكلا اسطوريا تمثل فى انه حين تجئ دولتة (حينئذ يشرب الثور والسبع من حوض واحد ،ويخلف الراعى الذئب على غنمه) وفيها ايضا (لن نترك بدعه من البدع الا اطفئت ومحقت ويرد الحق الى اهله حتى يعود الانسان كما ولد ) وذلك على حد تعبير احد دعاة الاسماعيلية ابن منصور اليمن فى كتابه ( الكشف) ،الا انه وكيفما كان الأمر لم يننتظر القرامطه خروج قائمهم حتى يحققوا مدينتهم الفاضلة المشروطة تاريخيا بطبيعة العصر. فقد سارعوا باتخاذ (دار الهجرة) واقاموا مجتمع (الألفة) ، وهاهو النويرى يقدم لنا وصفا للتدابير الاجتماعية التى اتخذوها . وقد بدأها حمدان بن الاشعت بان فرض على المستجبيبين لدعوة القرامطة ( الفطرة) وهى درهم واحد على كل احد من الرجال والنساء . ثم فرض (الهجرة) وهى دينار على كل من ادرك ،ثم فرض (البلغة) وهى سبعة دنانير. يقول النويرى : (فلما توطأ له الأمر فرض عليهم اخماس ما يملكون ،وتلا عليهم :(واعلموا انما غنمتم من شئ فان لله خمسة – الانفال 41) فقوموا جميع ما يملكون من ثوب وغيره وادوا ذلك اليه ،فكانت المرأة تخرج خمس ما تغزل ، والرجل يخرج ما يكسبه ، فلما تم ذلك فرض عليهم الالفة ، وهو ان يجمعوا اموالهم فى موضع واحد ، وان يكونوا فيه أسوة واحدة لا يفضل احد منهم صاحبه واخاه فى ملك يملكه وتلا عليهم ) واذكروا نعمه الله عليكم اذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا - سوره آل عمران 13). وقوله : ( لو انفقت ما فى الارض جميعا ما الفت بين قلوبهم . ولكن الله الف بينهم انه عزيز حكيم – سورة الانفال 62) وعرفهم انه لا حاجة بهم الى اموال تكون معهم ،لان الارض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم . واقام الدعاة فى كل قرية رجلا مختارا من ثقاتها يجمع عنده اموال اهل قريته من بقر وغنم وحلى ومتاع وغيره ، وكان يكسو عاريهم وينفق على سائرهم ما يكفيهم ، ولا يدع فقيرا بينهم ولا محتاجا ولا ضعيفاً، وأخذ كل رجل منهم بالانكماش فى صناعته والكسب بجهده ليكون له الفضل فى رتبته ، وجمعت المرأة كسبها من مغزلها ، والصبى اجرة نظارته للطير واتوه بها ، فلم يتملك احد منهم الا سيفه وسلاحه ) (نهاية الأرب.ج23 صـ58) وحين انتفض قرامطة العراق فى سواد الكوفه على دولة الخلافة العباسية كتبوا على رايتهم آيه قرآنية تدل على مضمون فكرهم الاجتماعي وهى : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .القصص-5) فكيف كان الحال بصدد التدابير الاجتماعية التى اتخذها قرامطة البحرين؟ يقول ناصر خسرو: ( وهم لا يأخذون عشورا من الرعية واذا افتقر انسان او استدان يتعهدونه حتى يتيسر عمله ، واذا كان لأحدهم دين على آخر لا يطالبه بأكثر من رأس المال الذى له . وكل غريب ينزل هذه المدينة وله صناعة يعطى ما يكفيه من المال حتى يشترى ما يلزم صناعته من عدد وآلات ويرد (الى الحكام) ما أخذ حين يشاء . واذا تخرب بيت أو طاحون احد الملاك ولم تكن لديه القدرة على الاصلاح ، أمروا جماعه من عبيدهم بأن يصلحوا المنزل او الطاحون . ولا يطلبون من المالك شيئاً . وفى الحسا مطاحن مملوكة للسلطان ، تطحن الحبوب للرعية مجانا ، ويدفع فيها السلطان نفقات اصلاحها واجور الطحانين). (سفر نامة صـ3 ترجمة يحي الخشاب). وربما كانت أحد أهم الآراء التى تبنتها بعض فروع الحركة القرمطية الاسماعيلية، هو أنها رغم أيمانها بظاهر الشريعة وباطنها فانها لم تعتبر جوانبها التشريعية ابدية ، سرمدية ،أزلية ، متعالية فى ملكوتها عن الزمان التاريخى ، انما رأت لها حدودا نسبية تقف عندها خاصة حين يظهر قائمها ، وتخرج من دور الستر الى دور الظهور ، وتسيطر وتسود حينئذ تنسخ الشرائح القديمة ، ولا يبقى منها سوى التوحيد الخالص المتجرد من الشعائر والطقوس ، ورغم طوباوية افكارهم ، فقد كانت ابعاد هذه الفكرة تتضمن فى طياتها منطق التغير الدائم المحتوم خاصة فى هذا العالم الارضى الدنيوى . ولم تكن بحد ذاتها لتتسق مع ابتداع أنظمة فاضلة لكل العصور والشعوب. وقد تحررت ايديولوجية القرامطة بالقياس الى العصر من نوازع التعصب الدينى ، كما أنها اثرت بدعايتها فى عناصر تنتمى لكافة الأديان والمذاهب ، فلم تميز بين مسلم ونصرانى ويهودى ومجوسي. وقد كان من مذهبهم ( اسقاط الجزية عن أهل الذمة) كما أشار الى ذلك محمد بن هلال المحسن الصابئ . من ناحية اخرى لم تكن دولة القرامطة فى البحرين دولة دينية متعصبة وانما كان الدين بمعنى ما مسألة خاصة. وهذه الظاهرة اللافتة للنظر فرضتها شروط محددة اهمها ان الاضطهاد الاجتماعي الاقتصادي الذى كان يقع على عاتق الطبقات الدنيا لم يكن يميز بين المنتمين الى الاسلام او الى غيره ، ومن ثم فان القهر العام قد وحد بينها وألف بين قلوبها بغض النظر عن اختلاف مذاهبها وأديانها ، وقد كانت فكرة اقامة مملكة العدل على الارض على غموضها هى الهدف الذى التئم الجميع فى اطاره. مدخل – نظرة نقدية على مصادر البحث ومشكلاته. موقف مؤرخى العصور الوسطى من انتفاضات القرامطة. لقد تناول مؤرخوا العصور الوسطى انتفاضات القرامطة من زاوية فعالياتها الحربية فى المقام الأول ، ولم تحتو كتاباتهم الا فى القليل النادر على ما يكشف عن تنظيماتهم الاجتماعية وتدابيرهم الاقتصادية . وخصص بعض من مؤرخى الفرق والمقالات الدينية قسما هاما من كتاباتهم ، ان لم يكن احيانا بعض كتاباتهم كلها لتناول الجانب العقائدى المذهبى لحركة القرامطة بأصوله الاسماعيلية الباطنية ، وخاصة تلك الافكار التى اعتبروها بمثابة هرطقات الحادية معادية للدين . وقد اتخذت هذه الكتابات فى مجملها بغض النظر عن تصنيفها سواء كانت تاريخية ام تبحث فى اصول وآراء الفرق موقف العداء من حركة القرامطة ، ربما باستثناء تلك الكتابات التى ظهرت ورافقت بداياتها ، والتى لم تتخذ موقفا معاديا ومتعصبا لأسباب يمكن ردها الى ان الحركة كانت تمر بأطور تشكلها الأولى ، ولم تكن قد دخلت بعد فى صدام مباشر مع سلطة الخلافة العباسية من جانب ولأنها لم تكن بعد ذات نفوذ قوى فى التأثير على مستجيبى ومناصرى فرق الشيعة المناهضة الأخرى – من جانب آخر . الا ان المواقف المعادية لهؤلاء الكتاب كانت تنزع الى الاحتدام بقدر ما تهدد حركة المنتفضين أسس النظام الاجتماعي ودعائمة المذهبية ، وبقدر ما تحتدم الصراعات السياسية والعسكرية بين سلطة الخلافة وجيوش المنتفضين ، وبصفه أخص بعد تأسيس الخلافة الفاطمية المناوئة فى شمال افريقيا بالمغرب ، وفرعها فى اليمن ثم بعد اقامة دولة القرامطة فى البحرين . وفى كل الأحوال كانت نغمة العداء تتزايد بمقدار بروز اتجاهات انقلابية تنتمى عموما الى الأصل الاسماعيلي الأم ، حتى ولو لم يكن لها أدنى صلة بالقرامطة . وقد اتهم غالبية مؤرخي العصور الوسطى حركة القرامطة يمثل ما اتهمت به – كل حركة ثورية معادية للنظام الاجتماعي : الاعتداء على الدين والدولة ، والملكية ، والاخلاق الفاضلة . ومن الظواهر المعتادة فى تاريخنا العربي الاسلامي ان نجد هذه الاتهامات ذاتها توجه ضد كل خارج على الخلافة فردا كان او حركة . يشير ابن خلدون فى (المقدمة) الى اسباب الكذب فى الخبر ، اى اسباب ودوافع التحيز فى البحث التاريخى مما يؤدى الى تشويه الواقعة التاريخية على ايدى المؤرخين . فيقول ان الاسباب تعود الى تشيع المؤرخين لأراء ومذاهب معينة أثرت فى رؤيتهم ، او الى انهم كانوا يسعون الى التقرب لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح ، متطلعين الى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروه أو لانهم وثقوا بالناقلين دون تمحيص وأخيراً ربما ذهلوا عن المقاصد وجهلوا تطبيق الاحوال على الوقائع (1) وقد أجمل طيب تيزينى مناهج مؤرخى العصور الوسطى فيما يلى : (فالبلاذرى يرى التاريخ العربي الاسلامي تاريخ النبلاء وأشراف العرب، والمسعودى يصنف التاريخ ذاك على أساس من تسلسل الخلفاء والقواد ، أما الطبرى فانه يرى فى التاريخ العام تاريخا للأديان ، وابن مسكويه أنطلق بدوره فى فهمه وتحليله للتاريخ على أساس أخلاقى .(2) ان ما يجمع بين مناهج المؤرخين السابقين هى أنها تبنت مفهوما لاهوتيا أو مثاليا للتاريخ فقد أراد الطبرى على سبيل المثال أن يكون تاريخة تكمله لتفسيره الكبير للقرآن الكريم ، ومن ثم تخللت تاريخه نظرة دينية ترى فيه صورة تجلي الفعل الالهى فى شئون البشر (3). وقد طبق علية ذات الأساليب المتبعة فى علم الحديث .،، فالتاريخ بهذا المفهوم ليس الاضبطا للروايات ، وتوثيقا للنصوص وبحثا فى الأسانيد ، قبل أن يكون نظرا فى متن المنقول ، وتأملا فلسفياً أو منهجيا فى مضمونة،،(4). وقد مارس منهج الطبرى نفوذا عظيما على كثير من المؤرخين الذين تلوه ، حيث تأثر به ابن الأثير صاحب الكامل ( توفى 630هـ) ، وابن الجوزى صاحب مرآه الزمان فى تاريخ الأعيان (توفي654هـ ) وابن الفداء صاحب المختصر فى اخبار البشر (توفى 732هـ) وابن الكثير صاحب البداية والنهاية (توفي774هـ) . ويمكن القول أن غالبية مؤرخي العصور الوسطى قد حصروا دراسة التاريخ فى اطار دينى او تعليمي بصفة رئيسية . فبعد أن كان التاريخ يتخذ المسوغ الدينى سببا لوجوده ،أخذ بعدئذ يتعلل بسبب آخر وهو القيمة الاخلاقية لدراسته (فما دام التاريخ مجرد فرع من فروع الأخلاق ، لا علما من العلوم ، فلا ينبغى ان يترددوا فى تكييف ما يصفونه بالعبر التاريخية حسب أغراضهم (5) . ومن ثم فان ابن مسكويه قد استهدف ابراز القيم الأخلاقية فى التاريخ بما يرافقها بالطبع من أحكام تقويمية ، وذلك فى كتابه (تجارب الأمم) . وقد أورد هاملتون جب حكما ينطبق على غالبية مؤرخي العصور الوسطى وهو أنه ،، لم يكن هناك معدى عن ان يصور عرضهم للأحداث تحيز طبقتهم وضيق نظرتها اجتماعيا وسياسيا ودينيا ،، (6) . وهو الأمر الذى ينطبق بصفة خاصة على موقفهم من الحركة البابكية ومن انتفاضتى الزنج والقرامطة . لقد كان الجانب الاجتماعي فى حركة القرامطة ، خاصة فى الكوفة بالعراق وبادية الشام ثم فى البحرين يمثل رده فعل فلاحية ، حرفية ، بدوية قبلية ، ذات مضمون اقتصادى اجتماعي ضد الاستغلال الاقطاعى فى العصور الوسطى . وقد دأب المؤرخون القدامى ومن تابعهم من المحدثين على نفى طابعها الطبقى ، وسعوا الى تصويرها وكأنها حركة عنصرية طائفية قام بها الفرس واختصوا بها لدواع قومية شوفينية – أو لدوافع الحادية استهدفت اعادة مجد الدين المجوسى القديم . واذ كان معظم هؤلاء المؤرخين قد سعوا للتقرب من أصحاب التجلة والمراتب ، وتطلعوا الى الدنيا وأسبابها من جاه وثروة ، واذ شكلوا فئة طبقية تساند فكريا ومذهبيا الطبقة السائدة ، واذ كانوا هم أنفسهم من الملاك الذين عاشوا على الاقطاعات الخليقية وعلى الهبات والعطايا ، فقد كان هذا الواقع متسقا مع مواقفهم الطبقية ازاء انتفاضات القرامطة وعقيدتهم المذهبية . ولم يكن الأمر ليقتصر على أن هؤلاء الكتاب كانوا يروجون ما يلاءم الطبقة السائدة فحسب ، بل كانت اعمالهم الفكرية فى بعض الأحيان استجابة مباشرة للأوامر الخليفية للتشهير بهذا الاتجاه أو ذاك ، فقد صنف احد شيوخ المعتزلة وهو على بن سعيد الاصطخرى للقادر بالله العباسي ( الرد على الباطنية ) فأجرى عليه القادر جرايه سنية وحبسها من بعده على بنية ، رغم أن المصنف يعد من (الخارجين) على السنة والجماعة بصفته معتزليا ( 7 ) ومن المعروف ان حجة الاسلام الغزالى قد صنف مؤلفه ( فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية ) بناء على طلب الخليفة المستظهر العباسي ، وتقربا اليه ، حتى أن الداعى الاسماعيلي المطلق عليا بن الوليد ذا الاتجاه الاسماعيلى قد علق على مرامي الغزالى من تصنيف مؤلفه وذلك فى كتابه الموسوم ( دامغ الباطل وحتف المناضل ) قائلاً : (ان طلبه حقير حطام يكتسبة ، وترويج سوق جاء يكدح فى تقويمه ويطلبه ) (8). وقد اعتبر البغدادى ، صاحب كتاب الفرق بين الفرق ، حركة القرامطة وأصلها الاسماعيلي اشد ضررا على الاسلام من اليهود والنصارى والمجوس ( بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة ، بل أعظم من ضرر الدجال الذى يظهر فى آخر الزمان ) (9) وكما لاحظ احد الكتاب العرب بحق ان ،، أقصى اتهام توجهه سلطة اوتوقراطية لمارق هو الدهرية (الالحاد) فلماذا اعتبر الاسماعيلية اشد خطرا من الملحدين بل حتى من الدجال .. اذا لم يكن مشروعهم الثورى برمته لا الحادهم وحسب هو الذى يقض مضاجع الحكام وخدمهم من الفقهاء والمؤرخين . لقد وعوا ان التطرف الدينى عند الشيعة الثورية يعكس تطرفها الاجتماعى ،،(10) . يتبين مما تقدم ان المؤرخين والفقهاء بصفة عامة ، وبعد ان تجاوزت الحركة اطوار تكوينها الأولى ، قد استهدفوا تشويه انتفاضات القرامطة وعقائدها المذهبية أمام جمهور الكادحين خشية أن تتحول الى نموذج اجتماعي ملهم لشعوب دولة الخلافة ، فتجاهلوا طبيعتها الاجتماعية الاقتصادية وحقيقة تناقض اهدافها مع مصالح الارستقراطية الاقطاعية ، وصوروها كحركة الحادية أقصى ما تهدف اليه هو التحرر من الشريعة ، والانغماس فى الاباحية والانحلال ، والعودة للدين المجوسى ، او للتحرر من الأديان على الاطلاق . ومن بين جملة الكتابات التاريخية والفقهية يمكن القول بأن المصادر السنية كانت اشد ضراوة فى أظهار عداواتها لكل الانتفاضات ذات الطبيعة الاجتماعية التى ارتبطت بطبقات المجتمع الكادحة ، وخاصة القرامطة ، وقد كان التهجم عليها ودمغها بأفظع الأوصاف بمثابة دليل الولاء لسلطة الخلافة ، ممن عاصروا هذه الانتفاضات بل ايضا ممن لم يعاصروها . وربما كان من الصائب القول ان وجهات نظر الكتاب المتأخرين كانت تعكس مخاوفهم فى تلك الحقب التاريخية التى يعيشون فيها حين يجدون قدرا من التماثل الظاهرى او الفعلى بين حركات اجتماعية ظهرت ايضا فى تلك الحقب التاريخية التى يكتبون حولها . وقد كان تشويه المنتفضين بمختلف انواع التلفيقات والاكاذيب يعتبر نوعا من انواع التقرب الى الله تعالى . وفى الواقع فان احدى المشكلات الاساسية التى تعترض الباحث اثناء دراسته لهذه الحركات الاجتماعية هى ندرة المصادر التى تعبر عنها مباشرة بواسطة كتابها او المتعاطفين معها ، مما لا يدع مجالا من الناحية الاساسية سوى الاعتماد على المصادر المعادية . وهى بالطبع لا تطابق الواقع التاريخى وتحتوى على اضافات غريبة منشؤها الميول الفكرية الطبقية المتحيزة ، وهى تمثل فى افضل الاحوال اجتزاء للوقائع التاريخية مضافا اليها خليط من الاساطير والخرافات والتحيزات الدينية . ومن ثم فان هذه الحركات الاجتماعية التاريخية اذ جاءتنا صورتها عبر وعى الكتاب المعادين لها . فان ما لدينا من صور تاريخية يبين فى الواقع مدى وعى هؤلاء الكتاب بهذه الوقائع التاريخية اكثرمما يبين الوقائع التاريخية ذاتها .
