أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - معجزةُ إبراهيم أصلان














المزيد.....

معجزةُ إبراهيم أصلان


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5757 - 2018 / 1 / 14 - 08:19
المحور: الادب والفن
    



في مثل هذه الأيام الباردة، طار إلى سماء الله عصفورٌ غِرّيدٍ عزّ مثالُه. في 7 يناير 2012، سقطت عن شجرة مصرَ ورقةٌ باذخةُ الجمالِ والخضارِ والرِّيّ. ورقةُ شجرٍ غضّة، كانت تحملُ عصفورًا شجيًّا رفيقَ القلب شفيف المشاعر رقيق الحسّ، يحملُ في يده قلمًا وفي قلبه خبّأ الكونَ بأسره. سقطت ورقةُ الشجر، لكن العصفور الذي كان يتوسّدُها، لم يسقط إلى الأرض، إنما طار إلى سماوات الله، ولم يعد. أكادُ أراه بعيني يرفرف فوق زهور العلا، ويشدو. فمثله، لا يصمِتُ صوتُه عن الصدح، وإن غاب عن عالمنا الصاخب بالضجيج والأنين واللغو والغثاء.
اسمُه إبراهيم أصلان. ومَن ذا الذي لا يعرفُه؟! قصصُه القصيرةُ فرائدُ ثميةٌ من أعاجيب الأدب. لوحاتٌ زيتية منحوتةٌ على نسيح التوال بريشة عصيةِ التكرار. ريشةٌ دقيقةٌ مقصوصةٌ من ذيل مُهرٍ أمهرَ، لا تغفل تفصيلةً ولا ظلَّ تفصيلة، كثيفةُ اللون مشرقةُ الضوء، شفيفةُ الظلال. قصصٌ قصيرة من كلماتٍ معدودة؛ لكنها في شساعة البحر! تلك هي معجزتُه الخاصة التي حيّرتِ النقّاد والقراء.
كان كأنما يغزل كلماتِه "الشحيحةَ" على نولٍ دقيق. بتؤدة ومثابرة لا تعرفها إلا "بانيلوب" الإغريقيةُ التي لا تودُّ لغزلها أن يكتمل، حتى لا تنقضَ عهدها مع حبيبها أوديسيوس، وتفتح الباب الموصدَ أمام الخُطّاب. لهذا ليس مدهشًا أن يستغرق تسعَ سنوات في كتابة روايته البديعة "مالك الحزين". وليس مدهشًا أيضًا أن تتكئ شهرةُ "إبراهيم أصلان" المدوّية على تسعة أعمال فقط! هي كلُّ ما منحنا من جمال في حياته التي انتهت في مثل هذه الأيام الباردة القاسية؛ التي لم تدر أبدًا أيَّ رجلٍ أخذت.
كان هذا الرجلُ من أصعب مَن يُكتب عنهم! سواءً على المستوى الإبداعيّ، أو الإنساني. فأما الإبداعيّ، فأسلوبه السرديّ عصيٌّ على التصنيف، إذا ما حملنا حقيبة النقد ذات المباضع الجاهزة لتشريح أي نصّ أدبي. يلزم إبداعَ أصلان مبضعٌ خاص يليق بحساسية في الكتابة لم تعرفها المدارسُ الفنية التقليدية. حتى على مستوى القراءة، لن تجد في سرد أصلان "عبارات"، بوسعك أن تحفظها وترددها كأقوال مأثورة. عبقريته تكمن في التفاصيل الصغيرة، في الأحداث البسيطة التي تحدث لبشر بسطاء فتُشكّل أزماتٍ وجودية كبرى، في"الحال" المزاجية والشعورية التي يتركك عليها النصُّ، دون أن تتمكن من "القبض" على مكمن الفرادة التي تراوغ كما يروغ الذهبُ السائل قبل أسره وصوْغه في سبائك. اقرأ قصة قصيرة لأصلان، وأراهنك أنك لن تستطيع إكمال الحكاية في جلسة واحدة. لابد أن تتوقف عن القراءة بين الفقرة والفقرة لتوقفَ شلالَ العذوبة المنهمر عليك من كل صوب. هذا ما يحدث معي، واعترفتُ به في مقال قديم عنوانه "خِلسة المختلس"، تحدثتُ فيه عن القراءة بوصفها فنًّا صعبًا يفوق فنَّ الكتابة عسرًا.
