|
الحراك الاجتماعي في المغرب ونهاية منطق التسوية السياسية من فوق.
محم امباركي
الحوار المتمدن-العدد: 5751 - 2018 / 1 / 8 - 23:02
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
إن تفاقم الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية و اتساع خريطة الاحتقان الاجتماعي و تكريس الإجابة القمعية كخيار سياسي ثابت في مواجهة الاحتجاجات، كلها معطيات تؤكد بالملموس أن الدولة تعاني عجزا بنيويا ليس في إيجاد بدائل اقتصادية و تنموية لإخراج مناطق متعددة من تهميش كاد يحولها الى مناطق منكوبة ( سيدي إفني، بوعرفة، الريف، زاكورة، جرادة...)، بل في بلورة الحدود الدنيا على أرض الواقع لحلول اجتماعية تحفظ الحد الأدنى من الحقوق الأساسية و كرامة العيش، و بالتالي لا يكفي الإقرار بفشل "النموذج التنموي" للتغطية على هذه الحقيقة لأن عدم قدرة أية دولة في حل المعضلات الاقتصادية و الاجتماعية يحولها بالضرورة الى دولة بوليسية تعوض فشل المخططات و البرامج و المبادرات التنموية باستراتيجية أمنية خالصة قائمة على القمع و التخويف و تجريم الاحتجاج ضدا على التشريعات و القوانين التي لم يضعها غير تلك الدولة نفسها...هنا يكمن مأزق " الديمقراطية " السائدة من حيث أنها ديمقراطية غير مبنية على التوزيع العادل للثروة و السلطة بما يمكن من خلق مغرب يسير بسرعة واحدة و ليس بسرعتين، سرعة السلحفاة بالنسبة للطريق المؤدية الى كرامة العيش و الحرية و العدالة الاجتماعية التي تظل حلما بعيد المنال لأوسع الفئات الاجتماعية المسحوقة، في مقابل سرعة القطار الفائق السرعة (TGV) بالنسبة لوتيرة النهب و مراكمة الامتيازات و الغنى و الثروة المادية و الرمزية لأقلية طبقية مهيمنة على السلطة الاقتصادية و السياسية. لكن المعضلة هنا لا تكمن فقط في أزمة النظام السياسي و الاقتصادي، بل أيضا في أزمة البديل السياسي و الاجتماعي المؤهل لترجمة الأجوبة المناسبة إزاء تداعيات و نتائج و ضحايا توجهات النظام اللاشعبية، أي في القوى السياسية و الاجتماعية القادرة على دفع أزمة النظام الى مداها الأقصى بما يؤدي الى الصياغة الموضوعية و الواعية لمقاومة اجتماعية منظمة تجعل من الخيار السياسي الأمني جوابا مأزوما أمام فعل احتجاجي مسنود سياسيا و اجتماعيا... إن التجربة التاريخية على الأقل تثبت أن النظام السياسي نجح في قمع كل الانتفاضات و الاحتجاجات الجماهيرية إما في مهدها أو بعد فترة انتظار و ترقب و مراهنة على خيارات أخرى كما هي حالة حراك الريف ( الحوار، التخوين، المسجد، الوساطة،...). للأسف رغم التضحيات الجسام للقوى الديمقراطية و اليسارية في محاولة فرض مكتسبات حقيقية من داخل حراكات اجتماعية و سياسية كحركة 20 فبراير، يتكمن النظام السياسي في كل مرة و حين من إجهاض عوامل الصمود و الاستمرارية من خلال القمع و التحييد السياسي و الاجتماعي للحركة النقابية و إغراق جزء من قوى الصف الوطني و الديمقراطي في منطق التوافقات و التسويات السياسية من الأعلى...