ولا شك ان اختبار الوقائع وتعليلها يرتبطان على نحو جدلى حيث ان اختيار وقائع معينه يبرر تعليلا معينا ، كما ان تبنى تعليل معين يقتضى اختيار وقائع معينة ايضاً . والمؤرخون القدامي قد انتقوا من مجمل الوقائع اللا متناهية تلك الوقائع التى تخدم وجهة نظرهم بخلفيتها الاجتماعية والتاريخية المحددة . وكما يقول ادوارد هاليت كار ، فقد جرى ،، اختيار وتحديد الصورة التى وصلتنا بشكل مسبق ، وهذا لم يتم بشكل عرضى بقدر ما ساهم به الناس الذين تشربوا عن وعى او بدون وعى بنظرة معينة وبفكر معين الحقائق التى تدعم تلك النظرة التى تستحق الحفظ ( 11 ) وفى موضع آخر يقول بأنه ،، ما من وثيقة بوسعها ان تخبرنا اكثر مما اراد لها محررها الشئ الذى اعتقد هو بأنه فكر به ،، (12) ومع ذلك فان هذه المصاعب لا تنفى وجود حقيقة تاريخية موضوعية وأنه يمكن بلوغها فى مجال البحث التاريخى . لقد ارتبطت الابحاث التاريخية فى المصادر التاريخية في المصادر السنية بشأن حركة القرامطة بالتنامي التدريجى لمعارف الكتاب عنها - هذا التنامي الذى ارتبط بتحولها الى قوة مؤثرة على صعيد الدعوة والتنظيم ، وبتطورها كقوة سياسية فعالة وخاصة بعد تأسيس الدولة الفاطمية فى المغرب واقامة دولة القرامطة فى البحرين . وقد قسم برنارد لويس فى كتابه (اصول الاسماعيلية ) (13) مراحل تطور هذه المعارف الى ثلاث وقام بتصنيف المصادر وفق هذا التقسيم ، وسوف نتبنى ذات التقسيم منوهين الى اننا سنشير الى اهم المصادر فقط خاصة تلك التى قدمت معلومات أصلية عن اى من جوانب هذه الحركة . وفق تقسييم لويس فان المرحلة الأولى وهى الأقدم يمثلها الطبرى ، وهو يرصد الفعاليات العلنية للقرامطة دون عقائدها المذهبية ، عدا اشارات قليلة ، غير انه لم يشر الى تنظيمات القرامطة الاجتماعية وتدابيرهم الاقتصادية خاصة مشاعة الألفة التى اقاموها فى الكوفة . وتبتدئ الفترة التى ارخ لها الطبري فى 278 هـ- 891م بأولى دعوات القرامطة فى العراق وتنتهي فى عام 294هـ - 106م بالقضاء على انتفاضة القرامطة بالشام. ووضع عريب بن سعد القرطبى ( توفى 370 هـ - 980 م) ذيلا لتاريخ الطبرى ينتهى فى 320هـ - 932م- . وقد تناول بصفة رئيسة فعاليات قرامطة البحرين العسكرية ، مع اشارات موجزة لقرامطة العراق فى هباتهم المتأخرة كما بحث الدعوة الفاطمية فى افريقية ولكنه كالطبرى لم يدرك الصلة الفعلية بين الدعوة الفاطمية فى شمال افريقيا وبين حركة القرامطة فى العراق والشام والبحرين . كما أن تكملة الهمدانى لتاريخ الطبرى لا تضيف جديدا . ينتمى لهذه المرحلة ايضا المؤرخ المسعودى (توفى 440هـ - 956م) ، وفى كتابية مروج الذهب والتنبيه والاشراف يغطى الفترة الممتدة حتى 322هـ - 944م اى حتى وفاة ابى طاهر ، ومعارفة عن القرامطة احدث من معارف الطبرى ، وقد اطلع على كتاب ابن رزام وعرف مبادئ الباطنية ، وخاصة نظام التأويل ، والفاطميين فى افريقية واليمن . ورغم ندرة المعلومات التى يقدمها المسعودى الا ان لها اهميتها الخاصة فتصانيقه تقوم على مشاهداته ومعايناته المباشرة استنادا الى تجربته الخاصة وهو ما يعطى كتاباته اهمية وحيوية استثنائية . ومما يؤسف له ان كتاباته المفصلة عن القرامطة لم تصل إلينا . ومعلوماته عن القرامطة مستقاه مباشرة من محادثاته معهم وخاصة بعض دعاتهم . وهو يقدم رواية موضوعية لا تحامل فيها حتى حين يشير الى استيلاء قرامطة البحرين على الحجر الأسود من الكعبة . ويضيف برنارد لويس الى هذه المرحلة ايضاً المؤرخ حمزة الاصفهانى صاحب كتاب (سنى ملوك الارض والانبياء) ، وقد اقتصر حسبما اشار الى تناول اعمال القرامطة العسكرية ، ولم يتناول عقائدهم المذهبية ولا صلاتهم بغيرهم ، وترجع اهميته الى تصويرة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية فى دولة الخلافة بما رافقها من فتن وهبات وحروب ، خاصة بعرضه النزاع الطبقى الحاد بين الخاصة والعامة ، والكتاب يساعد على فهم المناخ الذى انتعشت فيه حركة القرامطة الثورية . اما المرحلة الثانية فيمثلها ثابت بن سنان الصابى فى كتابه ( تاريخ أخبار القرامطة ) ( توفى 365هـ - 974م) وهو تاريخ القرامطة فى العراق والشام والبحرين منذ ظهورهم حتى وفاته . وقد تناول تفصيلا حروب القرامطة مع المعز لدين الله الفاطمى . والكتاب يمثل مرحلة متقدمة بالقياس الى الطبرى ، وقد أدرك العلاقة بين القرامطة والفاطميين فى افريقيه ، وان لم يذكر شيئا عن عقيدتهم وهو لا يعرف شيئا عنهم فى اطوار الحركة الأولى . ويتبع مسكوية فى كتابه ( تجارب الامم ) وكذلك ابن الأثير فى (الكامل ) تاريخ ثابت – الذى كان صابئا وهو يتبنى وجهة نظر معادية للقرامطة شأنه شأن السنة . وفى المرحلة الثالثة بلغ العالم السنى معلومات مفصلة عن الفرقة وعقائدها الاسماعيلية ، وخاصة عن بداياتها التاريخية فى طور دعوتها السرية الأولى وقبل شيوعها . ويعتبر برنارد لويس ان اقدم كاتب معروف فى هذه المرحلة هو ابو عبد الله بن رزام الذى عاش – تقريبا فى اوائل القرن الرابع الهجرى . وقد فقد كتاب ابن رزام الا ان بحثه عن القرامطة محفوظ فى بعض الكتب التاريخية ، وهو يعين بداية اتجاه جديد فى تناول حركة القرامطة . ومن بين جملة المؤرخين الذين تابعوه وانتهجوا طريقته فى تناوله للقرامطة ، نظام الملك وابن شداد وابو الفداء ورشيد الدين . وقد اعتمد اخو محسن وهو علوى معاصر للمعز لدين الله الفاطمى على روايه ابن رزام وذلك وفقا لما أنبأنا به المقريزى . ورغم أن الأخير لا يوثق ما كتباه الا انه يعتمد عليهما دون الاشارة اليهما وذلك فى مؤلفيه ( الخطط) وفى ( اتعاظ الحنفا) . وقد احتفظ المقريزى بنص ( أخو محسن) فذكر ما يتعلق بالعقيدة منه فى الخطط ، والجانب التاريخى فى المقفى واجملهما فى الاتعاظ . اما النويري ( توفى 732هـ - 1331م ) فقد اورد النص بصورة أفضل فى موسوعته الأدبية التاريخية ( نهاية الأرب) . ويتابع ابن النديم فى (الفهرست) الروايه عن ابن رزام . وجدير بالذكر ان المسعودى قد تحدث عن كتاب بن رزام عن القرامطة بازدراء ، ولعله من الأمور ذات المغزى ان نشير الى ان ابن رزام – توفى حوالى 365 هـ - قد كان صاحب ديوان المظالم ببغداد. وتنبع اهمية كتاب ابن رزام – من زاوية موضوع هذه الدراسة – من انه قد صور لنا مجتمع الألفة المشاعى الذى اقامة القرامطة بالكوفة وبين طبيعة التدابير الاجتماعية والاقتصادية التى أتخذوها ، وهو المصدر الوحيد – فيما اعلم – الذى تحدث يمثل هذا التفصيل عن هذه التدابير . ويميل ب. لويس الى الاعتقاد بأن ما عثر عليه من وثائق اسماعيلية تميل عموما الى تأييد ما جاء عند ابن رزام بصدد الجوانب العقائدية ، مثل صيغة القسم الذى يؤدية الملتحق بالدعوة ، وكذلك بعض المفاهيم الأخرى ، عدا ما ذكرة عن مراتب الانتماء التسع والتى يتبناها عديد من المؤرخين . ويضيف لويس انه بظهور كتاب ابن رزام ابتدأ يروج فى كتابات السنة التاريخية اسم ميمون القداح وابنه عبدالله ، وربطت اصول الحركة الفاطمية بهما ، وتأكدت الصلة بين الفاطميين والقرامطة . وبدأ التشكيك فى نسب الخلفاء الفاطميين . ويمكن القول بأن كتاب ابن رزام شكل معينا لا ينضب للكتابات المعادية بسبب تعصبه الضارى ضد الفاطميين والقرامطة . وقد احتل الفكر الاسماعيلي مكانة رئيسية فى كتابات السنة الدينية خاصة تلك الكتب التى تتناول المقالات والفرق ففضلا عن أن هذا الفكر قد تم تبنيه من قبل حركة اجتماعية ذات طابع انقلابي فقد كانت خصوصيتة – من وجهة نظر السنة – كفكر هرطقى الحادى يزعزع الأساس الدينى لسلطة الخلافة – هى التى دعت الى ايلاءه هذه المكانه . وهذه الكتابات اذ تقدم عقائد الاسماعيلية بشكل مشوة يختلط فيه التعصب بسؤ الفهم فانها تشير فى حدها الأدنى الى مدى وعن هؤلاء الفقهاء المتحاملين بهذا الفكر . واقدم التصنيفات عن الفرق الاسلامية هو ( مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين) لأبى الحسن الاشعرى ( المتوفي فى 321 هـ - 933م) وهو يتميز بالاعتدال الشديد فى تناوله للاسماعيلية الباطنية . أما الفرق بين الفرق ،، لصاحبه أبى منصور عبد القادر بن طاهر ، البغدادى ( المتوفى فى 429 هـ - 1037م) فهو يعرض للاسماعيلية بمنهج متعصب وضار العداء لهم ، ويبدو أنه اعتمد على ابن رزام بصفة أساسية . وقد تناولت الباطنية الاسماعيلية تلك الكتب التى عالجت الملل والنحل وشكلت أصول علم الأديان المقارن ، مثل كتاب ،، الفصل بين الملل والنحل ،، لابن حزم ( المتوفى فى 459 هـ - 1064 م) وهو يتبنى نظرة ضيقة متعصبة ايضا ، وان كان كتابه يعد أول تاريخ اسلامي للأديان وفقا لبرنارد لويس . وكذلك ،، الملل والنحل ،، للشهر ستانى ( المتوفى 548هـ1053 م ) وقد تميز الأخير بنظرة مستنيره للفرق المخالفة . ومعظم الكتابات السابقة تكاد تقتصر على تناول الجوانب المذهبية العقيدية وليس فيها من المعلومات التاريخية الا القليل وقيمتها الرئيسية كما يرى لويس هى أنها لا تقتصر على وصف الحركة الاسماعيلية ، بل تشمل كل الفرق الشيعية الغالية التى انبعثت الاسماعيلية منها . ومن أهم كتابات السنة عن الاسماعيلية كتاب الغزالي ،، فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية ،،. ( المتوفي 505هـ - 111م ) وهو تقليدى فى عدواته لكل الفرق المخالفة فضلا عن الاسماعيلية . وقد اتهم حجة الاسلام من قبل فخر الدين الرازى بأنه أساء فهم مذهب الاسماعيلية . ويساير كتاب الغزالي كتاب ( تلبيس ابليس) لجمال الدين أبن الجوزى الحنبلي المتوفى 597هـ - 1200م) ، أما كتاب قاضى القضاة عبد الجبار بن محمد الفقيه المعتزلى (المتوفى 415 أو 416هـ - 1024أو 1025م) المعنون :،، دلائل نبوة سيدنا محمد ،، فيعتمد على ابن رزام ، وقد غالى فى عداءه للقرامطة أيضا. وقد اتسمت تلك الكتابات باعتبارها ذات طابع دينى بالتحامل والتعصب ، حيث لم يكن من شأنها أن تقدم وجهة نظر موضوعية ، وانما كان هدفها الجدال مع الفرق المخالفة ، وقد تحدث المؤرخ المسعودى فى كتابه التنبيه والاشراف عن الجدليين بازدراء . ولم يكن متوقعاً من أصحاب هذه الكتابات ، الذين شدتهم لسلطة الخلافة أواصر متينة ، أن ينظروا أو يدركوا المحتوى الاجتماعي للصراعات التى اتخذت شكلاً دينياً باعتبارها صراعا بين طبقات وفئات اجتماعية على السلطة والنفوذ واذا كان هذا المعنى غامضا عند البعض فلم يكن من مصلحة من أدرك مغزاه أن يكشف عن ستره . فهم اجمالا لم يكن هدفهم نشدان الحقيقة ، بل كانوا يسعون الى ايجاد تبريرات دينية لتحيزاتهم الطبقية ، وهذا المنهج أدى بهم الى اغفال الوقائع التى لا تروقهم بل وتشوية الحقائق التى لا تنسجم خاصة مع مصالح الطبقة التى يمثلونها . أما كتابات فرق الشيعة الأخرى فتتمايز من زاوية مواقفها من المذهب الشيعي الاسماعيلي ، فكتب الشيعة الامامية الأولى تتسم بالاعتدال فى مواقفها ، ويمثلها ،، المقالات والفرق ،، للقمى ،، وفرق الشيعة ،، للنوبختى ، وقد عدد الطوسي فى كتابه الفهرست بعض من ردوا على المذهب الاسماعيلي من الشيعة الامامية مثل الفضل بن شاذان النيسابورى حيث كتب ( الرد على الباطنية