|
العَقل بين الدِّين والخَوف
حنان بن عريبية
كاتبة
الحوار المتمدن-العدد: 5696 - 2017 / 11 / 12 - 00:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن بنية العلاقات الاجتماعيّة في العالم العربي تستنزف جميع السّبل نحو التحرر من الموروثات ذات الصّبغة الدّينيّة والتّي تقصي أيّ اجتهاد فكري يسمح بالخروج من دائرة التّواكل إلى رحاب العمل الفعلي والواقعي والتّقليص ولو بنسبة ضئيلة من الهوّة التّي تفصل بين المنظومة البالية والمهيمنة وبين الخارطة الاجتماعيّة التّي تستوجب وعيا بالصّراع الحضاري والتّنافس من أجل احتواء جميع أسس القيم الكونيّة من ناحية والقطع مع كلّ ما من شأنه تعطيل نسق التّمدن والحراك الفكري من ناحية أخرى والذّي يستوجب بدوره آليات تنمّي الوعي الجمعي بهدف الخلاص من الفكر الخرافي الغالب على أدقّ تصرفاته وتهيئته من أجل استيعاب جوهر الدولة المدنيّة الحديثة بما تعكسه من تطوّر يشمل جميع مفاصلها...
فالعقل معطى أساسي للتّخلّص لا من الثّوابت فقط بل كغذاء متكامل لصيرورة الحياة وتفعيل النّشاط الدّؤوب في جميع المجالات الاجتماعيّة والتّكنولوجيّة والعلميّة لمواكبة تغيّرات الزّمن ومتطلّباته. وهو الذّي نميّز به الإنسان كجوهر ممتد في الانفعالات والنّشاط يمكنّه ضرورة من تجاوز العقليّات والتراكمات التّي تستنسخ الجهالة والقيام بمراجعات جديّة. إلا انه من المفارقات أن نرنو إلى ما ينمّي التّحرر من تصلّب المورثات التّي تقصي السّؤال ثمّ نجد بترا للنّشاط الفكري وتربّصا بكلّ ما من شأنه أن يخلّصنا من دائرة التّخبط في نفس الأخطاء بما في ذلك توليد العقليّات المحنطّة..
وهنا يمكن طرح العديد من التساؤلات منها ما الّذي يجعل الإنسان يقبل بتعطيل أسمى ميزة فيه وهو العقل.. وهل أنّه واع بهذا التّعطيل.. وإذا كان واعيا بذلك فلماذا يسهل إخضاعه لثقافة الألم التّي تجعله سجينا للمخاوف المستمرّة والتّي تنمّي فيه بدل الإبداع وانعكاس ثقافة الحياة وتجليّاتها شخصا متواكلا ورتيبا من جهة وشخصا عنيفا وهمجيا من جهة أخرى ؟
في المقام الأوّل نلحظ توّغل السّلطة الفقهيّة في أدقّ مكامن الانفعالات الفرديّة وتأصيلها بطريقة تتحوّل أنموذجا يحتذى به في جميع تصرفّات الفرد حتّى تلك التّي تتميّز بالخصوصية لدرجة الافتخار أنّ الإنسان له قواعد حياتيّة منظّمة يتبّعها من لحظة ولادته إلى لحظة مماته. إذ هناك قناعة راسخة أنّ ما ينظمّه الفقهاء ونظّموه من قبل هو ما يجب الاقتداء به ممّا يحدث تشويشا في الوعي الجمعي أنّ كلّ ما يختلف عنهم لا يتطابق مع الشّريعة وهو بمثابة خطر على الإسلام يجب التّصدي له وعدم السّماح بالخوض في المسائل التّي تتعلّق بالدّين ككلّ أو المساس منه أو حتّى الاستفسار فيه. والحجّة في ذلك أنّ من سبقوهم سطروا كلّ شيء ولا يجوز النّبش في التّاريخ حتّى لو كانت هناك أحداث جليّة تحفزّ الإنسان الواعي على أن يسأل أو أن يمارس حقّه الطّبيعي ليفكّر. فالسلطة الفقهيّة تقصي أي فكر ينبني على المراجعة لما في ذلك من مخافة اهتزاز القناعات الجمعيّة التّي أصلّتها هذه السلطة شيئا فشيئا لحدّ القداسة...
