|
( كاظم اللايذ ) شاعر المدن
جمان حلاّوي
الحوار المتمدن-العدد: 5723 - 2017 / 12 / 10 - 21:31
المحور:
الادب والفن
( كاظم اللايذ ) شاعر المدن جمان حلاّوي حين تكتب عن الشعر فأنك تدخل الى منطقة محرّمة في نفس الانسان الشاعر . الشاعر ليس كالقاص والروائي فالأخير يكتب سرداً للآخرين ؛ انه يكتب لنا نحن القرّاء المتلقين ، اما الشاعر ففنه موضوع آخر : أنه يكتب لنفسه عن نفسه مما يفيض من مشاعره . لذلك فالنقد الشعري هو عملية اقتحام لخصوصية الشاعر ومشاعره ، لكنه اقتحام شرعي لأن الشاعر وبرضاء نفسه قد نشر ما احسّ به ، وطُبِعَت كلمات احساسه لتعرض في سوق الكتب وفي متناول الجميع . مع ذلك فالكتابة عن هذا الموضوع هو تدخل كبير في خصوصية تلك المشاعر التي لم تكتب لنا بل مايفيض من عقل الشاعر حين تتخمه الكلمات وتحرقه الابيات والسطور فيقيأها . الشاعر كاظم اللايذ .. كانت معرفتي به بسيطة من خلال جلسات اتحاد ادباء وكتاب البصرة في اصبوحات ايام السبت من كل اسبوع ، لكن حين استمعت الى قصيدته في احدى تلك الاصبوحات احتفاءً بمناسبة صدور المجموعة الشعرية الكاملة للشاعر ( كاظم الحجّاج ) والذي يحمل اسم ( كاظم ) ايضاً لنعرف أنّ الكواظمَ يملأون البصرة اكثر مما هم في مدينة الكاظم (الكاظمية ) في بغداد مثلاً ! حينها شعرت أني امام شاعر اكتشفته ليكون من القلة جداً ممن اثّر بي وتأثرت في اسلوبه وثيماته ومقتنياته الفكرية الفنية في اللغة العربية طبعاً ممن قرأت او سمعت (هذا رأيي الشخصي ) . شاعر يحتويك ببلاغة لغته ، وبسياحته الشعرية إذ يأخذك دون جواز سفر الى مدن حيّة تتنفس او غابرة مندرسة ، يصفها كما لو أنه قد عاشها ؛ يستعير ويتداخل ، ويؤسس لجملٍ شعريةٍ بلاغية مليئة بالاستعارات ، يمنحك سفرة تخيلية دون اقحام وتصنّع . حين تقرأ شعره تسمع كلماته وهي تهمس في اذنيك فلا داعي لأن تقرأ مستخدماً عينيك . ان كاظم اللايذ شاعر سوّاح يحمل جعبته ويخترق الاسوار ، يعبر الانهار ، يغور في الارض ويطير فوق سماء المدن لتمتلئ جعبته بالحكايات ورمال الشواطئ وتعاويذ شعوب عاشت وتنفست وتحركت بسحرها خلال طواطم اجدادها الخبيئين ادراج الكهوف . وبالتالي أنا متحرّق لنشر نص اول قصيدة سمعتها له ، وانا واثق كم ستغرمون بها وتعجبون بفنّها : ثلاثةٌ من الجنّ ، يلبسون طواميرَ من وبر الإبل وطرابيشَ من ريش الصقور وينتعلون خُفافاً من جلود اليرابيع .. يقتحمون عليّ دكّانتي في ( أم البروم ) ويسلمونني جراباً من الأطراس والقراطيس يقولون لي بأصواتٍ تُشبه مواء القطط : نحن التوابع من سكنة وادي عبقر سدنةُ الحكمةِ وملهمو الأشعار سلّمْ هذا الجراب لصاحبنا الأنسيّ " أبي أنيس " ابنِ عبدالجليل (*) .. ثم بلحظةٍ يختفون تاركين وراء ظهورهم خيطاً من دخان
***** في قرية من قرى بطائح الجنوب ليس بعيداً عن الشجرة التي أكل منها آدم الفتيان بالدشاديش يدخلون البساتين عيونهم معلّقة في الأعالي هم الآن لا يبحثون عن البلابل والفواخت انما يحملقون في العثوق والعراجين يريدون أن يحظوا بأول الرطب الفتى الواجم النحيل (*) أكثر الفتيان تحديقاً في السموات لم يكن يبحث عن الفواخت ولم يكن يبحث عن الرطب ***** الفتيانُ بالدشاديش مصطفون على الشاطئ كأنهم تماثيلُ من الشمع خيوطهم مدلاة في الماء وعيونهم مركوزة في النهر .. الفتى الواجم النحيل أشدّهم تحديقاً في الماء لم يكن يبحث عن السمك
***** طائر الكركي المهاجر ذو المنقار الطويل والصوت الذي يشبه قعقعة