مهدي كاكه يي
الحوار المتمدن-العدد: 5678 - 2017 / 10 / 24 - 21:23
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين والعلاقة بينهم (40) – أسلاف الكورد: الميديون
ديانة الميديين ومعتقداتهم (2)
في الحلقة السابقة تم الحديث عن الإله (بگا)، الذي كان إلهاً للنور والحكمة في العصر الميدي وإتخاذه هو والملائكة المحيطين به لقب (يزدان) وأن الميديين قد ورثوا الثقافةَ والمعتقدات الخورية لأنهم أسسوا مملكتهم على الأراضي الخورية وظهور الدعوة الدينية لِزردَشت في أواخر الحُكم الميدي وإضطراره أن يترك قومه ومدينته ويهاجر إلى مقاطعة (باكتريا) لِنشر دينه هناك نظراً لرفض الميديين لِدعوته. كل هذه الأمور تشير الى أن الميديين كانوا لا يعتنقون الديانة الزردشتية. في هذه الحلقة نواصل ذكر أدلة أخرى تُشير الى أن اليزدانية كانت الدين الرسمي للمملكة الميدية.
4. يذكر (هارڤي پورتر) أنّ الفرس الأخمينيين إعتنقوا الديانة الزردشتية وألغوا الدين المجوسي (الدين اليزداني)، إلا أنّ الثائر الميدي (گوماتيس) الذي كان مجوسياً، قد أعاد الدين المجوسي. دارا الأول الذي حكمَ بعده، قام بإبادة المجوس وثبّت الدين الزردشتي في البلاد من جديد4.
بعد تسلّم (دارا الأول) الحُكم في المملكة الأخمينية، بدأ الفرس يستحكمون سيطرتهم على مقاليد البلاد ويُرسّخون حُكمهم وبدأوا بإبعاد الميديين عن المناصب المهمة. حينئذٍ جعل (دارا الأول) الزردشتية الدين الرسمي للبلاد وبدأ يشنّ حرباً شرسة على الديانة اليزدانية وكهنتها (الكهنة المجوس). يقول ديورانت بهذا الصدد:
ولعل دارا الأول حينما إعتنق الدين الجديد رأى فيه ديناً مُلهِماً لشعبه، فشرع منذ تولّيه المُلك، يثير حرباً شعواء على العبادات القديمة، وعلى الكهنة المجوس، وجعل الزردشتية دين الدولة"5.
يذكر هارڤي پورتر أيضاً حول هذا الموضوع قائلاً:
"دين الفرس هو دين زردشت الذي ذكرناه في تاريخ الميديين، ولمّا غلبوا الميديين، نسخوا مذهب المجوس الفاسد، لِ(سميرديس) الكاذب أي (گوماتيس) الذي أعاده؛ إذ كان مجوسياً، لكن دارا الذي خلّفه، أهلك المجوس بعد إرتقائه، وتمسّك بالمذهب القديم"4. في المواجهة بين النخب الفارسية بقيادة دارا الأول من جهة، والأخوَين الميديين (پيرتزيثيس) و(سميرديس) من جهة أخرى، كان الميديون تتم تسميتهم بِ(مجوس)، ولذلك بعد مقتل الأخوَين، إنصبّ إنتقام الملك الأخميني على (المجوس)، حيث يصف (ديورانت) (سميرديس) قائلاّ:
"كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية، دين الدولة الفارسية الرسمي"6.
قول الملك الأخميني دارا الأول المحفور في نقش بيستون يدعم ما يذكره كلٌّ من ديورانت وهارڤي پورتر، حيث أنّ دارا الأول يفتخر في النقش المذكور بإنجازاته بعد قضائه على ثورة الأخوَين الميدييَن قائلاً: إن المعابد التي هدمها (گوماتا) قمتُ بإصلاحها كما كانت، والتي أخذها (گوماتا) الموغ، أرجعتُها7.
