|
نحن وميليس والرواية البوليسية
بكر صدقي
الحوار المتمدن-العدد: 1474 - 2006 / 2 / 27 - 07:34
المحور:
الادب والفن
العمل الذي يقوم به ميليس وفريق عمله من المحققين الدوليين في بيروت هو سابقة بكل المعايير في المنطقة العربية، ليس لأنه فريق تحقيق خارجي يأتي للعمل عندنا في جريمة ارتكبناها نحن على أرضنا، بل لأنه يقوم بأول تحقيق من نوعه في جريمة مجهولة الفاعل ( وإن كان هذا ودوافعه معروفين على نطاق واسع بل "جماهيري" ). فالمألوف عندنا هو إما جرائم ثأر أو "شرف" يتساهل معهما القانون، أو جرائم "أصحاب السوابق" الذين "يعترفون" تحت التعذيب دونما حاجة ليرهق "المحقق" ذهنه في خفايا الجريمة، أو أخيرا جرائم ترتكبها السلطات أو المتنفذين فيها أو قوى إرهابية وتنسب إلى مجهول. من هذا المدخل يمكن مقاربة السؤال الذي طرحه عبده وازن في "الحياة" عن سبب غياب جنس الرواية البوليسية في الأدب العربي. وسأورد لإغناء النقاش آراء ثلاثة مثقفين أتراك في أسباب غياب الرواية البوليسية في الأدب التركي، وذلك لتشابه الفضائين الاجتماعي والثقافي بين تركيا والبلدان العربية، الأمر الذي أنتج كما نرى السؤال نفسه عن أسباب غياب الرواية البوليسية بالمقارنة، في الحالتين كلتيهما، مع المرجعية ذاتها: غزارة إنتاج الرواية البوليسية في الآداب الغربية. يعزو الكاتب الصحفي والروائي "تشيتين آلتان" ازدهار الجنس البوليسي في الرواية والمسرح والسينما في الغرب إلى المجتمعات الصناعية وحياتها المعقدة التي توفر الشروط الموضوعية لقيام جريمة بتخطيط مرهف، ويتابع قائلا: "أما في المجتمعات الريفية الزراعية كتركيا فلا تعتمد الجريمة كثيرا على الذكاء. فالزوج الغيور الذي يفقد صوابه يلتقط سكينا ويذبح زوجته فورا وينتهي الأمر. أو أن الشخص الذي لديه ثأر ولا يتحرك إلا حاملا سلاحه، يطلق النار على رأس خصمه أينما صادفه. أما في الريف حيث تكثر الخلافات حول ملكية الأرض أو الانتفاع من مصادر المياه، فالتقليد السائد هو أن يكمن الخصم لخصمه حاملا بندقيته. وفي جميع الحالات يعرف كل الناس من قتل من. هذا النوع من الجرائم الفظة على طريقة كسر اليقطينة بوساطة فأس لا تشكل مصدر إلهام للكتّاب. لذلك لم تظهر لدينا رواية بوليسية." ويعارض الروائي التركي "أورهان باموك" تفسير "آلتان" مستشهدا بالكاتب الصقلي "سياسيكا" الذي استطاع أن يكتب روايات بوليسية ناجحة بالانطلاق من جرائم ارتكبت في بيئة ريفية تشبه البيئة الريفية التركية؛ أو بالجرائم "الفظة على طريقة كسر اليقطينة بوساطة فأس" التي ألهمت العديد من الروايات البوليسية الغربية من فئة "الأكثر مبيعا"، بل كادت تكون شرطا مسبقا لسعة انتشارها. سوف نعود لنقتبس المزيد من نص باموك لاحقا لإلقاء الضوء على جانب آخر من الموضوع، ونستكمل الآن عرض آراء المثقفين الأتراك بالناقد الأدبي الأشهر في تركيا "فتحي ناجي" الذي كتب يقول: "ما الذي يحول دون كتابة الرواية البوليسية في تركيا؟ "لهذه الظاهرة أسباب تاريخية، اجتماعية، سياسية من جهة، وأدبية من جهة ثانية. "كتب أرنست ماندل في ختام كتابه الشهير: "الجريمة الممتعة" قائلا: "تاريخ الرواية البوليسية هو تاريخ اجتماعي، لأنه يبدو بصورة متداخلة مع تاريخ المجتمع البورجوازي تحديدا. (...) لأن تاريخ المجتمع البورجوازي هو في الوقت عينه تاريخ الملكية ونفيها، عنيت بذلك الجريمة. (...) لأن المجتمع البورجوازي هو في التحليل الأخير مجتمع جريمة." "تاريخ الملكية عندنا حديث جدا. ففي التاريخ العثماني عرفت الملكية الخاصة أول تشريع لها بقانون الأرض لعام 1858، حيث كانت الأرض وسيلة الإنتاج الوحيدة. وفي العام 1926، بعد قيام الجمهورية ألغي نظام الأراضي الميرية ( أملاك الدولة) بصورة نهائية. "تاريخ الرواية بدوره حديث جدا عندنا. دع جانبا الرواية البوليسية المعاصرة، لم تظهر