|
المسيرة الخضراء : تاريخ ما لا يجب أن يهمله التاريخ
فخرالدين القاسمي
الحوار المتمدن-العدد: 5690 - 2017 / 11 / 6 - 20:01
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
المسيرة الخضراء : تاريخ ما لا يجب أن يهمله التاريخ .
لن يكون بإمكان أي مؤرخ تجاهل حدث تاريخي أحدث بصمة في تاريخ أمة من الأمم، ويبقى حدث المسيرة الخضراء علامة بارزة في نضال المغرب شعبا وملكا لأجل استكمال وحدته الترابية ، بالنظر لما خلفته من أصداء محلية وعالمية واسعة، وفيما أحدثته من نكسة في مناورات خصوم وحدته الترابية، ومن تقدم على صعيد مسلسل نضال المغرب من أجل استرجاع صحرائه ، والأهم ان المسيرة الخضراء المجيدة مهدت لمستقبل مشرق كان قوامه التخلص من الاستعمار واسترجاع الأراضي المسلوبة إلى الوطن الأم، عبر من خلالها المغاربة كافة للاحتلال الإسباني والعالم عن وعيهم بوحدتهم الترابية والتشبث بها إلى آخر رمق مهما كان الثمن وإن كان على حساب أرواحهم. جاءت فكرة المسيرة الخضراء بعد المناورات السياسية التي أقدمت عليها إسبانيا بالأقاليم الصحراوية، متجاهلة مقررات منظمة الأمم المتحدة، والرامية أساسا إلى إبداء قرارات هادفة إلى فصل الصحراء عن المغرب، خاصة عندما أقدمت على تأسيس مجلس جماعي للصحراويين في أواخر يناير 1971 م، طامعة بواسطته إلى تكريس الارتباط الأبدي للأقاليم الصحراوية بإسبانيا. وبعد فشل المحادثات مع فرانكو في تسوية الأمور الداخلية للصحراء المغربية، وقصور مجهودات الأمم المتحدة في تسوية القضية، على أن تقرير المصير فتح مجموعة من التساؤلات في حق تاريخ الصحراء المغربية. أعلن المغرب عزمه على عرض المشكلة أمام أنظار محكمة العدل الدولية لتعطي رأيا استشاريا في الموضوع، وبمجرد صدور الرأي الاستشاري أعلن العاهل المغربي الحسن الثاني عن تنظيم مسيرة للالتحاق بالصحراء المغربية وتحريرها سلميا من الاستعمار الإسباني . جاءت تلك المسيرة لتحمل الإسبان على فك احتلالهم لهذا الإقليم وتضع الخصمين الجزائري والصحراوي أمام الأمر الواقع.إن المسيرة الخضراء كانت بما حققته قد كشفت الستار عن أصدقاء المغرب وخصومه المتمثلين في أعداء الوحدة الترابية ومن تسول لهم أنفسهم المساس بها، ونخص بالذكر هنا الجزائر، التي حاولت أن تضرب في قضية الصحراء المغربية على كل الأوتار وأن تركب كل الموجات، وهمها الأول والأخير فصل الصحراء عن المغرب وبأي ثمن ، و دعم المنظمة التي أوهمت بها العالم وساهمت في صنعها )منظمة جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب( اختصارا البوليساريو. عمل المغرب بكل ما أوتي من قوة على استرجاع أراضيه المغتصبة، واستعمل في ذلك وسائل مختلفة يبقى أبرزها المسيرة السلمية، "فبالمسيرة انتصرنا على أنفسنا، وسوف نظل ننتصر عليها في الداخل منذ تيقنا أن لا وحدة لإقليم المغرب إلا بتوحيد الصفوف" ، كما دعا إلى ذلك الملك الراحل الحسن الثاني ، وهي الدعوة التي لقت استجابة كبيرة في الأوساط الشعبية المغربية، حيث شارك فيها المغاربة بكل فئاتهم، ولبوا بذلك نداء وطنهم وملكهم الذي قال في أحد خطبه :"لم يبقى شعبي