من هنا يجب في اعتقادي أن نستوعب حقيقين و نتعلم منهما الدروس : الحقيقة الأولى هي أن منطق التوافق و التسويات الذي طبع الحقل السياسي في مراحل متعددة أي ما شخصه الشهيد المهدي بن بركة بأنصاف الحلول لم ينته إلا الى "ديمقراطية " منقوصة و محروسة بعناية من خلال تمييع الحقل السياسي و تأثيثه بنخب " فرجوية " ودعم قوى سياسية رجعية و خلق أدوات حزبية و جمعوية مخزنية و تعميق و تغذية واقع اللامبالاة و العزوف و الربط المنهجي و المرئي بين السياسة و المصلحة أي جعل الممارسة السياسية مجالا للانتهازية و الوصولية و تحقيق المصلحة الفردية... الحقيقة الثانية هي أن الحقل الاجتماعي الذي تميزه هوة طبقية ساحقة و تعاني معظم فئاته من التفقير و التهميش و البطالة و الإقصاء في ظل منطق سياسي توافقي بدون مردودية اجتماعية تستفيد منها تلك الفئات الواسعة و ليس نخب محدودة قد تخضع للترغيب و الإرشاء، يلجأ هذا الحقل الى الاحتجاج و الرفض و التمرد، أي جوابا على منطق التسوية و التوافق يلجأ الى منطق الانتفاضة و الحراك الذي ينتج قياداته و برامجه و دفاتره المطلبية في ظل حذر شديد من الفاعل السياسي برمته دولة و أحزابا و نقابات و بالتالي هنا يجد خطاب " الدكاكين السياسية " مشروعيته أي الخطاب المضاد للأحزاب السياسية و الإطارات النقابية و الجمعوية و وضعها في سلة واحدة و لو أن هذا الخطاب يعتمد نوعا من التعميم القاسي و غير الموضوعي... في الواقع ، فقد الحقل الاجتماعي العديد من مقومات المواجهة و الممانعة في ظل تدبير الصمود ليس إلا - طبعا لهذا الصمود أهمية كبيرة حتى لا يتم السقوط في منطق التبخيس و التسفيه و بالتالي اليأس ثم الإحباط الفردي و الجماعي -، بمعنى أن التعبير السياسي و الاجتماعي و الثقافي المؤهل لحمل مشعل المقاومة السياسية و الاجتماعية قد فقد العديد من الجبهات الصراعية التي تعتبر من صميم هويته الفكرية و البرنامجية و التنظيمية. و هكذا توارت الحركة النقابية الى الخلف و انتقلت من تأطير الاحتجاج الاجتماعي دعما لزمن سياسي غير مهادن الى نوع من الانغلاقية المسيجة بجدار بيروقراطي سميك يغطي في الواقع ضعفا ملحوظا في انتزاع الحد الأدنى من المكاسب المادية و المعنوية أو في مواجهة مخططات و إجراءات لا شعبية تم تمريرها ( إصلاح التقاعد، المقاصة، العمل التعاقدي، الخوصصة المستمرة للقطاعات الاجتماعية الحيوية في مجال الصحة و التعليم الذي أصبح الحديث عن مجانيتهما ضربا من الخيال...) وإجراءات أخرى في طريق التصريف ( مشروع القانون المنظم للإضراب...)، حركة طلابية تتخبط في أزمة ذاتية عميقة منذ المؤتمر 17 لأوطم، حركة جمعوية انخرطت بشكل غير مشروط في تنمية بدون ديمقراطية، حركة نسائية ظلت مدينية و نخبوية غير قادرة على الوصول الى نساء و رجال الدواوير و المداشر القروية ،حركة حقوقية تجتر أعطابا ذاتية على مستوى الرؤية و آليات الاشتغال و موضوعية من خلال الحصار المخزني و العوائق السوسيوثقافية التي يغذيها الفكرالمحافظ السائد..