إنّ الخلل في تحوّل التّفكير إلى منبع للرّهبة والخوف يدخل في إطار تمظهرات الهيمنة التّي لا تهدف فقط للحفاظ على الثّوابت بل أساسا للحفاظ على السّيطرة الفعليّة على وعي الإنسان وسجنه في بوتقة الجمود. فالخوف كإحساس طبيعي يتم استغلاله لينقلب إلى آلية قمعيّة ممنهجة سواء عن طريق التّرهيب أو التّرويج لثقافة الألم التّي نخرت المجتمعات العربيّة منذ عقود. وبقطع النّظر عن المآرب المرجوّة والمعلوم فحواها بقراءة عكسيّة نستخلص أنّ هناك عقلا يفكّر ويدّبر من أجل ترويض الوعي الجمعي ليبقى وفيّا وبمحض إرادته للثّوابت ونحو اللا تحرّر...
يمكن طرح بعض التّفاسير التّي أعتقد أنّها ستفسر على الأقّل بعض أسباب نكسة العقل ككل ويمكن التّدرج في هذه الأسباب لمعرفة خبايا رضوخ الفرد إلى عدم إعمال عقله وهذا لن يكون سليم المنحى إلا بعرض الثّلاث عقول المتجاورة في الإنسان اليوم والتّي تتلخّص في : - عقل إنسان الكهف - العقل السّحري/الدّيني - والعقل العلمي
بداية إنسان الكهف غرائزي يسعى أساسا إلى البحث عن سبل توفير حاجيّاته ولا يتطلب منه تفكيرا بمعنى الفكر الّذي يبحث في ماهيّة الكون والخلق على الأقل في بداياته بقدر احتياجه لتصدّيه للعوامل الطبيعيّة بجميع تمخضاتها من أجل البقاء. وهو صراع بديهي وغرائزي إبان وجوده وجها لوجه مع الطّبيعة. ولو أنّ الحفريّات أثبتت وجود بدايات تفكير محض لإنسان الكهف يميزه عن باقي الكائنات سواء عبر الرّسومات أو الآثار المتبقيّة من بقايا معدّاته كالصّيد مثلا. أمّا عقل الإنسان السّحري/الدّيني فهو انعكاس لتجاوز مرحلة الضّمور العقلي الأولي وانتهاج مطيّة البحث عن تفسير للكون ككل عند وعيه به وخوفه منه. إذ يحاول الإنسان خلق تصّورات ذاتيّة عن هذا الكون الشّاسع عبر الخرافة والأساطير والسحر لتطويع هذا الكون والبحث في ماهيّته بإبداع مفهوم "خالق عظيم" يمكن تحديده في الزّمان والمكان في مرحلة أولى ثم تطويع الجنس البشري للإيمان بهذه القوّة الخارقة بلجوئه للأساطير المؤسسّة والتّي تضّم جانبا كبيرا من العقل الدّيني بقطع النّظر عن أنّها انحرفت عن أهدافها لحد المزج بين الأسطورة والحقيقة. أمّا عقل الإنسان العلمي فقد نشأ وفق تساؤلات وتجارب وملاحظات تؤسس للحجيّة والمنطقيّة. فهو عقل باحث عن الدّليل المادّي الذي يفسر هذا الكون والذي اكتشف أنه يسير وفق نواميس كونيّة فزيائيّة لم تتغيّر مطلقا سواء كانت تتعلّق بالأجسام المتناهية الصّغر أو الأجسام المتناهية الكبر. فالعقل العلمي يتّجه أساسا لتجاوز المفاهيم الغيبية لتهذيب النزعة الفوضويّة والخرافية للفرد عبر خلق مجتمعات متحضرة واقعيّة تنفي منطق القبليّة وتمحو الصّراعات التّي لا تضيف شيئا نحو التّقدم بقدر خلق عقول مطحونة ..