والقرامطة ) ، ومحمد بن على بن عبدك أبو جعفر الجرحانى ، وله كتاب ( الرد على الاسماعيلية ) وكذلك محمد من يعقوب الكلينى المعروف بكتابه الكافى ، وهو من أهم الكتب الأربعة المعتمدة فى الأحكام الفقهية لدى الشيعة الامامية ، وله كتاب خاص فى الرد على القرامطة . ويضيف الدكتور محمد كامل حسين فى مقدمته لكتاب المجالس المستنصرية الى هؤلاء أبو سهل القزوينى العالم الشيعي الخراسانى ( المتوفى 260هـ ) . وفارس بن حاتم بن ماهويه القزوينى ( المتوفى 319هـ ) ومحمد بن ابراهيم بن جعفر الكاتب النعمانى (217هـ) ومحمد بن موسى الكاتب القزوينى ( المتوفى 283هـ ) فهؤلاء جميعاً كتبوا رسائل فى الرد على الاسماعيلية . وألف على بن أحمد الكوفى (توفى 352هـ) كتابين أحدهما باسم ( فساد عقائد الاسماعيلية ) والثانى باسم ( الرد على الاسماعيلية فى المعاد). ورغم أن المذهب الاسماعيلي الجديد قد أثر على مشايعي فرق الشيعة الامامية خاصة بعد دخول امامهم الثانى عشر فى الغيبة ، وهو الامام محمد بن الحسن العسكرى ( المهدى )، وتأخر رجعته مما جعل أنصاره يتحولون الى الفرق الاسماعيلية الجديده ، نقول رغم هذا احتفظت كتابات الشيعة الامامية باعتدال لهجتها ، بإستثناء فترات تزايد الخطر الفاطمى على الخلافة العباسية ، فآثرت الأخيرة أن تطعن فى نسبهم العلوى وفرضت مشاركة الطالبيين فى ذلك . أما كتابات الشيعة الزيدية – ومنها كتاب ( سيرة الهادى إلى الحق يحي بن الحسن ) لمصنفة على بن محمد ابن عبيد الله العباسي العلوى ،،، وكشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة ،، من تصنيف محمد بن مالك بن أبى الفضائل الحمادى اليمانى ( وبيان مذهب الباطنية وبطلانه ) المنقول من كتاب قواعد عقائد آل محمد – تأليف محمد بن حسن الديلمى ، فانها جميعا تتخذ موقفا يتميز بالعداء الضاري بسبب الصدامات العسكرية التى وقعت بين الزيدية والقرامطة فى اليمن . أما المصادر الاسماعيلية الرئيسية فهى معظمها ذات طابع دينى أو فلسفى تأويلي ، وهى لا تضيف الكثير بشأن الأطوار السرية الأولى للدعوة وهى لا تشير الى القرامطة ولا لفكرهم الاجتماعي وخاصة الى مجتمع الألفة المشاعي . ويعتبر كتاب ( افتتاح الدعوة وابتداء الدولة ) للقاضى أبو حنيفة النعمان التميمي المغربي ( توفى 363هـ ) العمل التاريخى الأول فى الأدب الاسماعيلي الذى يخلو نسبيا من محاولة تكييفه وفقا لمتطلبات العقيدة الدينية ، أو احتياجاتها الآنية . ولا تشوبة ما يشوب معظم الكتابات الاسماعيلية من لى عنق الحقائق لتلائم النبوءات والنظريات الصوفية حول رمزية الأعداد والتوقعات الفلكية ، والأفكار الدينية ، والخرافات الشعبية – وذلك على حد تعبير فلاديمير ايفانوف فى كتابة ( نشؤ الدولة الفاطمية ). (14) ويتضمن كتاب المجالس والمسايرات – للقاضى أبو حنيفة النعمان أيضاً – كثيراً من المعلومات التاريخية ، وترد اشارة صريحة واحدة الى القرامطة ، كما يرد فى جميع كتابات النعمان – التى سنستعملها فى دراستنا ، كالمصادر المذكورة عالية ، وأيضا كتابه المعروف خاصة بدعائم الاسلام ، وتأويل دعائم الاسلام ، اشارات تاريخية مفيدة بصدد عديد من قضايا تطور الدعوة الاسماعيلية خاصة فى مواجهة غلاة الاسماعيلية ذاتها ، وما يتعلق بامامة المهدى . ولا شك أن كتاب ( اختلاف أصول المذاهب ) للقاضى النعمان أيضاً يضع الأصول النظرية – التاريخية لضرورات نشأة المذهب الاسماعيلي ذاته فى مواجهة المذاهب الأخرى . ويمكن اعتماد كتاب ( استتار الامام) الذى كتبة أحمد بن ابراهيم النيسايورى – وقد توفى فى أوائل القرن الخامس الهجرى فى عهد الحاكم بأمر الله – لتغطية فترة تاريخية تبدأ بهجرة عبيد الله المهدى الى المغرب ، أى قبيل اقامة الدولة الفاطمية ، وهى تشير لقرامطة الشام فى بعض مواضعها . وينوة ايفانوف الى اهميتها وامكانية التعويل عليها ، ويعتبر أن هناك امكانية لتكوين صورة تاريخية معتمدة اذا تم الضفر بين حوليات الطبرى وما يقدمه النيسايورى . وتنبغى الاشارة أيضاً أن للمؤلف المذكور مصنف ذو أهمية هو ( اثبات الامامة ) وهى قضية تعتبر مناط الدعوة الاسماعيلية ، وهو كتاب جدالي فى المقام الأول . ويضاف الى ( استتار الامام) الكتاب الذى كتبة محمد بن محمد اليمنى فى بداية حكم العزيز الخليفة الفاطمى والموسوم باسم ( سيرة جعفر الحاجب ) ، التى يحتمل ايفانوف أنها كتبت فى 385-386هـ / 975- 996م. ومن الكتابات الاسماعيلية ذات الاهمية الخاصة فى دراستنا ذلك الرد الاسماعيلي الذى كتبه الداعي على بن محمد بن الوليد الأنف العبشمي القرشي ( توفى 612هـ) تحت اسم: ( دامع الباطل وحتف المناضل ) وهو الكتاب الذى فند فيه جملة جملة ، وفقرة فقرة كتاب حجة الاسلام الامام الغزالى المسمى ( فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية )، ورغم خلو الكتاب من أية معلومات تاريخية بحكم أنه وضع لغايات جدالية الا أن قيمته لا تقدر لأنه يحاول نقض الصورة السنية التقليدية عن الاسماعيلية ، وربما كان هذا أكمل رد اسماعيلي على الافتراءات التى ووجهت بها حركتهم . ويمكن لنا أن ندخل فى عداد المصادر والكتابات الاسماعيلية كتاب ( صورة الأرض) لابن حوقل ، المتوفى فى أواخر القرن الرابع الهجرى أو العاشر الميلادى ، وهو يقدم أقدم وصف تاريخى عن دولة القرامطة فى البحرين ونظامها السياسي . وقد وردت اشارة فى كتابه المذكور لم بلتفت اليها أحد من الباحثيين من قبل ، وهى تتعلق بالداعي حمدان بن الأشعث الذى أشارت المصادر التاريخية الى اختفاءه فى العراق بصورة غامضة ، فقد ذكر حين حلولة بالمغرب . أنه سمع ( أبا الحسن بن أبى على الداعى المعروف كان بحمدان قرمط ، وهو صاحب بيت مال أهل المغرب يقول فى سنة ست وثلاثين وثلاثمائه....) الأمر الذى قد يغير الفروض التاريخية التى افترضها بعض الباحثين من اختلافة مع قادة الدعوة بسلمية ومن ارتداده عن الدعوة ذاتها . وهو الأمرالذى سنعالجة فى موضعة من هذه الدراسة . والمصدر الثانى الذى يكمل الصورة التى قدمها ابن حوقل عن دولة القرامطة فى البحرين هو كتاب ( سفرنامة ) الذى كتبه حجة خراسان الداعى الاسماعيلي ناصر خسرو ( توفى 481هـ - 1088م) فقد خصص ناصر خسرو قسما من كتابة لوصف دولة القرامطة من النواحى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية حين زار منطقة البحرين . وميزه هذان المصدران أنهما يصفان دولة القرامطة فى البحرين بموضوعية ودون تحامل ويمكن أن نضيف الى جملة المصادر الاسماعيلية ( رسائل اخوان الصفا وخلان الوفا) فرغم الخلاف بين الباحثين حول مؤلفيها وتاريخ كتابتها ، الا أن هناك اتفاقا بين جملة من الباحثين على اعتبارها من الأدب الاسماعيلي ، وهو ما يمكن ادراكة من مقارنة القضايا الأساسية ، المطروحة فيها مع الأدب الاسماعيلي الذى يمثله الدعاه الأوائل كاالنسفي والسجتانى. وقبيل ان نختم حديثنا عن المصادر الاسماعيلية يهمنا أن نشير الى تلك المخطوطة التى اكتشفها باحث اسماعيلي معاصر هو د. عارف تامر والمخطوطة اسمها ( شجرة اليقين) (15) وهى منسوبة الى (عبدان) أبرز دعاة قرامطة العراق فى النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى . ولكن عارف تامر لم يبرهن علمياً من خلال دراسته للمخطوطة على نسبتها اليه ، فقد اكتفى بوجود اسم عبدان عليها فأعتبرها من ثم واحدة من مؤلفاته . ومن الجدير بالذكر أن ابن النديم فى الفهرست لم يشر الى ( شجرة اليقين ) كما انه لم يرد فى اى من المصادر بما فيها المرشد للأدب الاسماعيلى لمؤلفه فلاديمير ايفانوف ، الذى وضع ثبتا بالكتابات الاسماعيلية . ولا شك أن تحقيق المخطوطة علميا بدراسة بنيتها الفكرية ورد المقولات المطروحة فيها الى فترة زمنية معينة ، كان أمرا يمكن أن يحدد بشكل تقريبى العصر الذى كتبت فيه ، واذا كان كثير من المصنفين قد انتحلوا اسم عبدان لمؤلفاتهم ، فمن الصعب اذن الاعتماد عليها واعتبارها احدى مؤلفاته. وقد أشار ابن النديم فى الفهرست الى أن واحدا من الكتاب يدعى ( خشكناكه الكاتب) قد (ألف عده كتب ونحلها عبدان صاحب الاسماعيلية) (16) وأن بنى حماد المواصلة (قد صنفوا كتبا وأضافوها الى عبدان )(17) أما المصادر الاسماعيلية فتنفى أية علاقة بعبدان القرمطى . ففى ( المرشد للأدب الاسماعيلي) يقول ايفانوف عن احدى الشخصيات التى صادفها فى بحثة فى التراث الاسماعيلي واسمه ( سيدنا عبدان ) ، (،، ان التقليد الاسماعيلي الراهن يصر على أن عبدان هذا لا علاقة له بالداعى الاسماعيلي أو القرمطى الأول الذى مات فى 286هـ / 889م والذى أشير الى اعمالة عند ابن النديم . والتاريخ الحقيقي لوفاته غير معروف (18) ويفترض أنه عاش خلال العصر الفاطمى ،،. من ناحية أخرى يشير الداعى الأجل شهاب الدين أبى فراس فى ،، رسالة مطالع الشموس فى معرفة النفوس ،، الى جابر بن حيان وعبدان مرفقاً اسمهيما بعبارة نضر الله وجهيهما ثم يذكر أن ما جاء به من عقائد قد تم التبشير به قبلا من جابر بن حيان فى مصنفة ،، الابتداء ،، وعبدان فى كتابه الميزان ،(19) ولكنه لم يمدنا بأيه معلومة عن عبدان هذا هل هو عبدان القرمطى أم الفاطمى أم عبدان آخر. وكتاب شجرة اليقين هو أحد كتب التأويل الباطنى ، ويمكن ادخاله فى جمله الأدب الاسماعيلي ، وهو يتناول المقولات المذهبية كالتوحيد والتجريد والتنزيه ، والجد والفتح والخيال ، ويصعب على الباحث أن يكشف ما يميزه بصفة خاصة اذا قارنه ببعض الأعمال الأخرى التى تنتمى للأدب الاسماعيلي مثل كتاب الافتخار للسجتانى ، ولذا فان فائدة شجرة اليقين تطل معدومة فى تمثيل قرامطة العراق . الاستشراق الأوروبى والحركات الثورية فى التاريخ العربى الاسلامي . لقد ارتبط الاستشراق الحديث بمحاولات الاستعمار والامبريالية للسيطرة على البلدان والأمم الشرقية ، وكانت الدوافع العميقة وراء كثير من الأبحاث التاريخية تبرير النزوع الأوروبي للسيطرة الاقتصادية والسياسية ، ومن شواهد ذلك أن عددا من أبرز المستشرقين قد عملوا فى الاجهزة البيروقراطية الاستعمارية، وفى مجالات التدريس والتبشير الدينى ، ولذا ليس من المغالاة القول بأن الاستشراق فى العصر الحديث كان بصفة أساسية جزءا من النشاط الأيديولوجي فى مرحلة الاستعمار الكولونيالي هدفه المحافظة على استغلال الشعوب الشرقية آنذاك. وقد تأثرت مناهج البحث وكذلك الفروص التاريخية بالغايات الكولونيالية . فمن الملاحظ مثلا أن بعض هذه الكتابات الاستشراقية قد ركزت بشكل مغالى فيه على دور الدولة فى الأنظمة الشرقية وعلى غياب الملكية العقارية الخاصة ، لتعطى هذه الدولة الاستعمارية أو تلك تبريرا للسيطرة على أرض المستعمرات بناء على هذه الاستنادات التاريخية . ويشير ماكسيم رودنسون الى أن الاستشراق قد تشرب بروح العصور الوسطى أو الامبريالية ، وأغرقه شعور نفعى بالتفوق الغربى يميل الى ازداراء الحضارات الأخرى بما يرتبط بذلك من نزعة مركزية أوروبية . كما جرى تضخيم لقوة تأثير الدين واللغة والعرق الى حد هائل (20) وجرى نقل العوامل السائدة فى العالم الأوروبي المعاصر وتأكيدها ، بمعنى آخر فقد تأثر الاستشراق