أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - سعيد مضيه - دوامة التفاوض-2















المزيد.....


دوامة التفاوض-2


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 5725 - 2017 / 12 / 12 - 14:26
المحور: القضية الفلسطينية
    


دوامة التفاوض-2
حين يهب ترامب القدس لإسرائيل.. لماذا لا نتعلم من تجاربنا ؟!

ماذا يفرق ترامب عن بلفور حين يقف وراء الميكروفون يقرر ان القدس عاصمة إسرائيل؟! القانون الدولي والقرارات الدولية وفتوى المحكمة الدولية، أعلى هيئة قضائية عرفها العالم، تقول ان القدس الشرقية منطقة محتلة؛ اما ترامب فيستلهم مبدأ التعالي على الأمم المتحدة ، يزدري ميثاقها وقراراتها، ويزدري عملاءه ممثلي الشعوب الملونة ويزدري شعوب العالم اجمع. يحذو حذوه نتنياهو إذ يتفرد بالتصفيق له وسط تحذيرات واستنكارات قادة الدول والكيانات الروحية كافة! بأي مبدا في الحياة السياسية يسترشد ترامب ونتنياهو؟ وهل التباس المواقف بدعة في التاريخ؟
يوم عيدكم يوم نكبتنا" شعار جسد العلاقة التناقضية بين شعب فلسطين ودولة إسرائيل؛ وهو مثال مسبوق في التاريخ. سبقه عيد الشكر يحتفل به الأميركيون وتعمر موائدهم بلحم الديك الرومي ذكرى شكر الغزاة الأوروبيين إذ أبادوا بالكامل قرية رفض قاطنوها من السكان الأصليين التخلي عن أراضيهم وصمدوا ببسالة بوجه الغزاة، مدافعين عن الأرض - الوطن. بوحشية قضى الاوروبيون المهاجرون عام 1637 على قرابة سبعمائة من السكان الأصليين، وبات ذلك اليوم عيدا للشكر - للخلاص من مقاومة أصحاب أرض أبوا أن يمر الاستيطان إلا على جثثهم .
على جثث اصحاب الأرض الأصليين تطورت الحضارة الأميركية في غياب القانون وتحت جنح التعتيم على المجازر ونشر الأوبئة الفتاكة والرجوع عن الاتفاقات والغدر بالمسالمين. فضاء الحرية المطلقة للقوة الغاشمة وفر البيئة لتوطد الوجود الأبيض بشمالي القارة، وعلى أشلاء الضحايا من السكان الأصليين نمت الحضارة الأميركية وورثت الطباع الشرسة مع الآخرين؛ وفوق جثث العبيد المستقدمين من أفريقيا على أيدي القراصنة الأوروبيين حققت حضارة البيض قفزات واسعة وازدهرت واكتسبت قدراتها التسلطية. الحق للقوة مبدأ سرى في عروق الحياة الأميركية. والقوة سلاح ومال ، والمال السياسي هو المقرر لعضوية الكونغرس وجميع الهيئات التمثيلية.
في تلك الأثناء تيمن التوحش بأروابه الكهنوتية المزودة بالكتاب المقدس فسمى الغزاة أنفسهم العبرانيين والسكان الأصليين كنعانيين وفلسطينيين. ولهذا فما ان بزغت الحركة الصهيونية حتى تفهمها الجمهور الأميركي ورحب بها وقدم لها الدعم بلا تحفظ . الحق للقوة مبدأ السياسة الأميركية على صعيد العالم بالتباساتها ، وفي القارة الإفريقية انتشرت مستعمرات الأوروبيين البيض. ولأنهم منتصرون اعتبروا انفسهم متحضرين وضحاياهم همج؛ بينما شاعت بين الأفارقة عبارة "أعطونا الإنجيل ونهبوا الأرض". والتاريخ يكتبه المنتصرون.
