|
التاريخ الكمي
محمد اليوسفي
الحوار المتمدن-العدد: 5717 - 2017 / 12 / 4 - 09:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لن تكون مقاربتنا المتواضعة لهذا العنوان مقاربةً فلسفية محضة، وإنما سأحاول أن أعالجها من منظور رجل متخصص في "التاريخ" أكثر مما هو متخصص في "الفلسفة"، يتعلق الأمر بالمفكر المغربي الأستاذ عبد الله العروي. وسأقف تحديدا عند الفصل الخامس من كتابه "مفهوم التاريخ[1]"، وهو فصل بعنوان "التاريخ بالعدد"، يعالج فيه الأستاذ العروي علاقة التاريخ كمبحث ينتمي إلى مجال العلوم الإنسانية، بالثورة الرقمية والتقنية (الحاسوب بالضبط) التي شهدها العالَم منذ المرحلة الحديثة، مما أدى إلى نتائج جديدة بطبيعة الحال، فـ "التاريخ بالأرقام ثورة في فهم التاريخ" كما يقول فرانسوا فوره[2]. حسب العروي، انفرد المجتمع الأمريكي بخاصية يبدو هو الوحيد الذي يحتكرها، فالدراسات التاريخية استندت دائما فيه إلى الاقتصاد والإحصاء[3]، تماما كما هو الشأن حتى في الفلسفة الأمريكية التي أخذت طابعا براغماتيا بامتياز، أساس الفكرة فيها هو القيمة النفعية الواقعية والربح المادي لا التماسك المنطقي أو التحقق التجريبي. ولعل السبب يبدو واضحا للجميع، فأمريكا نشأت في عصر الثورة الرأسمالية[4]، القائمة أساسا على الاقتصاد، هذا الأخير الذي خلق نمطا وجوديا خاصا، بحيث يبدو المجتمع كله وُجِد من أجله ويعمل من أجله، والعلاقات مع الوجود اتخذت بُعداً واحداً: الاستهلاك، هذه الصفة التي اكتسحت أرجاء الكون كله. كل هذا (علاقة التاريخ بالاقتصاد والتقنية) جعل من تاريخ أمريكا تاريخا معاصرا بكل معاني الكلمة[5]. هذه العلاقة بين التاريخ والاقتصاد والتقنية، كانت لها نتائج متقدمة جدا، عادت بفضل كبير على الدراسات التاريخية، وأخرجتها ولو نسبيا من الوضع البئيس الذي كان يعيشه "المؤرخ" أمام "رجل العلم" باسم الحتمية أو القطعية. وقد لعب "الحاسوب" دوراً مهما في هذا الصدد، فالبحث التاريخي ما كان له أن ينمو أو يتطور بسرعة لولا اختراع الحواسيب الالكترونية[6]. هذه الأخيرة التي عوضت الكثير مما كان يقوم به الإنسان في هذا المجال أو ذاك وبقدرات هائلة لن يرقى إليها الإنسان أبدا، أهمها: تخزين آلاف المعلومات – تقليص زمن العمل وعدد الباحثين – يسمح الحاسوب كذلك بالحصول على المعلومة بشكل سهل وواسع – وهكذا بدأت ثورة الكم أو الرقم في البحوث التاريخية، في أمريكا أولا ومنها انتقلت العدوى إلى انجلترا ثم إلى فرنسا وإيطاليا، أي إلى البلدان التي تملك وثائق رقمية كثيرة ومنسقة[7]. أمام هذه الوضعية الجديدة، سنكون أمام مصطلح جديد، ففي مقابل "التاريخ"، المفهوم المفرد، سنصير أمام مفهومين «التاريخ الكمي"، وسبب هذا التعالق بين مفهوم التاريخ ومفهوم الكم راجع لا محالة إلى ارتباط العمل التاريخي بالعمل "الحاسوبي-التقني" إن صح التعبير، بمعنى آخر، الانتقال من مجرد الكتابة العادية التي ألِفناها، إلى أبحاث تاريخية تعتمد في عرض معلوماتها وكذا تحليلها على الأرقام والجداول والرسوم البيانية[8]. هذا ما يسميه العروي بالتاريخ الكمي أو العددي أو الإحصائي بما هو اصطلاح أنجلوساكسوني[9]. هذا من جهة الشكل، أما من جهة المضمون/المادة، فقد تم استبدال "الوثيقة"=المادة التقليدية، بمادة أخرى تناسب عمل الحاسوب وطبيعته العلمية[10]، ويتعلق الأمر أساساً بالجداول=التاريخ الجدولي، فحصول المؤرخ على معلومات وأرقام لن تكون ذات أهمية إلا إذا