علي عامر
الحوار المتمدن-العدد: 5647 - 2017 / 9 / 22 - 13:51
المحور:
الادب والفن
رحل رفيقنا عماد عسالوة مبكراً,قد كان شخصاً عجيباً, مليئاً بالخيال والفكر, رحل وهو على رأس مهمته الأساس, نشر الفلسفة والديالكتيك وهيجل وماركس.
ترك خلفه سيلاً من الآثار الطيبة, وبعض الآثار النظرية والأدبية, هذا النص من أعجب وألطف ما ترك.
يذكر أنّ عماد أحد أولئك الذين تنبؤوا برحيلهم, فقد تصوّر متمدداً فوق أحد القبور قبل أشهر من رحيله.
أقدم النص كما هو, وكما وصلني مطبوعاً على ورق من الرفيقة (ز, ح), حيث كان عماد قد ائتمنه عندها قبل رحيله, أقدمه كما هو تماماً, فقد حافظت على مواقع الفواصل والنقط وغيرها كما هي, وحافظت على حركات التشكيل كما هي, بغض النظر عن مدى صوابها.
النص:
مع ميم
نسخة سريّة إلى الرفيقة (ز, ح)
(رواية غير مكتملة, غير منشورة)
كانت حاجتي لأن أتحدث ترهقني, كان اللقاء هامّاً وعبثيّ الملامح, هنالك اتجاه نحو توحيد الحوار, بالأحرى, رغبة نحو هذا التوحيد, لأنّها مرحلة بناء جسر من الثقة الواقعية, فقد ضقنا ذرعاً برسائل الإنترنت المرهقة للحس وللأيديولوجية على حدِ ليس بسواء, حيث أن أحدنا يفصل الذات عن الموضوع عنوةً وصنعةً وهي م. , أما أنا فلا أفصله, أمّده بالفوضى إلى ما لانهاية, ويحدُث أحياناً أن يكون احتمالُ "البيروني" بأن يحدث الفعلُ في عالمين متصلين يبدآن الفعل في نفس اللحظة لكن أحدهما غير مرئي, قد تحقق فعلاً, فأن أرسل رسالة عبر الافتراضي, وتصل الرسالة وفق صيغةٍ منطق-ضبابيّة, شبيهة بــ السيبرنطقيّة, ووفقَ نظرية الفوضى لـــ لورنتز عبر "تأثير الفراشة" تكون الرياح قد لامست أذُنها من فوق الحجاب أو مباشرةً بدونه, فتصلُ الرسالة عبر آليتينِ منفصلَتينِ, لكن مع اختلافٍ في توقيت الوصول, وهذا ما لم يكن موجوداً في النظام العالميّ إبّان عهد البيرونيّ, مسكين البيروني لم يرى نتيجة تفوّفهِ في فكره على ابن سينا!
الافتراضي في الآلة التكنولوجية يتَّحد الآن جذريّاً مع الواقع المزيّف الفوضوي عبر منطق تبادلٍ بنيويِّ خاص, كأنّهما من جنّ سليمان متبايني الطاقات في بذل الجهد للقدرات, ومن قال بأن الجن غير متشابه مع الافتراضي في الهدف "نقل النص"؟ سواء نقل الجن للجن بطريقةِ تقانةٍ لغويةٍ/صوتيةٍ خاصة بهم, (وإن كنت قد خرجتُ إلى ما-وراء الطبيعة, فقط لتقوية ربط المنهج العلميّ بالمنطق في غير المادّي), أو نقل الافتراضي للافتراضي عبر آليّة جوجل الذكيّة مثلاً في اكتشاف المحتوى وتعيين إعلانٍ مناسبٍ لهُ, وإن كان الإنسان قد صَمَّمّ الـــ "فنكشين" ودوالّهِ ومدلولاته, إلا ان الفنكشين مصممٌ أيضاً على الذكاء والتفكير التلقائي في آلية جوجل وبعض تقنيات الذكاء الافتراضي والتكنولوجي الجديدة, يا إلهي! إن الآلة تتحكّمُ بلقائنا, هي تدفعهُ وعالمها الافتراضي يحددّه ويحدد مواعيدهُ, وإذا قرر أن يولّدَ فيروساً يلعنُ الآلة الافتراضية يتأخر تحديد الموعد مع م. الجنُّ والافتراضي يتشابهان في تقطةٍ أخرى هي تكنولوجيّة الفعل المرئيّ, والماديّ (على الترتيب), حيثُ يقومان بتقانة الاحتفاظ بالمرئيّ وعرضِه أو لا عرضه, لكنّه يبقى معهما. الافتراضي يختلفُ عن الجن في وجوده, فالجن ليس مادّة, اما الآلة التكنولوجية فهي مادّة موجودة, وهذا يعني بحسبِ وجوديّة جان بول سارتر, التحكم بالموجود, فقد أصبحت الآلة التكنولوجية في وضعها الافتراضي الموجود تتحكم بالفعلي الحقيقيّ الموجود أيضاً وتخلُقُه بفرض زمنٍ أشبه بالمباشر. وهو اللقاء بيني وبين م., لم تعد الكرة في يد الغنسان, الإنسان يفقد قدرته على التحكم, الإنسان يتراجع دورهُ في خلافة الأرض! الافتراضي يتقدّم, "لاواقعُ" الافتراضي يسيطر على الكوكب !
