|
بَا دْرِيسْ
محمد فري
الحوار المتمدن-العدد: 1469 - 2006 / 2 / 22 - 09:47
المحور:
الادب والفن
أحسن لحظاته عندما يسترجع زمنه بالجيش الفرنسي، يتكئ بمرفقه على صناديقه المليئة بالخضر، وينظر إليك صامتا، مركزا عينيه في عينيك في محاولة لدعوتك إلى الانتباه، ينطلق من تاريخ يحدده بدقة، ليسترسل في سرد لا ينضب، فتتصوره وثيقة متعددة الصفحات…. ” ….في 1942 ( ينطق الرقم بالفرنسية )، كنا بالجبهة الشرقية، حملنا البنادق وجرينا نحو الخندق، الرصاص يتهاطل بجانبنا مثل البلوط..والألمان بالجهة المقابلة على بعد أمتار قليلة..كانوا رجالا..ولم نكن ننقصهم رجولة..الرصاص كالذباب..نسدد بدورنا..نضغط على الزناد..يتساقط الجنود هنا وهناك….” وتتضخم صورته داخل ذهني الصغير وأنا أتابع حكايته التي لا يقطع استرسالها إلا زبون أو زبونة، فيبادر إلى الميزان ليملأ كفته بكيلو بطاطس أو طماطم أو بصل، ثم يضع ذلك في كيس من الورق يلفه بعناية ويقدمه لصاحبه ليعود متابعا حديثه. لم يكن يكسب الكثير من بضاعته، فأغلب الزبناء يعيشون حياة متواضعة، يسكنون حيا يطلق عليه ” الدور الجدد ” ، سمعت أنها بنيت عوض دور الصفيح والبراريك التي أحرقها الفرنسيون في عهد تواجدهم، بدعوى القضاء على مخابئ سلاح الفدائيين. الدور مقسمة إلى مجموعات رمز إليها بحروف لاتينية، كل مجموعة قسمت بدورها إلى أزقة مرقمة، اصطفت على جانبيها منازل ضيقة حشرت فيها عائلات متعددة الأفراد. أغلب السكان من قدماء المحاربين المتقاعدين الذين دفع بهم للمشاركة في الحرب العالمية والحرب الهند الصينية، يتحلقون كل شهر أمام مكتب بريد الحي لاستلام معاشا ت لاتكاد تسد حاجياتهم الضرورية، فيلجأ بعضهم إلى ترقيع الشهر ببيع الخضر والنعناع أو الزعبول أمام الدكاكين المتواجدة بالبناية العالية المتوسطة للحي والتي أطلق عليها ” الدار العالية “..ربما هو اسم استوحاه سكان الحي مقارنة مع منازلهم ذات الجدران القصيرة. أما الأخرون وهم الأغلبية، فيقضون نهارهم في مباريات رقعة الضامة، يتحلقون في مجموعات ويشرعون في تحريك البيادق في اتجاهات مدروسة ترافقها تعليقات ذكية لا يتقنها سوى المهرة من اللاعبين: - ” طيح في الواد ! - ” انفخ المنطيح قبل ما ينشفو رجليه ! ” - ” ها واحد ضامة ! ” - ” كلينا هذا…” ويبلغ الحماس أوجه عندما يراهن اللاعبون على تعليق أشياء غريبة برأس المغلوب، أو أمره بالابتعاد من الرقعة شبرا كلما انهزم في شوط ، فيصبح المنظر مضحكا أحيانا عندما يتكرر انهزام أحد اللاعبين، “ويحكم” عليه بالابتعاد مسافة كبيرة يضطر معها إلى الانبطاح أرضا ومد أصابعه بمشقة إلى الرقعة لتحريك البيادق طامعا في كسب شوط يقربه إلى الرقعة ويخفف المعاناة. كانت الرقعة بالنسبة لأغلبهم رمزا لحروب وهمية تجسد معاركهم الماضية التي خرج أغلبهم منها بأعطاب وإعاقات مختلفة.. ولم يكن با دريس يلعب الضامة، ربما كان يرى في ذلك انتقاصا من وقاره ورزانته، وقار أذكر أنه لم يفارقه رغم تحرش بعض الزبونات، تأتي إحداهن فتجادله في ثمن الجزر، وتحمل منه قطعة بحركة موحية خليعة وهي تساومه ثمن الكيلو..فيرد في غير مبالاة: - ” الهم طلع في الراس ” وينشغل بتحضير الطلب ولفه بسرعة في الكيس معلنا بذلك عن انتهاء كل كلام. كان الزبناء قليلين، وأغلبهم لا يؤدي إلا في آخر الشهر، وكانت الأرقام تتكدس في دفتر ديون با دريس، لايكاد يمحى بعضها حتى يتجدد غيرها بسرعة..وهو مضطر إلى ذلك وإلا بقيت بضاعته مكدسة في صناديقها معرضة للتعفن، وقد ينتظر طويلا إلى أن يأتي زبون بين الحين والحين، فيجلس على صندوقه الخشبي، ويجعل من الجلسة استراحة يستغلها كعادته في سرد بطولات غابرة يعصف به الحنين إليها…. ” …. كان ذلك سنة 1952،..