الأوروبى بالأيديولوجيات التى سادت أوروبا ، فعلى سبيل المثال قدم الكونت دى جوبينو (أب العنصرية الحديثة أول نظرية كبرى فى تفسير المدلول الحقيقي للالحاد الاسلامي ، فقال ان التشيع يمثل ردة فعل الفارسيين الاندو أوروبين ضد سيطرة العرب ، أى ضد سيطرة السامية على الاسلام .) (21) ومن اللافت للنظر أن معظم المؤرخين البورجوازيين قد رددوا اتهامات مؤرخى العصور الوسطى بصدد انتفاضات الخارجين على الخلافة ، وأغفلوا اغفالا تاما العنصر الجوهرى وهو رؤية الطبيعة الاجتماعية للحركات الثورية وواقع الاستغلال الذى عانته طبقات المجتمع الدنيا . ويبدو أن التحولات الأيديولوجية التى اعترت فكر البورجوازية الأوروبية ذاتها قد حددت وعينت معالم مواقف مستشرقيها من الحركات الثورية فى التاريخ . وهكذا وصفت الصراعات الطبقية بأنها صراعات عرقية أو دينية ، وكان منطقيا استنادا الى هذا النهج أن يعد التشيع ردة فعل فارسية اندو أوروبية ضد السيطرة العربية السامية على الاسلام . وبدلا عن المنهج التاريخى القائم على وعى الصراع الطبقي كما عبر عنه بعض مؤرخى البورجوازية مثل تيرى ومينيه وجيزو ، حل مرة أخرى المفهوم المثالي أو اللاهوتى ، سواء استند ذلك الى ميل رومانسى الى الشرق أو الى تلك المقاربات الروحية التى لم ترى فى الشرق الا تاريخه الصوفي وكان من شأن هذه النظريات اهمال التاريخ الاقتصادي الاجتماعي بصفة خاصة . وكيفما كان الأمر فلا شك بأن الموقف من انتفاضات الشرق التاريخية قد تأثر بواقع بروز الثورات العمالية الأوروبية فى القرن التاسع عشر ، وبالثورة الروسية عام 1917 فى بدايات هذا القرن . وقد كان هذا الواقع أحد المصادر الأساسية لتغلغل المفاهيم المعادية للطبقات الشعبية فى الأعمال الاستشراقية الأوروبية . وقد سادت كتابات المستشرقين مقولات الاستبداد الاسيوي ، والركود الشرقي الى حد أن البعض قد اعتبر أن للشرق تاريخا خاصا متميزا وأنه ذو حضارة أدنى من الغرب . وفى مواجهة المستشرقين الغربيين الذين رأوا أنه لم يكن ولن يكون للأمم الشرقية تاريخ بمعنى هذه الكلمة ، أو أن أساليب البحث التاريخى غير قابلة للتطبيق عليها ، أو أن الشرق يستقل بقوانين تنظم حياته الاجتماعية والثقافية تتمايز عن تلك القوانين التى سادت فى الغرب، نقول فى مواجه هؤلاء – خاصة حين سعى البعض مثل ارنست رينان لترويج فكرة خصووصية تاريخية سامية – تصدى المؤرخ العربي الفلسطينى بندلى جوزى مفندا مثل هذه الآراء فى كتابه من تاريخ الحركات الفكرية فى الاسلام الصادر عام 1928 ، وربما كان هو أول من دافع – من الكتاب العرب – عن فكرة وحدة قوانين التطور الاجتماعي ، وتماثل المراحل التاريخية فى الشرق والغرب على السواء ، حيث كتب :،، أن تاريخ الشرق وحياته الاجتماعية وعقلية شعوبه على الاطلاق والشعوب الاسلامية تخضع لنفس النواميس والعوامل التى تخضع لها حياة وتاريخ الأمم الغربية ، وأن أمم الشرق قد قطعت فى حياتها الطويلة وستقطع ذات المراحل والأدوار الاجتماعية التى قطعتها الأمم الغربية ،، (22). لقد كان الاستشراق الأوروبى – وخاصة البريطانى والفرنسي – أداة فى يد السياسة الاستعمارية هدفة رؤية الشرق وتكييفه وفق حاجات الهيمنة الغربية ، وهو فى كل الأحول قد تأثر بالمدارس الأيديولوجية الغربية على تفاوت انتماءاتها وبالطبع فان هذا الحكم التعميمى لا يستغرق كافة المستشرقين فى كل الأحوال ولا كافة الكتابات التى انتجت عن الشرق . ان الحكم السابق يشخص الوجهة العامة بصفة رئيسية . ويترتب على ذلك القول أن هناك الكثير من الجهود التى قام بها المستشرقين قد قدمت اسهامات ايجابية فى ادراك وفهم التاريخ العربي الاسلامي ، وخاصة فى تحقيق عيونه ، وأن أى باحث جدى معاصر لا بد أن يبدأ من حيث انتهوا حتى وان أتخذ ازاء أعمالهم موقفاً نقدياً . وقد تناول عديد من المستشرقين (23) حركة القرامطة وأصلها الاسماعيلي ، ومنهم سلفستردى ساسي فى كتابه ،، عرض لديانه الدروز ،، الصادر فى عام 1838م . وقد اعتمد فى دراسته عن الدعوة الاسماعيلية على ،، نهاية الأرب ،، للنويرى ، الذى استقى معلوماته من ابن رزام ، ومن أخو محسن بن العابد العلوى الدمشقى . وكذلك على ،، الفهرست ،، لابن النديم ،، والكامل،، لابن الأثير ، وعلى كتب المقريزى . وقد توجه لترجمة الروايات بصورة رئيسية . وهو يجاري النويري والمقريزى فى اعتبار الاسماعيلية حركة دينية سياسية قام بتنظيمها عبد الله بن ميمون القداح هدفها القضاء على سلطان العرب وعلى الدين الاسلامي لاستعادة المجد الايرانى القديم . كما تابع المستشرق دوزى نفس النتائج التى توصل لها دوساسى ، وذلك فى كتابيه،، مقالات فى تاريخ الاسلام ،، و،، تاريخ مسلمى أسبانيا ،،.وقد تبنى مفهوما تآمريا للتاريخ حيث اعتبر الحركة القرمطية الاسماعيلية نتاجا لمطامح شخص واحد هو عبدالله بن ميمون القداح فقال عنه أنه أراد ،، أن يجمع فى هيئة واحدة بين الغالب والمغلوب ، وأن يربط فى جمعية سرية واحدة ذات مراتب متعدده بين أحرار الفكر الذين يرون فى الدين وسيلة لضبط العامة ، وبين المتعصبين من كل الطوائف . ليستغل المؤمنين لايصال الملحدين الى الحكم . وليستخدم الغالبين لاسقاط الامبراطورية التى أنشأوها ، وبتعبير آخر أراد أن يكون لنفسه حزبا واسعا مؤتلفا مطيعا ، ينقل اليه – أو على الأقل لذوية – العرش عند سنوح الفرصة . هذه هى فكرة عبدالله بن ميمون الأساسية ، وهى فكرة تظهر غريبة عجيبة ولكنه نفذها بحذق مدهش ومهارة فذه وفهم عميق للقلب البشرى (24). وقد تبنى دى خويه المستشرق الهولندى الأفكار والمنطلقات الأساسية التى عرضها كل من دو ساسي ودوزى حيث اعتبر أن آل القداح قد نظموا الحركة الاسماعيلية بسبب كرههم للعرب والاسلام تضافر مع طموح عبدالله بن ميمون القداح غير المحدود. وقد أضاف كتابه ،، مذكرات عن قرامطة البحرين ،، جديدا ، خاصة فيما يتعلق بصلة الأخيرين بالفاطميين والعباسيين .الا أنه لم يقدم جديدا عن قرامطة العراق ولم ينتبه مع تبيانه لتدابير حمدان الاقتصادية فى مشاعة الألفة بالكوفة للمعنى الاقتصادي الاجتماعي الذى حملته الحركة الاسماعيلية فى أطورها الأولى . أما كازانوفا فى بحثه عن العقيدة الاسماعيلية والذى صدر تحت عنوان :،، المذهب السري لفاطميى مصر ،، فقد صور الحركة الاسماعيلية باعتبارها حركة فلسفية مجردة ، وغض الطرف عن ملابساتها المختلفة ،اقتصادية اجتماعية أو سياسية. ويمكن أن نقول بايجاز أن معظم هؤلاء الكتاب قد تبنوا موقف المؤرخين التقليدين من حركة القرامطة الاسماعيلية الذى بدا كما لو كان لخلاف مذهبهم مع الاسلام . وفى الجملة ورغم الجهود الضخمة التى أبداها هؤلاء المستشرقين وغيرهم فى احياء المخطوطات الاسماعيلية والقيام بتحقيقها ودراستها ، الا أن مناهجهم فى البحث ذات الطابع المثالي – بالمعنى الفلسفى التاريخى للكلمة – لم تكن تقدم عرضا واقعياً للعلاقات الفعلية التاريخية . وركزت تركيزا أحاديا على جوانب بعينها لبت نوازع الباحثين الذاتية . بيد أن هناك بعض الباحثين الذين انتبهوا للمغزى الاجتماعي للحركة القرمطية الاسماعيلية ورفضوا الآراء التى صورتها كحركة عنصرية قومية . منهم على سبيل المثال المستشرق لوى ماسينيون ، ورغم رؤاه الصوفية للتاريخ . فقد أشار فى مقال له بدائرة المعارف الاسلامية تحت مادة قرامطة الى الطابع الاجتماعي للحركة ، وأعتبر أن لفظ القرامطة قد ،، أطلق على اتحادات العرب والأنباط الثورية التى نظمت فى جنوب العراق بعد حرب الزنج مستندة الى نظام من الاشتراكية يتدرج فى الدخول فيه ، وأن الدعاية الاسماعيلية وسعت انتشار الحركة بين الجماهير من فلاحين وصناع (25). كما تناول جانبا من جوانب الموضوع فى كتابه المشهور ،، آلام الحلاج ،، حيث أشار فيه الى أن الحركة القرمطية هى التى اسهمت فى ايجاد الطوائف الحرفية ، وأنها :،، كانت قبل كل شئ سلاحا شهره الدعاة القرامطة فى كفاحهم لجمع العمال فى العالم الاسلامي ولتكوين قوة منهم تستطيع قلب نظام الخلافة ،،(26) ويمكن أن نشير أيضا الى المستشرق البريطانى برنارد لويس فى كتابه ،، أصول الاسماعيلية ،، حيث أدرك بوضوح مغزى الحركة الاجتماعي ورفض أيضا تلك النظرات التى اعتبرت حركة القرامطة الاسماعيلية بمثابة حركة عنصرية قومية . وننوه أخيراً الى تلك الجهود الضخمة التى بذلها المستشرق فلاديمير ايفانوف فى دراساته لعقائد الاسماعيلية ولتاريخهم ، غير أنه فى أهم كتبه ،، نشؤ الدولة الفاطمية ،، لم يعر الأسس الاقتصادية للحركة الاسماعيلية اهتماما وأورد ما ذكره بن رزام عن تدابير حمدان الاقتصادية فى العراق ، كما اشار الى ماذكرة ناصر خسرو فى تدابير قرامطة البحرين دون اضافة . لقد أبدى المفكر الفرنسي والماركسي السابق روجيه جارودى رأيا بشأن تجربه القرامطة التاريخية فى كتابة ،، ماركسية القرن العشرين ،، حيث رأى أن من ،، نزعة الماركسية العالمية أن تمد جذورها الى ثقافة كل شعب ، وأنه يمكن للمسلم المعاصر أن يصل الى الاشتراكية العلمية بدءا من منطلقات غير أوروبية ، حيث كان له هو الآخر اشتراكيته الطوباوية ممثلة فى حركة القرامطة ، وكان له ميراثه العقلانى والجدلى ممثلا فى ابن رشد ، وكان لديه مبشر بالمادية التاريخية فى شخص ابن خلدون . وهو على هذا التراث يستطيع أن يقيم اشتراكيته العلمية دون حاجة الى سبل هيجل أوريكاردو أوسان سيمون (27). وقد ردد الكثير من الباحثين العرب قول جارودى فى فترة كانت فيها الاشتراكية القومية الطراز القائمة على رأسمالية الدولة فى ابان ازدهارها ، وتلاقفة أيديولوجيوا هذه الأنظمة ليؤكدوا على أن الخصوصية القومية تعنى رفض الماركسية واستلهام الاشتراكية من تراثنا الخالد . والحال أن نظرية جارودى قد ولدت ميته ، فهى لم تكن تشكل استجابة لحاجة اجتماعية حقيقية ، كما أنها لم تكن تعكس تيارا فعليا فى الواقع ولا يشفع لها كونها قد تلبست طابعا عربيا واسلاميا . فهذه ،، المنطلقات ،، رغم قيمتها فى زمنها التاريخى الا أنها لم تتصل ولم تستمر لاعلى الصعيد الاجتماعي ولا الفكرى . وفضلا عن الانقطاع التاريخى ، فلم تصل واقعيا أى حركة فى العالم العربي أو الاسلامي عامة الى الاشتراكية العلمية عبر هذه المنطلقات .(28). وفى احدى محاضراته التى ألقاها بمصر أشار جارودى مرة أخرى الى النموذج القرمطى حيث قال :،، لقد شهدت الحضارة التجارية العظيمة فى الامبراطورية العربية الأشكال الأولى (للإشتراكية الطوباوية) ويمكن القول ان أشكال الاشتراكية ذات الخاصة الأسلامية نشأت امتدادا للنظام الضرائبي المعروف (بالزكاة) كما نشأت من مفهوم القرآن عن الملكية المبنية على العمل ، فعلى سبيل المثال أنشأ (حمدان قرمط ) سنة 865م فى العراق مذهبا جديدا منطلقا من مبدأ الزكاة ، فطالب أنصاره بأن يدفعوا ضريبة أخذت ترتفع باضطراد مبتدئاً بالصدقات الكبيرة ، ثم بخمس الثروة ...وأخيراً بكافة الممتلكات .