الحرب ذلك الذي أَلِف انْ يسيحَ في الآفاق ويسابق القوافل على طريق الحرير تأخذه الريح ذات شتاء الى محلة " الفيصلية " وحينما يأنس بالمكان يرفع عقيرته بالأناشيد الأناشيد التي سمعها من قبل في سهول منشوريا وهو يرافق الماويين في زحفهم العظيم الأناشيد التي سمعها من الهنود الزاحفين خلف غاندي على قلاع الإنكليز.. الأناشيد التي يرددها عمالُ السفن المنحدرين مع نهر الفولغا من منبعه في تلال الجليد الى مصبه في بحر قزوين أناشيد ثوار الجزائر في جبال الأوراس وفي غابات تلمسان أناشيد " السفربرلك " المأخوذين عنوةً الى سوح القتال أناشيد السائرين الى الإعدام في سجون فرانكو وموسليني وشاه أيران
***** مافتيءَ طائرُ الكركي على حائط الطين يسكب في قلب الساهم النحيل أناشيد الأمم وأساطير الشعوب.. حتى رأى الناسُ ذاتَ يوم طائر الكركي يقود صاحبَهُ النحيلَ الى السجن **** وحينما يمتلئُ العالمُ بالظلام تنحدرُ الحيتانُ في البحارِ كي تهجعَ في قرارة الأعماق . وترجع الأبقار من حقولها ومن فسيح برّها تنسحب الغزلان وترجع الطيورُ للأوكار ويغلق النادل باب الحان والحارس الليلي في معطفهِ يدور حول السور كيْ يشـــــدّد الأقفال وتطبع الأمُّ على رضيعها قبلتَها وتسدل الستار... ولم يعد يُسمع غيرُ همسةِ الرياحِ للرياحِ والظلام للظلام لوحدها .. في هذه المدينة المطفأة العمياء لوحدها , نافذةُ الشاعر (*) في عليائها تَشــــــعُّ بالضياء .. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) إشارات الى الشاعر كاظم الحجاج قصيدة مُلآى بالمدن والحكايا ، تسبر دواخلك بهدوء وهمس . هل هذا شاعر ام ساحر ؟! ثم حين نتصفّح ديوانه الشعري الاخير : ( على تخوم البرية .. اجمع لها الكمأ ) تصادفني ست وعشرون قصيدة ، لكنها في الحقيقة ست وعشرون ايقونة مضيئة . اوقفتني قصيدة ( الانهار العظيمة ) ص 68 حيث قال : الانهار العظيمة قرينة الخلود صاحبة الزمان شاهدة الوقائع وأهوال القرون .. .. الخ ثم تأتي سلسلة الانهر ، فالفرات: على ضفافه انحنى كهنة اوروك ليخطّوا على طينه اول الحروف .. وقبل ان يجيء النيل : كان هناك الرمل وكانت الصحراء وكانت الذئاب وحين اتى قال لها كوني : فكانت مصر .. والمسيسبي : ظل يستمع دهوراً الى قرع طبول الهنود الحمر الى ان جاء الرجل الابيض ليسكتها الى الابد .. الفولغا : الضاج بالاشرعة والدلافين.. الكنج : النهر المعبود النازل مهرولا من قمم الهملايا منسفحاً في السهول والبراري .. الامزون : يبتديْ حكايته نهراً صغيراً ثم يندفع بمائه الفوار متلوياً مثل افعى عبر السهول والشعاب والمفازات حتى يصير اعظم الانهار .. انهار .. وانهار .. وانهار كانت هي التي تختار بنفسها الوادي الذي تسيل فيه والبقعة التي تغمرها وهي التي تحدد مواعيدها مع السنابل والفلاحين والصيادين وطيور الماء كما انها هي التي تختار البلدة التي تنكبها والقرية التي تمحقها .. فقد كان سلطانها فوق السلاطين والوهيتها فوق الآلهة .. .. الخ ثم تأتي قصيدة ( العم أحمد ) ص 50 لتثري ابياتها ساحات القرى الريفية المتربة وبيوتات الطين والجالسون تحتها حلقةً حول مائدة الغداء او كوة النار وإبريق الشاي : في كل عيد يأتينا عمي أحمد من قرية " كتيبان " ماشياً على قدميه .. .. الخ ثم يقول : لأن له دروبه التي يعرفها يدوزن على ترابها شسع نَعلهِ يعبر على قناطر من جذوع النخيل ويعجبه ان يتملّى صورته في الماء مثلما محارب قديم ذاهب الى المجد .. وكانت قصيدته الموجعة ( لماذا فعلتها ايها الوغد ) ص53 موضحاً عنوانها ومحتواها كالآتي : في 5/1/ 2015 .. تركني لؤي الناهي .. ومضى .