|
زيارة المعري لبغداد مثابة مهمة في حياته وتوجهاته...
شكيب كاظم
الحوار المتمدن-العدد: 5746 - 2018 / 1 / 3 - 21:22
المحور:
الادب والفن
هناك مثابات مهمة في حياة الشخوص والافراد، ومنعطفات مؤثرة في توجهاتهم الحياتية، يستوي في ذلك الجميع، سواء أكان من عامة الناس أم من خاصتهم، ولقد كانت رحلة الشاعر الفيلسوف ابي العلاء المعري (363-449هـ) الى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، من المؤثرات الخطيرة في حياته، اذ كانت هذه الرحلة التي نافت على السنتين فاصلاً مهماً بين عهدين او توجهين في حياته، فلقد اجمع مؤرخو الادب على انه غادر مكان سكنه وولادته، معرة النعمان التي تقع بين حلب وحماة من بلاد الشام، متوجها الى بغداد اخريات سنة 398هـ ليصل اليها بداية عام 399، وظل فيها حتى غادرها عام اربع مئة. لست بقين من رمضان والمعري احمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي الذي كان ينظر الى المستقبل بما يشبه المتنبئ، هو الذي فقد نعمة البصر، ليعوضه الخالق ببصيرة نافذة خارقة للحجب، كان يؤرخ لنفسه كي يمنع اللبس والابهام وتقولات من يهرف بما لا يعرف فهو من خلال رسائله الى اهل معرة النعمان كان يضع النقاط على الحروف خشية الالتباس حينما يأتي من يترجم لحياته ويكتب عنها من المعاصرين او التالين. واجهت المعري في رحلته الى بغداد بعض الحوادث، التي جعلته يفكر مليا في جدوى البقاء في بغداد ام مبارحتها نحو مسقط الرأس ومهوى الافئدة، الوطن، معرة النعمان؟ فهو اذ وصل بغداد كانت المدينة تعيش تحت وطأة وفاة الشريف الطاهر ابي الشريف الرضي والشريف المرتضى واذ يقرر حضور مجلس الفاتحة، يسمع ما يعكر صفو وجدانه وحياته، مذكرا اياه بعاهته، عاهة العمى، لقد استكثر عليه بعضهم ولا يعرفون من هو، استكثروا على اعمى لم يلبس فاخر الثياب، ان يحضر مجلس عزاء شريف عزيز هو الطاهر، فنبزه بعاهته لكن المعري رد الصاع مئة صاع، قائلا: الكلب هو من لا يعرف للكلب سبعين اسما، ردا على النابز القائل: الى اين يا كلب؟ ويظل يحيا في بغداد، يمضي ايامه بما يقرأ عليه من كتب ومصنفات بيت الحكمة لكن يظل يرنو الى معرة النعمان خاصة بعد ان الح عليه اخوه بالعودة ومبارحة بغداد وكتب قصيدة يهجو فيها بغداد ويصفها باقذع النعوت والاوصاف، ولقد لمست ذلك لدى العديد من الذين اوتهم بغداد واغدقت عليهم الخير والشهرة والمجد، فلقد هجاها بدر شاكر السياب مرّ الهجاء حاملا كل عقد الريف ازاءها واصفا اياها بـ(الماخور) مع انها منحته الشهادة الجامعية والشهرة في عالم الادب والسياسة والشعر خاصة، وكذلك انكر فضلها عليه الروائي والقاص عبد الرحمن مجيد الربيعي، فمن يقرأ رواياته وخاصة (الوكر) يجد فيها تصويرا مخالفا لوقائع الحياة البغدادية، مؤكدا صور الجنس والنسوة الرخيصات، ويبقى الانسان يمتح صوره من واقع حياته. ابو الهيثم عبد الواحد، اخو المعري يهجو بغداد، طالبا من اخيه مبارحتها والعودة الى معرة النعمان في قصيدة مطولة نقل منها ابن العديم في كتابه (الانصاف) اربعة وثلاثين بيتا كما تقول الباحثة