|
في نمط الإنتاج الإقطاعي
محمد عادل زكي
الحوار المتمدن-العدد: 5651 - 2017 / 9 / 26 - 04:49
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الفرضية المنهجية التي نقدمها هنا هي أن الإقطاع في الشرق لا يختلف، كما يدَّعى، عن الإقطاع فى الغرب. بل هو نمط إنتاج واحد: إقطاعي. إذ يمكننا أن نعقد مقارنة بين الإقطاع في الشرق الإسلامي والغرب اللاتيني في ضوء ما لدينا من مصادر تؤكد لنا أن جوهر الإقطاع لا يختلف في الشرق عنه في الغرب، حيث: منتج مباشر مستغَل. نخبة حاكمة مستغِلة. ريع عيني ينقل إلى مخازن الملاك. ريع نقدي يتدفق إلى خزائنهم. قد يتغير الشكل. قد يتغير اسم المستغِل وصفته. قد يختلف مكان الاستغلال. قد تتبدل الالتزامات. ولكن تظل الروح واحدة لا تتغير، والقواعد الكلية واحدة لا تتبدل. فالمجتمع الإقطاعي حيثما يكون في الشرق أو الغرب مجتمع جامد طبقي البنيان والمظهر والمخبر، وحقوق الفرد في هذا المجتمع تختلف بحسب الطبقة الّتي ينتمي إليها الفرد نفسه، والعلاقة بين الطبقات نفسها تختلف باختلاف وضعها في المدرج الإقطاعي، ولذا استطاع السبكي والقلقشندي والمقريزي تقسيم المجتمع المملوكي في سهولة، ومن زوايا مختلفة. . ويمكننا أن نساير من يحلو لهم القول باختلاف الإقطاع في الشرق عن الإقطاع في الغرب، وذلك لاعتبارات الشرح والتحليل وليس للاتفاق أو المشايعة، إذ أننا نؤمن بانتفاء الاختلاف (الموضوعي) بين الإقطاع في الشرق والإقطاع في الغرب، ويمكننا أن نلاحظ أمرين: الأمر الأول بشأن الحيازة، والأمر الثاني بشأن انتقال الأرض بالوفاة إلى الورثة. والأمران نتصور أنهما في غاية (الشكلية). ولا بأس من إيضاحهما، وقبل ذلك نذكر أن الماوردي (974-1058) كتب:وإقطاع السلطان مختص بما جاز فيه تصرفه ونفذت فيه أوامره... وهو ضربان: إقطاع تمليك وإقطاع استغلال. فأما إقطاع التمليك فتنقسم فيه الأرض المقطعة ثلاثة أقسام: موات وعامر ومعادن، فأما الموات فعلى ضربين: أحدهما ما لم يزل مواتاً على قديم الدهر فلم تجز فيه عمارة ولا يثبت عليه ملك. والضرب الثاني... ما كان عامراً فخرب فصار مواتاً عاطلاً وذلك ضربان: أحدهما ما كان جاهلياً كأرض عاد وثمود فهي كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة ويجوز إقطاعه... والضرب الثاني ما كان إسلامياً جرى عليه ملك المسلمين ثم خرب حتى صار مواتاً عاطلاً... وأما العامر فضربان: أحدهما ما تعين مالكه للسلطان فيه إلا ما يتعلق بتلك الأرض من حقوق بيت المال. والقسم الثاني من العامر: أرض الخراج... والقسم الثالث: ما مات عنه أربابه ولم يستحقه وارثه بفرض ولا تعصيب. . فمن الواضح، وفقاً لنص الماوردي، أن الإقطاع في الشرق يجد له سنداً تنظيمياً وغطاءً أيديولوجياً، على خلاف الإقطاع في الغرب الذي فرضه الظرف التاريخي. وإذ كان هذا وجه اختلاف، فوجهان آخران لدينا: فبصدد الحيازة: لم يكن للحائز في الشرق سوى سلطة استغلال وانتفاع دون التصرف؛ لأن المالك الوحيد للأرض جميعها، فيما عدا بعض الاستثناءات، هو الخليفة، الذي يستطيع أن ينزع الملكية وقتما شاء ممن يشاء، فمثلاً كانت بعض أراضي الشرقية والبحيرة موهوبة بمثابة إقطاعات للبدو من قبيلتي جزام وصليب اللتين كانت فرقهما تدخل في عداد الجيش النظامي، غير أن السلطان صلاح الدين نزع هذه الإقطاعات منهما عقاباً لهم على عقد صفقة سرية من الحبوب مع الصليبين. كما نزع السلطان الكثير من إقطاعات الأكراد كعقاب لهما على هزيمتهما في الرملة في عام 1177. . أما عن انتقال الحيازة بالوفاة إلى الورثة، فقد كانت الأرض، في غرب أوروبا، تنتقل إلى أكبر الأبناء الذكور، وهو الأمر الذي كان له نتائج غاية في الخطورة على النظام الإقطاعي نفسه. أما في الشرق فالإقطاع سواء كان في مصر أو سوريا يمكن أن يتحول وفقاً للوظيفة الحربية، ويخبرنا ابن عبد الظاهر أن إقطاع الأمير شهاب الدين القمري انتقل لابنه بعد موته، ولكن إقطاع الأمير شرف الدين الذي وقع في الأسر على يد الصليبيين في بداية 1261 استبقاه السلطان لإخوته. والمقريزي في عام 1265 يستشهد بنص مرسوم بيبرس الخاص بتوزيع الإقطاعات على الأمراء في الريف والقرى التي تقع حول المناطق التي تم نزعها من الصليبيين في قيسارية وأرسوف. علاوة على أنه يؤكد على الطبيعة الوراثية لهذه الأوضاع. وإعادة توزيع