العزيز إلا شيء واحد، إننا علينا أن نقوم بمسيرة خضراء من شمال المغرب إلى جنوبه ومن شرق المغرب إلى غربه، علينا شعبي العزيز أن نقوم كرجل واحد بنظام وانتظام لنلتحق بالصحراء لنحي الرحم مع إخواننا في الصحراء" . كما لقيت ترحيبا كبيرا في الأوساط العربية والدولية، حيث أنه لم يكن غريبا أن تنطلق الدول العربية الواحدة تلو الأخرى في تأييد المغرب عند اتخاذه قرار المسيرة، فقبل اتخاذ هذا القرار بوقت طويل والمحافل السياسية العربية على اختلافها تبدي اهتماما بالقضية الصحراوية وتؤكد استعدادا لمساندة المغرب في كل خطوة يخطوها من أجل استرداد صحرائه ، ولم تقف بعض الدول العربية عند هذا الحد، بل هناك من الدول من أرسلت وفدا تضامنيا. وجدير بالذكر أن المسيرة لقيت كذلك تأييدا من بعض الدول الإفريقية كالغابون والسينغال وساحل العاج، ومن طرف منظمات وشخصيات دولية، كرابطة العالم الإسلامي والأمين العام للمؤتمر الإسلامي . أما بخصوص الدول العظمى أو الدول الغربية فقد كانت مساندة لإسبانيا إعلاميا ، حيت كانت إذاعتها تهاجم المغرب كجريدة "لوموند" اليومية ،بينما كانت أمريكا طرفا تتعامل مع القضية بالحياد والحذر، وتأخذ بالاهتمام تحالفها الاستراتيجي مع إسبانيا وكان همها ألا تقوم حرب بين إسبانيا والمغرب، فحسب قول "أثرتون" إذ وقع عنف لن نضمن لكم شيئا بل سنترككم أنتم والإسبان وجها لوجه وما ننصحكم به ننصح به الإسبان أيضا. لقد كانت المسيرة الخضراء مجمعا لتكتل حقيقي تجانست فيه كل الأقطار عربية كانت أو أجنبية وتوحدت فيما بينها على كلمة واحدة يزول الاستعمار، بالرغم من تلون مواقف بعض الدول الشقيقة كالجزائر التي حرضت إسبانيا ضد المغرب. وما أن أعلن الحسن الثاني عن هذا التنظيم السلمي لاسترجاع صحرائه حتى أكد جلالته على المعنى السلمي للمسيرة عندما قال "... مسيرتنا سنذهب فيها بدون سلاح، يجب أن نتفق على أننا لا نحارب إسبانيا، ذلك أنه لا يمكننا أن نحارب إسبانيا لأنها لم يعد لها دخل في المسألة ، ثم أضاف "... شعبي العزيز، كما قلت في خطابي الأول، إذا ما لقيت إسبانيا كيفما كان حال الإسباني عسكريا أو مدنيا فصافحه، وعانقه، واقتسم معه مأكلك ومشربك، وأدخله مخيمك فليس بيننا وبين الإسبان غل أو حقد ،فلو أردنا أن نحارب الإسبان لما أرسلت الناس عزالا بل كنا ارسلنا جيشا باسلا، ولكننا لا نريد أن نطغى ولا أن نقتل وأن نسفك الدماء بل نريد أن نسير على هذي من الله في مسيرة سلمية . جرى التحضير للمسيرة الخضراء في جو من التعبئة والحماس الشعبي والاستعداد اللوجستيكي، حيث تم تسجيل 350.000 مشارك من كافة الأقاليم المغربية ، وسخرت جميع الشاحنات التي في البلاد لنقل المشاركين إلى طرفاية على الحدود مع الصحراء الإسبانية ، لقد جاءت المسيرة الخضراء لتضع حدا فاصلا مع منطق الحرب وأسلوب المغامرة العسكرية، وحرصا من جلالته المغفور له الحسن الثاني على تجنيب المنطقة حربا مدمرة ،اتخذ قراره الحكيم بتنظيم مسيرة سلمية داعيا بذلك إلى نبد كل أشكال العنف والصدام واللجوء إلى الحوار لتسوية النزاع، ويتضح ذلك جليا من خلال المعنى السلمي للمسيرة حيث