عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5720 - 2017 / 12 / 7 - 20:00
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الكل يعرف أن العلمانية تلك الفلسفة بشقيها النظري الفكري والمادي الواقعي أمنت بحل ترى فيه تجذير لحق الإنسان بدون عنوان وحفاظا عليه من التناقض المؤدي للتنازع أن يتخذ من مسألة الفصل بين الدين والدولة حلا يؤمن له حماية من تناقضات وعجز الدين أن يكون حاكما للإنسان على قاعدة أنه يتفق معه على أن الدين ملزم لمن ألتزم به والمخالف ملتزم أيضا بذات الشعار وبالتالي لا مشكلة أن يقر بالتناقض بين المعتقدات والجمع بينها دون مزاحمة أو تعارض ,هذا الحال مثالي فوق العادة وطوباوي وخالي من الواقعية وبالتالي لا يمكنني كإنسان أدافع عن قيمي أن أراها تتعرض للمساواة مثلا مع نقيضها وأقبل التعامل معها كأنها واحد.
قبل الغوص في التفاصيل علينا أن نرجع لأصل فكرة العلمانية ومنشأها الأول التاريخي حيث أن الفكرة بالأساس لم تولد كفلسفة ترمي لفصل الدين عن الحياة المدنية ولا نشأت من تفكير منعزل عن واقع فرض ولادة خاصة لها .العلمانية بالأصل هي محاولة الكنيسة المسيحية أن تضع حدود خاصة بين جهازها التكويني المعتمد على التخصص في الأداء الوظيفي ,فهناك كانت طبقة من الأفراد تتولى الشؤون الدينية والتعامل المباشر بها وجها لوجه هم طبقة الكهنوت طبقة الاختصاص بالتنظير والتبشير والدعوة والوعظ وكل ما يتعلق بشؤون الرعية من ربط بين الدين وبينهم , بالأصح هم الناظر على الدين والرقيب الدنيوي .
هذه الطبقة متفرغة للشأن الديني تماما أو كما يسمونها خدمة الرب وخدام الرب لا بد لهم من مجهود مساند لأداء الوظيفة هم الإداريون والتنفيذيون ذوي المهارات وليس لهم شأن ديني بشكل مباشر ,كانت طبقة الكهنوت وبحكم الإرث الديني يتميزون بشكلية فردية تخصهم وحدهم باللباس والتشريف والمظهر الخارجي التي هي من شروط العمل الكهنوتي التي لا يمكن التغاضي عن مراعاتها لأي سبب ,بالمقابل الطبقة الأخرى كانوا مجرد موظفين لا علاقة بين ما يميزهم وبين شكليات الكهنوت ولكن الجميع كانوا يخدمون في الكنيسة وللتفريق سمي الفريق الثاني علمانيون وصفا مميزا عن الكهنة .
العلمانية أذن نشأت من داخل الكنيسة نشأت كمصطلح عملي ليدخل التاريخ هكذا بهذا العنوان ,طبقة مقابل طبقة وفريق مقابل فريق ولكن الكل كنسيون , أكثر العلمانيون كما قلنا إداريون وخدم للكنيسة يتعاملون بالجزء الذي لا يتعامل به الكهنة الرسم الموسيقى الهندسة والعمارة النحت الإدارة المالية كل ما يتصل بالعلوم والفنون كانوا علمانيون قد يكونوا مؤمنين متدينون لكنهم بعيدا عن خدمة الدين وخدمة الرب حتى تضخم وجودهم مع تضخم الكنيسة ودورها في الحياة ,صار لهم وجود ضروري ومؤثر وفاعل لأنهم في تماس مع التطور العلمي والفني والفكري الخالي من روح الدين .
من هذه النقطة جاء الانفصال بين العلمانيون وبين الكنيسة ليس على أساس الفصل بين الدين والدولة ولكن الفصل بين ما هو علمي وعملي وحياتي وعام عن الديني الخاص ,صار العلمانيون طبقة فاعلة في المجتمع شجعت تعلم العلوم التي كانت تحرمها الكنيسة وانخرطوا فيها بقوة حتى صار المدني عموما هو علماني التفكير بينما بقى الكهنوتي متماشيا مع توجهات الكنيسة التي هزمت أخيرا على يد الصناعيين والقوميين الذين هم نتاج نمو طبقة العلمانيين ليشكلوا الند التأريخي للكنيسة ويخوضوا حرب ضدها أدت إلى عزلها عن الحياة العامة واقتصار دورها على الروحيات فقط .