وكنا بالهند الصينية، الأدغال كثيفة، والجنود لايتميزون عن أوراق الشجر.. شياطين حقا..يتنقلون كالزئبق..الرطوبة وحرارة الطقس..ولم يغلبنا إلا البعوض الذي لا يشبه بعوضنا..هو بحجم الليمونة أو أكثر..” - ” وكيف يستطيع الطيران آ با دريس؟ ” ويتجاهل السؤال المتعمد مستمرا في خلطه بين الكوريين والصينيين..وبين البعوض والخفافيش. ويتابعه الحاضرون بشغف، ولم أكن أقل منهم شغفا أو حماسا..ما أن يبدأ حديثه حتى يرين الصمت، فتحملق العيون، وتصغي الآذان، وتنفغر الأفواه، وينشد الجميع إلى با دريس وهو يخطر في لباسه الكاكي القديم، يشمخ بقامته الفارغة، مرفقا حديثه بحركات توضيحية تشخص امتشاق بندقية أو إلقاء قنبلة…. ” …. القاذفات تتساقط من كل جانب، والانفجارات تشتت الرمال وتترك حفرا عميقة، ومشاة الجبهة يتقدمون غير عابئين بالرصاص، العدو مقصدهم..ومواجهته مطلبهم، وعند المواجهة تبدأ حرب البايونيط..فتتحول البنادق إلى حراب حادة..وتسيل الدماء كالأنهار….” ويمسك با دريس بعصا المكنسة ويوجه ضربات محسوبة في الهواء مواجها أعداء وهميين..فأخاله يحارب الكفار .. يشتت شملهم ويضعضع صفوفهم. كنت أكره كل من ينتقص من با دريس، ولم أكن أحب زوجته السليطة اللسان، والتي تأتي كل مساء تنبهه إلى تأخره عن البيت..وغالبا ما كانت تأتي في لحظات يكون فيها منسجما مع حكاياته، فتقطع كلامه غير مبالية بسامعيه الذين يخفون تذمرهم، ولم يكن يملك با دريس إلا الإذعان لأمر زوجته، فيجمع صناديق الخضر في زاوية معينة، ويغطيها بقطع من الخيش، ولا ينسى أن يوصي الحارس الليل خيرا بالبضاعة، ثم ينطلق مع زوجته نحو البيت إلى أن تبتلعهما الظلمة..فأشعر بامتعاض شديد يتضاعف بداخلي وأنا أسمع تعليقات والدي صاحب الدكان المقابل لصناديق الخضر، عندما يلمح مع أصدقائه إلى استسلام با دريس لأوامر ” الهيئة العليا “. لكن هذا الشعور يغيب عني ويندثر كل صباح وأنا ألمح با دريس يرتب صناديقه من جديد في حيوية ونشاط متقمصا شخصية الفارس صاحب البطولات الأسطورية. وحدث ذات يوم أن احتاجت الحكومة إلى استنفار قدماء المحاربين، قيل آنذاك إن خصاما حدث مع الجارة حول قطع من الرمال، وتوصل أغلب المحاربين المتقاعدين باستدعاءات من أجل الفحص الطبي، وتسلم با دريس استدعاءه بدوره، وأطلع الجميع عليه وهو في نشوة عارمة، متناسيا ثقل سنواته التي تجاوزت الستين، وتخيلته صغر أكثرمن عشرين سنة وهو يتلهف لاجتياز الفحص، ويتشوق إلى ارتداء بذلة كاكية جديدة يستبدل بها بذلته القديمة التي ورثها عن الجيش الفرنسي. شعر أنهم يهتمون به من جديد، وأنهم يعيدون إليه اعتباره.. وأتى اليوم الموعود، وأظهر با دريس ذاك الصباح نشاطا غير معتاد..جذب أنفاسا من لفافة تبغه الأسود، وتأمل الاستدعاء من جديد وكأنه لا يصدق عينيه، ثم ودع الحاضرين، ودعا له هؤلاء وهم يشيعونه إلى مركز الفحص رفقة أصدقائه.. في المساء لم يأت با دريس، وتساءل عنه الكبار، وانتظرناه نحن الصغار، وظلت صناديق الخضر مغطاة بقطع الخيش، ولم تأت زوجته ذاك المساء. وفي الصباح لم يستيقظ با دريس مبكرا كعادته، ومرت ساعات الصباح الأولى ثقيلة دون أن يظهر.. ثم رأيناه من بعيد يجر خطوات متثاقلة، وتخيلته لأول مرة أقصر من قامته المعهودة، ولم يسلم علينا بحيوية كعادته، بل اكتفى بترتيب الصناديق في فتور واضح..ومنذ ذلك اليوم قل كلامه.. ولم يعد يهتم بحكاياه.
#محمد_فري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا والورقة
-
حلم فوق بساط الريح
-
فارس بلا جواد
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|