سجل اندريه فالْتشيك تلك البشاعات، واستذكرها وهو يحل ضيفا على صديق ابيض يقيم في كمبوديا . فالتشيك فيلسوف وروائي ومخرج سينمائي وصحفي استقصاء جوال عبر القارات يتقصى جرائم "الامبراطورية" ( يقصد الولايات المتحدة). قام بتغطية الحروب والنزاعات في عشرات البلدان؛ سجل انطباعاته في ثلاث كتب: "الكشف عن أكاذيب الامبراطورية "، " شاهدت مجازر رواندا" ،و"مجزرة اندونيسيا" واخرج فيلما عن "إرهاب الغرب". كان في ضيافة صديق أبيض يقيم في كمبوديا، ليلة الاحتفال بعيد الشكر ودعاه للمشاركة بالاحتفال. اجاب فالتشيك: لست مغرما بالحفاوة بالمجازر وبنهب الأراضي ! استغرب المضيف، فليس من المعتاد ان يتحدث رجل أبيض عن جرائم البيض.يقول فالتشيك: حقا فالدعاية في اوروبا واميركا الشمالية تصمت عن جرائم البيض ،بينما تنشر على نطاق واسع الجرائم التي يقترفها الآخرون، خاصة خصوم الغرب، تناقشها ، وتحللها وتضخم بعضها، وغالبا ما تختلق.
يمضي فالتشك في سرديته: "في الحقيقة، أطبق الصمت على جميع جرائم الإبادة الكبرى التي اقترفها الغرب أو حلفاؤه في العصر الحديث. بقيت "صامتة"، بما في ذلك جرائمهم في العراق وسوريا وإيران وبابوا الغربية وتيمور الشرقية واندونيسيا وأفغانستان وانغولا وعشرات من الأماكن تعيسة الحظ في أنحاء العالم. لم يطلَق على جرائم الغرب هذا الاسم ، وعبر التاريخ الحديث ظلت دول الغرب تدمر بصورة منهجية جميع ثقافات شعوب الكرة الأرضية ، وتستعبد شعوبها الملونة ، وتنهب وتخرب مستعمراتها، بينما تتم إبادة مئات ملايين البشر، رجالا ونساءً. وحسب إحصائية قام بها صديق من كبار الخبراء بلغت ضحايا حروب الإبادة العرقية المليار شخص. وما لم يتم فضح تلك الجرائم والاعتراف باقترافها لن يكون ثمة مستقبل للبشرية، ولن تجد المشاكل الرهيبة التي تواجه البشرية حلولا لها.
شراكة استراتيجية
بهذه الذهنية الإجرامية جرت مقاربة المشكلة الفلسطينية. شرع المستعمرون البيض الحديث عن فلسطين أرضا بلا سكان لشعب بلا أرض، وذلك قبل قيام الحركة الصهيونية بنصف قرن. واول من بنى المستعمرات اليهودية هم الأميركيون قبل عقدين من شروع روتشيلد تمويل يناء المستعمرات. كان إحياء فلسطين "التوراتية" مشروعا امبرياليا بامتياز ، تنافس على تنفيذه دول الغرب الاستعمارية. هنا يكمن سر الصمت حيال جرائم الإبادة العرقية التي واكبت مسار القضية عبر قرابة القرن. ولتذليل العقبات بوجه إجرام حكومات الغرب جرى ترويج عنصرية العرق الأبيض ضد الشعوب الملونة، ومنها شعب فلسطين والشعوب العربية. وبالعنصرية المنفلتة تم الصمت عن حرب التطهير العرقي الأولى 1947- 1949. ولإتمام الهدف المتوحش شاركت الإدارة الأميركية حكومة إسرائيل في عدوان حزيران 1967، جرى تمويه عملية سلام زائفة لم تسفر إلا عن سلام مصري –إسرائيلي اطلق أيدي إسرائيل لتهويد الضفة الغربية، وشن العدوان العسكري ضد لبنان عام 1982.
"تطورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بعد العام1967 " كما اكد المفكر الأميركي نوعام تشومسكي في مقابلة صحفية؛ قال أيضا "اعتبرت النخبة الأميركية نصر إسرائيل في حزيران إسهاما عظيما في قوة الولايات المتحدة. انتصار حزيران مس عصبا حساسا لدى المثقفين الأميركيين ولقي الترحيب على اوسع نطاق. جاء من يبين كيف يجب التعامل مع محدثي النعمة من العالم الثالث الجديد، ويقصدون ناصر والعرب". انتقل مركز ثقل عولمة الليبرالية الجديدة الى الشرق الأوسط واحتلت إسرائيل مكانة متقدمة في تقرير السياسات الأميركية بالمنطقة، وتعميم الليبرالية الجديدة على بلدان المنطقة .
في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي اقر المحافظون الجدد في برنامجهم مطلب ضم الضفة كاملة إلى إسرائيل ومعها جنوب لبنان وهضبة الجولان وجبل الشيخ، وذلك بهدف تحويل إسرائيل دولة إقليمية تدير دويلات متشرذمة على أسس عرقية وطائفية. بوحي من البرنامج قال غينغريتش ، رئيس مجلس النواب الأميركي حينئذ ان الفلسطينيين مجموعة إرهابيين وشعب تم اختراعه. .فلا عجب ان تنشر نيويورك تايمز مقالا إثر تصريح ترامب المشئوم : «إعلان ترامب لم يدمّر عملية السلام. لا توجد عملية سلام لتدميرها(. ..) العملية (عملية السلام) كانت تعمية مثالية للنمو المطّرد لأعداد المستوطنين الإسرائيليين»
عديدة هي المناسبات التي عبرت الدبلوماسية الأميركية عن دعمها المطلق لتهويد القدس وكامل الضفة. وحين يعفي القادة الفلسطينيون اميركا من الوساطة فإنهم وضعوا أنفسهم في موقف حرج. يتذكرون ولا شك انسحاب الولايات المتحدة من منظمة اليونيسكو ردا على قرارها اعتبار مدينة القدس محتلة . وإذا لم يقنع الموقف الأميركي هواة "العملية السلمية" فكيف يفسر هؤلاء تصويت المندوب الأميركي في الجمعية العمومية ضد اعتماد فتوى المحكمة الدولية بشأن جدار الفصل العنصري. صدر قرار محكمة العدل الدولية في تموز 2004 يدعو إسرائيل لتفكيك جدار العزل ، وصوت مندوب الولايات المتحدة مع اسرائيل ودول أربع اخرى ضد 150 من ممثلي الدول في الجمعية لعمومية للأمم المتحدة في تموز لصالح قرار يأمر إسرائيل بالالتزام بالقرار. ادعى المندوب الأميركي ان الجدار يمكن ان تحل مشكلته على طاولة المفاوضات. بهذا الصدد يتساءل جاك اوكونيل ، ضابط المخابرات المركزية الأميركية في كتاب أصدره العام 2015 (ص239) " .. لم يقم العرب بفعل شيء لمتابعة انتصارهم القانوني . وقد يقول المرء إذا كان العرب لا يكترثون فلماذا يجب ان يكترث أي شخص آخر . وعلى العرب ان يكون لديهم الكثير من الطبول التي يجب ان تقرع: الجدار غير القانوني والمستوطنات غير القانونية ، وحرب العام 1967 غير القانونية والاحتلال غير القانوني ومبادرة السلام العربية وغيرها".
يستذكر جاك اوكونيل ، في مذكراته (241) في حوار مع ريدل، ضابط مخابرات معار لمكتب الأمن القومي وعمل تحت إمرة كوندوليزا رايس قال انه سوف يعود للعمل في وكالة المخابرات المركزية . ومن سيعقبه؟ اجاب: لا ادري، ولكن هل تعلم ما الذي تفعله هي؟ انها تأخذ كل متقدم جاد للوظيفة وترسل سيرته الذاتية الى السفارة الإسرائيلية للموافقة عليه".
-حقا؟! -– نعم وقلت لها ان ذلك ليس من الحكمة في شيء، وردت حسنا اذا لم احصل على موافقة اسرائيل على جميع من هم في المكتب فلن اكون قادرة على إنجاز أي عمل مع إسرائيل. وهكذا فمن الأفضل مواجهة الحقائق فليست تلك هي الطريقة التي أرغب في القيام بالعمل بها". تلك هي مفاعيل الشراكة الاستراتيجية .