الكبيرة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) في كتابها الممتع (ابو العلاء المعري) الصادر عام 1965 في ضمن سلسلة (اعلام العرب). بغداد لا سقت ربوعك ديمة – وغدت رياضك حنضلا ومرارا انت العروس يروق ظاهر امرها – وتكن شينا في اليقين وعارا اضرمت قلبي باجتذابك ما جلا – كالسيف اعجب رونقا وغرارا لكن ابا العلاء المعري، لا ينكر فضل بغداد عليه كما انكره المنكرون الجاحدون بل يعترف بفضل البغداديين عليه قائلا (والله يحسن جزاء البغداديين، فلقد وصفوني بما لا استحق وعرضو علي ّ اموالهم عرض الجد فوجدوني غير جذل بالصفات ولا هش الى معروف الاقوام). هو الزاهد بالحياة الذي لم يقبل عروض داعي الدعاة الفاطمي المادية يوم راسله هذا والح عليه والحف والمعري يدافعه، محاولا اتقاء اذاه، مما عجل في موته، او كان سببا مباشرا ومهما فيه، خاصة وان هذه المراسلات، التي ما كان المعري راغبا فيها، لأنه غير راغب في محاورة هذا الدعي المتحجر، جاءت وقد تعاورت عليه الاوجاع وتكالبت عليه السنون بالعلل. المعري، المحب لمدينة بغداد بالرغم من قصر المدة التي عاش فيها، والتي لا تزيد على السنتين والتي كانت بدايتها الشاخصة حضوره لمجلس عزاء الشريف الطاهر، والقاؤه قصيدة من غرر قصائده ارتجالا في رثاء الطاهر مما جلب انتباه ابنيه الشريفين الرضي والمرتضى وهما ما هما عليه من ادب وثقافة وشعر، فيذهبان اليه متساءلين لعلك ابا العلاء المعري وكانت شهرته قد تجاوزت المعرة وبلاد الشام نحو بغداد، عاصمة العلم والادب والشعر فيكرمان وفادته شاءت النهاية، نهاية حياته في بغداد ان تكون – كذلك- في مجلس الشريف المرتضى فيرد ذكر المتنبي، فينتقص المرتضى من قدره ولأن المعري صريح لا يقبل التدليس والمداجاة يدافع عن المتنبي قائلا: لو لم يكن للمتنبي من فضل لكفاه فخرا وفضلا قوله: لك يا منازل في القلوب منازل فعدها المرتضى تعريضا به، فأمر به فسحب من المجلس مهانا لأن ما استشهد به المعري انما هو عجز بيت من قصيدة رائعة شائعة يرد فيها هذا البيت واذا اتتك مذمتي من ناقص - فهي الشهادة لي بأني كامل ترى هل كان المعري يقصد التعريض بالمرتضى ام انه استشهد بعجز البيت ليشير الى قصيدة المتنبي العصماء تلك؟ وهل كان المرتضى محقا في تفسيره وتأويله لقولة المعري ام انها جاءت رمية من غير رام؟ كانت هذه الاهانة التي لحقت بالمعري، وسحبه من مجلس الشريف المرتضى مذلا مهانا خاتمة لعلاقته مع بغداد، اذ ازمع مع نفسه ووطنها على الرحيل حتى اذا غادرها في الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة 400 هـ كان يمنّي النفس بلقاء امه تعويضا عن الم مغادرة بغداد، هذا الحضن الرؤوم الرؤوف الذي يبقى الانسان منا يهفو اليه مهما امتد به العمر وكبر، ويظل يحس بالم الفقدان، وخسارته على رغم السنين، ولكن كانت ضربة الدهر اسرع، فلقد تخطفها الموت مما اوقع المعري في هاجس الوحدة والشعور بالاثم لمبارحته اياها، ومغادرتها الحياة دون ان تكتحل عيناها بمرآه وتكون هذه الفاجعة، فاصلا مهما بين عهدين من حياته، فلزم بيته ومعرته، معرة النعمان لا يبارحهما، مقررا: اراني في