(29). والملاحظ أن جارودى فى هذا الرأى قد أولى الدعاية السياسية اهتمامه على حساب المضمون التاريخى للنموذج القرمطى ، فلم يطرح الشروط التاريخية التى ولدته ، ولا طبيعته الاجتماعية التى استمدت خصوصيتها من البيئة التاريخية التى احتضنته . فكل الفكر الاشتراكي ما قبل الماركسي هو فكر طوباوي ، ولكن الطوباوية التى تبدت فى مذاهب ظهرت فى ظل النظام العبودى تختلف عن المذاهب الطوباوية التى ظهرت فى العهد الاقطاعي ، كما يختلف الأخيران عن الاشتراكية الطوباوية التى رافقت البدايات الأولى للرأسمالية . والا ما الفرق اذن بين الشيوعية المسيحية البدائية ، وبين الشيوعية الفلاحية فى ألمانيا القرون الوسطى ، وبين الاشتراكية الطوباوية لفوريية وسان سيمون وروبرت أوين ؟ وقد أفضى به الخطأ المنهجى أيضاً الى اعتبار بعض مظاهر التجربة القرمطية قد نشأت عن مفهوم القرآن عن الملكية المبنية على العمل ، أو على الزكاة . رغم أن القرآن لم يكرس بشكل خاص مفهوم الملكية المبنية على العمل ، ولا كان الأمر فى الممارسة التاريخية كذلك . كما ان مشاعة القرامطة بالكوفة لم تكن بمثابة تطبيق لنظام الزكاة الاسلامي . فمجرد استعمال المقولات والمفاهيم لاسلامية بمعناها اللغوى لا يعنى أن محتواها مرتبط بمعناها التاريخي الأصلي . وكيفما كان الأمر فقد تفادى جارودى التعرض لتجربة القرامطة فى البحرين . وربما كان من المناسب أن نشير الى أن جارودى بعد اعتناقة لاسلام قد تخلى عن أطروحته حول هذا النمط من الاشتراكية الاسلامية المتصورة ، وربما كل اشتراكية .(30). وممن تعرضوا للمثال القرمطى – على نحو عرضي – المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون فى كتابه ( الاسلام والرأسمالية ) حيث كتب :،، ولقد تبنت بعض الشيع الاسلامية فى العصور الوسطى هذا الموقف المناهض للثروة ، بعضها بتعابير من الصوفية والزهد ، وبعضها بلهجة أقرب الى النضال الثورى ، على درجات متفاوته – بلا حصر ، ولكنها ظلت ذات أثر محدود أو تخلت – فى طريقها الى السلطة – عن جوهر دعوتها على هذا الصعيد . فالطائفة الاسماعيلية مثلا كانت شديدة المناهضة للثروات المكتسبة ، ثم كانت لها السلطة مدى سنوات كثيرة فى تونس ثم فى مصر ، فلم تتخذ أيه اجراءات تنتقص بها من هذا الحق . والقرامطة وحدهم ، الذين يبدو أنهم فرع من تلك الطائفة هم الذين أقاموا فى البحرين ، حين استولوا على السلطة فيها، نظاما تعاونيا بين الأحرار (علما بأنه كان فى جمهورية القرامطة عدد كبير من الرقيق الأسود) ، كان هذا النظام يقتضى فرض ضرائب باهظة على الأغنياء لتمويل بيت المال ونفقاته من أجل الفقراء ...،،، (31). ورغم أن رودنسون قد أكد على واقعة جديرة بالاعتبار فى تقييم تجربة القرامطة ، خاصة وجود عدد كبير من الرقيق فى دولة البحرين ، وهو أمر يتجاهلة عمدا بعض الكتاب والمؤرخين ، الا أنه لم يحفل بتفسير الظاهرة ذاتها ، ولا بتفسير مراحل تطور الدعوة الاسماعيلية وأسباب تباين مواقفها لمناهضة للثروة قبل توليها السلطة وبعدها . ومهما يكن من شئ . فلم يكن كتاب رودنسون مخصصا لبحث مثال القرامطة ، وانما أتت اشارته تلك عرضاً . القرامطة فى الدراسات التاريخية العربية المعاصرة . يأتى فى طليعة رواد المؤرخين المعاصرين الفلسطينى بندلى جوزى الذى كان أول من حاول تفسير وقائع التاريخ العربي الاسلامي على ضوء المادية التاريخية ، وقد أولى اهتماما خاصة لحركات المعارضة الثورية خاصة للبابكية والقرامطة . وكان كتابه المعروف من تاريخ الحركات الفكرية فى الاسلام (32).فاتحه تطبيق المنهج العلمى وطرائقة الانتقادية على واقعنا التاريخى . فلم يأخذ بأقوال مؤرخى القرون الوسطى واتهاماتهم التقليدية لحركات المعارضة الثورية ، كما لم يساير بعض المستشرقين فى ضلالاتهم ، وانما تحقق من طبيعة هذه الحركات من خلال دراسة موضوعية نقدية . ولم تكن أولى المحاولات الرائدة لتخلو من بعض القصور تفرضه ضآله المادة العلمية المتوفرة حول هذه الحركات الراديكالية فيما يتعلق بالكثير من جوانبها ،فضلا عن أن حداثه استخدام المادية التاريخية ومحاولة اكتشاف الأوضاع الخاصة ،، الشرقية ،، من خلال منهجها والغريزة الثورية التى قادته الى التعاطف مع المنتفضين ، كل ذلك أدى به الى رؤية التجربة القرمطية من واقع معايشته للثورة الاشتراكيه وانجازاتها فى الاتحاد السوفيتى . فقد اعتبرها تجربه شيوعية دون أن يحدد طبيعتها الاجتماعية بالنسبة الى عصرها والبيئة التاريخية التى ظهرت فيها . ولم يميز بين طابع مشاعية الكوفة التى أقامها قرامطة العراق ، وبين النظام ،، المشاعي ،، الذى أقيم فى البحرين على قاعدة جموع العبيد . وقد وثق آراء البغدادى فى ،، الفرق بين الفرق ،، بشأن بعض مظاهر التجربة دون نقد وتمحيص ، وخلط بين أساليب الضم الى الدعوة وبين مراتب العلم وهى البلاغات ، كما أنه قد تجاهل أيضا واقع وجود الرقيق الزنج فى ظل نظام قرامطة البحرين . وأخيراً فانه قد رأى أن الحرب الاسماعيلي أراد بناء نظام اجتماعي جديد اشتراكي دون أن يوضح طبيعته ،وما اذا كان ممكنا اقامة مثل هذا النظام فى شروط ذلك العصر ولم لم يتم بناؤه بالفعل حين سيطر الاسماعيليون على المغرب ثم مصر . ولا يبدوا أنه كان مطلعاً على كل آراء مؤسسى الماركسية بشأن المجتمعات الشرقية وربما كانت مقدمة كتابه الآنف الذكر تشير الى أنه كان متابعاً للمناقشات التى دارت فى العشرينات فى أوساط العلماء والمؤرخين السوفييت حول أسلوب الانتاج الآسيوى ، فهو يؤكد فى هذه المقدمة على وحدة قوانين التطور الاجتماعي ، ووحدة المراحل التاريخية التى مر بها كل من الشرق والغرب على السواء . ولكنه من البين أن بندلى جوزى لم يعتمد على بعض الدراسات الماركسية التى كان من شأنها أن تنير بشكل أعمق الطريق أمام بحث الحركات الثورية ، أعنى بصفة خاصة مؤلف انجلز حول حرب الفلاحين فى ألمانيا . وكذلك مقالاته حول المسيحية البدائية ، أضف الى ذلك مؤلفات كاوتسكى حول نشأة وتطور المسيحية ، خاصة كتابه ،، أسس المسيحية ،، فهى جميعا تعطى نقاطا ممتازة للمقارنه التاريخية. ومع ذلك يظل لبندلى جوزى فضل الريادة فى بحث حركات المعارضة الثورية فى التاريخ العربي الاسلامي من منظور المادية التاريخية . ورغم أن كتابه قد صدر فى أواخر العشرينات ، فقد ظل يمارس تأثيرا عميقاً على أجيال من الباحثين الذين كانت دراسة حركات المعارضة الثورية موضع اهتمامهم . ويأتى فى طليعة الرواد العرب المؤرخ الاقتصادى العراقى عبد العزيز الدورى الذى أسهم اسهاما ممتازا فى بحث التاريخ الاقتصادى للمجتمع العربي الاسلامي فى عصور مختلفة خاصة فى العصر العباسي ، وهو يعتبر بحق مؤرخا خلدونى النزعة . وقد اهتم فى دراساته بتبيان الأسس الاقتصادية لبعض ثورات القرنين الثالث والرابع الهجريين وخاصة ثورتى الزنج والقرامطة . وهو قد تناول بحث الاسماعيلية والقرامطة سواء بإيجاز كما هو الحال فى كتابية ،، تاريخ العراق الاقتصادي فى القرن الرابع الهجرى ،، (33) ،،ومقدمة فى التاريخ الاقتصادى العربى ،،(34) أو باستفاضه كما هو الحال فى كتابه ،، دراسات فى العصور العباسية المتأخرة ،، (35 ) فضلا عن مقدمته المطولة التى صدر بها الترجمه العربية الأولى لكتاب المستشرق برنارد لويس ،، أصول الاسماعيلية ،،(36) والميزة الأساسية لكتابات الدورى هى تبيانه للجوانب الاقتصادية باعتبارها الأساس الذى ارتكزت علية حركات المعارضة الراديكالية ضد نظام الخلافة ، كما أنها اهتمت بتصنيف الطبقات والفئات الاجتماعية التى شكلت هيكل هذه الحركات وبنيتها ، وانطلاقا من ذلك رفض الدورى وصف الحركة الاسماعيلية القرمطية بأنها حركة فارسية تهدف لارجاع ملك الفرس ، وبين أن الأرستقراطية الفارسية قد ناهضتها بنفس الحمية التى ناهضتها بها الأرستقراطية العربية الاسلامية ، كما أن القاعدة الاجتماعية للحركة قد شملت الفلاحين ، والحرفيين ، وعوام المدن ، وقبائل العراق الجنوبى . وقد ميز وقدم مقارنات مفيدة بشأن اختلاف التنظيم الاقتصادى الاجتماعى لكل من قرامطة العراق والبحرين . وان كان قد وصف أهداف الأولين بأنه ،، اقامة مجتمع اشتراكي فى السواد،، ووصف النظام الذى أقيم فى البحرين بأنه دولة ،، شبه اشتراكية ،، دون أن يحدد طبيعة هذه الاشتراكيات من خلال البيئة التاريخية التى أحاطت بها . وقد اعتمد على روايات البغدادى بشأن تطرف القرامطة فى خلع الأديان ، ناسيا أن الحركة التى كان أبرز شعاراتها حق العلويين فى الخلافة لم يكن ممكنا أن تقوض بذاتها أساس دعوتها . وان هذا الحكم التعميمى لا يميز بين أطوار الدعوة ولا بين الأصول العقائدية للفرق التى كونتها . لقد صدرت على مدار العقود الثلاثة الأخيرة عدة أبحاث ودراسات عن القرامطة من قبل الباحثين العرب . وهى ذات طابع تقليدي فى منهجها ومادتها على السواء . وهناك نموذج يعكس هذه الكتابات التقليدية المعاصرة ومنهجها فى بحث حركة القرامطة الثورية ، وهو كتاب ،، القرامطة أول حركة اشتراكية فى الاسلام ،، من تأليف الشيخ طه الولى (37). ولأن الكتاب نموذجى فى تبنى نهج مؤرخى القرون الوسطى ، وهو ذات النهج الذى تبناه الدكتور عبد الرحمن بدوى فى البحث المطول الذى خصصه للقرامطة فى كتابه ،، مقالات الاسلاميين ،، لذلك سوف نستغنى بتقييم كتاب الشيخ الولى عن تقييم هذه الكتابات المشابهة له فى جانب أو آخر . ولذا سيكون تقييمنا له تفصيلها بعض الشئ. ان المؤلف ينطلق من مفهوم خاطئ يشكل انتهاكا للبحث العلمى وموضوعتة يتمثل فى تبنيه لأفكار مسبقة كانت الوقائع التاريخية المجتزئه هى أدواته فى البرهان عليها . فلم يكن هدف دراسته – كما قد يوحى بذلك عنوان الكتاب ، ابراز العناصر الديمقراطية أو الاشتراكية فى هذا الحدث التاريخى بقدر ما كان هدفه أولا ادانه الافكار الراديكالية المعاصرة التى تتبنى قضية العدل الاجتماعى ، وثانيا القاء ظلال معينة على دوافع الثورة الايرانية التى كانت فى أوج ازدهارها أنذاك باعتبارها تتبنى المذهب الشيعي. ولذا ليس صحيحا ما يدعيه المؤلف من أن بحثه ليس مقصودا به ، أن يكون أداة اعلامية تهدف الى مناصرة الفكر القرمطى أو مناهضته ، بل ان المقصود هو التعريف المجرد بهذا الفكر الذى أثار حوله كثيرا من الضجيج المذهبى فى أوساط الرأى العام الاسلامي ،، فضلا عن أنه لا يوجد فى العلوم الاجتماعية ما يسمى بالتعريف المجرد لأى فكر ، فان مادة الكتاب كلها هى اختيار وانحياز لوجهة نظر معينة . ونحن لا نعترض على الكاتب فى أن تكون له وجهة نظر معينة بشأن الأفكار الراديكالية المعاصرة ، وبالأحرى فى الثورة الايرانية . غير أن هذه الطريقة تشوه التاريخ بقدر ما تزيف السياسة ، وهى فى كل الأحوال تشكل عائقاً يحجب الفهم العلمى للظواهر الاجتماعية والتاريخية التى ينبغى النظر اليها دون أية اضافات غريبة من خارجها . والنقطة المركزية التى يدور حولها الكتاب تتمثل فى رد الحركة القرمطية الى النزعات الفارسية القديمة التى أرادت ازالة مجد العرب واقامة مجد الفرس . ولذا يرى المؤلف ،، أن الكتابة عن القرامطة وعن حركتهم مرتبط ارتباطاً عضوياً بالكتابة عن الصراع القومى بين العرب المسلمين وبين بعض المسلمين من غير العرب ،،. وأن الأمم المغلوبة وفقاً لمخطط تاريخى تآمرى قد دخلت فى دين الأمة الغالبة ، ولجأت للأساليب الباطنية وحاولت