فالعقل العلمي لا يستمدّ منهجه من الوهم أو استقبال المورثات كما هي دون تفكير. هو عقل نشيط يميّز بين المحنّط والمتغيّر عبر السّعي الدّؤوب إلى المراجعات الدائمة من أجل تطوير الحياة ومواكبة تغيّرات الزمن عكس العقل السّحري/الدّيني الّذي يعمل على تعطيلها بأيّة طريقة وانتهاج نسق الرّكود والسّعي فقط للعالم الأخروي والغيبي ويتّم هذا عبر آلية زرع الخوف والوعيد بالعقاب الشّديد وقمع أي انطلاق ذاتي أو خروج عن السّرب. عقل يذّكر الحيّ بموته وبما أعدّ له الأموات من عدّة تسبق موته وما ينتظره بعده. عقل يذّكره كلّ لحظة بطريقة هي بالأساس تعدم معها جميع مكامن الحياة عبر ترهيب وتخويف ومحاولة شلّ كل ذرّة وعي أنّ الموت شيء بديهي جدّا ولا مخافة منه ولا مهرب. فالسّلطة الفقهيّة تسعى لترسيخ الاعتقاد أنّ الفصل بين الحياة والدّين في المطلق هو عبارة عن اختيار للاثم والخطيئة التّي لا تغتفر لا في الحياة ولا بعد الموت..
بذلك نستخلص أنّ السلطة الفقهيّة لا تروم السّير الطّبيعي للحياة أو بذل الجهد في احتواء القيم الكونيّة بقدر جعل الآخر الّذي لا يتجاوب ونظامها عدّوا للدّين وجبت محاربته ممّا يجعل العقل يتأرجح بين وطأة هذا الأخير وبين الخوف وهذا ما يضخ توالدا واضحا للتّواكل من ناحية وإفرازا لعقليّات عنيفة لا تستوعب لا ثقافة الحياة بجميع أبعادها ولا ثقافة الانعتاق من التّراكمات التّي تأصلّت في المخيال الجمعي ولا حتّى استيعاب سلبيّات الثّقافة السّوداء التّي تتخذّ من الدّين مطيّة لنخر سبل التّمتع برؤى شاسعة لا تلك الضّيقة التّي ترى الانفتاح عدّوا للدّين وترى الحريّة مجونا واعتداء على حرمته من ناحية أخرى.
كذلك يمكن لنا حصر ما ارتضته حقيقة المجتمعات العربيّة لنفسها من بقاء بين ثنائيّة عقل الإنسان الكهف وعقل الإنسان السّحري/الدّيني كما نلحظه في التّصرفات اليوميّة للإنسان العربي وإلا كيف نفسّر إيمانا يحتكم لوجود خالق وقادر ومرجعيّة لحماية روحيّة وطمأنينة وفي نفس الوقت اللّجوء للتّمائم والطّلاسم والشّعوذة والسّحر.. أليس هذا نوعا من التّأرجح الوجداني المضطرب. وإلا كيف نفسّر إيمانا بخالق عظيم ثمّ يتّم اللّجوء لواسطة تحتّل مكانه وتشرّع بدلا عنه في أدّق انفعالات الإنسان أو تختزل هذا الكون الفسيح في جسد عضوي. والأهمّ كيف نفسّر طمس جميع معالم الإنسان المتحضّر والمتحرر من قيد الإنسان المستهلك فقط لنرى إنسانا يدافع عن الدّين بشكل مستميت وأخلاقه في الحضيض ولا يستوعب حتّى أنّه يسيء للدّين بغطرسته وترهيبه ولا مبالاته بشّتى أنواع الزّيغ أو حتّى الوعي بالفرق بين التعامل اليومي في الدّول العربيّة الذي يغلب عليه نزعة قانون الغاب وبين ما نراه من تعامل في الدّول المتقدمة تعاملا يعكس إنسانا متمدّنا وحضاريّا لا عنجهيا و يقدر قيمة احترام التّعامل الاجتماعي.