عموما إن الهوة تتسع بين الحقل الاجتماعي و الحقل السياسي على الأقل منذ نهاية التسعينات، بين حقل يعرف تحولات اقتصادية و ديمغرافية و سوسيوثقافية و قيمية متسارعة يوازيها تصاعد الاحتجاجات الجماهيرية ضد الفوارق الاجتماعية و المجالية المتفاقمة من أصغر الدواوير و المداشر و القرى الى أكبر المدن و المراكز الحضرية الكبرى التي تعرف ترديا مستمرا للخدمات الاجتماعية الأساسية ( قفزات ديمغرافية بتركيبة شبابية و نسائية متنامية، هيمنة المهن الهشة المرتبطة بالاقتصاد غير المهيكل، البطالة بما فيها بطالة حاملي الشواهد و السواعد، أزمة السكن و اتساع دور الصفيح و السكن الاجتماعي غير اللائق، أزمة المدرسة العمومية و القطع الرسمي مع المجانية، خوصصة المنظومة الصحية و زحف المصحات الخاصة، تنامي ظواهر الانحراف الاجتماعي و مشاتل العنف الفردي و الجماعي و البيئة الحاضنة اجتماعيا و رمزيا للتعصب الديني و الهوياتي و الإرهاب...إلخ)، في مقابل تراجع التأطير السياسي للقوى الديمقراطية و الحداثية و سيطرة القوى المحافظة و المعادية للتحرر و الديمقراطية، و لعل من أبرز مظاهر هذا التراجع الحضور المحتشم لقوى اليسار الديمقراطي في الاحتجاجات و الحراكات المحلية بشكل أصبح يتشكل وعي عام لدى أوساط اليسار باعتبار هذا الأخير يعاني أزمة مركبة في قراءة و فهم تحولات الواقع الاجتماعي المحلي و العالمي خاصة في العلاقة بانهيار المعسكر الاشتراكي و هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة التي ألغت كل الحدود أمام الٍرأسمال العالمي وعملت على إضعاف المقاومات المحلية من خلال سياسات التفقير و البلترة الاجتماعية و دعم أنظمة الاستبداد و الفساد و حركات " الإسلام السياسي " لإجهاض الديناميات الثورية في العديد من أقطار العالم العربي التي عرفت ما سمي ب" الربيع العربي " الذي عزز من أطروحة أن قوى اليسار تتجه نحو فقدان حقيقتها الاجتماعية و بالتالي الدخول في متاهات نظرية و سياسية حول فهم طبيعة المرحلة و متطلباتها و مسألة التحالفات الأمر الذي يفسر انتصار جزء من اليسار للتحالف التكتيكي مع القوى " الدينية " ، و جزء آخر لدعم التدخل الخارجي في بلدان " الربيع العربي " بدعوى مواجهة بطش و تقتيل الأنظمة المحلية كحالات العراق و سوريا و ليبيا...
لكن هذه الهشاشة و التراجع اللذان يميزان الحقل الاجتماعي لا ينبغي أن يخفيا الطاقات الكامنة في ذاته لمقاومة أساليب التفقير و الإقصاء الاجتماعي ومصادرة الحق في المشاركة السياسية من حيث أن الحراك الاجتماعي هو شكل من أشكال التطلع الى العيش بكرامة و الى مشاركة سياسية حقيقية بأدوات مستقلة و ناجعة أي مؤسسات سياسية حقيقية تقوم فعلا على مبدأ تقاسم السلطة و الثروة في بعديهما المحلي و الوطني و آنذاك فقط يمكن الحديث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة، من هنا لا يمكننا أن نقتنع بفكرة أن الحراكات الاجتماعية تعبر عن فشل ذريع للحاجة الى القيادة السياسية كوعي منظم و فكر و ممارسة جماعيتين مرتبطتين أشط الارتباط بتحولات الواقع العنيد و ملتحمتين أشد الالتحام بتعبيرات الهامش أو القاع الاجتماعي. لا شك أن قوى اليسار الديمقراطي في بلادنا قاومت كثيرا و باستمرار للحفاظ على وجودها المستقل و تدبير صمودها في ظل القمع و الحصار و الإلغاء و الاجتثاث و التفجير و