عندنا حتى الرواية البوليسية الكلاسيكية التي تناولت أشخاصا يرتكبون الجريمة بدوافع فردية من مشاعر انتقام أو جشع، ودأبت على تفسير الجريمة بدوافع سيكولوجية فردية ( كروايات أغاثا كريستي مثلا ). اقتصر الأمر عندنا على روايات بوليسية مترجمة أو "معاد صياغتها محليا"، ظهرت بعدها روايات "محلية" بالتوقيع المستعار: "ميكي سبيلين"، وبضعة روايات تأليف محلي فعلا. مختصر القول، الرواية البوليسية لا تتقدم عندنا، على الرغم من حيازتنا لكل مساوئ المجتمعات البورجوازية دون حسناتها، وعلى الرغم من أننا بتنا مجتمع جريمة... "والحال أننا نشاهد في السينما والتليفزيون أفلاما ومسلسلات بوليسية محلية. "لقد اعتاد صناع الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية على نظام الرقابة إلى درجة أنهم يحددون صفة الشرطي بال"طيب" حتى قبل البدء بالعمل. وهكذا نرى تلك الأفلام تمتلئ بالمديح للشرطة. في حين أن الأمر يختلف عن ذلك في الرواية. فهذه الأخيرة مرغمة على تصوير الواقع الاجتماعي السياسي وتصوير الشرطة بما يتفق مع هذه الواقعية. ليس بوسع الروائي أن يتصرف كمنتج الفيلم أو المسلسل الذي يفكر ب"تجارته" قبل كل شيء. لكن كل روائي يتمتع بالإحساس بمسؤولية الكتابة مرغم على مناطحة المادة 159 من قانون العقوبات التركي التي تنص على ما يلي: " يعاقب بالحبس من سنة إلى ست سنوات كل من يهين علنا أو يحط من شأن الهوية التركية أوالنظام الجمهوري أومجلس الأمة الكبير ( البرلمان ) أو الشخصية الاعتبارية للحكومة أو إحدى الوزارات أو القوات المسلحة العسكرية والأمنية للدولة أو الشخصية الاعتبارية للسلطة القضائية." لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الفقرة الثانية من المادة ذاتها ترى في القرينة سببا كافيا للإدانة في الجرم نفسه. هذا المفهوم الذي يساوي في المكانة والاعتبار بين الشرطة والهوية التركية والنظام الجمهوري ومجلس الأمة والعدالة مقتبس من قانون العقوبات الفاشي الإيطالي، مع بقائه تبقى حرية الكاتب في التفكير والتعبير والقول مجرد حلم بعيد المنال، في حين أن "الدولة البوليسية" واقع معاش. ومع هذين الشرطين لا محل لكتابة رواية بوليسية. "ولكن ماذا عن رجال الشرطة المتورطين بأعمال قذرة، في مقابل الشرطي "الطيب"؟ "لن نسمع بهم إلا على صفحات الجرائد. إليكم هذا المثال: "صدمة في الأجهزة الأمنية بعد اتضاح دور الشرطة في الأعمال القذرة كتهريب السلاح والمخدرات وجرائم قتل وخطف. عزل 631 شرطيا، وطرد 98 من سلك الشرطة" ( جريدة: يني يوزيل، 29 أيلول 1996 )" في عودة إلى الروائي أورهان باموك واعتراضه على وجهة نظر تشيتين آلتان، نقتبس تعليق باموك المطول على قول آلتان: "كل شخص يعرف من قتل من ولماذا": "إذا فكرنا بأن كثيرا من الجرائم يتم ارتكابها على أمل ألا ينكشف الفاعل، أدركنا أن فكرة آلتان ليست صحيحة في جميع الأحوال." ويعود باموك أربعة قرون خلفا، فيمسك بفتاوى أصدرها شيخ الإسلام أبو السعود أفندي ( وكان يشكل أعلى سلطة شرعية في الدولة العثمانية )، بشأن جرائم مجهولة الفاعل. المنطق الناظم لتلك الفتاوى يكمن في المسؤولية الجماعية أو الاجتماعية. على سبيل المثال إذا نشب قتال بين أهالي أربع قرى وقتل شخص بضربة عصا ولم يعرف القاتل، كان شيخ الإسلام يفتي بأن يدفع أهالي القرية الأقرب إلى مكان وقوع الجريمة، دية القتيل. وإذا قتل شخص في الخلاء قرب إحدى البلدات قضت الفتوى بأن يلزم بدفع الدية قاطنو البيوت التي تقع على مسافة من مسرح الجريمة تتيح سماع صرخات القتيل. يكمن وراء هذه الفتاوى إذن مفهوم للمسؤولية الاجتماعية والتكافل الاجتماعي يجعل من كل شخص مسؤولا عما يحدث قربه من جرائم، فيصبح لديه دافع شخصي للإمساك بالقاتل. " لكني لا أريد أن أخدع أحدا" يقول باموك "إن تركيا اليوم هي من الدول التي تحتل مراتب