لم يحمل السلاح قط من طرف المشاركين، وإنما كان سلاحهم هو الإيمان بقضية وحدتهم الترابية وعدم التخلي عن حبة رمل من رمال صحرائها. سار المشاركون العزل يؤطرهم 20000 من جنود القوات المسلحة الملكية بإتجاه الجنوب، وفي غضون ساعات قليلة تلقى الجيش الإسباني الأمر بعدم اعتراض الحشد المغربي، وأحرى أن لا يتعرض له بالسلاح، وفي 9 نونبر أمر الملك المسيرة بالتوقف بعد ثلاثة أيام قطعت فيها كيلومترات قليلة، بعد ان حققت المسيرة أهدافها السياسية والرمزية، ونورد في هذا السياق ما قاله الراحل الحسن الثاني في كتاب "ذاكرة ملك"، عندما سأله الصحفي الفرنسي "‘إيريك لوران" في - أي وقت بالضبط قررتم وقف المسيرة الخضراء؟ أجاب: في الوقت الذي أدركت فيه جميع الأطراف المعنية أنه يستحسن أن تحل الديبلوماسية محل الوجود بالصحراء؛ وهذا ما كان بالفعل حيث سرعان ما دخلت الأطراف المعنية بقضية الصحراء المغربية في مفاوضات مباشرة لتسوية هذه القضية، ويبقى مؤتمر مدريد الثلاثي أهم إفرازات هذه المفاوضات. وبهذا تكون المسيرة الخضراء التي أعلن انطلاقها المغفور له الحسن الثاني في 6 نونبر1975 م، في دهاء سياسي منه، سياسة سلمية نبذ من خلالها كل أشكال العنف، ورفع فيها شعار السلمة كوسيلة للخلاص والانعتاق؛ الذي سيبقى خالدا في ذاكرة العالم بأسره، بل و أيقظت في نفوس الشعوب الإيمان بتحقيق المستحيل بطرق سلمية، هكذا إذا كانت المسيرة تعبيرا عن تقوية أواصر الأخوة والتعاون والالتحام بين أفراد الشعب المغربي من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه. وفي الأخير لا يسعنا ولا يسع أي أحد قرأ ودرس المسيرة الخضراء من خلال المعطيات الرقمية، و المعطيات التاريخية التي كتب منها المغاربة والأجانب إلا أن يقف متأملا في الفكر الخلاق للملك الحسن الثاني، والتنفيذ المنضبط والاحترام الذي بدله الشعب المغربي في هذه المسيرة التي أقل ما يمكن أن نطلق عليها اسم مسيرة "الحرية والكرامة وجمع الشمل".
#فخرالدين_القاسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حركة الأشراف السعديين من الجهاد الى السلطة .
-
1. قضية الصحراء في العلاقات المغربية الافريقية بين سنتي(1972
...
-
الديمغرافية التاريخية: دراسة حالة المغرب الوطاسي.
-
التغذية والغذاء خلال الفترة الوطاسية: مباحث في المجتمع والفل
...
المزيد.....
-
رئيس كوريا الجنوبية يقبل استقالة وزير الدفاع ويعين السفير لد
...
-
الأسد يوجه بزيادة 50% على رواتب العسكريين وسط تصعيد عسكري شم
...
-
توغل إسرائيلي شمال خان يونس، ومقتل العشرات في غارات جوية
-
تعليق الدراسة بسبب انقطاع الكهرباء في كوبا
-
القاهرة.. منتدى لخريجي الجامعات الروسية
-
وفد أوكراني يلتقي مستشار ترامب المستقبلي
-
وسائل إعلام فرنسية: ميشيل بارنييه سيقدم استقالة حكومته الخمي
...
-
الولايات المتحدة تهدد بفرض عقوبات على جورجيا بسبب قمع الاحتج
...
-
فيتنام.. مقتل 12 جنديا في انفجار خلال تدريب عسكري
-
بعد زلزال دمياط.. رئيس البحوث الفلكية في مصر يوجه رسالة حاسم
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|