استغلال ولاء عامة المسلمين لآل البيت. ولم تكن موالاة آل البيت سوى ذريعة يتوصلون بها الى غاياتهم ، أى لم تكن عقيدة أملتها شروط تاريخية معينة بقدر ما كانت أداء لتحقيق أغراضهم . وفى الواقع فان المؤلف يواصل المؤرخين القدامى الذين لم تتح لهم ظروفهم منهجاً أفضل ، كما أن ولاءهم الاجتماعي ومصالحهم قد ارتبطت فى غالب الأحوال بالخلافة الرسمية . والحال أن التآمر لا يستطيع أن يفسر ظاهرة تاريخية جماهيرية كبرى . وهى ظاهرة تستمد جذورها من واقع العصر . ومن الثابت تاريخياً أن التشيع قد بدأ عربياً وفى محيط عربي خالص ، واعتماداً على قبائل عربية وأنه قد مثل بصفة أساسية الفئات الاجتماعية المضطهده فى مواجهتها مع الخلافتين الأموية والعباسية . وقد كان هو المهيأ لأن تلتف حوله الاتجاهات المعارضة . كما شملت صفوفة بعض أبرز مثقفى العصر آنذاك . وقد ناصر المضطهدون هذا المذهب لأنه كان يعدهم بعصر أفضل فى ظل امامة الهدى بدلاً من امامة الجور والضلال . واذا كان الفكر المضطهد قد لجأ الى لغة دينية فلم يكن ذلك من قبيل التآمر ، بقدر ما كان أمرا حتمته شروط العصر فقد كانت كافة العلوم الرئيسية تمثل فرعا من فروع اللاهوت ، وكانت الأيديولوجية الدينية هى الوحيدة المسيطرة ، فكان منطقيا أن تنبثق من داخلها اتجاهات متعارضة تلبى نوازع مختلف الطبقات المتصارعة ، أى بالانطلاق من نفس أسسها خاصة وأن الدولة ذاتها قد كانت دولة دينية . ،، ان النزعة الشيعية بمثاليتها التيوقراطية وبدعوتها للقسط والعدل والمساواة ، وبوعدها بالأمان الشخصى ، وبالتحرر من القهر والاستغلال كانت شديدة الجاذبية بالنسبة للعرب وغير العرب على السواء . ويقول ايفانوف : ،، لقد كتب كثير من الهراء عن النزعة الشيعية أو عن الاسماعيلية خاصة ، اعتبارها نتاجاً للروح القومية الفارسية ، نتاجا لعقلية خاصة ، كما لو أنه لم يوجد شيعة أبدا سوى الفارسيين ، وكما لو أن غالبية الفرس لم يكونوا دعاة تابعين للاتجاه السنى . وفى الواقع فان الوضع يجد كامل تفسيره فى الشروط الاقتصادية لهذه الولايات التى ارتبط التقلقل والتذمر بها . ودائما ما ينسى اتفاقاً أنه حين شعر العرب بوطأة الحكم العباسي ، فقد كان فى استطاعتهم بسهولة أن يقوموا ببعض المعارضة استنادا الى تنظيمهم القبلى الذى لم يختف لزمن طويل جدا . أما الفلاحون الفرس فقد كانوا عاجزين لأنهم كانوا معزولين فى القرى وكان وجود سياسة موحدة بالنسبة لهم انجازا صعب المثال ،(38) وينتقد ايفانوف فكرة مجوسية الاسماعيلية لدى البغدادى مشيرا الى أن الزراد شتين كانوا يقيمون آنذاك فى قرى نائية مشكلين جماعات محدودة بعيدة تماما عن أى تنظيم أو نفوذ سياسي كما أنهم كانوا أقل عددا من المسيحيين وربما من اليهود . ويؤكد حقيقة ذلك أن معظم الفقهاء والمحدثين من السنة لم يكونوا عرباً بل فرسا، فالبخارى لم يكن عربياً ، ولا البغدادى ، فضلاً عن حجة الاسلام الامام الغزالى . لم تكن الأحلام الوهمية بسيطرة مجوسية هى التى دعت المعدمين من عرب وغير العرب الى الانضواء تحت لواء المعارضة الاسماعيلية ، وانما العدل والقسطاس والمساواة التى ألح عليها المثال التيوقراطي العلوى ووعد بها الجماهير (39)
ولما كانت فكرة مجوسية الاسماعيلية لدى الشيخ طه الولى هى الفكرة المحورية فقد ارتبطت بها بالضرورة كافة المسائل الأخرى ، فالامامة ونظريتها حول تقديس الأئمة ،، روجتها العناصر الشعوبية الحاقدة على العرب ودينهم ،، وذلك دون أدنى انتباه للمغزى الطبقى والسياسي وراء هذا التقديس باعتبار الامام رمزا أعلى لقوى المعارضة ضد الخليفة الذى يبرر سيطرته بناء على أسس دينية روحية ، أما النزعة المهدية فى رأى كاتبنا فقد ظهرت عبر تأثير المسيحية واليهودية كما كانت فكرة المهدى المنتظر من أقوى الوسائل التى اعتمدها خصوم العرب والاسلام لاثارة الجماهير . فلم اذن حدث ذلك وأى حاجة اجتماعية لبتها هذه الفكرة هذا ما لا يجيب عليه . كما تبنى القول التقليدى حول أن مؤسس مذهب غلاة الشيعة هو عبدالله بن سبأ ، رغم أن هناك عديدا من الدراسات التاريخية (40) التى صدرت سابقة على تأليف كتابه برهنت على أن عبدالله سبأ هو أسطورة مختلقة كان هدفها اضفاء ظلال رمادية على واقع الأحوال الفعلى فى عهد الخليفة الثالث وآله من بنى أمية . وتصوير الثورة التى قامت ضده باعتبارها مؤامرة يهودية وقع فى شباكها المؤمنون الأتقياء تضليلا وتغريراً . ولم يكن متوقعا من الكاتب بالطبع أن يناقش جدياً الجانب الاجتماعي فى تجربة القرامطة التى طابق بينها وبين الاشتراكية المعاصرة ، وهو حين يتحدث مثلا عن ،، المجتمع القرمطى وطبقاته ،، لا يعنى الطبقات بمعناها العلمى ، أى بمركزها فى عملية الانتاج الاجتماعي وعلاقاتها بملكية وسائل الانتاج ، وانما يتحدث عن مراتب الأعضاء داخل التنظيم القرمطي .
وفى الواقع فان الكتاب فى مجملة عبارة عن رصف غير منتقى وغير ممنهج وغير نقدي لمجموعة من الآراء التقليدية لا اضافة فيها . ويمكن القول بصفة عامة أنه لم يضع حركة القرامطة فى اطارها التاريخى بل عزلها عن مجمل النظام الاجتماعي الاقتصادي ، كما أغفل صنوف القهر التى مورست على المعدمين ، ولم يتصد للمشاكل الهامة التى قيلت بشأنها . وهو لم يعتمد فى مصادره على أى من المؤلفات التى تعكس الجوانب الاقتصادية مثل كتب الخراج والأموال ، بل ولا الدراسات التاريخية الاقتصادية المعاصرة . كما أن مصادرة الاسماعيلية قليلة جداً . وأفكاره عن القرامطة يستمدها من خصومهم دون أدنى تمحيص نقدى . ورغم أنه اعتمد على المستشرق ايفانوف الا أنه يبدو وكأنه لم يهضم أفكاره فلا هو تبناها ولا هو رفضها ، ولا اتخذ موقفاً منها ، وأنما اكتفى فقط بايراد أسماء بعض مؤلفاته فى قائمة مصادره . واذا كان مؤلفنا قد ذكر الجغرافى ابن حوقل كأحد مصادره فى نهاية كتابه ، الا أنه لم يشر اليه فى متن الكتاب وهو أحد اثنين شاهدا تجربة القرامطة فى البحرين . وبإيجاز لم يبدأ الكاتب من حيث انتهى الباحثين الآخرين ، بل من نقطة متخلفة عنهم كثيراً ، لذا لم يضف جديدا لا فى المادة ولا فى وجهة النظر بشأنها . وربما كان من المفيد أيضا أن يتناول تقييمنا للمصادر عينة من أعمال بعض الاسماعيلين المعاصرين الذين عنوا بالكتابة عن حركة القرامطة وسنتناول بإيجاز ثلاث أعمال لكل من عارف تامر . واسماعيل المير على ، ومصطفى غالب . لقد كتب عارف تامر كتابا تحت عنوان :،، القرامطة ،، (41) وهو يقدم وصفا بلاغياً انشائياً هو أقرب للحكاية منه الى العرض العلمي التاريخى المترابط ، ويبدو القرامطة الاسماعيلية فيه وكأنهم خارج الشرط التاريخى تماما . فقد مثلت حركتهم ،، دعوة ثورية اشتراكية عالمية ،، وهى اشتراكية مبنية على ،، أساس من التطور التاريخى للماضى وللظروف الاقتصادية للحاضر ،،. كما أن قرامطة البحرين قد ،، درسوا جمهورية أفلاطون وطبقوها بامعان وهى تقوم على تنظيف المجتمع من الوحشية والتعصب والهمجية والرق والاقطاع للانسان فى ظل الرأسمالية والبورجوازية وازالة الملكية الشخصية ،،. وجدير بالذكر أن عارف تامر لم يقدم جديدا فى تفهم أى قضية تخص الموضوع كما أنه قفز فوق كل المشاكل المثارة والمعروفة للباحثين فضلا عن أنه لم يوثق آراءه ولم يشر الى مصادرة . أما كتاب ،، القرامطة ،، لمؤلفة اسماعيل المير على فقد حرص صاحبه على أن يبين كيفية كتابه التاريخ أكثر مما حاول كتابتة بالفعل ، وأن جرى ذلك تحت ادعاء تبنى المادية التاريخية رغم أن الكتاب هو بمثابة تقريظ عاطفى لتجربة القرامطة . والتاريخ لديه هو عبارة عن سوء فهم متبادل يؤدى لسلسلة من الأخطاء ، فقد أخطأ الأمويون بنزعتهم العربية ، وأخطأ العباسيون باعتمادهم على الأتراك معا جعل محرك التاريخ فى النهاية ،، حريم القصور،، ولا بأس لديه ان كان الامام على اشتراكيا ، وكذلك ابو ذر الغفارى مادام حمدان بن الأشعث راعى مشاعة الألفة فى الكوفة قد حقق ،، ما عجزت عن تحقيقة كل ثورات العالم القديم والحديث ،،. ومادامت دولة القرامطة فى البحرين قد أقامت ،، جمهورية لم تسر فى خط تحويلي مرحلى للوصول الى المشاعة العامة وابطال الملكية الفردية . بل قفزت قفزة واحدة نحو تحقيق المجتمع المشاعى التعاونى الخالص الذى لا قيود فيه ولا حواجز ... وهو المجتمع نفسة الذى تناضل من أجل بلوغة شعوب العالم الاشتراكي وكل الحركات الاشتراكية فى العالم ،،. وبإيجاز ،،.. ان اشتراكية الشيوعيين المعاصرين لم تصل الى تطبيق ما طبقة القرامطة ،،!!!!. وقد أصدر مصطفى غالب كتابا بعنوان ،، القرامطة ،، (43) أيضاً وهو ليس كتابا فى التاريخ بقدر ما هو عمل روائى وقد خالف الأسلوب المتبع فى كتابه مثل هذه الأعمال ، فأعتمد أسلوب الرواية القائمة على الوصف والحوار والمونولوج الداخلى ، كما أنه التزاما بذلك الشكل القصصى لم يعتمد أساليب البرهنة التاريخية على الأفكار الواردة فى سياق الأحداث . وقد افتقر الكتاب الى ثبت بالمصادر يشير الى الآراء والأفكار التى تضمنها . ومع ذلك فعارف تامر ومصطفى غالب لهما جهود مشكورة فى تحقيق أعمال اسماعيلية كثيرة وتقديمها الى جمهور القراء والباحثين . وهناك اتجاه آخر خيرة نماذجه الكاتب العفيف الأخضر (44) ومجلة ،، الجزيرة الجديدة ،،،ورغم نزاهة مقاصد هذا الاتجاه واحتفاله الثورى بالظاهرة القرمطية ، الا أنه قد رأى فى هذه الأخيرة ميولة الذاتية فحجبت عنه الظاهرة نفسها . والعفيف الأخضر قد رأى فيها نموذجا "للثورات الشيوعية المجالسية" وان شابته بعض النواقص البيروقراطية بسبب أن التنظيم الاسماعيلي كان يدخل الوعى الى الطبقات الكادحه من خارجها ، هذا فضلا عن مراتبيته وربما سريته . واحتفل بصفة خاصة بالطابع الالحادى الذى أضفته عليها المصادر التاريخية والفقهية المعادية ، دون أن يدقق ويمحص طبيعة وخصائص الفكر الاسماعيلى – القرمطى بشكل عام ، والروافد التى شكلته ، والخصوصية التاريخية لبعض هذه الروافد الفكرية وصلتها بالأوضاع الاجتماعية أو الاثنية أو الجغرافية بل والمذهبية ، وما اذا كانت بعض النزاعات الغالية قد شكلت سمة عامة أم لا . فضلا عن تجاهله للهامش التقليدي الواسع أحيانا بين الفكر والممارسة وتشوهات التطبيق ، واضفاء محتويات معينة على الفكر كنتيجة للطريقة التى جرى بها وعية . كما لم يتوان الكاتب عن احتضان كافة تهم المؤرخين التقليدية عن اباحية القرامطة وانحلالهم ، مادامت هذه التهم تشكل جزءا من مفاهيم تنظيمه المجالسى عن الحب الحر .. وهكذا كان كاتبنا محكوما بأفكاره المعاصرة وصراعه الراهن ضد البيروقراطية فى السلطة والتنظيم وبنزعاته البوهيمية التى لونت رؤيته لتلك التجربة الثورية . أما الدراسة المعنونة :،، المجتمع القرمطى فى شرق الجزيرة العربية ،، (45) فهى نموذج للدعاية السياسية المعاصرة باستخدام الوقائع التاريخية. وكان من شأن حماس كاتبها أن جعل نموذج المجتمع القرمطى يتفوق ان لم يكن على ثورة أكتوبر الاشتراكية ، فعلى الأقل على كومونة باريس . وقد أدت به طريقته لا الى اضفاء رؤاه الذاتية على هذه الواقعة التاريخية فحسب ، بل الى تجاهل وقائع ما كان ينبغى له أن يتجاهلها ، كوجود 24 ألف عبد زنجى يعملون فى المجتمع القرمطى فى البحرين ، وكان منشأ هذا التجاهل أنه أراد أن يفرض مثالا شيوعياً متعسفاً على التاريخ بدلا من أن يفهمه ويفسره. لقد علق رودنسون على مثل هذه الطريقة المنهجية بالقول : ،، وليس لنا أبدا أن نتهم أناس العصور الخوالي بأنهم لم يرتقوا الى مثل أعلى لم يكن ليتطابق مع ظروف زمانهم ولكننا لن نكون أقل بعدا عن المنطق اذا نحن نقلنا مثلنا الأعلى الراهن الى ذلك الزمان وحاولنا أن نكتشفه فيه من خلال أساطير مصطنعة ،، (46). ان معالجة المادة التاريخية وهى العمل الرئيسى للمؤرخ ينبغى أن تتميز بالموضوعية حتى تتطابق – بقدر الامكان – مع واقع المضمون الذى يعالجة ، وعليه أن يتفادى تأثير ثقافته المعاصرة ونوازعة الذاتية أثناء دراسته لأحقاب تاريخية تختلف تماما عن الحقبة المعاصرة ، والا عولجت المادة التاريخية بوصفها مادة سلبية ، وزيفت حقيقتها بعد قسرها على التطابق مع فكرة مسيطرة قبلية . ويحذر كارل كاوتسكى من الأخطاء المنهجية التى تهدد السياسي العملى اذا ما اشتعل بالبحث التاريخى وهى تتمثل فى منزلقين أولهما رؤية الماضى وفق صورة الحاضر وثانيهما حصر البحث فى اطار وعلى ضوء الاحتياجات السياسية العملية . وهو اذ يصبح حكما أخلاقيا أو محاميا مدافعاعن الظاهرة موضع الدراسة فانما يفعل ذلك لا لسبب سوى أنه متبن أو مدافع عن ظاهرة مماثلة فى الحاضر . رغم أن هذه المماثلة ظاهرية لاختلاف المضمون التاريخى لكل منهما .