استقوت إسرائيل بالشراكة الاستراتيجية واستصدرت لنفسها مناعة من النقد. بات كل هجوم ضد ممارسات إسرائيل أو انتقادها عداء لليهود –لاسامية- او كراهية للذات إن صدر الهجوم أو النقد من عنصر يهودي. ثم أغوتها غطرسة القوة للتشهير بالمقاومة الفلسطينية إرهابا! يسجل اوكونيل في مذكراته(150):
"بعث عضو بالسفارة الإسرائيلية (بواشنطون) خطابا إلى حكومة أسرائيل قال ‘ أن حق تقرير المصير اميركي’ ، واقترح خطوة مضادة مشيرا الى أن ‘ الإرهابيين لا يتمتعون بحقوق ، لذلك اذا استهلت أي إشارة للفلسطينيين ومنظماتهم وزعمائهم بكلمة ‘إرهابي’ فذلك سيلغي حق الفلسطينيين في الحقوق، ونجح في ذلك . وفي الواقع ان مفهوم ‘الحرب على الإرهاب’ بدا العام 1978، من بذرة ‘تقرير المصير’ ، وليس العام 2001 مع هجوم القاعدة. ومن اجل مفاقمة التناقضات فازت حماس المنظمة الفلسطينية ‘الإرهابية’ في الانتخابات الحرة التي قامت على حق تقرير المصير".
بين مقاومة التهويد وتحرير فلسطين
يستشف من أقول قادة الفصائل على الفضائيات خلط خطير بين الحراك الجماهيري وبين عمل عسكري اشتط في تطلعاته حتى الإطاحة بدولة إسرائيل. هكذا ببسا طة على الهواء، متجاهلين ان المقاومة الفلسطينية واجهت مرارا الهزيمة جراء استخفافها يقوة العدو. فلماذالا يتعلمون من دروس الماضي القريب؟! لدى إسرائيل احتياطي استراتيجي لم تصر على الاحتفاظ به لغرض التباهي ، إنما لاستخدامه وقت الزنقة. بالفعل فكرت غولدا مائير استخدام القنبلة الذرية في حرب حزيران 1973.
العمل المسلح المباشر قد يعطل الحراك الجماهيري المفقود منذ زمن، والمهيأة له الظروف إثر القرار الاستفزازي من إدارة ترامب. تجربة انتفاضة 1987 معبرة في هذا السياق. فقد تواصلت مظفرة تنجز مكاسب، الى ان دخلت الفصائل في سباق خلف العمل المسلح؛ وهو ما وفر الفرصة لجيش الاحتلال التعامل معها بالقوة المسلحة المضادة والمتفوقة. في هذه المرحلة أقر الكنيست قانونا يسمح بموجبه لحمَلة السلاح ، عسكريين او مستوطنين، بإطلاق النار إذا ما قدر احدهم او مجموعة انه يواجه الخطر. وقد دفع الشعب الفلسطيني غاليا من ضحايا القتل العشوائي. وبينما كان الجيش يقوم بمهام شرطية في بداية الانتفاضة السلمية تحولت الشرطة الإسرائيلية بعد عسكرة الانتفاضة إلى جيش مسلح بأدوات القتل والتدمير. وهي تجربة زودت بها شرطة الولايات المتحدة في التصدي لتحركات السود. وتعقد شرطة إسرائيل مؤتمرا كل عام يحضره ضيوف من الولايات المتحدة وغيرها من الدول التسلطية، تقدم فيه خبراتها المكتسبة في التعامل مع الحراك الجماهيري، إلى جانب ادوات المراقبة الإليكترونية وغيرها من الأجهزة الأمنية المنتجة حديثا . انجزت إسرائيل خبرات واسعة في مجال التعامل مع الحراك الجماهيري ، بينما لم تطور المقاومة الفلسطينية خبراتها في المجال.