في الحقيقة إن محاصرة العقل وسجنه سبب رئيسي في انتعاش الخرافات واجترار للمندثر والمهترئ وتوغّل سدود الإكراه التّي تبدو في ظاهرها كصمّام محكم لا من أجل حماية الدّين بل لتوخّي الحذر من صحوة فكريّة جماعيّة تقبل بالسّؤال والبحث وتتقبّل الرّأي المخالف مهما خاض في مسائل دينيّة وفقهيّة دون انتهاك حرمة الشّخص. صحوة تعي أنّ الإنسان هو كائن حيّ لا يجوز التّعامل معه كصلصال يطّوع. وأمام حجم وطأة القمع المعرفي والتّربص بكلّ من يخوض مراجعات تاريخيّة عبر معايير تتماشى والإنسان المتحضّر والواعي الّذي تجاوز مرحلة الخرافات والوهم لمرحلة الواقعيّة والتّجربة والتّساؤل نلحظ تخوّفا جليّا من نبش فجوات تاريخية لم يثبت وجودها قط...
#حنان_بن_عريبية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جَرّبهم
-
لسْتُ نِصفًا
-
بِمَ تَسْتَهِينْ؟
-
تونس : مجلّة الأحوال الشّخصيّة مجلّة قانونيّة وليست مجلّة مو
...
-
رَحِمْ الزَّبَرْجَدْ (7) عَدوى أخْلاقِيّة
-
رَحِمْ الزَّبَرْجَدْ (6) أصْدقاء ولِكن قَراصِنة
-
رَحِمْ الزَّبَرْجَدْ (5) لست ذكيّا أنت أحمق في سطر من قصة كا
...
-
التعليم والثّقافة خلط أم تشويش
-
المرأة الإنسانة وبدويّة الدّولة
-
رَحِمْ الزَّبَرْجَدْ (4) الاِلْحَاد الجنسي اللَّذِيذْ
-
رَحِمْ الزَّبَرْجَدْ (3)... الرِّسالة
-
رَحِمْ الزَّبَرْجَدْ (2) … أنا الجنّة وهم أصفاد الجحيم
-
رَحِمْ الزَّبَرْجَدْ (1) …
-
الانتقال الديمقراطي في العالم العربي: توتس نموذجا
-
الله يحبّ عيد الحب
-
ليس الجميع أنت
-
آن الآوان أن تكفُرْ
-
كان رجلا
-
تعبدت عارية
-
إيمان الحفظ والتلقين سجن للنفس ودمار للعقل
المزيد.....
-
بابا الفاتيكان: الغارات الإسرائيلية على غزة وحشية
-
رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا يعلق على فتوى تعدد الزوجات
...
-
مـامـا جابت بيبي.. حـدث تردد قناة طيور الجنة 2025 نايل وعرب
...
-
بابا الفاتيكان يصر على إدانة الهجوم الاسرائيلي الوحشي على غز
...
-
وفد -إسرائيلي- يصل القاهرة تزامناً مع وجود قادة حماس والجها
...
-
وزيرة داخلية ألمانيا: منفذ هجوم ماغديبورغ له مواقف معادية لل
...
-
استبعاد الدوافع الإسلامية للسعودي مرتكب عملية الدهس في ألمان
...
-
حماس والجهاد الاسلامي تشيدان بالقصف الصاروخي اليمني ضد كيان
...
-
المرجعية الدينية العليا تقوم بمساعدة النازحين السوريين
-
حرس الثورة الاسلامية يفكك خلية تكفيرية بمحافظة كرمانشاه غرب
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|