|
رواية أنا كارنينا، رواية الجمال والعشق المجنون.
بشير بن شيخة
الحوار المتمدن-العدد: 5749 - 2018 / 1 / 6 - 00:06
المحور:
الادب والفن
عن الأدب الروسي العظيم(1) ............... تعد رواية أنا كارنينا من أعظم الروايات عبر التاريخ (بـ 1000صفحة) وقد صنّف النقاد الروائي ليو تولستوي » 1828/1910 » كأعظم روائي على الإطلاق، بسبب هذه الرواية وروايته الأخرى تحت عنوان: الحرب والسلم، من 2400ص. وسبب نجاح الرواية لا يعود لحجمها ولا لتيمة موضوعها، بل هو يعود لحنكة وذكاء كاتبها، حيث أظهر براعة وفنية عالية في معالجة أحداث وشخصيات الرواية، فقد نسج حبكتها المعقدة بحيث جعلها تقبل تأويلات كثيرة ومتنوعة، وكلها تأويلات ومخارج شيقة وتستحق التأمل والتفكر، ويمكن أن نقول أن الكاتب عرف كيف يمسك العصا من الوسط، في مسألة حساسة جدا، كمسألة العشق، حيث لم يتدخل بصفته خالق المتن الروائي وخالق شخصياته لتوجيه مسار الرواية الكلي توجيها مسبقا، يراعي فيه المعايير الأخلاقية السائدة، وكذا الأعراف القائمة في المجتمع الروسي في نهاية القرن التاسع عشر، بل هو خالف توقعات القراء والنقاد معا، تاركا صيرورة الرواية تصنع نفسها بنفسها ككرة الثلج المتدحرجة، ومن ثم تركها تزداد غموضا وتعقيدا، وتشتعل لهيبا وتشويقا، تشويقا يتماشى ولهيب العشق الإنساني وغموضه وتمرده، واستعصاءه عن كل أشكال الحجر والتقييد. لقد أبدع حقا تولستوي في رسم شخصية أنا كارنينا منذ اللحظة التي أعلن فيها دخولها متن الرواية، فرغم أنه أجّل الإعلان عنها إلى فصول لاحقة، بعد أن راح يروى قصصا تمهيدية وشخصيات مساعدة، إلا أن القارئ يدرك بحدس خفي، وبذوق مرهف، نوعية هذه البطلة الكبيرة منذ اللحظة التي يبدأ القص عنها، كأنما هي شمس متى بزغت أفلت من قوة تألقها كل النجوم المحيطة بها. تلك هي شخصية أنا كارنينا، تعجب بها وتغرم بشخصيتها عند أول ظهور لها على مسرح الأحداث، ستجد نفسك فجأة مسافرا معها في القطار، فتتعلق بشخصيتها ويبهرك حضورها الجمالي المتسامي، فتترك مختارا كل من عرفته قبلها من شخصيات، ذاك القطار الذي ظلت تمتطيه جيئة وذهابا طوال فصول الرواية، من موسكوا إلى الإقليم الذي كان يعيش فيه أخوها. وهو نفس القطار الذي سوف تخمد تحت عجلاته مأساة عشقها وجنونها وتمردها. لقد أبدع الكاتب حقا في وصف كل حركات المرأة وسكناتها، حتى أن رفيقتها في غرفة القطار، وهي لم تكن في الحقيقة إلا أم عشيقها المرتقب، قد أعجبت بها أيما عجب، وشغفت بها أيما شغف، كأنما هي ساحرة من ساحرات موسكو، تفتن كل من تتحدث معه، أو بمجرد مرور طيفها بالقرب من أحدهم. فإذا كانت أم فرونسكي قد سحرت بها بهذا الشكل العجيب، فكيف سيكون حال ابنها عندما يلحظها نازلة بدلال وتألق من غرفة القطار؟ وكما أبدع الكاتب في رسم شخصية البطلة، فقد أبدع أيضا في وصف لهيب عشقها للضابط المدعو "فرونسكي" بطرق وأنواع ووضعيات وأحداث مختلفة، تتوافق جميعا مع الذوق الجمالي الرفيع لمعنى عظمة الحب وسموه، والغريب أيضا هو أنه أبدع في إنصاف زوجها أيضا، ولم يزري به، أو يصوره كمقصر أو كرجل تافه ومغفل، بل أعطاه وزنه كرجل دولة ملتزم ومنضبط وطنيا وأسريا، وذلك عكس ما كانت باقي الروايات تفعل في زمنه، حيث كانت تحط عمدا من شخصية الحبيب الأول أو الزوج السابق، إعلاء لشأن العشيق الجديد. لذلك تحيّر النقاد كثيرا ولا يزالون في أمر حبكة هذه الرواية