وأثناء ما سمي الانتفاضة الثانية افلح إيهود باراك ثم شارون في استدراج الفصائل الى العمل المسلح. انجراف غير مرشد اوقع المقاومة الفلسطينية في مأزق تنبهت له الفصائل المشاركة، وأدركت انها تجر ألى مواجهة غير متكافئة . أرادت التراجع ، لكن شارون منعها من التراجع. راح يغتال كوادر من الفصائل كي يعفي الفصيل نفسه ولوحده من التهدئة وينتقم. يدرك شارون هذا التقليد الذميم في ثقافتنا المرتبطة بالعصر الوسيط؛ الانتقام بحد ذاته انحراف عن الهدف الاستراتيجي. المهم ان التجربة المريرة اطلقت مدحلة الاستيطان وراحت الفصائل المسلحة ترقبها وهي مكتوفة الأيدي.
الفصائل الفلسطينية فهمت خطأ عبارة لينين "الانتفاضة المسلحة ارقى أشكال الثورة". تجربة ثوة أكتوبر أعمق واوسع ثورة عرفها التاريخ لأنها بدات حراكا جماهيريا راح يتسع ويتصاعد إلى ان بلغ مرحلة اللجوء الى السلاح. الكفاح المسلح غذى الحراك الجماهير ولم يعطله او يعيقه. لم تلجأ الثورة مطلقا إلى الإكراه، ومن أسخف الأمور في نظر لينين استخدام العنف او الأوامر لدى التعامل مع الجماهير. فقط التوعية ثم التثقيف من خلال النشاط المثابر لكوادر الحزب في اوساط عمال المصانع والوحدات العسكرية وفي الأرياف. انجزت بنجاح خطوة تعبئة اوسع الجماهير، فتهيأت الظروف، من ثم ،لأوسع ديمقراطية عرفها التاريخ، انتقلت إلى اعمق واوسع ثورة دشنت مرحلة تاريخية جديدة في حياة البشرية. بيسر استطاع العمال والفلاحون والجنود الإطاحة بحكومة كيرنسكي، وبنجاح تم التصدي لتدخل جيوش 22 دولة. تحققت وحدة كفاحية بين القيادة والجماهير سداها وضوح الهدف الاستراتيجي والحماس الثوري المستلهم من قيادة ثورية تدرك الاستراتيجية والتكتيك.
على العكس من هذا الوضع الثوري كان إغفال الجماهير وتجميد نشاطها العملي السبب الرئيس لتعثر عملية البناء الاشتراكي وانهيارها. دأبت القيادة السوفييتية منذ ثلاثينات القرن الماضي تذلل العقبات وتقارب المشاكل بالأوامر الإدارية. حتى النقابات العمالية بدلت بوصلتها: بدل الاسترشاد ينبض الجماهير راح النقابيون يصغون لتوجيهات الإدارة البيروقراطية من فوق.
كل خطة سياسية تقتضي خطة تنظيمية وثقافية ، حيث يتفاعل التنظيم مع الوعي في وحدة جدلية. نظرا للبيات الشتوي افتقدت سياسات المقاومة رديفها الثقافي، وهي عاهة لازمت النشاط السياسي الفلسطيني منذ عشرينات القرن الماضي؛ ولهذا منيت بالنكسات. نخلص إلى القول بضرورة توفير إمكانات انتشال الجماهير من الحيرة ومن تضليل الوعي، واستنهاضها إلى النشاط الوطني لوضع حد لغطرسة إسرائيل. يتوجب على فصائل المقاومة الفلسطينية تجديد ثقافة المقاومة وتنقيتها من الأفكار المتخشبة ؛ عليها العمل على تقديم ثقافة تنويرية تضوي الواقع وترشد الحراك الاجتماعي. لماذا أُغفِل بيان إعلان الدولة الصادر عام 1988 وحظي بقبول إجماعي من قبل الفصائل الوطنية كافة؟
نظرا لأن الثقافة تحيل على النشاط العملي والممارسة السياسية للأحزاب والقوى التقدمية، فإن تحريك الجماهير للنشاط العملي من اجل تغيير اوضاع البؤس يمضي عبر وضع مهام قصيرة الأمد يبعث النجاح في إنجازها حماسة الجماهير ويرفع معنوياتها وثقتها بإمكانية التغيير. المقاومة الشعبية حراك جماهيري موجه يمنح الجماهير ثقة بالنفس وقوة إرادة يتم البناء عليها . يقتضي تنشيط المقاومة الناجعة للأبارتهايد توفير شروط الصمود بوجه نهج الإفقار وتضييق سبل العيش والحصار التي ينتهجها الاحتلال في الأراضي المحتلة. يتكامل في هذا الميدان نشاط المثقف مع نشاط الأحزاب السياسية. والمثقف النقدي يسهم في توفير شروط تصعيد النشاط السياسي وتنويره.
