|
قراءة في قصّة (موسم الذباب) للقاصّ جمال حكمت
نوميديا جرّوفي
الحوار المتمدن-العدد: 5706 - 2017 / 11 / 22 - 01:16
المحور:
الادب والفن
تبدأ القصّة بذلك الفجر الذي مازال يحتفظ بخيوطه الحمراء، لكن في صحراء جرداء من بلد مُحطّم و منهوب، بعيون ساكني ذلك الخلاء و السّبب هو طائفيّة شتّتتْ العوائل نفسها، و الأحباب و الأصدقاء. ثمّ القاصّ جمال بحكمته حدّد لنا المكان بقوله:
( على مسافة أميال من المدينة و المدنية)
و شرح لنا حالة السّاكنين في ذلك العراء حيث الصحراء بقوله:
(أرضه تلتمع بالرمال، لا عوسج فيها ، و لا عُشّ غراب)
و القاصّ جعل الأحمر يطغو على كتابته هنا بقوله:
(فجر لم تختفِ خيوطه الحمراء بعد) و ( الرز المصبوغ بالماء الأحمر).
إنّه لون الدماء من الحروب، لون الدماء البريئة المراقة، لون دماء الشهداء الأبرار لأجل الوطن. المبدع القاصّ جمال، شرح لنا حالة العوز التي يعيشها أولئك النّازحين للصّحراء من خلال ما يتناولون و ما يسدّون به جوعهم في قوله:
( يقذفون حبّات الرز في أجوافهم الخاوية لعلّها تسدّ جوعا بات مستديما عندهم، بعد أن شحّ عليهم الأكل و المء،مذ هروبهم مع أهلهم من مدينتهم).
ثمّ شرح حالة النساء هناك، من حزن و بؤس، من ثكل و ترمّل، من فقد الأب و الأخ و الزوج و الإبن. بكلّ بساطة، الكاتب هنا شرح لنا حالة العراق و ما وصل إليه من وجع و بؤس و حزن و ألم دفين و طائفية و سوء حال من سيّء لأسوأ. و عن الحالة البائسة التي كانوا يعيشونها هناك حيث تنعدم كلّ مرافق الحياة و النظافة يقول:
( الذباب منتشر في كلّ مكان، يموج حول صحون الرز و حول الخيام، يشارك الأطفال غلتهم، و يزيد عليهم بؤسهم. يسرق الأكل و بقاياه من شفاههم. لقد اعتاد الأطفال و الناس عليه هذا الأيام و اعتاد الذباب إليهم،فهم مصدر رزقه، و لو يعد له موسم محدد لتكاثره بل كلّ فصول السنة أصبحت أدرانا تعشعش فيها أسرابه المنتشرة في كل مكان، و ما عاد من سبيل للقضاء عليه إلاّ بتنظيف البلاد منه).
لكن لو تمعنّا أكثر في الفقرة نستنتج ما كان يرمي إليه القاصّ، فنرفع له القبّعة للمغزى العميق، إنّه يشير إلى ذباب المنطقة الخضراء، فالشعب المسكين مصدر رزقهم و عيشهم، و سرقاتهم اللاّمتناهية، و من خلال المواطن البسيط تزداد جيوبهم امتلاءا دون شبع. أعجبتني عبارة القاصّ جمال في قوله:
( بعد أن شاعت أخبار حلول موسم النظافة في البلاد و تحسين حال العباد).