وصيرورتها الغامضة. فصيرورة الرواية منذ البداية لم تذهب لتغليب طرف على آخر، إرضاء لميول المتلقي ورغباته الأخلاقية، المعهودة في أمور الخيانة الزوجية وما شابهها، لذلك ظل التشويق القصصي يتعاظم في نفس القارئ على امتداد فصول الرواية الطويلة إلى آخر جملة في الرواية. ذاك هو الروائي والفيلسوف "ليو تولستوي"، ذاك الذي رفع مجد الأدب الروسي إلى ذروة الأدب العالمي، بمعالجاته الإنسانية والفلسفية والجمالية الناضجة، فقد كان بارعا جدا عندما تجنب عمدا مخالفة تلك المعالجات القصصية العادية في مثل هذه الحالات الإنسانية المرهفة، والتي درجت عادة بوصف العاشقة بتلك الخائنة التي يجب أن تعاقب اجتماعيا ودينيا، وحتى على مستوى الضمير الشخصي أيضا. بل هو خالف تلك النمطية البليدة في المعالجة، مظهرا عبر حبكة درامية معقدة أن العشق البشري خاصة النسائي منه، ليس اختياريا وليس إراديا، ولا حتى متعلقا بالميل الغريزي المتكلف، لحب المظاهر المادية، وتقاليد الرومانسية البرجوازية المترفة. وأظهر للقارئ أيضا عبر السرد والوصف وبناء الأحداث بناءا سببيا وموضوعيا إلى حد بعيد، كيف أن العاشقة إنما كانت واقعة تحت شروط جمالية خاصة بها وحدها، شروطا متسامية جعلت الحب ينبثق في ذاتها انبثاقا سحريا طاغيا، ومتساميا عن كل الأغراض والأطماع الدنيوية المعروفة عند العامة، ومن ثم آثر الكاتب أن يعالج قضيتها فوق المقاييس المألوفة، وفوق المعايير المتداولة، وهذا ما جعل صيرورة الرواية تخالف كل التوقعات والتنبؤات، حيث تعمّد الكاتب أن يعرض عشقها بنوع من الغموض المغري، والفرادة النوعية، أو ذاك الجنون الذي لا يفسّر ولا يؤوّل ولا يقاس عليه.. تلك هي "أنا كارنينا"، شخصية مجنونة بالعشق وضحيته في نفس الوقت. فبالرغم من كونها كانت متزوجة من رجل محترم وقائد عسكري كبير، ذا شخصيته متوازنة، وبينها وبينه عشرة وألفة و ابن جميل، إلا أنها أحبت دونه ضابطا أصغر منه رتبة ومكانة، وعشقته حد الشغف، وتمسكت بعشقها له رغم انكشاف أمرها على الملأ، وإشاعة خبر عشقها وخيانتها في محيطها، ومحيط زوجها أيضا...الخ . وقد كان المؤلف بارعا عندما عالج عدة قضايا مماثلة "خيانات زوجية متتابعة " وفي نفس الزمن القصصي، وذلك عندما صاغ الأحداث صياغة محكمة منذ البداية، بحيث تقع المسكينة في هاوية العشق في نفس اليوم الذي حضرت فيه لأجل إصلاح ما جرى بين أخيها وزوجته من خلافات عميقة، بسبب خيانة أيضا، وفي اللحظة التي نجحت في إصلاح العلاقة بينهما بسبب جاذبيتها الكبيرة وحضور شخصيتها الساحرة، وكذا مقدرتها الفائقة أيضا في المحاورة والإقناع، وقعت هي في عشق ضابط من الفرسان في حفلة أقيمت تلك الليلة هناك في الإقليم الذي يعيش فيه زوجها، ولم ترجع المرأة من سفرها إلى سكنها في موسكو إلا وهي عاشقة نازفة، ومن ذلك اليوم نفرت من زوجها وبدأت للتو مغامرة عشقها الملتهب المجنون. زوجها الضابط الكبير سوف لن يتأخر ويكتشف الحقيقة الصادمة، وكان ذلك طبيعيا منذ انتشر وشاع خبرها بين الناس، لكنه ويا للغرابة، فهو لم يستطع حتى تطليقها، لأن الطلاق غير مسموح به في القوانين الروسية إلا بشروط قاسية، وخاصة لكونه يعد قائدا عسكريا كبيرا ومرشح أن يصير وزيرا أيضا، ولأن القوانين المدنية كانت تنص على أنه لا يجوز لزوج تطليق زوجته، إلا بعد إثبات خيانتها أمام الملأ، وبقرائن معقدة لم يستطع هذا الزوج إثباتها، وحتى لو