متقدمة من حيث جرائم القتل التي ترتكبها الدولة وتنسب إلى مجهول، وممارسة التعذيب التي اتخذت فيها شكلا مؤسسيا، وكبت حرية التعبير، أي بكلمة واحدة من حيث قمع حقوق الانسان بلا رحمة. بالقياس إلى دول أخرى كنيجيريا وكوريا الشمالية والصين، تتمتع تركيا من الديموقراطية ما يتيح لمواطنيها إزاحة حكومة غير مرغوبة بوساطة صناديق الاقتراع. لذلك من السهولة بمكان ملاحظة اللامبالاة الغريبة للناخب التركي بحقوق الانسان. الأمر الذي يصعب فهمه وتفسيره، هو أن الناس الذين كانوا يشعرون بالمسؤولية نحو جريمة ترتكب قريبا من بيتهم منذ أربعة قرون، لا يشعرون اليوم بأي اهتمام حين تمارس أجهزة الدولة التعذيب في المبنى المجاور وتصل صرخات الضحية مسامعهم." يكتفي باموك إذن بمعارضة المنطق البسيط لآلتان وتفنيده، ولا يقدم جوابا بديلا عن السؤال حول أسباب غياب الرواية البوليسية في الأدب التركي، بل يثير المزيد من الأسئلة. ويمكن الانطلاق من تأملات باموك هذه لملاحظة اتجاهين متناقضين في الممارسة الحقوقية في بلداننا العربية: اتجاه أول ينسجم مع المفهوم الإسلامي التقليدي حول المسؤولية الاجتماعية على صورة الفتاوى التي رأينا عينات منها لشيخ الإسلام في الدولة العثمانية، والثاني ينسجم مع المفهوم الحديث للمسؤولية الفردية. لكن الاتجاهين على تعارضهما لا يؤخذ بهما إلا بما يتوافق مع مصالح القوى المتسلطة. نتذكر مثالا على المفهوم الأول تصريح وزير داخلية لبناني أسبق يتباهى فيه بأنه "اعتقل" سكان قرية لبنانية عن بكرة أبيهم وعرضهم للتعذيب في سياق التحقيق حول مجموعة إسلامية متشددة. وعموما تتعامل السلطات الأمنية العربية مع المواطن بوصفه مخبرا يتحمل مسؤولية كل ما يحدث حوله. في حين على المواطن نفسه أن يتصرف ك"فرد حديث" إذا تعلق الأمر بانتهاكات السلطة، فيتصرف وكأن الأمر لا يعنيه حتى لو كان ضحية هذه الانتهاكات جاره أو صديقه أو أخاه. بل على العكس، من واجب هذا "المواطن الحديث" أن يشي بأخيه أو ابنه إذا كان مطلوبا للاعتقال لأسباب سياسية ( معارضة السلطة ). ونتذكر في السياق ظاهرة اعتقال أهالي أفراد ملاحقين ك"رهائن" في نوع من الضغط على الشخص المطلوب ليسلم نفسه. يمارس النظام العربي احتجاز الرهائن إلى يومنا هذا ( يمكن الرجوع إلى تقارير حديثة جدا لمنظمات تعنى بالدفاع عن حقوق الانسان ). في هذه البيئة "الثقافية" جاء المحقق الألماني ديتليف ميليس مع فريقه من المحققين الدوليين لكشف ملابسات اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري والبحث عن الجناة. إنها لحظة مفعمة بالدلالات: ابن البيئة الثقافية الأوروبية يحقق في جريمة سياسية ارتكبت في بيئتنا الثقافية المركبة حيث العناصر التقليدية والحديثة تتضافر بصورة معقدة لتنتج ثقافة و"اجتماعا بشريا" وأخلاقا وجريمة... كلها من التعقيد ما يدوّخ ميليس و"موسوليني" كما يقول التعبير الشعبي الدمشقي. أتخيل السيد ميليس بعد سنوات - إذا لم يحدث له مكروه، لا سمح الله – وهو يكتب مذكراته حول "رحلته إلى الشرق" على غرار رواية عبد الرحمن منيف "سباق المسافات الطويلة" أو "رحلة إلى الشرق" التي تنظر بعيني جاسوس إنكليزي إلى طهران في عهد مصدّق ( مرورا ببيروت ولو في صفحات قليلة ). على ضوء قراءتنا للتقرير الذي قدمه لمجلس الأمن في العشرين من الشهر الماضي، لا بد أن تكون رواية ميليس أكثر تعقيدا وأكثر غوصا في العمق الاجتماعي الثقافي لمنطقتنا التي تمر بطور انحلال وتفسخ شاملين.
• المراجع: - أورهان باموك: الألوان الأخرى – استانبول 2001 . - فتحي ناجي: مئة رواية في مئة عام – استانبول 1999 .
بكر صدقي
#بكر_صدقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفهوم الوطنية وتحولاته - سوريا ولبنان نموذجين
-
مظاهرة عوكر
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|