هي أحد الأحلام التي يتوق إليها كلّ الشعب من تنظيف البلاد من المفسدين فيها، فالعراق يحتاج حملة غربلة في الحكومة لبعض البرلمانيين الذين أفسدوا و لم يُصلحوا شيئا، بل زادوا الطين بلّة، و عبثوا في خيراتها و شوّهوا الكثير و الكثير فيها. نعود لتلك الذبابة التي قذفتها الريح القوية حيث زجاج تلك الصالة الفاخرة التي اجتمع فيها بعض الأشخاص لتداول أمر في غاية الأهمية، و هم يتشاورون فيما بينهم. وصف لنا القاصّ أولئك الموجودين بدقّة أدبية تستحقّ الالتفات لكل واحد في قوله:
( في وجه أحدهم صورة عراف كان يقيم السحر و الشعوذة، يعد من فارقها زوجها بعودته إليها، و من تريد الهروب من زوجها بالردة عليه، و من اختارت حبيبا لها و تريد أن لا يخطف منها، يعطيها سر الأسرار، و من فقدت ولدا أو اختفى منها عزيز، يعيده إليها بكلمات تتبخر في ليلة شتاء مطرية...أخذت تدقق بوجه آخر،بدا لها كالوطواط، وضع نظارة شمسية على عينيه متباهيا بها و هو داخل الغرفة، و آخر ارتفع كرشه أمامه جانحا على الأريكة كي لا يختنق، و آ×ر كثير الكلام لم يدع أحدا يقاطعه و كأنه رئيس جلستهم، و آخر كان حماسه كلهب الحداد، في كلّ مرة يتحدث فيها يضرب الطاولة بكفه و كأنه يحمل كيسا يريد ملأه)
فالعرّاف مشعوذ و كاذب، يسخر من الجميع و يوهمهم بالخيال بخرافاته فيعطيهم آمالا لا تتحقّق أبدا و رغم ذلك يثقون فيه و يصدّقونه. و الوطواط يبقى بنظارته الشمسية ليخفي عينيه لأنه ما يزال نعسانا من ليلة حمراء في الملاهي و المراقص و المواخير، حيث يصرف أموال الشعب المسروقة على بغيه و عاهراته. و صاحب الكرش الذي أشبع نفسه و جوّع شعبه، و زاد من نسبة الفقر، يعيش هو متخما شبعا و رفاهية و لو مات غيره جوعا و عطشا، يبقى نهما و الناس حوله التصقت جلودها بعظامها، ناهيك عن الأمراض التي تصيب أولئك الذين لا يجدون ما يسدّون به قوت يومهم و أجسادهم التي ينهبها المرض المزمن. و الطامة الكبرى أنّ حديثهم كان يدور حول كيفية زيادة معاناة شعبهم في قول القاصّ:
(كانوا يتحدثون حول تقسيم حصصهم و زيادة معاناة شعبهم)
وسط هذه الذئاب و الثعالب، كان هناك خروف لكنه شجاع، حيث انتقد جماعته على قرارهم، و بعد محاولاته المريرة نجح في جعل الأمر محسوما إليه. لكن تهبّ الرياح بما لا تشتهي السفن في قول القاصّ:
(بينما حاول النطق ببنود الاتفاق، طارت الذبابتان نحوه، قرصته احداهما في شفته كي لا ينطق، و لما حاول الكتابة بقلمه، قرصته الأخرى في كفه، فتدحرج القلم من أصابعه و سقط). لكنّه قتل ذبابة بينما هربت الثانية. و في آخر المطاف امتصوا غضبه، إذ عدل عن قراره، و وعدوه بتأييده في اجتماعهم القادم،و سيطروا عليه حتى صار واحدا منهم في قول القاصّ:
(عاد حديثهم مثلما كان، هذا لي، و هذا لك، دون رقيب و لا ضمان، و للفقراء ربّ رحيم لا يعرف النسيان)
تهرب الذبابة الناجية في الأخير لتزفّ لجماعتها خبر بقاء موسم الذباب. القاصّ المبدع جمال حكمت، تألّق هذه المرة بقصة جديدة واقعية من عراقنا المسكين و المسلوب الحقوق. قصّة خطّها بأدب راقي فيه نوع من الخيال حيث أدخل الذباب و جعله يسمع و يتكلّم و له دور في تعطيل قرار الثائر الذي غلبوه على أمره حتى عدل عن قراره و صمت للأبد ليجاريهم في فسادهم.
#نوميديا_جرّوفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أبو مدين شعيب الغوث
-
ديوان (حديقة من زهور الكلمات) للشّاعر - يحيى السماوي -
-
البيت الثقافي في السماوة يحتفي بالشاعر و الناقد السماوي المغ
...
-
وطن
-
بين الماضي و المستقبل
-
هو أنت .. هاتف
-
شبح
-
عمق المعنى و المغزى في قصائد الشّاعر -نعمه جابر عوض-
-
حوار مع الشاعرة والباحثة والمترجمة والناقدة الجزائرية - نومي
...
-
ظلم القدر
-
حين أغادرُ الحياة
-
الزحف الأكبر نحو الأقصى
-
ديوان (ألوّح بقلب أبيض) للشّاعر - يقظان الحسيني-
-
يا أيّها الحزن
-
الرّمزية في شعر عبد الكريم هدّاد
-
ديوان (عودة ماركس) للشّاعر - هاتف بشبوش-
-
في بغداد
-
ديوان (الخوف ضمير المتكلّم) للشّاعر - إيّاد أحمد هاشم-
-
إلى ملك قلبي والرّوح
-
رواية (اللّعبة المُحكمة) للرّوائي - كريم السماوي-
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|