في ظروف الجمود الثقافي تخلفت الثقافة الوطنية عن استيعاب منجزات الأبحاث التاريخية والحفريات الأثرية. وبينما يسوغ نتنياهو ممارساته الاستيطانية وتمرده على الشرعية الدولية بالحق الزائف في " وطن الآباء" فإن الفصائل الوطنية تحجم عن الاستعانة بمعطيات الأبحاث الأثرية لترد عليه بمنطق العلم .
العلاقة جدلية بين حب الوطن والتمدن، الذي يوفر الحقوق التي تغذي حب الوطن ، ومنها الحق في الحرية والعدل والمساواة والحق في التعلم والمعرفة. وبهذه الحقوق وغيرها يتغذى حب الوطن ، يزدهر ويتعزز. تنمية الوعي بالحقوق جزء عضوي من التنمية الاجتماعية، تدخل الكتاب عنصرا وعاملا سياسيا أساسيا في الكفاح الوطني. من خلال دمج التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي بعلاقة عضوية جدلية مع تعزيز قيمة المواطنة تصفى العصبوية وكيلة الهيمنة الأجنبية، سواء كان التعصب طائفيا او عشائريا او عرقيا.
موضوعتان لم تنجزهما الثقافة الوطنية في العالم العربي ، وتبدي الأنظمة الأبوية إصرارا على إغفالهما او التحايل عليهما : تحديث التعليم وتجديد الخطاب الديني، بتأسيسه على العقل وعلى المصلحة العامة. وحيث يصعب أن يكون الخطاب الديني جزيرة عقلانية في محيط لا يقيم للعقل والعقلانية وزنا، فإن تسييد العقل يتم من خلال تحديث العملية التعليمية . من صميم مهام التطور الديمقراطي اضطلاع التربية بمهام تعزيز مناعة المجتمعات ضد التفتيت العصبوي والتركيز على التوجه القومي في مجالات الاقتصاد والثقافة والسياسة مع تضمين مناهج التعليم مساقات تحث على التسامح واحترام الحريات وقبول الآخر. ان ترسيخ هذه القيم في الحياة الاجتماعية يجتث النزعات الانفصالية والتجزيئية، حيث يتغلب الانتماء للدولة وللإنسانية، وليس للقبيلة او الطائفة أو المذهب .
التربية الديمقراطية ترتكز اولا على استيعاب الجماهير مهارات التفكير النقدي الضرورية لمساءلة اكاذيب الدعاية المضادة التي تبثها دعاية الليبرالية الجديدة ووكلائها، إلى جانب الاحتراز من الوعي الزائف. لا تنتعش الديمقراطية إلا في مجتمع تتعلم جماهيره تطوير قدرة التفكير النقدي ومهاراته، بحيث يناقش الأكاذيب الرسمية ودعاياتها. فأبرز عناصر التربية النقدية ذات التوجه التقدمي تربية ملكة النقد وتعزيز التخييل العام لنصرة الديمقراطية.هكذا يكتسب التعليم في المدرسة والجامعة أهمية فائقة في بناء حياة اجتماعية عصية على القهر والاستلاب.
وحيث ان جوهر أزمة المقاومة الفلسطينية ثقافي، ومكمن قصورها هو غياب أو تغييب الثقافة النقدية واكتفاؤها بالأفكار المعلبة الجاهزة وربما المستهلكة، فإن الرسالة السياسية لقوى التغيير الديمقراطي تتمثل في تناول العملية التربوية قضية سياسية يتم من خلال تحديثها نشر التفكير النقدي ونقل الرؤية العلمية لواقع المجتمع المراد تغييره والحياة الدولية التي تجري فيها عملية التغيير.