هو يملك إثباتها، فهو عاجز عن التضحية بسمعته الكبيرة بهذا التطليق المكلف جدا. وفي مرحلة آتية، لما بدأ العشق يضعف من جهة عشيقها المفضل، بل قل بداية ظهور بوادر خيانته، لم تتواني المدللة أنا كارنينا بكل إصرار وحزم من التوجه نحو المحطة التي جاءت عبرها أول مرة، لتلقي بنفسها تحت عجلات قطار البضائع المتوجه من بطرسبورغ إلى موسكو، منتحرة، ومضحية بنفسها، لأجل أن حبها العظيم الذي ضحت من أجله بكل سمعتها وسمعة أسرتها رأته لم يعد ملكها، ولا هو أصبح قادرا على إشباع نهمها، ولا حتى عاد يكافئ أو يقترب مما أعطته له من نفسها وروحها وفكرها. لقد أراد الكاتب أن يعطي دلالات عميقة بهذه النهاية التراجيدية المؤلمة، من ذلك أنه أراد أن يعطي مكانة أقل لعشق الرجل مقارنة بعشق المرأة، أراد أن يقول أيضا أن عشق الرجل، أي عشيقها "فرونسكي" لم يكن بحجم عشق "أنا كارنينا".. فعشقه كان عابرا أو طائشا وغير جدي، كان عشقه شهوانيا عابرا وكان عشقها روحيا خالدا... الكاتب أراد أن يبين أيضا أن بعض النساء يمتلكن نفوسا كبيرة جدا، كبيرة وجليلة وجد مرهفة، بحيث يندر أن يوجد ما يقابلهن من الرجال بعشق مماثل، أي عشقا ذكوريا كبيرا وعظيما يقابل عشقهن الأنثوي المجنون والملتهب، وفي هذه الحالة سيكون الانسحاب من طرفهن هو الخيار المحتوم.. لذلك انتحرت "أنا كارنينا"، انتحرت حتى تفارق عالما لم ينصفها، عالما لم يستطع أن يخلق لأجلها رجلا له قلب كبير يستوعب عشقها الملتهب المجنون، حتى أن كاتبا وأديبا بارعا مثل "ميلان كونديرا" اعتبر أن انتحار أنا كارنينا كان خيارا عبقريا من جهة كاتبها تولستوي، ذلك أنه استطاع أن يجمع بين القبح والجمال في نفس الوقت بهذه النهاية العظيمة، فأنا كارنينا رأت العالم قبيحا لا يسع ما تستشعره في نفسها من حب وجمال، ومن ثم قابلته بقبح مماثل، بعدما فشلت في أن تعيشه بالحب وللحب.. لقد انتحرت أنا كارنينا تحت عجلات القطار، ذاك القطار الذي يذكّر القارئ بأول ظهور للبطلة على مصرح الرواية، ويذكّر القارئ أيضا بحادث عارض ومؤلم حصل في نفس تلك اللحظة، لحظة نزولها من القطار، وهو حادث موت رجل تحت عجلات القطار بالخطأ، وهذه التقنية تحسب للكاتب كإرهاص مسبق ومشوق، لا ينتبه له إلا العارفون بخبايا السرد الروائي، وفي كل الأحوال فقد زاد هذا الإرهاص في تأثيث العمل الروائي، وزاد في ترسيخ مشهد انتحار البطلة نفسه، إضافة لتقنيات كثيرة أخرى ابتكرها الكاتب داخل الرواية. تلك هي رواية أنا كارنينا العظيمة، كانت و ستظل تقبل تفسيرات وتأويلات مختلفة، وما طرحته أنا هنا هو مجرد واحد من التأويلات العديدة فقط. رواية "أنا كارنينا" ظهرت بين عامي 1873 و 1877، ترجمت لعشرات اللغات، ومثلت في أكثر من 15 فلما، محطمة بذلك رقما قياسيا. أما مؤلفها فقد عدّ كأعظم روائي في التاريخ، وأعتبر أيضا كأديب فيلسوف، له رؤيته الخاصة للوجود والإنسان والمجتمع، ويأتي بعده دوستويفيسكي برواية الإخوة كرامازوف والجريمة والعقاب... ذاك هو مجد الأدب الروسي العظيم الذي عنه أتحدث.
#بشير_بن_شيخة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الإلحاد والإيمان/ حفريات في الوعي البشري.
-
المسيحية، النشأة والتطور / الاختلاف في التأريخ لحياة عيسى ود
...
-
ما بين التصور الإيماني للتاريخ ، وتصور المعرفة العلمية من فو
...
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|