توافرت لديه طرق معالجتها وتحليلها، ولن يتم ذلك إلا وِفق جداول مستنبطة تجمعها مع المعطيات (الأسعار، الكميات، المسافات، المساحات، إلخ[11]) علاقة "القابلية" للقدرة على التحليل والمعالجة. وهذه بالطبع ممارسة جديدة لم يألفها المتقدمون من المؤرخين، وتضع المحدَثين أيضا في حيرة من أمرهم، إذ لا يتعلق الأمر بممارسة عادية وبسيطة يمكن لأي كان أن يقوم بها، بل نتحدث عن ممارسة منهجية متخصصة، والعروي نفسُه يشير إلى هذ المسألة، فليس مفهوم "التاريخ بالعدد" عملاً تقنيا محضاً، وإنما المقصود بهذا الاتجاه هو فلسفة محددة عن التاريخ والحدث والعلة[12]. فكيف حصل هذا التحول في الكتابة التاريخية؟ وما أسباب هذا التحول؟ لا يجب أن ننسى أن الأستاذ العروي مؤرخ، وبالتالي يقترح علينا أن نرجع إلى الماضي لكي نفهم هذا التحول جيدا، فمما لا شك فيه أن الحاسوب لم يؤثر على الكتابة التاريخية وفقط، وإنما أثر على عمل الباحثين في ميادين شتى[13]، وهذا التحول هو نتيجة أكثر مما هو سبب، نتيجة وتتويج لتطور يعود إلى ما قبل القرن الثامن عشر الميلادي[14]. وذلك حينما قامت الكثير من الأمم والإمبراطوريات بإحصاء ما يوجد على أراضيها، وبالطبع، قد تحافظ على إحصاءاتها (وثائق) وتحتفظ بها أو تضيع منها جراء الحروب أو الكوارث الطبيعية أو أي سبب آخر مُدَمِر، كما حصل مع الكثير من الحضارات التي خسرت تراثها المعنوي/الرمزي والفكري والمادي. وحسب العروي، هناك من الدول التي عاشت استقرارا بسبب انعزالها وعدم مشاركتها في أية مواجهة، مما سمح لها بالحفاظ على إحصاءاتها، التي صارت فيما بعد جداول (التاريخ بالعدد)، ومن بين هذه الدول أمريكا طبعاً، إضافة إلى باقي الدول التي ذكرناها سابقا[15]. ولكن العروي يعود لينبهنا إلى أمر أكثر أهمية، هذا السبب الآنف الذكر هو سبب سطحي وفقط، أما السبب الجوهري فهو الذي حدث على المستوى الاقتصادي، على مستوى المبادلات التجارية، يقول العروي: "بيد أن ثورة العدد كانت هي في جوهرها ثورة في المعاملات"[16]، والجداول التي يستغلها الباحثون اليوم (الأسعار، الواردات، الصادرات، الديون، إلخ) هي في الواقع ما تبقى من وثائق دور التجارة أو القرض أو التأمين[17]. والدليل على ذلك حسب صاحب أوراق[18] هو كون علم الاقتصاد نشأ في خضم التاريخ الحديث وفي أوروبا الغربية[19]. وهذا ما أدى إلى بروز النظرة الاقتصادية للتاريخ التي تؤكد على أن التاريخ هو سيرورة الانسان المُنتِج...هذا الخط في التفكير اكتسح، خلال القرن العشرين للميلاد، كل المجتمعات وانسحب على كل الأزمنة[20]. وهذا ما يجعلني أنبه من خلال هذا الفصل بالذات، إلى أن العلاقة بين العلوم الاجتماعية والانسانية وبين العالم الرقمي المُعَوْلم لم تكن أبدا وليدة اللحظة الآنية، بل هي سيرورة تاريخية ونتيجة لتراكم تاريخي مغرق في القِدم. إن هذا النوع من العمل يحكم على المؤرخ من أن يستعين بخبير في المعلوميات[21]، وهنا من المستحيل أن يتفاهما، فكل واحد ينتمي إلى مجال تخصصي مختلف، فالخبير لا يخرج عمله من القوة إلى الفعل إلا بعد أن يمده المؤرخ بمفاهيم من الصعب أن تكون دقيقة أو علمية، بل غالبا ما تكون فضفاضة وفيها مبالغة إن من حيث التجريد أو من حيث البساطة المبتذلة. هذا المبحث الجديد "التاريخ بالعدد"، على الرغم من ارتباطه بالتقنية وبالعالم الرقمي، وبقدر ما فتحت هذه الثورة الحاسوبية آفاقاً واسعة للإبداع والابتكار بقدر ما طرحت مسائل منهجية ومعرفية عويصة[22].
