المثقفون العراقيون وفن القفز على الحرب العدوانية
باتجاه " التحرير" الأمريكي !
" مناقشة في العمق لبيان مجموعة من المثقفين العراقيين "
" النص الكامل "
علاء اللامي
في الوقت الذي رجَّت المظاهرات المليونية أركان الكوب الأرضي رجا، رفضا للحرب العدوانية الأمريكية على العراق وشعبه ،فأربكت الإدارة الأمريكية وصقور حربها إرباكا شديدا لم يبلغ بعد درجة فرض التراجع عن خيار الحرب العدوانية عليهم ، وفي الوقت الذي يعيش فيه أهلنا في العراق لحظات ما قبل الفاجعة وانهمار قنابل وصواريخ العسكرتاريا الأمريكية المسعورة على رؤوسهم ورؤوس أطفالهم منتظرين مصائرهم المأساوية كما ينتظر المحكوم بالإعدام تنفيذ الحكم ، في هذا الوقت بالذات ، أصدرت جهة عراقية تسمي نفسها (الحملة من أجل المجتمع المدني وحقوق العراقيين ) بيانا سياسيا وقع عليه مائة وخمسة أشخاص من العراقيين والأمريكيين من أصل عراقي ممن نعتوا أنفسهم بالباحثين والأساتذة الجامعيين والناشطين في ميدان حقوق الإنسان والقادة الوطنيين والشيوخ الإسلاميين ...الخ ومن هؤلاء كنعان مكية ورندا رحيم اللذان التقيا بجورج بوش قبل بضعة أسابيع في البيت الأبيض وأعلنا له عن أن العراقيين سيستقبلون قواته بالزهور والرياحين قبل أن يتمرد السيد مكية فيعلن عن خيبة أمله في إدارة بوش ويتوجه الى أربيل ! كما ترد أيضا أسماء كل من الشيخ محمد بحر العلوم الذي عرف كعراب لمشروع المحمية الشيعية في جنوب العراق ، وعبد الخالق حسين وزهير الدجيلي وكوران الطالباني و منذر الفضل وضياء الشكرجي و ريمون برانو وسعد البزاز وجاسم المطير عبد الكريم الكاظمي و أحمد النعمان وآخرين ..
لقد انطلق الموقعون على هذا البيان من حقهم الذي نحترمه في حرية التعبير والتفكير ومن هذا الحق ذاته ، ودفاعا عن الشعب العراقي، وضد جريمة كبرى سترتكبها الإدارة الأمريكية بحقه ويسكت عنها الموقعون ، سنناقش وننقد ونمارس حق الرفض لهذا البيان ومضامينه ، وندعو الشرفاء ممن وقعوا عليه سهوا أو سوء فهم أو استعجال الى التنصل منه فالتاريخ لا ينسى حتى إذا نسيَ المؤرخون المحترفون .
لقد تحدث هذا البيان أو المذكرة كما سميت في العنوان حصرا وتحديدا عما سماه مرحلة ما بعد " تحرير" العراق " وهذا هو الاسم الكودي الذي أطلقه الكونغرس الأمريكي على العدوان العسكري الوشيك ضد العراق وشعبه و ركز على فترة ما بعد العدوان وأجواء وترتيبات تقاسم غنيمة السلطة وآليات التنافس على أصوات العراقيين في الانتخابات الديموقراطية التي يمني الموقعون أنفسهم بإجرائها تحت ظلال القاصفات الأمريكية وعلى جثث العراقيين ، و قد كرر البيان أكثر من مرة وصفه للعدوان بحرب التحرير مع شيء من التمويه والتلكؤ الذي تقتضيه ظروف ترويج الفضيحة فقال ما نصه التالي ، مخاطبا قادة الأحزاب المتجمعين في مدينة أربيل في إقليم كردستان العراق : ( وتحددون مهام هذا المجلس " الاستشاري " بشكل واضح بتركيزه على بناء شؤون المصالحة الوطنية وسهره على إنشاء حكومة عراقية محترفة بعد التحرير تكون مستقلة على الأحزاب جميعا وعن الانحياز لأي طرف ..)