(47). كتب بليخانوف :،، وحيثما يكون على المؤرخ وصف الصراع بين قوى اجتماعية متضادة فانه سيتعاطف حتما مع طرف أو آخر ، ما لم يكن هو ذاته قد أصبح متحذلقا بغيضا، ومن هذه الوجهة سيكون ذاتيا سواء تعاطف مع الأقلية أو مع الأغلبية لكن مثل هذه الذاتية لن تمنعه من أن يكون مؤرخا موضوعيا كاملا اذا لم يبدأ فى تشوية تلك العلاقة الاقتصادية الواقعية التى نمت على أساسها تلك القوى الاجتماعية المتصارعة . وحين ينس صاحب المنهج ،، الذاتى هذه العلاقات الموضوعية ، فانه لن يبرز سوى تعاطفه الغالى أو نفوره الرهيب.،، (47)
والواقع أن البروليتاريا القديمة فى مجتمعات القرون الوسطى قد خاضت صراعاتها الطبقية فى بيئة تاريخية مغايرة تماما ، وتمايزت مضامينها وأيديولوجيتها وأهدافها بما لا يمكن معه مقارنتها بالبروليتاريا المعاصرة سواء من وجهة نظر محبذة أو رافضة واعتماد ذلك المنهج لدى بعض الكتاب قد أدى بهم اما الى أخذ حقائق منعزلة ، وتفادى التعمق فى جميع الوقائع المنسوبة الى النموذج القرمطى ، أو الى التسليم بأقوال المؤرخين والفقهاء مادامت تتسق مع ميولهم الذاتية دون تحقيق أو تمحيص . وهكذا حلت لديهم صورة جمالية لهذه التجربة التاريخية محل العلاقات الموضوعية التى تجاهلوها . وكما قيل فان الوقائع اذا ما أخذت خارج اطارها وعلاقاتها ، واذا ما كانت مجتزأه وانتقائية فما هى سوى لعبة . من ناحية أخرى يمكن القول ان الباحث الذى يسهم فى الصراع الطبقى المعاصر يمكنه بشكل أفضل من أى أكاديمي أن يفهم الدوافع الحقيقية اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية لحركات المعارضة فى مجتمعات ما قبل الرأسمالية . وبصدد حركة مثل حركة القرامطة فان طبيعة توجهاتها الاجتماعية وبعض من مواقفها الأيديولوجية والسياسية يمكن فهمها على نحو أعمق خاصة بنيتها التنظيمية ومراتبها ، أساليب دعوتها ، استتارها وسريتها ، من قبل المناضل السياسي العملى فى ظل دولة بوليسية معاصرة ،خاصة اذا ما كانت له توجهات اشتراكية . وقد خصص الكاتب الراحل حسين مروة بضع صفحات قليلة للقرامطة فى كتابه ،، النزعات المادية فى الفلسفة العربية الاسلامية ،، (49) وبالطبع لم يكن كتابه مخصصا لبحث مثل هذه الحركات فجاء ما كتبه تليخصا لبعض ما كتبه الباحثين الذين سبقوه فى تناول الموضوع . وقد أدان أعمال التخريب وسفك الدماء التى ارتكبتها ،، جمهورية ،، البحرين القرمطية سواء فى مكة أو الكوفة أو البصرة دون أن يلاحظ ارتباطها بمواقف الخلافة العباسية القمعية ذاتها والتى لم تكن أقل تخريبا أو سفكا للدماء . ومن الدراسات الرصينة التى صدرت ينبغى أن نذكر الكتاب المعنون ،، قرامطة العراق فى القرنين الثالث والرابع الهجريين ،،(51) للباحث محمد عبد الفتاح عليان ، وقد كان الكتاب فى الأصل رسالة ماجستير ، والواقع أن الكاتب تصدى لعديد من المشاكل المتعلقة بالموضوع وحاول أن يقدم رؤى جديدة مستفيدا بالمصادر المتاحة ، ولكن فهمه للطبيعة الطبقية لمشاعة القرامطة فى الكوفة لم يتجاوز ايراد الأوصاف الظاهرية لما طبقه حمدان بن الأشعث . كما أن الكاتب قد غالى أحيانا فى الاعتماد على اجماع مؤرخى العصور الوسطى بشأن صحة ودقة بعض الوقائع . ومن الأبحاث الموضوعية ذلك القسم الذى خصصة الدكتور محمود اسماعيل للقرامطة فى كتابه ،، الحركات الاجتماعية فى الاسلام ،،(52) . وقد أثار بحثه ضجة عظيمة فى أوساط السلفيين حين صدوره. ونأتى أخيراً الى واحدة من أهم الدراسات التى صدرت عن القرامطة فى الأعوام الأخيرة وهى المعنونة ،، الاسماعيليون فى المرحلة القرمطية ،، (53) للباحث سامى العياش . وأعتقد أن هذه الدراسة تعكس أصالة عميقة واستقلالية فى التفكير والاستنباط وهى تتعرض جديا لكثير من المشاكل المثارة فى حقل موضوع البحث . وربما كانت الاضافة الأساسية التى قدمها الباحث هى محاولة تفسير الفكر الاسماعيلي برده الى جذوره الماديه الواقعية ، وهى محاولة تحفل بكثير من المصاعب ، ولكنه حقق فيها نجاحا لم يسبقه فيه أحد . وهى بكل المقاييس تعتبر اسهاما واضافة جدية فى موضوعها ولا يقلل من أهمية الدراسة ،، التوقف فى حسم طبيعة التشكلية الاقتصادية الاجتماعية بالكوفة ، وبالأحرى النظام الذى أقامة القرامطة فى البحرين . وبعد فان هذا ينقلنا الى خطة البحث ومشكلاته. تتطلع هذه الدراسات الى تحليل تجربة القرامطة الثورية على ضوء النظرية المادية التاريخية . وهى اذ تستند الى الانجازات التى حقهها المستشرقين ، والكتاب العرب الذين أسهموا الى هذا الحد أو ذاك بدرجات متفاوته فى حل عديد من مشكلات البحث التاريخية المتعلقة بهذه الحركة الراديكالية ، فانها وهى تستند على المعارف التى قدمتها الأبحاث الأخيرة لن تتعرض الا بشكل جزئى لما سبق أن تناولوه بحيث لم يعد هناك – على الأقل حتى الآن – ما يمكن اضافته . وعلى سبيل المثال حروب القرامطة وجوانبها العسكرية . ولأن تفسير الجانب الاجتماعي الاقتصادى من الحركة ذاتها وشكل النظام المشاعى الذى أقيم سواء فى الكوفة بالعراق أم فى البحرين لم يلق الا اهتماما وصفيا ظاهريا من معظم الباحثين ، ولم يتجاوز ايراد السمات التى سبق أن أشار لها المؤرخون القدامى ، فان هذه الدراسة سوف تتخذ هذا الجانب بالذات موضع التركيز . ولا شك أن دراسة التجربة فى حد ذاتها وتحديد هويتها الطبقية لن يتأتى الا من خلال تشخيص البيئة التاريخية التى أحاطت بها ، ونوعية التشكلية الاجتماعية الاقتصادية فى ظل الخلافة العباسية ، خاصة وأن هناك آراء متباينة لدى الباحثين العرب بهذا الصدد ، فهى أحيانا اقطاعية ، أو رأسمالية بيروقراطية راكدة أو نمط خصوصى للانتاج أسيويا ، أو خراجيا أو عبوديا ، أو هى خليط من هذه جميعا . وقد أثرت النقاش بصفة خاصة حول هذه القضايا تلك المناظرة التى بدأت فى مطالع الستينات ورافقت بروز دور العالم الثالث حول طبيعة المجتمعات ما قبل الرأسمالية فى بلدانه . وهى المناظرة التى تمركزت فى الشطر الأعظم منها حول نمط الانتاج الأسيوى وأسهم فيها عدد الباحثين العرب ببعض الأبحاث ، وترواحت مواقفهم بين القبول المطلق لهذه المقوله أو رفضها . ورغم أن المادة التى نعتمد عليها فى بحث حركة القرامطة هى مادة سبق اكتشاف معظمها وشكلت محتوى تآليف عديدة ، الا أنها مادة قابله للقراءة بطرق مختلفة وفقا للمنهج فى رصد وقائعها ، وخاصة وأن معظم الأبحاث التى اتخذت القرامطة موضوعا لها قد افتقد الترابط الداخلى لعدم استنادها بصفه أساسية على دارسة حركة القرامطة الثورية هذه انطلاقا من الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية ، وواقع العلاقات الفعلية بين الطبقات المتصارعة ، ولتصويرها المؤسسات السياسية والأفكار الأيديولوجية ، والصراعات العرقية ، والتوجهات الدينية والسياسية باعتبارها هى العوامل الأساسية المحركة لهذه الثورة . تنقسم الدراسة الى خمسة أقسام رئيسية ، الأول يستعرض الخط الأساسى فى التطور التاريخى من الناحية الاجتماعية الاقتصادية للدولة الاسلامية ، ويكشف طبيعة المنازعات الدينية والفقهية والكلامية باعتبارها انعكاسا للصراع الاجتماعي الذى فاقمته فى البداية الفتوحات الاسلامية بين أطراف واجنحة وقوى اجتماعية مختلفة فى ،، الجماعة الاسلامية والتى لقيت امتداداتها المنطقية بعد وفاة الرسول ، وبصفة خاصة بعد خلافة عثمان ، والتى تكرست بعد اقامة الدولة الأموية . ويصور هذا القسم التحولات التى اعترت الأرستقراطية القبلية القرشية خاصة ، ورموز المجتمع الاسلامى الذين أصبحوا سادة للدولة الوليدة ، باعتمادهم اقتصاديا على شعوب البلدان المفتوحة ، الذى أسهم فى تعميق التمايز الاجتماعي داخل الجماعة الاسلامية ذاتها . وذلك يقود الى رسم ملامح فرق المعارضة التى ظهرت ، وتشخيص طبيعة الانتفاضات التى قامت ضد الأمويين ، وتبيان محتواها الاجتماعى . وخاصة المعارضة التى حمل لواءها الفرعان العلوى والعباسي بالطبقات الاجتماعية التى انطوت تحت لوائهما . وجدير بالذكر أن هذه الفترة تترافق مع انتقال الدولة الاسلامية من العبودية الى الاقطاع . أما القسم الثانى فيعالج التشكيلة الاقطاعية فى دولة الخلافة العباسية بهياكلها الانتاجية المختلفة ويناقش الآراء التى طرحت باعتبار وجود نمط أسيوى للانتاج ، أو نمط عبودى ، أم خراجى ، مع التركيز على الطبقات الاجتماعية والمراكز التى تشغلها فى عملية الانتاج الاجتماعي ، أشكال الملكية ، بيروقراطية الدولة ، الرأسمالية التجارية والمصرفية . باختصار أوضاع الصناعة والزراعة والتجارة والرى والأشغال العامة ، وخاصة أوضاع البروليتاريا القديمة ، الفلاحون الأحرار والحرفيون ثم الأقنان والعبيد ، الأعراب . وأشكال اقتطاع المنتج الفائض من ضرائب وخراج وعشور ومكوس ، وعوامل تدهور الوضع الاقتصادى عامة . والقسم الثالث يتناول الأيديولوجية السائدة ، وأشكال المعارضة الثورية فى ظل الخلافة العباسية ابان القرنين الثالث والرابع الهجريين سواء اتخذت شكل الانتفاضة المسلحة مثل الحركة البابكية ، أو ثورة الزنج ، أو اتخذت شكل النحل الصوفية ، أو الهرطقات الدينية ذات الطابع الالحادى ، ومغزاها كأدوات فى الصراع باعتبارها قد اتجهت نحو أسس السلطة لتجريدها من هالتها القدسية . ويتعرض القسم الرابع لتبيان الظروف الاجتماعية التى أسهمت فى بروز القرامطة بأصلها الشيعي الاسماعيلي، وخصوصية مدينة الكوفة بمميزاتها الطبقية والفكرية . وايضاح المحتوى الثورى المشروط تاريخيا للفكر الاسماعيلي بتحديد ملامح التطور التاريخى للشيعة الاسماعيلية ، وخاصة أهم أطروحاتها عن دولة الامام المهدى : أى