من جهة أخرى، يذكر المؤرخ إبن العبري (گريگوريوس الملطي) أن (دارا الأول) كان إبن (هشتاسب) حاكم (باكتريا)8. هذا يعني بأنّ (دارا الأول) كان يعتنق الدين الزردشتي الذي كان دين والده، ولهذا السبب شارك (دارا الأول) مع الزعماء الفرس الستة الآخرين في الهجوم على الأخوَين الميدييَن الموگييَن الثائرَين ضد الحُكم الأخميني و اللذَين حاولا إستعادة الحُكم الميدي، حيث كان (دارا الأول) قائداً لهذه المجموعة المهاجمة9.
مما تقدم يظهر أن معتقدات الملوك الأخمينيين قبل إستلام الحكم من قِبل (دارا الأول)، كانت نفس المعتقدات التي كانت سائدة خلال الحُكم الميدي، حيث كانت لِميثرا مكانةٌ مرموقة وأنّ الملك الأخميني (دارا الأول) هو الذي تبنّى الديانة الزردشتية وجعلها الدين الرسمي للمملكة الأخمينية. في الديانة الزردشتية التي فرضها (دارا الأول) إنخفضت مرتبة (ميثرا) من (إله) الى أحدَ كبار الملائكة المساعدين للإله (آهورامزدا) الذي هو ضد إله الظلام (أهريمان)، بينما في الدين الميثرائي، فأنّ إله الشمس (ميثرا) هو أكبر الآلهة و(أنايتا) إلهة الخصب والأرض، وأنّ (هَوْما) هو الثور المقدس الذي مات ثم بُعِث حياً، ووهب الجنس البشري دمه شراباً ليسبغ عليه نعمة الخلود. كان الآريانيون الأولون يعبدونه بِشرب عصير (هَوْما) المُسكّر الذي هو عشب ينمو على سفوح الجبال في مناطقهم .
أود هنا أن أذكر بأن هناك أناساً كثيرين يظنون أن الدين المجوسي هو الدين الزردشتي وهذا غير صحيح، حيث أن الدين المجوسي هو الدين اليزداني الذي هو أقدم من الدين الزردشتي بآلاف السنين. يمكن إعتبار الزردشتية فرعٌ من الديانة اليزدانية، حيث أن زردشت أخذ الكثير من فلسفة دينه وطقوسه وتعاليمه من الدين اليزداني وأن زردشت نفسه كان يزدانياً قبل أن يدعو الى دينه الجديد. أحب أيضاً أن أشير الى نقطة مهمة أخرى وهي أن الديانة اليزدانية كانت إلهاماً روحياً لأسلاف الكورد الميديين، غير أن الفرس قطعوا الصلة الروحية للميديين حينما ألغوا الدين اليزداني وبذلك ألغوا المرجعية الدينية الميدية والثقافة الميدية وتبنّوا الديانة الزردشتية بعد تعديلها لتكون في خدمة القومية الفارسية. من هنا نرى أنّ اليزدانية هي الدين الأصيل للشعب الكوردي ورغم أن زردشت كان كوردياً، إلا الديانة الزردشتية تمّ تبنّيها وإستغلالها من قِبل الفرس وبها أسقطوا المملكة الميدية وقطعوا صلة الكورد بِمعتقداتهم الدينية وصلاتهم الروحية ومرجعيتهم الدينية وبذلك قطعوا الطريق على الكورد في تأسيس كيانٍ سياسي لهم الى الآن. من الجدير بالذكر أن العرب، عن طريق الخطأ، يطلقون عبارة "الفرس المجوس" على الفرس، حيث يتضح مما سبق بأن الكورد والفرس والأرمن والشعوب الأخرى التي كانت تابعة للمملكة الميدية، كانوا يعتنقون الدين المجوسي (اليزداني)، بينما بدأ الفرس بإعتناق الديانة الزردشتية بعد تأسيسهم للمملكة الأخمينية.
5. يعتقد دياكونوف بأن الملك الميدي (أستياگ) وقد يكون الملك كَيخَسرَو أيضاً، كانا يعتنقان بالفعل ديناً مستمداً من تعاليم زردشت الذي لم يكن متطابقاً مع الدين الزردشتي (في الحقيقة أنّ العكس هو الصحيح، فالدين الزردشتي هو الذي مستمدٌ من الديانة اليزدانية وليس العكس، حيث أنّ الكثير من تعاليم الديانة الزردشتية مأخوذة من الدين اليزداني، الذي يمكن إعتبار الزردشتية أحد فروعه). من جهة أخرى، تعتقد (ماري بويس Mary Boyce) بأن وجود المجوس في ميديا و معتقداتهم وطقوسهم وشعائرهم الدينية، كانت عقبة في طريق التبشير بالدين الزردشتي هناكc.