لنلاحظ أن البيان - وعلى ركاكة لغته المتأتية ربما من ترجمة فورية للنص الأصلي عن اللغة الإنكليزية - يطالب الأحزاب العراقية التي يتوجه لها بالخطاب والتي ستجتمع في أربيل " قريبا كما تكرر حتى السأم " بتشكيل حكومة محترفة بعد "التحرير الأمريكي " من غير الحزبيين ! فمن أين يأتي أهل البيان بحكومة محترفة ومن غير الحزبيين والنظام يحتكر السلطة في العراق منذ أربعة وثلاثين عاما ؟ ليس أمامهم والحال هذه سوى خيار واحد هو أن يستلفوا أو يستدينوا "على البيعة " مواهب واحتراف الحكومة الشمولية الحالية !! ومن ناحية أخرى كيف سيكون بوسعهم أن يحكموا العراق بعد الحرب واحتلال العراق من قبل الأمريكان ، وحلفائهم الأمريكان ذاتهم أعلنوها صريحة من أن مشروعهم هو مشروع احتلالي محض ، وانهم سوف يشكلون حكومة عسكرية أمريكية قد تكون بحاجة لعدد من المستشارين من العراقيين من حملة الجنسية الأمريكية كالسيد كنعان مكية والسيدة رندا رحيم و أحمد النعمان وجاسم المطير وغيرهم ؟
ولعل أطرف ما في موضوع بيان العشرين من شباط هذا هو أن أحد المثقفين الموقعين عليه وهو رسام تشكيلي وروائي معروف ( أحمد النعمان ) سحب توقيعه من الداعين الى عقد مؤتمر جماعة الخيار الثالث في التيار الوطني الديموقراطي العراقي المعارض للحرب العدوانية الأمريكية وللنظام معا ، وحين واجهناه بحقيقة انحيازه لخيار الحرب ضد خيار السلام و إنهاء الدكتاتورية رد علينا بأن شرح للرأي العام بيانا آخر من ذات الجهة ( الحملة من أجل المجتمع المدني ) هو عبارة عن رسالة مفتوحة موجهة من ( الحملة ) الى الملوك والرؤساء العرب - الذين يقطرون ديموقراطية - ويطالبونهم فيها بإرسال وفد الى بغداد لإقناع الرئيس العراقي وحكومته بالتنحي عن السلطة والخروج من العراق الى المنفى ! و يكتب الروائي احمد النعمان حرفيا في شرحه ذاك :
(...وبعد أن تشرح الرسالة الموجهة الى القمة العربية بالتفصيل ما يجري داخل العراق من ظلم واستبداد وتعسف تطلب الرسالة العراقية من القادة العرب مد يد العون الى الشعب العراقي لقطع الطريق على الحرب وحقنا لانهار جديدة من دماء العراقيين وذلك: (بالضغط على الرئيس العراقي صدام حسين ومطالبته بالتنحي وترك السلطة, والخروج من العراق هو ومجموعته.. .. وخلاصا للشعب العراقي واجراء سليما من شأنه ان يفتح الطريق لتسوية المشكلة العراقية..الخ ) إنه التشاطر ذاته في الخروج من باب منطق الحرب العدوانية الأمريكية التي يسميها أهل البيان " حرب تحرير العراق " والدخول الى ذات المنطق من نافذة الحرب الأهلية المصحوبة بالاحتلال الأمريكي المباشر والذي لا يخفي الأمريكان خططهم حوله !
ونعود الى البيان الأول " المذكرة " والذي لم يجرؤ أحد من الموقعين عليه حتى الآن للدفاع عنه فهو سكت سكوتا مطبقا ومريبا الى درجة التواطؤ على هذا العدوان وما سوف يتسبب به من دمار وقتل واحتلال مباشر .
وبالمناسبة ،فهذه هي المرة الثانية التي يصدر فيها عدد من العراقيين المقيمين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة وأقطار أخرى بيانا كهذا، وقد حدثت المرة الأولى قبل بضعة أشهر حين وقع عشرون مثقفا على بيان مشابه تطرق الى أوجه المأساة العراقية فأجملها بمأساة الاضطهاد والقمع الدموي الذي يمارسه النظام الشمولي ضد الشعب العراقي وتلك مأساة إجرامية فعلا ولا يمكن السكوت عليها ،ولكن أهل البيان نسوا أو على الأرجح تنسوا المأساتين الكبيرتين المتمثلتين بالحصار الإجرامي المفروض على العراق ، والحرب العدوانية الأمريكية الوشيكة ، وكانت لنا وقفة مع ذلك البيان الأول الذي أعلن بأنه مجرد بداية لحملة جمع تواقيع ولكنه سرعان ما تلاشى وانتهى الى ما انطلق منه ، غير أنه سجل كشهادة تاريخية ضد محرضين علنيين على الحرب على بلادهم أو إنهم - في الحد الأدنى- متواطئون أو ساكتون عليها سكوت الشيطان الأخرس .
