|
فيلم لم يفهمه الجمهور
رحيم العراقي
الحوار المتمدن-العدد: 1473 - 2006 / 2 / 26 - 08:02
المحور:
الادب والفن
مثل المتاهة التي تمضي بك في تقاطعات متشابكة، يأخذك فيلم “سيريانا” في رحلة لن تعرف أين تبدأ وأين تنتهي. ورغم أنك لن تدرك أحيانا مغزى بعض التفاصيل عندما تغرق فيها، فإنه يستولي عليك في النهاية إحساس عميق بأن هناك مغزى خافيا وراء هذه التفاصيل، وقد يدفعك ذلك إلى أن ترى الفيلم مرة أخرى لعلك في المشاهد الثانية تدرك ما فاتك المرة الأولى، لكن مأزق هذا النوع من الأفلام أنه يدفع متفرجين آخرين إلى أن يتناسوا التجربة المؤلمة لمشاهدة الفيلم، ليس فقط لأن موضوعه ومضمونه يحكيان على نحو متشائم عن مصير العالم في تلك النقطة التاريخية الحاسمة التي نعيشها الآن، ولكن أيضا لأن شكله الفني يتطلب قدرا كبيرا من المجاهدة والمجالدة من جانب المتفرج الذي يذهب إلى السينما بحثا عن “المتعة”. من المهم أن نذكر في البداية أن مؤلف ومخرج فيلم “سيريانا” هو ستيفن جاجان في تجربته الإبداعية الأولى، لكنه خاض تجربة مهمة سابقة في كتابة سيناريو فيلم “ترافيك” الذي أخرجه صاحب الأسلوب المتميز ستيفن سوديربيرج. دعنا في البداية نفسر كلمة “سيريانا” التي يأخذها الفيلم عنوانا له، فهو اصطلاح فيه بعض الملامح التوراتية الغامضة يستخدمه المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية الحالية، حول مخططهم لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على هواهم، وكما ترى فإن هذا العنوان يأخذك على الفور إلى قضية شديدة الجدية والأهمية، ليس فقط في موضوعها وإنما في شكلها أيضا، وأرجو ألا تنتظر أن أقدم لك هنا “ملخصا” لحدوتة الفيلم، لأن الفيلم أولا يستعصي على أي تلخيص، ولأنه ثانيا لا يحتوي على أي حدوتة! ورغم أن الفيلم يشير إلى “سيريانا”، كما تدور في أحلام ومؤامرات المحافظين الجدد، فإنه يفضل ألا يستعين كثيرا بأسماء دول حقيقية، وإذا أردت أن نبدأ بمركز الدائرة في الفيلم فهو أن دولة نفطية خليجية قد قررت أن توقع عقدا لاكتشاف النفط وشرائه مع شركة صينية بدلا من شركة أمريكية، مما يؤدي إلى هزيمة اقتصادية غير متوقعة لشركة أمريكية عملاقة تدعى “كونيكس”، في نفس الوقت الذي تنجح فيه شركة أمريكية صغيرة تدعى “كيلين” في الحصول على حق اكتشاف وشراء النفط في كازاخستان، وفجأة يتم الإعلان عن اندماج بين الشركتين، وهو الاندماج الذي يثير اهتمام وزارة العدل الأمريكية التي تقرر أن تبحث الأمر وتتابعه حتى ينتهي لمصلحة السياسة الأمريكية. يحكي الفيلم في البداية عن روبرت بارنز، (جورج كلوني الذي شارك أيضا في إنتاج الفيلم)، عميل المخابرات المركزية الأمريكية المخضرم، الذي يبني الفيلم شخصيته على مذكرات عميل المخابرات السابق روبرت باير في مذاكراته التي نشرها عام ،2002 إن بارنز الذي يتحدث أيضا الفارسية والعربية يتنقل بين العديد من عواصم المنطقة، حيث يأمره رؤساؤه بالترحال لتنفيذ عمليات غامضة، لكن الرجل الكهل يدرك شيئا فشيئا أن الزمن قد تغير وتجاوزه، إذ لم يعد مطلوبا من عميل المخابرات أن يقوم بعمليات تتطلب المعلومات أو المجازفة أو حتى إتقان استخدام الأسلحة، بل أصبح في زمن الأقمار الصناعية والصواريخ الموجهة عن بعد مجرد “بيدق” على رقعة شطرنج يحركه كيفما شاء هؤلاء الجالسون في أبراجهم العاجية، ويتعاملون مع العالم كأنهم يقبضون عليه بخيوط حريرية غير مرئية ليحركوه كما يحرك لاعب الدمى عرائسه الخشبية. تبدو شخصية بارنز وتلك هي المفارقة غير فاعلة في دراما الفيلم، لكن ظهوره واختفاءه خاصة في البداية والنهاية يسهم في ربط الأحداث والشخصيات، التي تتضمن ثلاثا أو أربعا وربما أكثر من القصص التي تدور في عوالم شديدة الاختلاف، هناك الأمير ناصر “ألكسندر صديق” ولي العهد المستنير في الدولة الخليجية، والذي تخرج في جامعة غربية ويخطط لاستخدام عائدات النفط لتطوير بلاده، لذلك فإنه يوقع العقد مع الشركة الصينية مما يؤلب عليه السلطات الأمريكية التي تبدأ في التآمر لإقصائه ليحل محله شقيقه الأصغر الأمير مشعل “أكبر كورثا” لأن هذا الشقيق لا يهتم إلا بملذاته التي تظهر في بهرجة قصره الإسباني الذي يدعو إليه بعضا من