الإقطاعات بالشكل الوراثي يرجع في الأغلب للعادات الموجودة الخاصة بأمراء المماليك الكبار الذين لا يمكنهم أن يرثوا وظائف أبائهم وبالتالي إقطاعاتهم. والمصادر تؤكد على أن عزل الأمير أو وفاته تستتبع إعادة توزيع إقطاعه على الآخرين. وكان المحاربون يتعرضون لفقد إقطاعاتهم إذا ما ارتكبوا ما يخالف القواعد المتوارثة. على ذلك، قد يتبدى الاختلاف في النشأة ربما أو التنظيم أو عوامل التطور والانهيار، ومع ذلك يمكننا أن نرى نشأة الإقطاع في الشرق مشابهة، في بعض الأحيان، لما حدث في الغرب اللاتيني؛ إذ نجد أن من أهم الأسباب التي أدت إلى ازدياد عدد الضياع عند الخلفاء وذويهم، نظام الإلجاء؛ فقد كان الأهالي الضعفاء يقومون بإلجاء ضياعهم إلى الأقوياء من أقارب الخليفة أو الوزراء أو كبار رجال الدولة، للتخلص من جباة الخراج الذين كانوا يغضون النظر عن هذه الأراضي الملجأة فلا تخضع لجبايتهم. وبذلك يخف الخراج عن أصحاب الضياع الضعفاء، وبمرور الزمن تصبح هذه الضياع ملكاً للملجأ إليه، في حين أن وضع المالك الأصلي يتبدل إلى حالة مزارع في الأرض. وترجع هذه الطريقة، فيما يبدو، إلى العصر الأموي، حيث ألجأ الكثير من الفلاحين أراضيهم إلى مسلمة بن عبد الملك بن مروان في أثناء ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي للعراق. كما توجد أمثلة أخرى بعد قيام الدولة العباسية، ففي عهد المنصور، على سبيل المثال، ألجأ رجل من أهل الأهواز ضيعته إلى الوزير سليمان بن مخلد المعروف بأبي أيوب المرياني. فقد ذكر الجهشياري: "جاء رجل من أهل الأهواز إلى أبي أيوب، وهو وزير، فقال له: إن ضيعتي بالأهواز قد حمل علي فيها العمال، فإن رأى الوزير أن يعيرني اسمه أجعله عليها، وأحمل إليه في كل سنة مئة ألف درهم؟" . كما أننا نجد تشابهاً آخر؛ إذ كانت ملكية الأرض في عهد الدولة الأيوبية تقوم في أغلبها على النظام الفئوي الهرمي الشبيه في أساسه بالأشكال السائدة في غرب أوروبا في العصور الوسطى، وكانت الفئات الحاكمة تتكون في أغلبها من الأعيان المحاربين الذين ينحدرون من الأصل التركي. ونذكر أخيراً أن هناك من يذكر وجهين آخرين للاختلاف بين الإقطاع الأوروبي والإقطاع في الشرق، وبصفة خاصة في العهد المماليكي، ولكنهما أيضا غاية في شكلية:أولاً: إن الفرق شاسع بين طبقة الإقطاع في أوروبا وجلهم من أحفاد أمراء ورؤساء القبائل البربرية وبين طبقة من الأرقاء المستوردين... ثانياً: كانت المدن الأوروبية تتمتع بحريات انتزعتها من أمراء الإقطاع فأصبحت مجالات لنظم تغاير أساساً النظام الإقطاعي القائم على التبعية الشخصية ورق الأرض، الأمر الذي هيأ الفرصة في مرحلة معينة من التطور لظهور نظام اجتماعي جديد كان مصيره القضاء على الإقطاع نهائياً. أما المدن المصرية فقد كانت هي أيضاً كالأرياف خاضعة خضوعاً كبيراً لسلطان المماليك، فهؤلاء كانوا وعسكرهم يقطنون المدن ويملكون فيها لا القصور فحسب بل والعقارات والحوانيت والأسواق التي تدر دخلاً من تأجيرها. على كل حال لا ترقى، في مذهبي، أوجه الاختلاف (الشكلية) المذكورة كي تبرهن على اختلاف موضوعي حاسم يقود إلى الاعتراف بتفرد الإقطاع في الشرق عن الإقطاع الغربي، أو بالعكس اختلاف الأخير عن الأول.
#محمد_عادل_زكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بصدد الديالكتيك
-
نقد التبادل غير المتكافيء
-
نقد نظرية ريكاردو في التبادل الدولي
-
نقد الحضارة، للباحث محمد عبد الحق (ج 2)
-
نقد التناقض
-
نقد الحضارة، للباحث محمد عبد الحق
-
بنية الصناعة العسكرية في إسرائيل للباحث أشرف بكر
-
البلدان المتخلفة من هيمنة المستعمِر إلى قهر الدين الدولي، لل
...
-
التبادل: النشأة والتطور والقانون الموضوعي
-
بروميثيوس – والصانع الأعظم، للباحث محمد عبد الحق
-
أزمة مقياس القيمة
-
في فرضية التطور: مزيد من الشرح
-
في فرضية التطور
-
التطور: أزمة التصادم بين الدين والعلم
-
كيف نفهم ما يحدث في السودان؟
-
تجديد الإنتاج الاجتماعي: بالتطبيق على الفكر الاقتصادي لكارل
...
-
حينما يناهض الإرهابيون الإرهاب !
-
من الاستعمار إلى الاستغلال
-
القروض الدولية وأحكام القانون الدولي العام
-
تعليق موجز على قانون الاستثمار الجديد، بقلم الباحثة سحر حنفي
...
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|