ونعود الى مضامين دعاة حرب التحرير الأمريكية الجديد لنقرأ فيه مجموعة مما يسميه الموقعون ( بعض تصوراتنا لأمور نعتقد إنها ستساعد شعبنا بتحسين أموره وتساعد اداءنا العام كمواطنين واحزاب ومؤسسات للمجتمع العراقي المظفر / البيان ) وأول تلك التصورات يدعو الى ( إصدار بيان للمصالحة الوطنية يدعو الناس للاستبشار بالمرحلة القادمة وبمد الأيدي للبعض وفتح صفحة جديدة لتآخي العراقيين وتحريم اللجوء للثار الأعمال الانتقامية حرصا على أطفال العراق من مشاهدة ما يسمح وبما يستطيع القضاء العراقي العادل من معالجته / البيان ) وإذا ما علمنا بأن بيان المصالحة سيصدر بعد انتصار حرب التحرير الأمريكية ،وإذا ما "اقتنعنا" بأن المصالحات تتم بمجرد صدور بيان من مجموعة من الناس فإن الأمر برمته لا يعدو كونه ناتج عن الخوف على أطفال العراق من مشاهدة مناظر الرعب والدماء وكأننا أمام عرض لفلم من أفلام فرانكشتاين ، أما الأطفال العراقيون ذاتهم فلا بأس بأن تتكفل بمصيرهم صواريخ التوماهوك و قنابل طائرات الشبح !
إنه منطق مقلوب لا علاقة له بالمنطق، فالبيان يدعو الى مصالحة وطنية ولكن متى ؟ بعد نشوب الحرب واحتلال العراق وزوال النظام ! ترى ما الحاجة إذن الى المصالحة آنذاك ومن سيجرؤ على ( مد يده لأخيه الإنسان العراقي المستبشر بالحرية ) تحت ظلال الدبابات الأمريكية المتخصصة بقطع أيدي العرب ولمسلمين ؟
وعطفا على موضوع المصالحة ، يمكن القول أن الدعوة الرائجة اليوم الى مصالحة بين النظام والمعارضة صارت في ذمة الماضي سياسيا ومجتمعيا لدى الغالبية العظمى من العراقيين ولكنها – تلك الدعوة – تعكس إحساسا سليما وشعورا صادقا بضرورة اجتراح حل ثالث يرفض التعاون مع المحتلين الأمريكان ويرفض في الوقت نفسه التحالف والدفاع عن النظام الدكتاتوري ، ولهذا اعتبرنا أن الشعار الصحيح والمتساوق مع الواقع الجيوسياسي الراهن هو البحث عن طريق أرحب وأسرع وأكثر أمنا وواقعية لإنهاء المرحلة الدكتاتورية نظاما ورموزا ومرحلة عن طريق تشكيل حكومة إنقاذ وطني تتمثل فيها قوى المعارضة الوطنية والإسلامية ومكونات المجتمع العراقي فورا دون إبطاء لتخرج البلد من المأزق الوطني الشامل ولتبني ركائز وخطوط حركة مقاومة مسلحة شاملة للغزو والاحتلال الأمريكي المحتمل، إما الاستمرار في التعويل على إقامة حفلة تلفزيونية جديدة لتبويس اللحى تتخذ اسم " المصالحة الوطنية " فلن تكون بعد الآن إلا تضييعا للوقت وتغييرا لسياق الأوليات الوطنية والقومية .
وقد يقول قائل : لم لا تكون المصالحة الوطنية طريقا لقيام حكومة الإنقاذ الوطني ؟ فيكون الرد المنطقي على ذلك : ولم لا يكون العكس هو الصحيح إذا صدقت النوايا خصوصا وإن ما قام به النظام الحاكم بحق الشعب العراقي طوال ثلاثة عقود جعل لكلمة "المصالحة" مذاق الاستفزاز الشخصي والإهانة المقصودة لغالبية العراقيين الساحقة ؟ ثم أي معنى للحديث عن المصالحة والنظام متكلس في مواقعه الشمولية القديمة لا يريد أن يبرحها بل يحاول تكريسها ولا يريد أن يقوم بما عليه من مستحقات تاريخية هائلة بل هو مستعد للمقامرة برأس البلد وملايين العراقيين ويرفض بل ويرتعب من مجرد مناقشة موضوع احتكاره لكرسي الحكم المطلق ؟