6. عند مقتل الملك الميدي المجوسي (گوماتا) أُقيمت لِموته المآتم والتعازي من قِبل كافة سكان غربي آسيا، بإستثناء سكان المنطقة الفارسيةd. إقامة التعازي على روح الملِك الميدي (گوماتا) من قِبل سكان منطقة غربي آسيا يُشير الى أن سكان هذه المنطقة كانوا يعتنقون الدين الميدي (الدين اليزداني) وكانت لهم ثقافة مشتركة مع الميديين وأن الفرس كانوا يعتنقون ديناً آخراً ولم تربطهم صلات ثقافية مع سكان غربي آسيا. كما أن موالاة سكان غربي آسيا للملِك الميدي (گوماتا) تُشير الى أنه بالإضافة الى إعلان نفسه ملِكاً لميديا، لقد كان ل(گوماتا) سلطة دينية على سكان المنطقة. هدف الفرس من عمليات الإبادة التي قاموا بها ضد رجال الدين الميديين، كان إضعاف الميديين والتقليل من سلطتهم ومنعهم من العودة الى حُكم المنطقة، حيث كانت لهم إمبراطورية كبيرة وقوية تحكم المنطقة، بما فيها منطقة الفرس.
7. كان بعض الميديين يحملون إسم (ميثرادات/ميثريدات) أي (هِبة الإله ميثرا)، حيث كان لِ(ميثرا)، كإله للشمس، مكانة عليا في المجتمع الميدي كباقي الشعوب الآريانية. هذه التسميات تشير الى التقديس الذي كان يحظى به (ميثرا) عند الميديين. لا يخفى أن الميثرائية تتجلى في الديانة اليزدانية وهذا بِدوره يعضد كون الديانة اليزدانية كانت الدين الرسمي للإمبراطورية الميدية.
8. (أزْدَهاك) كان آخر ملوك المملكة الميدية. إسمه مُركّب ومؤلّف من إسمَين هما (أَزْد/يَزْد) و(دَياك)، حيث أن (أَزْد/يَزْد) هو إسم الدين الذي كان يعتنقه هذا الملك الميدي، بينما (دَياكو) هو إسم مؤسس المملكة الميدية والذي الملك (أزْدَهاك) هو حفيده. هكذا فأن إسم هذا الملك الميدي يعني (دياكو اليَزداني)، نسبة إلى الإله (يَزْدان). هذا يُشير بِوضوح الى إعتناق الميديين للدين اليزداني وأنّ هذا الدين كان الدين الرسمي للمملكة الميدية.
المصادر
4. هارفي بورتر (1991). موسوعة مختصر التاريخ القديم، صفحة 178.
5. ديورانت. قصة الحضارة، مجلد 1، الجزء الثاني، صفحة 426.
6. المصدر السابق، صفحة 406.
7. دياكونوف (1998). ميديا. ترجمة وهيبة شوكت، دمشق، الناشر محمود أيوب، صفحة401.
8. إبن العبري (1992). تاريخ مختصر الدول. تحقيق: آنطون صالحاني اليسوعي، الناشر: دار الشرق، بيروت، الطبعة الثالثة، صفحة 83.
9. وليام لانجر (1968). موسوعة تاريخ العالم، الجزء الأول، ترجمة د. محمد مصطفى زيادة، الطبعة الأولى، القاهرة - نيويورك، مؤسسة فرانكلين للطبع والنشر، صفحة 91.
المراجع
c. Boyce, Mary (1982). Handbuch Der Orientalistik: Der Nahe und der mittlere Osten, Part 1, Volume 2 of A history of Zoroastrianism by Mary Boyce, Brill, Netherland, pages 86-87.
d. Cook, J. M. (1985). The Cambridge History of Iran: The Median and Achaemenian periods. Volume 2 of The Cambridge History of Iran, The Rise of the Achamenids and The Establishment of their Empire. Cambridge University Press, Cambridge, page 218.
#مهدي_كاكه_يي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