محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 1473 - 2006 / 2 / 26 - 08:45
المحور:
الادب والفن
بقدر ما كان يحاول نسيان ماضيه المثقل بالهم ليبدأ من جديد , عله يصادف نفحة أمل على مفرق ما متلبسة في ركن من سنته الجديدة التي تلي سنوات القهر التي وسمت الفترة السابقة من عمره , وليضع حجر الأساس لفترة لاحقة يكون منسوب القهر فيها في المستوى الأدنى بالنسبة لمنسوب الفرح والمتعة , كان هذا الماضي يطارده , بل يتلبسه , يضع يده بيده ويجبره على الارتحال معا . كلما كان يحاول الهروب منه مزوغا في أزقة حياته الجديدة يجده لاصقا به لم يغادره , ما يكاد يخطو بضع خطوات إلا ويراه كامنا له في أول منعطف يمد له لسانه ساخرا ومتشفيا . حاول مرارا أن يخاصمه , أن يضلله , يخادعه , أن يقذف به في أول حاوية تصادفه , وما أن يخطو متخففا منه وحرا يجلله شعور فرح قلّ أن جربه , حتى يجده ينتظره على أول مقعد في أول كافتريا دخلها احتفائا للخلاص منه . كم مرة صرخ في وجهه أن يتركه ويحل عنه دون فائدة , كان يشاركه كل أشيائه , كل أوقاته , حتى في فراش زوجته .
ولكنه عندما كان أحيانا قليلة ينجح في إلقاء ماضيه ردحا من الساعات خارج ساحة الشعور لديه يشعر بشوق لا يوصف له ويقول في نفسه لم يطق صبرا دون ماضيه , وصار يتلهف لقاءه , ولما يلتقيان ثانية وتلتقي نظراتهما يبتسمان , يشعران بشوق لا يوصف, وينخرط فور اللقاء باجترار كل الذي كان بينهما , لا يدع يوما من الذي حدث إلا ويجره من شعره ليكون ضيفا , وما أن تمضي ساعة وهو على هذه الحال حتى ينتبه لنفسه , فينتفض ثانية ويقول لنفسه إن تداعي تلك الأفكار بين ماضيه ورغبته في نسيانه دفعته ليستدرك فجأة ويسأل نفسه مستغربا : <كيف يمكن أن أكتب عن حياتي إن أنا نسيتها ؟ هل حقا يمكننا أن نشفى من ذاكرتنا ؟>.وأدرك من توه كم هو الماضي شديد البراعة وهو يموه نفسه بأشكال لا حصر لها ليبقى معه , تنكر في زي قصيدة , في فكرة قصة قصيرة أو قصيرة جدا , في ملامح الوجه الذي لم تكتمل ملامحه بعد , إنه ظله , إنه مثل الهواء الذي يستنشقه , إنه لا ينتهي أبدا , ربما يسهو قليلا لكنه لا بد أن يعود , إن نسيه في النهار فإنه يتشبث بتلاليبه ليلا بحجة أنه يخاف الظلمة , وإن تركه في الليل لاحقه أثناء النهار بحجة خوفه الأماكن الغريبة . يذكر أنه قرر مرة أن يودعه وداعا لا لقاء بعده وأقسم على هذا وصمم , لكن عندما كانت تعبق بالذاكرة رائحة أصدقائه الشهداء الذين قضوا هناك في ظلال الجدران الرطبة ذات اللون الأصفر الشاحب حيث ضمته وإياهم , حيث مارس طقوس الشباب الذي اغتصب , هناك لعب ولها كل أنواع اللعب الذي لم يسمح له نشاطه في العمل الحزبي وفي صفوف المقاومة خارج الجدران الصفراء , هناك حيث بدأ مشروعا لنفسه في بناء ثقافته وإنضاج ولاءاته السياسية والفكرية , هناك حيث مارس وللمرة الأولى أولى محاولاته ككاتب هاوي للشعر والقصة والقصيرة , هناك حيث قضوا يقاومون اللون الأصفر الشاحب بذاكرتهم الخضراء , واجتياح الرطوبة بذكرى الشمس . تأتي إلى ساحة شعوره في الحال صور الجلادين التي دأبت تصاحبه في يقظته وفي نومه , وتنتعش أصوات المعذبين وصراخ الجلادين غضة في ذاكرته , فينسى يمينه وتصميمه , ويأتيه صوت عتيق تعوده فتلبسه:< كيف يمكن للإنسان أن يتخلى عن نفسه بهذه السهولة , وإذا أراد هذا فهل يستطيع؟؟ كيف يمكن نسيان الأشياء التي ساهمت في أن نكون على ما عليه نحن اليوم ؟والوعي الثقافي الذي كوناه عبر خطط سنوية هناك ؟ واللغات التي تعلمناها , والذاكرات التي تعاهدنا أن ندونها ؟ أحلامنا ؟ آمالنا ؟ وذلك الدفء الإنساني الذي كان يصبرنا في حصرنا بين الجدران الرطبة؟ شموخنا وصمودنا الذي عربد في رأسنا خلال تلك السنوات ليواسينا ؟ هل يمكن أن نتخلى عن بعضنا بكل هذه السهولة؟ > يجيب صوت صديقه الشهيد معتذرا دون اعتذار, يقبل صوت صديقه ويعود إليه حزنه الذي لم يخلعه منذ أن فارق صديقه بين ذراعيه الحياة, وأحس أن هذه المدينة التي يجول شوارعها لا تخصه , إنها مدينة الآخرين , وأحس بشوق شديد لمدينته هناك , ذاك المكان الغارق بالأحزان والصراخ والتأوهات , هناك حيث المكان الذي استهلك فيه صباه وشبابه , المكان الذي لا يفارقه , وتتوه روحه وتحتار بين محاولة النسيان وبين محاولة البدء من جديد .