اكبر خبراء البترول في العالم، وهنا تبدأ القصة الثانية، فمن بين هؤلاء الخبراء نرى برايان وودمان “مات ديمون” المقيم في سويسرا مع زوجته “اماندا بيت” وطفليه، لكن حضوره مع أسرته إلى حفل الأمير مشعل سوف يفضي إلى مأساة غرق أحد طفليه في حوض السباحة، لكنه بعدما يجتاز الأزمة يقرر قبول عرض الأمير ناصر أن يصبح مستشاره الخاص في مشروعه الإصلاحي، مما يخلق توترا بين برايان وزوجته التي تتهمه بأنه باع موت ابنه بالمال. في جانب ثالث فإن خسارة الشركة العملاقة كوينكس لعقدها مع الدول الخليجية يؤدي إلى فصل العمال من وظائفهم، وهنا نرى العامل الباكستاني الفقير الشاب وسيم “مظهر منير” وهو ينتقل مع أبيه العجوز، عبر مشاهد الفيلم من حال رث إلى حال أكثر رثاثة، حتى ينتهي للانضمام إلى جماعة إرهابية لأنه لم يجد أمامه طريقا للحياة، على الجانب المناقض تماما وفي أروقة وزارة العدل الأمريكية يتم تكليف المحامي الطموح الشاب بينيت هوليداي “جيفري رايت” بالمتابعة القانونية للعقد بين الشركتين الأمريكيتين لكنه يكتشف أن دوره الذي لا يعيه تماما هو انه مخلب قط يستخدمه “أهل القمة” للتأكد من أن الأمور تسير إلى مصلحتهم.. إلى أين تقود هذه المتاهة من الأحداث والشخصيات؟ إن أردت إشارة عابرة إلى ما يمكن أن يحدث فهو أن عميل المخابرات بارنز يتلقى تكليفا باغتيال الأمير ناصر، لكني لن أخبرك كيف انتهت هذه المهمة لتكتشف ذلك بنفسك، وان كان من الواجب أن أؤكد ألا تنتظر في “سيريانا” فيلما هوليووديا تقليديا. إن فيلم “سيريانا” فيلم “مثقف”، إن جاز التعبير، وهو بهذا التعقيد المتعمد في بنائه يتوجه إلى شريحة خاصة من الجمهور هي بالفعل تعرف تعقيدات الاقتصاد والسياسة والحروب، لكن الأجدر أن تصل هذه الرسالة إلى الشريحة الأكبر من الجمهور التي تحتاج في السينما إلى إشباع عواطفها قبل ومن اجل إدراك الجوانب الفكرية في العمل السينمائي، وفي هذا الجانب يميل “سيريانا” إلى اختزال العواطف والمشاعر إلى أدنى حد ممكن، مما أدى إلى فقدان المتفرج في مشاهد عدة قدرته على التفاعل مع الشخصيات والأحداث، وربما حاول صانع الفيلم ستيفن جاجان أن يخلق بعض اللحظات الجياشة بالعاطفة، خاصة في علاقة الآباء والأبناء في الفيلم، لكن للأسف ظلت هذه العلاقات الإنسانية مجرد إشارات عابرة لا تظهر حتى تلبث أن تختفي. في أحد مشاهد الفيلم بعض جمل الحوار بالغة الدلالة، يتحدث فيها أحد موظفي الإدارة الأمريكية عن الفلسفة “البراجماتية” التي تريد أمريكا أن تجعلها تسود العالم من أجل مصلحتها وحدها، فعندما يحدثونه عن الفساد يجيب على نحو قاطع: “الفساد؟ الفساد ليس إلا تدخل الحكومة في فاعليات السوق بحجة فرض قواعد تنظيمية، الفساد هو ما يحمينا، الفساد هو ما يجعلنا ننعم بالأمان والدفء، الفساد هو ما يتيح لنا أن نتجادل الآن بمرح بدلا من أن نتقاتل على قطعة لحم في الشوارع، الفساد هو أن ننتصر ونربح في النهاية”!! انه إدمان الفساد.
#رحيم_العراقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لن يُصلب المسيح من جديد
-
عنزة في حديقة إدوارد ألبي
-
إدغار ألن بو..قصائده وتنظيره للشعر
-
القصة العائلية لفرويد
-
منعطفات ارثر ميللرالزمنية
-
ماركسية ماركس
-
قراءات في الفلسفة المثالية الألمانية
-
كيف ظهرت الحداثة في غرب اوربا وأميركا.. ؟
-
خمس سكان العالم تحت مستوى خط الفقر...لماذا..؟.
-
فوكو..ما يزال يثير الجدل..
-
أطفالنا يحلمون
-
الأدب عبر الإنترنت
-
وحشة وحلم
-
الصحافة الدينية في إسرائيل
-
ذكريات رياضية...فريق إتحاد التضامن.
-
كامو وسارتر..قصة القطيعة
-
الأسس اللاهوتية في بناء حوار المسيحية والاسلام
-
راسين..ثلاثة قرون من المسرح..
-
جمعة اللامي في عزلته
-
الإنسان أمام غياب اليقين
المزيد.....
-
الحكم بسجن الفنان الشعبي سعد الصغير 3 سنوات في قضية مخدرات
-
فيلم ’ملفات بيبي’ يشعل الشارع الاسرائيلي والإعلام
-
صرخات إنسانية ضد الحرب والعنف.. إبداعات الفنان اللبناني رودي
...
-
التراث الأندلسي بين درويش ولوركا.. حوار مع المستعرب والأكادي
...
-
الجزيرة 360 تعرض فيلم -عيون غزة- في مهرجان إدفا
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|