العلمانية برزت من خلال التناقض الفكري بين أفراد الكنيسة الواحدة ولم تكن ولادتها خارج رحم الدين , أذن العلمانية لن تكن صنيعة الفكر المدني بل هي نتيجة تأريخية لاختلاف القراءات حول الأهمية في الموضوع الأساسي الذي يتماس مع حاجات الإنسان التي عجز الدين الكنسي وفهمه للدور عن حمايتها وضبطها مقدما الفكرة بالمقلوب ,بينما تدع الكنيسة أنها تعمل لخدمة الرب والدين كان الدين أصلا مسخرا لخدمة الإنسان وتلبية الضروري والأهم من حاجاته المباشرة .
ساهمت العلمانية بهذه الحركة التاريخية ان تعيد للدين شيء من روحيته ولكن الإصرار المدني على تحويل هذه الأفكار إلى أيديولوجيات سياسية أستخدمت للإجهاز على ما بقى للكنيسة من دور يؤشر أن وراء هذا السعي صراع أخر صراع من ذات النمط صراع على تحقير الدين المسيحي وإخراجه من دائرة التعامل من خلال تفريغ الساحة من مؤثراته وتأثيراته لبسط قيم دينية أخرى بثوب مدني ,الملاحظ أن عناصر القوة في الثورة الصناعية التي رافقت الروح القومية المتمردة على الكنيسة والتي تزعمت المد العلماني هي قوى توراتية متطرفة حاربت المسيحية من أول نشوئها ودخلت في حرب بكل الأنواع لتشويهها دون أن تتمكن من إقصائها بالتمام كما فعلت القومية العلمانية بالكنيسة المسيحية في أوربا.
لم يتوقف الصراع بين نظريات مادية صرفة وبين الكنيسة وأتباعها بل تعدى أكثر إلى كل المظاهر الروحية للشعوب , نشأت قيم أخلاقية جديدة لا تهتم بقاعدة الأخلاق القديمة التي ومع قسوة الحكم الكنسي لكن كان هناك مفهوم الرحمة والعيب والطيبة والخير والسلام الروحي لتحل محلها البرغماتية السياسية والاقتصادية لتؤسس هي أيضا إلى فكرة أوسع فكرة أن العالم يجب أن يكون محكوما بمركزية واحدة تتحكم بكل الحركة الوجودية للإنسان من خلال شعار العلمانية وهدفها المخفي هو إسقاط الرب من المعادلة وإخراج الإنسان من فطرته الطبيعية ليتحول إلى عالمية رقمية تجرده من الهوية وتسخره فقط لتحقيق مفهوم الأنا الواحدة المطلقة .
السرد التأريخي يكشف لنا عن تطور الفكرة وخروجها من إطارها الأول العملياتي إلى مجال تنظيري فكري لتتحول بعد فترة إلى فكر سياسي ينتشر في العالم مفاده أن الدين عامل تجميد وإحباط للسعي الإنساني ولا بعد من عزل المؤثرات الروحية عامة والدينية بالذات عن واقع التعامل البيني الاجتماعي والسياسي ثم حصر التعامل به في حدود المعبد على أن لا يمنح الدين أي سلطة تقديرية أو تقريرية بغض النظر عن أي أعتبار قيمي أو فكري أو حتى أخلاقي إنساني ,وإبدال القيم الديني بقيم واقعية من مفردات العلم والعمل والتجربة المادية فقط .
هذا الفرض الذي لا قى نجاحا عمليا وقاد المجتمع الغربي عموما من واقع تنازع وتحجر وإفراط في ربط كل مفاصل الحياة بالكنيسة وليس بالدين من خلال دور الكنيسة التقريري في جميع مفاصل الحياة وما مارست من سطوة قهرية في محاربة العلم والمعرفة والفنون ليس فقط محاربة بل أوصلت الحد إلى التجديف والهرطقة والتحريم المؤدي للموت ,كانت العلمانية ردة فعل بنفس قوى وقدرة هذه السطوة بل زادت عليها في تفاصيل عندما جعلت من الدين عامل تهميش للعقل بدل أن تحارب منهج الكنيسة .
الدين الذي مارس دورا معرفيا عالميا وقاد جملة من المعارف وطور منظومة عقلية متكاملة من الروابط العلمية والمعرفية التي أسست لكل العلوم اليوم تحول نتيجة سياسة الكنيسة والمؤسسة الدينية المخترقة من قبل قادتها الذين تدفعهم ضواغط الأنا الذاتية الطامحة للسيطرة والتجبر وفرض الرؤى البشرية بدل الرؤية الإلهية حبرا ,تحول إلى ضحية لتصرفات حرفت الدين عن مفهوم وحقيقة التسخير الرباني له في خدمة الإنسان وجعلت العلاقة عكسية تماما بين الدين والإنسان أدت إلى حماقة أكبر عندما أعتبر الدين أفيون الشعوب بدل أن تكون الأنا المستبدة لثوبها الديني واستحقاقاتها وتسخيرها للدين لمصالح شخصية هو الأفيون الذي يساعدها على هتك كل القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية .
إن مسألة فصل الدين عن المجتمع وحصره في زاوية العلاقة الإنسانية مع الرب هي مجرد وهم وخيال أستنتجه العلمانيون من نشوة السطو على مكانة الكنيسة وأعلانهم وفاة الرب والحقيقة أن الإنسان الذي هو أس المجتمع مهما تضخم وتعظم لا يمكن فصله عن الدين على أساس واقع ولا على أساس الأفتراض ,العلماني اليوم محكوم بجملة من المقدمات العقلية التي أساسها ديني ومنشأها أيضا من نصوص دينية يتعبدها من حيث أراد أو لم يشعر,قد يظن أنه يمارس بعض الحالات الفردية أو القليلة ويعتقد أنه نجح في خرق القواعد الدينية .
مثلا المجتمعات العلمانية الغربية اليوم في شكلها العام تتعامل مع الدين تفصيليا من زواج وطلاق ومواريث وقيم أخلاقية التي تدعو للسلام والمحبة والخير ووو الكثير من القيم الدينية التي هي ليست اختراعا علمانيا بقدر ما هي علاقات نشأت عليها المجتمعات واستقت أصولها من الدين من رغبة وتعاليم السلام .
حتى القائد العلماني الذي يتعامل مع المجتمع يتعامل فوق ما هو سياسي بما هو أخلاقي لا يمكنه التحرر من القيم الأخلاقية الأجتماعية ,مثلا لا يمكنه الكذب ولا يمكنه الاعتداء على الأخر الضعيف وغيرها الكثير من الأخلاقيات السائدة في المجتمع والتي تضخ له وتشاع عن طريق المؤسسة الدينية الكنيسة والمعبد , بل أن الكثير من ما طرحته العلمانية هو في الحقيقة منهج الدين قبل أن يسرق من إطاره الحيوي ويوضع في قالب مخالف تماما لتوجهات الدين الأساسية .
كيف لي أن أجرد الإنسان وهو علماني من مثاليته الفطرية من إيمانه الطبيعي بالدين , هل من المعقول أن تنفصم ذات الإنسان بين جهتين متباعدتين مرة يكون مدني ومرة يكون ديني ؟, هل يقبل العقل أن يعمل النقيض ونقيضه في آن واحد , العلماني عندما يتعامل مع العالم الخارجي وخاصة في الشأن العام عليه أن يستحضر كل ذاكرته وكل معرفته وكل مقدماته كي يصل لحل وتصرف مناسب , هنا كيف نأمر العقل في هذه العملية أن يفصل الرصيد الذهني والذاكرة وكيف نسيطر على عدم تدفق الديني في حالة التفكر بالمدني .
من المعروف والبديهي أن الإنسان أبن بيئته وهذا ليس اختراعي بل من حقائق المنطق , والبيئة هي الموجه والمدرسة الأكثر تأثيرا في صياغة الشخصية والبيئة ليست جغرافيا فقط بل هي كون كامل من العلاقات التي تمتد من مرحلة الجنين ولا تنتهي حتى بعد الفناء الشخصي إنها العالم الصائغ للوجود والكاشف عن تشابك وتعقد العلاقة الأجتماعية للإنسان ,روافدها متعددة أهمها العلم والدين والأخلاق وهي التي ترسم للإنسان الشخصية أي شخصية ولا يمكن أن يتحكم أو يحد من نوع من التأثيرات بإرادة منفردة فهناك الشعور اللا مباشر الذي يرسم الكثير من عوامل السلوك الفردي والجمعي وهذه من تأثيرات عالمي التربية والتنشئة وهما مما لا يمكن أن يتحسسهما ويتحسس مصادرهما بوعي خالص .
الدين الذي هو واحد من أساسيات المعرفة والسلوك الأخلاقي وواحد من أركان العلم بمعناه المجرد إن لم يكن الآن فهو المعين الأول الذي نشأت في ظله وزمنه كل العلوم أولا , لا يمكن أن يكون خارج الاعتبار العقلي بما ترسب منه في ذاكرة العقل العميقة (الوجدان الإنساني) وما يفرضه من تعامل واعي ولا مباشر في الغالب في صنع وصياغة خيارات الإنسان , تبدو المسألة صعبة الفهم كيف يمكننا أن نفصل الوجدان العقلي عن قضايا المجتمع وبالذات السياسة والإدارة , أنها فكرة غير لائقة أن نصدق بصحة الفرض القاضي بفصل الدين عن المجتمع وقوانينه الكلية إنها خلاف حقيقة الأشياء .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