السلطة المقبله ،، والتأويل الباطنى كأداة أيديولوجية تضفى التجانس على وعى الأعضاء المنخرطين فى الحركة وبلورة أراء مناقضة ، الهيكل التنظيمى للدعوة بما يتضمنه من طرح لامامة الاستقرار والاستيداع ، ومراتب الدعوة ، والأساليب المتبعة فى اجتذاب المستجيبين . ثم تحديد الطبيعة الطبقية لمشاعة الألفة بالكوفة ومقارنتها بتجارب تاريخية مشابهة ، وبصفة خاصة التنظيمات الاجتماعية التى أقامها المسيحيون الأوائل وأصولها فى الفرق اليهودية السابقة ، وكذلك الحركة المزدكية الفارسية ، فضلا عن المشاعات التى أقامتها مجموعات الفلاحين فى ألمانيا القرون الوسطى ، ثم مقارنة أخيرة بين طوباوية الفكر القرمطى وطوباوية الاشتراكيات ما قبل الماركسية . وسوف يكون لزاما علينا أن نناقش مسألة الموقف من العائلة ، وخاصة وضع المرأة وظاهرة الحب الحر ، ردا على ما أشيع من الفقهاء القدامى والمؤرخين عن اباحية القرامطة وغلوهم فى ذلك . واذا كان القسم السابق يتمركز بصفة أساسية على حركات القرامطة فى العراق ، فسوف يتعرض بشكل جزئى الى حركاتهم فى الشام واليمن . وينتهى بتحديد أسباب هزيمة هذه الانتفاضات ، وأساليب دولة الخلافة فى قمعها بما يتضمن ذلك من مناقشة طبيعة وحدود الوعى ،، البروليتاري ،، فى مجتمعات ما قبل الرأسمالية – أى الطبيعة التاريخية للعصر. ويخصص القسم الخامس لبحث تجربة القرامطة فى البحرين بتحديد التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية للبلاد فى القرون الوسطى والتى تميزت بعزلة جغرافية عن مركز الخلافة ، وتاريخ حركات المعارضة الثورية فيها ، ثم أسباب وعوامل ظهور دولة القرامطة الذى يعود الى الشروط المادية التى أحاطت بها خلافا لمشاعة الكوفة . ثم علاقة القرامطة بالاسماعيلية الفاطمية ، والطبيعة الاجتماعية والسياسية للنظام القرمطى وحدوده التاريخية ، ونوعية ،، المشاعة ،، التى أقيمت ، ومغزى الملكية العامة ، الأشكال التعاونية التى ظهرت وصراعاتها السياسية الداخلية والخارجية . وتختتم الدراسة بتبيان الأفق التاريخى لمثل هذه الحركات التى يستحيل عليها أن تتخطى حدود العصر . وأن المآل الذى انتهى اليه الصراع الطبقى ذاته كان ضرورة ناجمة عن الظروف التاريخية للحياة الاجتماعية التى عاشتها الطبقات التى خاضت هذا الصراع التاريخى . وبعد فان هذا ينقلنا الى مشكلات البحث . ويمكن القول بأنه ما من مقدمة لأى من الكتاب المحدثين قد خلت من الاشارة الى مشكلات البحث حول حركة القرامطة خصوصا ، والفكر الاسماعيلي عموما ، ويمكن أن نعدد بعض هذه المصاعب التى تحول دون تقديم صورة تاريخية تتطابق مع الوقائع التاريخية ذاتها فيما يلى : أولا: تتقوم أول هذه المصاعب فى حقيقة أن معظم المؤلفات التاريخية التى كتبت عن القرامطة قد صنفت من قبل كتاب معادين لها ، وهى تمثل وعيهم بها ورد فعلهم ازاءها أكثر مما تمثل واقعهم التاريخى الفعلى . واضافة الى سوء فهم مذهبهم ورده الى الدهرية أو الثنوية ، فان الجانب المذهبى هو الذى حظى بالأهمية فضلا عن الفعالية الحربية بوجهها الصدامى مع الخلافة ، وأهمل تقريبا ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية . ثانيا:- تجاهل الكتاب ، أو لم يعوا جذور الخلافات واعتبروها خلافات دينية غالبا وفقهية أحيانا ، وهكذا أعطى المقام الأول خاصة فى كتب الفرق والمقالات للخلافات المذهبية ، وكان منطقيا أن تدور الردود الاسماعيلية على ذات المحور . فقضايا مثل الامامة أو التأويل أو التفسير الفلسفى الاسماعيلى للكون عامة باعتباره يكشف عن الطابع الالحادى من وجهة نظر السنة هو الذى حظى بالقسم الأعظم من الاهتمام بما فيه مجوسيتها المدعاة وبالطبع لم يع القرامطة تماما جذور مواقفهم ، فكانت ردودهم بالتالي على الهجمات السنية تظهر وكأن الصراع قد كان صراع أفكار مجردة لا علاقة له بالمصالح الواقعية للطبقات المعدمة وبذلك الفرع العلوى المضطهد ولذا بدا الصراع بين القوى الاجتماعية المتعارضة داخل اطار الاسلام ، وكأنه صراع حول تأويل القرآن أو السنة ، أو حول شروط الامامة ومواصفاتها ومدى عصمة الامام ، أو حول ميراث البنت ، أو عدد التكبيرات على الميت أوصيغة الآذان .. الى آخره وفى الواقع لم يدر الصراع الدموى بين الفئات المتصارعة حول تباينها فى فهم هذه المقولات الا ظاهريا، وانما دار حول المصالح الواقعية التى يمكن فهمها بالنفاذ الى جوهر الشروط المادية واستجلاء الدوافع الكامنة خلف هذه المقولات الفكرية . ثالثا:- نسب المؤرخون القدماء منشأ كثير من الحركات الاجتماعية الى أفراد ذوى قدرات خارقة فوق بشرية معتمدين غالبا على تبنى التفسير التآمرى للتاريخ . الذى يجعل شخصا أسطوريا مثل ابن سبأ سببا لنشوء المعارضة ضد الخليفة الثالث عثمان ، أو لنشأة الشيعة .كما أن بعض المؤرخين قد اعتبر ميمون القداح وابنه عبدالله ( حيث وصفا بأنهما ثنويين من نسل ديصان ) سببا فى نشأة حركة اجتماعية كبرى كالاسماعيلية القرمطية ، التى يمكن تفسيرها فى الواقع بدون وجودهما بتبيان مصادرها ودوافعها . وقد كان من الممكن أن تختلف مواقف المؤرخين لو أنهم نظروا الى هذه الحركة الاجتماعية وأيديولوجيتها الاسماعيلية باعتبارها نتاجا للشروط المادية بدلا من نسبتها الى مواهب فرد خارق ، أو بالأحرى الى شيطانيته. رابعا:- تباين روافد الفكر الاسماعيلي ذاته لدى أسلاف الاسماعيلية ، حيث اتخذت هذه الروافد فى بعض الأحيان وبعد انضواءها تحت لواء الفكر الاسماعيلى شكل انحرافات عن المذهب الأصلي ، وخاصة نظرا لتشعب الحركة فى مناطق نائية متعددة عن مركز الدعوة ، وارتكازها على فئات اجتماعية متابينة ، وعلى أصول اثنية متنوعة ، وخضوعها لكثير من المؤثرات والتفاعلات مع المذاهب أو الفلسفات الأخرى . وقد لعبت المواريث التاريخية دورها لدى جماعات معينة لها سماتها الخاصة . وقد انعكس ذلك بالطبع على أفكارها وتوجهاتها ، فضلا عن أن كثيرا من الأعمال الفكرية قد تطورت تاريخياً ، وهى من ثم تعكس مرحلة من المراحل التى مرت بها الحركة . أضف الى ذلك أن المقولات المذهبية عامة ، قد يتغير معناها ومحتواها عبر التاريخ ، وهذا لا يستبعد بالطبع وجود تماثل ظاهرى بينها ، بما يعنى أنها قد عكست ولبت احتياجات مختلفة فى ظروف متغايرة ، فكل فكرة قد تتخذ دلالة جديدة تتمايز عن دلالاتها القديمة . وفى ظروف المفهوم السابق يصعب التمييز ما بين العناصر والروافد التى شكلت الفكر الاسماعيلي مثل الحنفية ، والكيسانية ، والمباركية والخطابية – وهم أسلاف الاسماعيلية ، وتداخل تلك الشعب التى انبثقت منها وكونت ملامح مميزة مثل القرامطة ، والحشاشين والدروز ، والنصيرية . ومهما يكن من شئ فان تمييز المحتوى الاجتماعي للمقولات الفكرية وتصنيفها على هذا الأساس هو المعيار الذى يجنب من الانزلاق الى الاعتقاد بثبات الأفكار رغم انصرام العصور. خامساً:- لقد ظلت حركة القرامطة الاسماعيلية لفترات طويلة فى دور الاستتار وكانت حريصة على اخفاء أيديولوجيتها وامامها ودعاتها ، بل انها لم تكشف عن أفكارها الأساسية جميعا للمنضمين اليها وانما ارتبط الكشف عنها بتدرج المستجيب فى مراتب الدعوة . ولا شك أن الاضطهاد الشديد الذى ووجهت به هو الذى ألجأها الى ذلك . وتاريخ الشيعة عموما حافل بأنباء قتل زعمائها وسجنهم وسمهم . لذا كان الزعماء من كبار الدعاة وعلى رأسهم الامام يتسمون بأسماء مختلفة تمويها على ،، أضدادهم ،، من المناوئين متكتمين أحوالهم وحركاتهم ، مرسين تقليدا محكما للعمل السري فى ظل الخلافة التى اعتبرت غير شرعية . سادسا:- نادرا ما تشير الكتابات الاسماعيلية الى القرامطة وحتى التاريخية منها قليلة الفائدة فيما يتعلق بتاريخ بدايات الحركة حيث كتب أغلبها بعد انتصار الدولة الفاطمية . ويمكن القول رغم ما سبق أننا فى وضع أفضل من وضع الرواد الذين بحثوا فى تاريخ الحركة الاسماعيلية القرمطية ، فعلى الأقل نحن ننطلق الآن استنادا على انجازاتهم سواء فى كشفهم للمخطوطات الاسماعيلية وتحقيقها ، أو على دراساتهم بالنتائج التى بلغوها فى هذا الجانب أو ذاك . وأسهمت فى تحقيق تقدم غير مسبوق . وينطبق هذا على كتابات المعاصرين من مستشرقين وعرب . ولا شك أن البوادر التى ظهرت على شكل محاولات لتطبيق المفهوم المادى للتاريخ على هذا الحقل أو ذاك من جوانب التراث يسهم فى كشف الروابط السببية بين الظواهر الاجتماعية وتجلياتها الفكرية وسوف يقدم تشخيصا واقعيا لهذه الظواهر الثورية . واذا كان الباحثون قد عانوا بعض المصاعب فى بحث الطبيعة الاجتماعية لمشاعيات القرامطة فذلك لأنهم لم يستعينوا بالتجارب المشابهة التى كان يمكن أن يقارنوها بها ومن ثم كان بمقدورهم استخلاص ما هو جوهرى وما هو عرضى فيها . واذا كان من الخيالى أن يوجد ذلك المنهج الذى يمكن أن يحل بضربة واحدة مشكلات البحث فى التاريخ العربي الاسلامي ، فان المادية التاريخية رغم أنها بدأت بدخول هذا الحقل من وقت قريب مقارنة بالمدرسة السلفية على تنوع طرائقها ،فانها الأقدر على أن تتغلب على مشكلاته أكثر من المدارس الاخرى صاحبة الاتجاهات المثالية أو اللاهوتية فى التاريخ . ولا شك أن تضافر جهود الباحثين الذين بدأت أعمالهم تظهر فى العقدين الآخرين ممثلين تيارا جديدا يمكن أن تؤدى الى انقلاب فكرى فى منهج البحث فى التاريخ الاسلامي وهو الذى لا يمكن اعادة كتابته بحال من الأحوال من قبل باحث فرد مهما اتسع نطاق معرفته. وخاصة وأن هذا التاريخ ذاته مازال من الناحية الأساسية عبارة عن مادة مجمعة الى هذا الحد أو ذاك ، وغير منظمة ، ولا يربطها رابط فكرى أو منهجى . لذا فمهمة كتابه تاريخ المضطهدين مازالت تنتظر من يتصدى لها .
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لم يرفض الثوريون التحالف مع الاخوان المسلمين ؟
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
-
من الأدب الفرنسي المقاوم للنازية - القسم الثانى والاخير
-
من الأدب الفرنسى المقاوم للنازية - الفسم الأول
-
من الأدب الفرنسي المقاوم للنازية - مقدمة
-
المنظور اللينينى للقانون - ى . ب باشوكانيس
-
المنظور الماركسى الطبقى للقانون - جانيجر كريموف
-
الحراك الشعبى والمزاج الجماهيرى - حزب العمال الشيوعى المصرى
-
فى ذكرى حرب العاشر من رمضان ( ملاحظات حول حرب أكتوبر 1973)
-
عن بعض وثائق حزب العمال الشيوعى المصرى فى المكتبات العالمية
-
كارل كاوتسكى ونظريته عن العرق اليهودى
-
آليات خطاب السلطة الحقوقى - سامى ادلمان ، كين فوستر
-
علم النفس السياسي البورجوازى - نقد العقل القمعى وميتافيزيقا
...
-
المقولات القانونية ونشأة الراسمالية - يفيجينى ب . باشوكانيس
-
حول مفهوم تأويل النص القانونى - بول ريكور
-
بعض المنظورات الماركسية حول الدولة والايديولوجية القانونية -
...
-
القانون واستبطان العنف - جاك دريدا
-
حدود مفهوم استقلال القضاء فى المجتمع الرأسمالى - بيير بورديو
-
فى ضرورة تهيئة الشعب للثورة - تشرنيشفسكى - ترجمة فيتولد ليبو
-
فى معنى المقاطعة الايجابية للانتخابات
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|