الثلاثة من سجوني – فلا تسأل عن الخير النبيث لفقدي ناظريّ ولزوم بيتي – وكون النفس في الجسم الخبيث واذا كان اخوه، ابو الهيثم عبد الواحد، قد هجا بغداد، عن قناعة او بقصد استرداد اخيه وحثه على العودة الى معرة النعمان، فأن المعري، على الرغم مما واجه من تصرف لا يليق بالطرفين المرتضى والمعري، فلا يليق بالمرتضى ان يأمر غلمانه ليسحبوا المعري، وما كان المعري يستحق مثل هذا التصرف كذلك ما كان جديرا بابي العلاء ان يستشهد بهذا البيت الاشكالي حمال الاوجه والقابل للتأويل، لكن ظل يحمل بين جوانحه حبا لها، على الرغم من انه قد ازمع عنها رحيلا، ليقول من قصيدة طويلة جميلة مؤثرة ومعروفة كلفنا بالعراق ونحن شرخ – فلم نلمم به الا كهولا وردنا ماء دجلة خير ماء – وزرنا اشرف الشجر النخيلا(1) وابنا بالغليل وما اشتفينا - وغاية كل شيء ان يزولا تأملنا الزمان فما وجدنا – الى طيب الحياة به سبيلا لتلخص هذه الابيات فلسفة المعري في الحياة كل شيء في الحياة الى زوال وليس الى طيبها من سبيل، ان كان فيها طيب.
(1) اسفت اذ قرأت في جريدة (الزمان) من ينسب هذا البيت الى الراحل الدكتور مصطفى جواد، مؤكدا انها من قصيدة طريفة في نخيل العراق. ص2، الاحد 26/4/2009. مقالة عنوانها (هموم عماتنا النخلات)!!
#شكيب_كاظم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محمود أحمد السيد... لو لم يتخطفه الموت سراعاً
-
ظواهر القراءة لدينا ولديهم ... ايقاظ المتلقي النائم
-
حرث في المفاهيم الدكتور جلال الخياط في (المتاهات) النقدية...
-
لويس عوض في سيرته الذاتية...مفكر حر ناوأه الرجعيون واليساريو
...
-
التصادي والمشتركات المعرفية والأنثروبولوجية...
-
العراق كان سباقاً في نقل روايات إيشيكورو للعربية
-
محمد مبارك .. مواهب معرفية وفكرية باهية
-
توفيق صايغ شاعر قصيدة النثر الرائد
-
ناجي التكريتي يسرد أيامه في جامعة كمبردج الذاكرة تتعلم الحكم
...
-
مهدي شاكر العبيدي...باحثا وقفة عند كتابه.. (من شعراء بني ايو
...
-
بعد تجاوز الوطني العراقي الثمانين من عمره...نصير الجادرجي ير
...
-
الدكتور سهيل إدريس: رمز ثقافي شاخص الحياة الشخصية معين للسرد
...
-
مقروءاً وفق مفهوم التناص والسرد متعدد الأصوات...رفعة الجادرج
...
-
قراءة لذكريات الشاعر الكبير مظفر النواب
-
عزت القمحاوي: الايك في المباهج والاحزان جماليات الجسد، جمالي
...
-
مناقشة هادئة مع الدكتور لويس عوض..لمن تسجل ريادة شعر التفعيل
...
-
مجيد السامرائي باحث ذو رأي.. (الحيوان) رمز في التصوير الإسلا
...
-
الاستشراق: أدبيا ومعرفيا وبحثيا الدكتور محمد الدعمي يدرس است
...
-
ستيفن هوكينغ.. النضال من اجل الحقيقة
-
توثيق لحياة شاعر بدءاً ببغداد وانتهاءً بمستشفى لندني..فوزي ك
...
المزيد.....
-
افتتاح مهرجان -أوراسيا- السينمائي الدولي في كازاخستان
-
“مالهون تنقذ بالا ونهاية كونجا“.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
-
كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل
...
-
هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|