أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - خمارة دليلة والزئبق -2-














المزيد.....

خمارة دليلة والزئبق -2-


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 5739 - 2017 / 12 / 26 - 22:43
المحور: الادب والفن
    


هناك وقف أبي، رجلٌ في نهاية عقده الخمسيني، بطقمه البني وقميصه الأبيض ورائحته الطيبة. إلى جواره وقف نديمه السيد وفيق الذي لم يتجاوز عمره الخامسة والثلاثين، بقامته متوسطة الطول، بجسده النحيل، بعيونه الأوروبية الزرقاء، بشاربه الأشقر، بخديه المُحمّرين بفعل كؤوس البراندي، بقدمه العرجاء. كان يرتدي ملابس المهنة كعادته: بنطال الجينز بشواطاته التي تمر عبر الكتف وجيوبه الكبيرة المحشوة بمفاتيح البراغي وقميصه الخمري وحذائه البني الغامق العريض. لم يكن وفيق عامل صيانة المصاعد المحترف من سكان الضيعة الأصليين بل كان قد دخل إليها قبل سنوات ثلاث برفقة زوجته وأولاده الثلاثة.

كنتُ أمر أحياناً من أمام الخَمَّارة، أدخلها حيناً لشراء علبة تبغ أو للإطمئنان عن حالة أبي، وحيناً آخر أمر وأنا في طريقي الذي أطلته قصداً إلى الوادي الأحمر لإضاعة المزيد من الوقت، إذ كان الزمن زمن ضجر وعزلة.

إذا لم يكن رُوَّاد الخَمَّارة قد وصلوا بعد، كان مالكها العجوز يسليني بأحاديثه، يحكي لي مثلاً: "ها أنت صرت طالباً جامعياً وقد عمل أبوك طويلاً لتنشئتك واليوم يرغب بقليل من الهدوء، إنَّه لا يأتي إلى هنا كي يسكر بل كي نتحدث مع بعض، نحن أصدقاء رغم فارق العمر، يحكي لي عن مشاكله وأحكي له عن مشاكلي بدوري، أرجو منك ألا تتفقَّدَه كما تبحث المرأة عن حُلِيَّها الضَّائع، أظنه يقع في مَوقفٍ حرجٍ صعبٍ إذ تلاحقه، دعه وشأنه، هو يشرب كأس أو إثنتين ويغادر بسلام، كلنا نشرب كي نتوازن مع المرأة والعائلة، ثم يضيف بحذرٍ: ومع السلطة الساسية أيضاً."
وما أن ابتسمت في وجهه حتى ارتاحت معالمه وكأنَّ ضميره لم يعد يعذّبه فيختم حديثه: " ليست الخمَّارة وحشاً كاسراً كما تعتقدون، بل كلب وفي وغرفة جلوس للأصحاب والأحباب."

وإذا مررت بالخَمَّارة وقد جاء رُوَّادها إلا أبي، كنت أستغل الفرصة بأن أُدخن سيجارة حمراء قصيرة وأتحدث إلى سكانها، كنت أعرف معظمهم، كانوا من مختلف الأعمار من الخامسة عشر وحتى الخامسة السبعين، أرى أبو فداء وأبو عماد وأبو علي وأبو محمد وأبو نمر وأبو مدين وأبو جمال وآخرين، كانت الخَمَّارة تعبق برائحة تشبه رائحة البخور، إذ أنَّ بعضهم قد أدمن على سجائر الحشيش، كنت قد عاصرت بعضهم في المدرسة الابتدائية أو الإعدادية أو في باحات اللعب.

كان أبو فداء ومن شدة السُّكْر يبكي إذ يراني بعد أن تكون كؤوس البراندي قد تعتعه، وصواريخ الحشيش قد فتلت رأسه، تدمع عيناه، ينزل المخاط من أَنْفه: "يا ليتني لم أترك المدرسة، ليتني لو بقيت صديقك، ليتني لو سمعت منك في ما مضى لما تَدهورت أحوالي كما يتدهور الَّليل أو الرَّمل، ولا كنت قد وصلت لما أنا عليه الآن، إنَّه الطريق إلى جهنم تدخله وتضيع في سراديبه فتنمحي من ذاكرتك طريق العودة."
أجبته: "حياة واحدة لا تكفي للعيش والمتعة والإبداع والتعلم!"

قاطعه البعض متذمراً من انفعالاته واختلاجاته وتوجعاته التي لا تتوقف. قال أحدهم: "لا يمكن للناس أن تكون سواسية لأنّه خلقهم ورفع بعضهم فوق بعض درجات."
علّق أبو جمال ساخراً: "إياكم والمدارس، المدرسة تهدد الغباء!"

أشعل أبو حنّا سيجارة الحمراء الطويلة، مسح على شاربيه وقال: "لا يقدرُ خادمٌ أن يخدمَ سيّدين، لا تقْدرونَ أن تخدموا الله والمالَ، أو الخمَّارة والشهادة الجامعية في آنٍ واحد."
ردَّ أبو نمر: "لكنك فعلتها يا أخي أبو حنّا، ها أنت أستاذ رياضيات قد الدنيا ولا تتحرك من الخمَّارة."
أجاب أبو حنّا: "لم أفعل هذا في الوقت، في البداية درست ووقفت على أرض صلبة، ثم جاءت الخمَّارة للتسلية كما يقول دائماً العم أبو حسن دليلة."

غرق أبو فداء في وحدته وتأملاته ثم دندن بحزنٍ: "صعدوا السلّمْ، أسمعُ وقع الخطوات المشبوهةْ، أبصرُ تحت معاطفهمْ عنوان المنزل والفُوَّهَة!"
قال لي أبو مدين، وأنا في التاسعة عشر من عمري وما زلت طالباً جامعياً في سنته الأولى: "جالسنا يا أستاذ، تفضل هنا قربنا، أترغب بكأس من البراندي؟
تدخَّل حينها صاحب الخَمَّارة: "الأستاذ لا يشرب البراندي ولا العرق، سأضيفه زجاجة بيرة وأسجلها على حساب أبيه!"

يتبع



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خمارة دليلة والزئبق -1-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -الحلقة الأخيرة-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -16-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -15-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -14-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -13-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -12-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -11-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -10-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -9-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -8-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -7-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -6-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -5-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -4-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -3-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -2-
- كيف اِنهارَت كعكة العائلة؟ -1-
- هكذا تكلَّمَ السيد قَرْوُّشْ
- مشايخ البيبا


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - خمارة دليلة والزئبق -2-