يقول فيها : ولم يتركوا لك أي خيار ؟ على عجل غسلوا وجهك بالكافور والبسوك ثيابك البيض وطرحوك في صندوق الخشب ثم طاروا بك عبر المفازات ليودعوك هناك في الرمل ويغلقوا حفرتك الى الأبد هكذا يعيد الشاعر ذكراه عن صديقه المتوفى في الغربة حين يدعوه بالوغد لأنه قد تركه دون استئذان ! اما قصيدة ( هرات ) فكانت نسيجاً من مدينة افغانية او مسلخ اوباش : الاسواق هناك لها قُببٌ مثل قباب المسجدِ عائمة في زرقةِ بحر الحجر القاشان تنزلمن أسقفها أسلاكٌ تتدلى منها أسرجة وقناديل .. واحياناً .. يتدلى إنسان قصيدة ( النوتية الهنود ) كان لها منحى خاص لديّ . وظلت تلحّ عليّ وتذكرني بالمجموعة القصصية الاولى للروائي المغترب ( جنان جاسم حلاّوي ) عام 1981 والتي كانت بعنوان عرائس البحر . تقول القصيدة : حينما اشتعلت الحرب .. واحتبست في " شط العرب " البواخر والسفن وتقطّعت بالبحارة السبل تحت سماء ملبّدةٍ بالدخان والرعب والجنون .. ظلّ النوتية الهنود - اولئك الذين كانوا يأتوننا من أعالي البحار بجوز الهند ، والأسماك المجففة ، والبخور والعنبة ، و " حلوى مسقط " يبيعونها على سواحل البصرة ثم يعودون الى أوطانهم بالتمور بسفنهم المصنوعة من الخشب والاساطير - ينتظرون بفارغ الخوف توقف القتال .. .. ألخ
ان للأسماء معنى في شعر كاظم اللايذ ؛ انها ليست محض دلالة للقارئ المتلقي بل هي كيان له حياته وفلسفته ومماته الجلل : فالانهار تبكي حيناً وتمحق أحياناً اخرى . والمدن تحزن وتحتضن والقرى هي رجال اشداء امام العدو تسافر مع الراحلين في ذكراهم وتحنو على العاجزين تدافع عنهم ، وتموّه الغادرين . وان للمدن حين يصفها الشاعر وهي تتحرك بثورتها مع الشعوب منحى اممياً رائعاً . ان الشاعر كاظم اللايذ الانسان هو شاعر المدن وساحر الكلمات .
ملاحظة : للشاعر خمسة دواوين اخرى ( ولا تعتبر بروباغندا للشاعر ابداً ، بل هو شاعر فحل يسحبك للقراءة والتأمل . وتمنحه مهارته وفلسفته في الحياة وشعريته النادرة ليأخذ الصدارة بين الاسماء الكبيرة من شعراء العالم : 1- في الطريق الى غرناطة 1996 2- النزول الى حضرة الماء 1999 3- أطراس حارس الزمن 2012 4- دفتر على سرير الرجل المريض 2014 5- بوابات بصرياثا الخمس 2015
جُمان حلاّوي
*************************** ***********
#جمان_حلاّوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إيضاح الروائية ( بسمة النمري ) حول روايتها ( المُنشَدِه )
-
ضوءٌ على رواية ( ألمُنشَدِه ) للروائية بسمة النمري
-
منى الصرّاف .. ذاكرة الذات ( قراءة في ديوان - قلب يتعرق - لل
...
-
الأدب الروائي العراقي من خلال تجربتي في الرواية
-
آراء حول تقنيات نص روايتي ( أرض الجنة )
-
معالم فن التشكيلية ( بسمة نمري )
-
مفهوم الأسطورة ونشأتها
-
رأي ٌ في مفهوم الوطن والمواطنة
-
الأم الكبرى في الديانات القديمة
-
ردا ًعلى كتاب إحسان وفيق السامرائي ، وما جاء فيه
-
مهرجان الفلم الوثائقي اللقطة الشجاعة
-
كتاب التربية المسيحية
-
لماذا الحوار المتمدن ؟
-
ألطقسيّون
-
قراءة جديدة لقصائد مليكة مزان
-
مفهوم الدولة والنقابة ( عرض تاريخي )
-
كراسي ( مشهد كوميدي )
-
صناديق
-
ماهيّة الايديولوجيا الدينية
-
حدث ذات صباح في البصرة ( سيناريو فلم قصير )
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|