[1])) مفهوم التاريخ، 1- الألفاظ والمذاهب 2- المفاهيم والأصول، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، الطبعة الخامسة، 2012. ([2] ) عبارة صدر بها الأستاذ العروي الصفحة الأولى – ص 136- من الفصل الذي نحن بصدد النظر فيه. ([3]) عبد الله العروي، مرجع مذكور، ص 136. ([4]) نفسه، نفس الصفحة. ([5]) نفسه، نفس الصفحة. ([6]) نفسه، ص 137. ([7]) التاريخ ومناهجه، ص 893 إلى 933، نقلاً عن الأستاذ العروي، نفس الكتاب، ص 137. ([8]) نفسه، ص 137. ([9]) نفسه، نفس الصفحة. ([10]) الثورة التقنية كانت نتيجة التقدم الهائل في مجال العلوم الدقيقة، يقول العروي في نفس الكتاب: "إذ الحاسوب وليد قفزة في ميدان الفيزياء والرياضيات"، نفس الصفحة. ([11]) نفسه، ص 137. ([12]) فلود، المدخل إلى التاريخ الكمي (لندن 1973)، شونو، "التاريخ الجدولي: حصيلة وآفاق" في المجلة التاريخية (باريس) مجلد 3 سنة 1970، ص 297 إلى 320، فوره " التاريخ الكمي " ضمن تأليف التاريخ، بإشراف جاك لوغوف وبيير نورا (باريس 1974)، ج 1 ص 42 إلى 61، "مسالك جديدة للبحث التاريخي" لوموند عدد 25 يناير 1969. ملاحظة هامة: نقلاً عن عبد الله العروي، أنظر هامش ص 137. ([13]) نفسه، ص 138. ([14]) نفسه، نفس الصفحة. ([15]) إنجلترا، فرنسا، إيطاليا، وحتى اليابان.. ([16]) نفسه، ص 138. ([17]) نفسه، نفس الصفحة. ([18]) نسبة إلى روايته الشهيرة التي تحمل عنوان "أوراق". ([19]) وهنا يشير الأستاذ العروي إلى (المدرسة المركنتيلية = الاهتمام بالمال) و (المدرسة الفيزيوقراطية = الاهتمام بالإنتاج الزراعي) ثم الكشف عن مفهوم القيمة (آدم سميث)، والمدرسة الأولى سابقة عن الثانية، نظرا لكون الاقتصاد كان يقوم على بالمال والمبادلات التجارية قبل أن يمر إلى مسائل الانتاج الزراعي، للتدقيق، أنظر الصفحة 138 من نفس الكتاب. ([20]) نفسه، ص 139. ([21]) نفسه، ص 147. ([22]) نفسه، ص 141.
#محمد_اليوسفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العالم بوصفه ظهورا عند -حنة أرندت Hannah Arendt -.
المزيد.....
-
شهقات.. تسجيل آخر محادثة قبل لحظات من اصطدام طائرة الركاب با
...
-
متسلق جبال يستكشف -جزيرة الكنز- في السعودية من منظور فريد من
...
-
المهاتما غاندي: قصة الرجل الذي قال -إن العين بالعين لن تؤدي
...
-
الهند وكارثة الغطس المقدس: 30 قتيلا على الأقل في دافع في مهر
...
-
اتصالات اللحظات الأخيرة تكشف مكمن الخطأ في حادث اصطدام مروحي
...
-
وزير الدفاع الإسرائيلي يشكر نظيره الأمريكي على رفع الحظر عن
...
-
-روستيخ- الروسية تطلق جهازا محمولا للتنفس الاصطناعي
-
الملك الذي فقد رأسه: -أنتم جلادون ولستم قضاة-!
-
زلزال بقوة 5.8 درجة يضرب ألاسكا
-
سماعات الواقع الافتراضي في مترو الأنفاق تفتح أفقا جديدا في ع
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|