يجلس إلى طاولته , أحس بأن لديه أفكارا كثيرة عليه أن يدونها , جمع الأوراق المبعثرة أمامه , كان بعضها مسودات قد دون عليها بعض الأفكار لمقالات سياسية ربما ترى النور وربما لا ترى , وبعضها الآخر أفكار أولية لقصة قصيرة , ولبعضها ربما قصيدة ما زالت بلباسها الداخلي تنتقي فستانا لم تستهدي بعد إلى لونه , وبعضها بيضاء تنتظر منه بعض الكلمات لتدب فيها الحياة فتصير أياما يجتاز بها الصمت إلى الذاكرة . وراح يسأل نفسه وبعض الكلمات تلوكها مخيلته : < هل الورقة مدفنة الذاكرة , ندفن فيه رماد الحنين الأخير وبقايا الخيبة الأخيرة ؟ من منا يكتب الآخر أنا أم الورقة ؟ هل حقا أنا أكتب قصة أم القصة تتحايل علي لتكون حكايتي أنا ؟هل أنا أكتب القصة أم القصة تكتبني؟> . لا يدري ما الذي أصابه , سيطر عليه الإرتباك , أحس بأنه عاجز عن كتابة ماض يسيطر عليه إلى هذه الدرجة وعن لملمة سيلان ذاكرة عارم كهذا على ورقة بيضاء اتسع بياضها لمساحة شاسعة لا تصلح إلا لحوارية الصورة المتحركة , غادرته الحروف والكلمات والعبارات وكل الصور , وتحول شريط الذاكرة وكأنه فلم أبيض وأسود صامت دون ألوان , ها هو القلم الأكثر بوحا يصير أكثر جرحا وأكبر صمتا , وها هي الكلمات التي كانت تنتظر فرحة أن تزين بعريها دون لباس بياض الصفحة , ينعقد لسانها فتعجز عن الكلام .
أحس بالخيبة وأحس بأنه رجل معطوب , هل انتابه هذا الشعور بسبب صعوبة البحث عن لقمة العيش التي أصبح يشعر أنها حولته أشلاءا يلهث وراءها ليلملمها ؟ , أم لأنه بدأ يفقد اليقين الذي امتلأ به طوال سنوات العمر الماضية؟ أم لأن العمر أوشك على أن يفلت منه قبل أن ينجز بعض الأحلام الصغيرة التي حلم بها هناك وراء الشمس حيث التهمت الرطوبة الآمال الكبيرة ؟
أحس بالاختناق , مد يده وفتح النافذة إلى يمينه ونظر إلى الأفق على امتداد المدينة التي يقطن , أحس بأن هذي المدينة الخاوية تشبهه , شعر بأنه وحيد وسط العراء دون القدرة على النسيان أو البدء من جديد , وأحس أن كل الأفكار السياسية التي ناضل من أجلها طوال العمر الماضي قد خانته , وأن رفاق الأمس قد تخلوا عنه , فقرر للتو أن يتحرر من الماضي لأنه كريه وعليه أن ينظر للمستقبل متحليا بنعمة النسيان . قذف بقلمه بعيدا ونهض عن طاولته , ولكن ما أن نهض حتى تزاحمت الكلمات والجمل في ذهنه وراحت ذاكرته تمطر على بياض الورقة بالأسود بكل الجمل التي فكر بها والجمل التي لم يفكر , وألقى بنظره من النافذة حيث المارة والشجر , كانت السماء خريفية جميلة , إنه يحب فصل الخريف , واستدرك :< ما يصبح الإنسان إن لم يكن له ماض وذاكرة ؟ ما يميز الإنسان عن المخلوقات أن له ماض وذاكرة , وهو الوحيد بينها الذي يمكنه أن يتعلم من ماضيه وماضي أقرانه بالاعتماد على ذاكرته الفردية والجماعية والتي ورثها عن الجيل السابق والتي عليه أن يورثها للجيل القادم , ومن الحماقة أن يدفع الإنسان ثمن ما هو مدفوع سابقا من قبل غيره الذين سبقوه > .
شعر بالارتياح للنتيجة التي توصل إليها , وأحس بحماس كبير للكتابة وصار يستجمع الماضي بكل تفاصيله في ذاكرته , وأحس بمسؤولية كبيرة للبوح , وهاهي ذاكرته تنتعش , وهاهو الماضي يوشيها دون خوف , وهاهي القصيدة ترتدي فستانها الزاهي المطرز بكل ألوان الوطن تلاغيه من بين غيمة , وهاهي مدينته تدخل إليه من النافذة تذكره بأنها مدينته الشرقية التي أودعها هناك في حراسة المآذن وأجراس الكنائس وصوت الباعة وصدى أغنية متهادية من أغاني فيروز القديمة .
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