وأما على المستوى الإنساني فإن إبراهيم أصلان حالةٌ إنسانية فريدة لا يجود بها الجنسُ البشري كثيرًا. لم يكن بحاجة إلى الموت لكي يزداد في عيوننا نُبلاً، بعدما ترتسم فوق جبهته تلك الهالةُ التي نُتوّج بها موتانا فنراهم قديسين وإن كانوا عكس ذلك. كلُّ مَن عرف أصلان شهد له بتلك الأناقة الروحية التي جعلت منه نبيلاً من البسطاء. "يرمي بصنارته في النيل فتصطادُ عصفورًا لا سمكًا”! تصوّروا أنه كتبَ هذا؟! لشدّ ما يشبه هذا النبيلُ طائرَ "مالك الحزين"، الذي منح اسمه لروايته التي شاهدناها فيلمًا عظيمًا: "الكيت كات"، من إخراج عظيم هو "داود عبد السيد". طائر البلشون الأبيض، لا يصدحُ بأعذب تغريده إلا وهو يتألم مجروحًا نازفًا دمَه. يقف فوق النهر مالكًا ناصيته حاميًا مجراه. فإن جفّ النهرُ، لا يغادره البلشون كما الطيور الباحثة عن الماء، بل يظلُّ واقفًا على طلله النهريّ، يُدثّره الحزنُ الذي يفتُّ في جسده النحيل فيزدادُ نحولاً. حتى إذا ما عاد القَطرُ وتدفق الماءُ في المجرى، عادت إليه حيويته وانتعش. هكذا كان أصلان، يغرّد في حزن نغماتِه السرديةَ في انتظار أن يتدفق الماءُ في شريان مصرَ المُتعَب، ولما ظنَّ أن الرِّيَّ قد عرف طريقَه إلى قلب مصر، انتعش طائرُ "أصلان" وقرر الطيران إلى حيث تطير الطيور ولا تعود أبدًا.
طار العصفورُ دون إنذار ولا صراع مع مرض. فنجا من العبارة الركيكة: "رحل بعد صراع مع المرض". فالمرضُ لا يصارعه إلا متهافتٌ طامعٌ في احتساء الكوب حتى آخره. وهو ما لا يفعله النبلاءُ مثله. لهذا اختار أن يطير سريعًا وخفيفًا كما طائر يصبو نحو الفردوس متحرِّرًا من أسر الأرض الثقيلة المُثقلةِ بالنوائب والمحن. في ذكرى طيران عصفور النيل، أقبِّلُ جبينَه وأقول له: حلِّقْ حرًّا في فردوس الله كما حلّقتَ في فردوس الحياة، أيها الحرُّ الأنيق، وسلامٌ عليك.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجيشُ العراقيُّ يُكملُ النوتةَ الموسيقية
- رسالةُ زهرة اللوتس ل كاتدرائية ميلاد المسيح
- صلاح عيسى … ورقة الغلابة التي سقطت
- سلاح تونس …. زيتونة
- ميري كريسماس … يا سامح!
- الشيخُ الطيب … الشيخُ الشابُّ … شكرًا لك
- أيها -المؤمنون-… أنا مسلمةٌ أحب جرس الكنيسة
- هنا سانت كاترين
- جميعُنا قتلة … لا أستثني أحدًا
- يوسف زيدان …. اكسر كوّةً في الجدار… وامضِِ
- القدسُ بين اليهود والصهاينة ورشدي
- خذوا عيني شوفوا بيها!
- جاءنا من الحجاز البيانُ التالي
- ماراثون أطفال المستحيل
- إيترو-عا … حعبي
- -ولاد البلد- يجوبون أرجاء مصر
- حارسٌ للمسجد … حارسٌ للكنيسة … فتّشْ عن البغضاء
- دموعُ الفارس | إلى الفنان محمد صبحي
- اتبعْ ذاك الدينَ لأنه الأفضل
- -الألِفُ- الزائدة … عند فرسانِ الرحمة


المزيد.....




- سحب فيلم بطلته مجندة إسرائيلية من دور السينما الكويتية
- نجوم مصريون يوجهون رسائل للمستشار تركي آل الشيخ بعد إحصائية ...
- الوراقة المغربية وصناعة المخطوط.. من أسرار النساخ إلى تقنيات ...
- لبنان يحظر عرض «سنو وايت» في دور السينما بسبب مشاركة ممثلة إ ...
- فيديو.. -انتحاري- يقتحم المسرح خلال غناء سيرين عبد النور
- بين الأدب والسياسة.. ماريو فارغاس يوسا آخر أدباء أميركا اللا ...
- -هوماي- ظاهرة موسيقية تعيد إحياء التراث الباشكيري على الخريط ...
- السعودية تطلق مشروع -السياسات اللغوية في العالم-
- فنان يثني الملاعق والشوك لصنع تماثيل مبهرة في قطر.. شاهد كيف ...
- أيقونة الأدب اللاتيني.. وفاة أديب نوبل البيروفي ماريو فارغاس ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - معجزةُ إبراهيم أصلان