اجترار العديد من عوامل الكبح والإعاقة خاصة مع دخول جزء الحقل السياسي المضاد و " يسار " الأمس في توافقات و تعاقدات فوقية و غير مشروطة مع النظام السياسي لم تنتج غير مشهد سياسي و اجتماعي " فرجوي " تقوده قوى سياسية و "دينية" هي في خدمة المشروع المخزني بشعارات " ديمقراطية " و " حداثية " هي من صميم إعادة إنتاج سيطرة النظام اقتصاديا و سياسيا. إن تفكيك الحلقة المفقودة بين حقل اجتماعي مهدور بفعل الأزمة الاجتماعية و الاقتصادية و القيمية لكنه ينتج في نفس الوقت مقاوماته و احتجاجاته و حراكاته، و حقل سياسي بارد غير قادر على التحرر من منطق التسوية السياسية و الاجتماعية المعاقة، تستوجب من قوى اليسار الديمقراطي السعي الجاد الى استعادة حقيقة اليسار الاجتماعية من قلب الفهم العلمي و التأطير العملي للحركة الاجتماعية التي هي قيد التبلور الكمي و النوعي، قطاعيا، مجاليا، زمنيا، و سوسيولوجيا و على مستوى أدوات و شبكات التواصل و التأطير و التنظيم من داخل الحراكات الاجتماعية الممتدة ضد التهميش و الإقصاء هنا و هناك في الدوار، الحي، المدشر، القرية و المدينة، مما يستدعي تطوير و تجديد أساليب الحضور والتفكير و التأطير و الاشتغال ، ثم العمل على إعادة الاعتبار لقيم الحوار الفكري و السياسي الهادئ و المنتج بين مكوناته بدء من تثمين كل مسارات توحيد و تجميع قواه في أفق تطويرها النوعي كجزء من عملية تاريخية و فكرية ضرورية لتغيير ميزان القوى وتحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي ومجتمع عادل ومتحررو ديمقراطي ، و ذلك بروح نقدية بناءة ورؤية استشرافية للأهمية الاستراتيجية لوحدة اليسار الديمقراطي المناضل بدلا من الاستقواء و الاستقواء المضاد الذي لا يقود في نهاية المطاف إلا الى السقوط في عقلية " الهدف لا شيء و الحركة كل شيء " و بالتالي الارتهان الى نزعة تجريبية قاتلة و نزوع تنظيمي ضيق ينتصر لتقديس الزعيم والتنظيم المغلق و احتلال المواقع و الواجهات في المنظمات الجماهيرية و وقفات أو مسيرات الاحتجاج الجماهيري ، كل ذلك على حساب الرؤية النسبية لجدلية الذات و الواقع الموضوعي و العقل النقدي المبدع و فلسفة الهيمنة الفكرية و الثقافية كما نحت مفاصلها الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي " أنطونيو غرامشي ".
#محم_امباركي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحراك الاجتماعي في المغرب ونهاية منطق التسوية السياسية من ف
...
المزيد.....
-
تركيا.. حزب الشعب الجمهوري يدعو أنصاره إلى المقاطعة التجارية
...
-
رسالة جديدة من أوجلان إلى -شعبنا الذي استجاب للنداء-
-
صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 31 مارس 2025
-
حزب التقدم والاشتراكية ينعي الرفيق علي كرزازي
-
في ذكرى المنسيِّ من 23 مارس: المنظمة الثورية
-
محكمة فرنسية تدين زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان في قضية ا
...
-
القضاء الفرنسي يدين زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان باختلاس
...
-
م.م.ن.ص// في ذكرى يوم الأرض: المقاومة وجرح الكون النابض
-
محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية ضي
...
-
في ذكرى يوم الأرض: شعب يستشهد محتضنا أرضه لن يُهزم
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|