التربية الديمقراطية تنطوي على ثقافة إنسانية وطموح بالاستناد إلى منهجية علمية تعتمد جدل الفكر والممارسة. وفصائل المقاومة مكلفة بتعرية الثقافة اللاإنسانية ، تلك التي توحش البشر وتشيع الفردية العازفة عن الصالح العام، واكثر من ذلك تعيدهم إلى مرحلة الهمجية، ترصد اتجاهاتها وتكشف عن منابعها. إن تهميج المجتمعات البشرية، والتي رصد بعض معالمها أكاديميون ومثقفون في أميركا والعالم ، عملية سياسية انتهجتها الليبرالية الجديدة منذ سبعينات القرن الماضي. حيال التصحر الوجداني المنتشر على أديم الحياة، تضطلع الثقافة بتوفير الشروط والقيم والممارسات الضرورية للنهوض بالمسئوليات المتوجبة علينا كمواطنين لتعرية ثقافة القسوة والعنف والتضامن مع ضحاياها ، علاوة على مقاومة البؤس البشري واستئصال الظروف المنتجة للبؤس.



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اكتوبر وسؤال الانهيار- البيروقراطية احتكرت حل المشاكل
- دوامة المفاوضات مع الأ ردن .. إسرائيل لا تنوي التنازل عن الض ...
- أكتوبر وسؤال الانهيار-1
- راهنية افكار اكتوبر
- تحية لذكرى أديبنا الراحل عدي مدانات
- أعظم قضية ضمير في العصر الحديث -4
- أعظم قضية ضمير في الفصر الحديث -3
- أعظم قضية ضمير في العصر الحديث -2
- أعظم قضية ضمير في العصر الحديث
- اسرائيل تستقبل مئوية الوعد عاجزة عن اداء دورها الوظيفي -3
- إسرائيل تستقبل مئوية الوعد محمية اميركية
- كيف تستقبل إسرائيل مئوية وعد بلفور
- مع خفوت منارات أكتوبر
- 11 أيلول تخطيط اخرق وتحقيقات خرقاء لعملية همجية
- نأكل ونلبس مما ننتج ..نداء الصمود والتحدي
- جولة خالية الوفاض والتفاوض تكتيك يمنح نتنياهو مهلة لإنجاز مش ...
- المخاطر ما زالت تحدق بالأقصى
- هل ينجو اتفاق بوتين –ترامب من فيروس النزعة العسكرية العدواني ...
- أطماع الهيمنة الإقليمية تتسلق ذرى جديدة ولا جنوح للمسالمة
- أميركا : دبلوماسية تخاتل ومشروع هيمنة كونية يقاتل


المزيد.....




- لبنان: غارة مسيّرة إسرائيلية تودي بحياة صيادين على شاطئ صور ...
- -لا تخافوا وكونوا صريحين-.. ميركل ترفع معنويات الساسة في مخا ...
- -بلومبيرغ-: إدارة بايدن مقيدة في زيادة دعم كييف رغم رغبتها ا ...
- متى تشكل حرقة المعدة خطورة؟
- العراق يخشى التعرض لمصير لبنان
- مقلوب الرهان على ATACMS وStorm Shadow
- وزارة العدل الأمريكية والبنتاغون يدمران الأدلة التي تدينهما ...
- لماذا تراجع زيلينسكي عن استعادة القرم بالقوة؟
- ليندا مكمان مديرة مصارعة رشحها ترامب لوزارة التعليم
- كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب ...


المزيد.....

- الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024 / فهد سليمانفهد سليمان
- تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020- / غازي الصوراني
- (إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل ... / محمود الصباغ
- عن الحرب في الشرق الأوسط / الحزب الشيوعي اليوناني
- حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني / أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
- الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية / محمود الصباغ
- إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين ... / رمسيس كيلاني
- اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال / غازي الصوراني
- القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال ... / موقع 30 عشت
- معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو ... / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - سعيد مضيه - دوامة التفاوض-2