احتجنا إلى لقاء .. وتم اللقاء بعد حوارات على الافتراضي, دامت سنتين اثنتين, مشيتنا كانت جميلة مع بعضنا, وحودُنا حقيقي, نحن لائقَين كثنائيّ لطيف في الطبيعة, والطقس كان أجمل, ولعمري أن الوقت لم يتجاوز الساعة الثامنة صباحاً !, مشينا وتنفسنا الهواء الرائق, ركبنا سيارة فِضيّة, تعرّفنا على بعض المجهولين, الافتراضيّ لا يعرف أننا تعرفنا على المجهولين, بيدَ أننا لم نطرح المهمّة هذه أمامهُ, قلتُ في سِرّي: ( الحمد لله أنهُ لا يعرف, لو عرف لفضحنا على الشاشات!, ولربما تعلم مولاتُنا "آليّة جوجل" الذكيّة بالأمر .. فتكشفُ سرّنا لمولانا "فنكشن" باختيار الإعلان الموائم لموضوع النصّ ).
مع ميم - الجزء الثاني
في المقعد الخلفي, ميم وأنا واثنين لم نتعرف على هويّتهما, أعرف وجه الشاب الذي يجلس على المقعد الأمامي الأيمن, إذ أعطاني في لقاء مُقَدّر ماديّاً وغير مكتوب, نظرة عميقة جذبتني إليه, وكنت قد رأيته حينئذٍ للمرة الأولى, ها هو الآن يخرج من جيب قميصه الفضفاض صورة رديئة الطباعة, مكتوب عليها باللفة العبريّة القبيحة, بدأ يتضح لي أنها مقصوصة من صحيفة إسرائيلية, سألتُ نفسي: "هل يعودُ شبح الافتراضي مجددا ؟". أمسكَ بها, ودون أن نتعرّف, مدّها بيده اليسرى إليّ, عيونُ ميم تلتفتُ إلى الصّورة برهبة, طبولٌ من الشيء الأحمر تتدفّق في شعيرات الدم بين العينين, وكانت ميم قبل ذلك -بقليل من المبالاة- قد وضعت نظّارتها السوداء على المقعد بجانبي بارتياح, فنحن لا نشعر بأن السيارة تتحرّك, كل الشبابيك سوداء, نحن في صحراء, نحنُ على جبل, نحن في مدينةٍ مقدَّسة, نحن في مستوطنة, نحن في مخيّمٍ/بحر من الآهات, .. نحن لا نعلم إن كنا وصلنا إلى بطنِ الحوت أو المعبر, نحن في زمن الاغتصاب.
- ماذا ! (قلتُ بصوت مسموع)
- (اقتربت ميم وألقت إلى الصورة رأسها وعينيها وتركيزها المتدفّق): من هذه المجرورةً من كتفيها ؟ !!
- لا تعرفين من هي يا ميم ؟ , هذه دلال المغربي, تعيشٌ الآن في غير الواقعيّ, -هكذا على الأقل- يقول الميتافيزيقيين.
بدأ العالم غير الواقعيّ ينتبهُ لديدنِنا, الافتراض يتهيّأ لمهاجمةٍ يحتكرها من طرفه, نظرتُ لعينيّ ميم فإذا بهما تحدّقانٍ إلى أسفل يمينها, إلى حركة المياه في قنينةٍ زرقاء منتصبةٍ على أرضيّة السياة بارتياح. كان غير الواقعيّ -وعبر دلال المغربيّ- قد هاجمها بشراسة, كأن ذاته المستأسدة قد انتظرت فرصة ثورة ماكلوهانيّة, تُذكّرُني بتلميحٍ إنجلز في تقديمه للطبعة الأولى لمقالة ماركس الأولى حول الثورة الفرنسية, إذ كانوا على خطأ حين اعتقدوا لأول وهلة أن دوافعها لأسباب اقتصاديّة وبسبب الأزمة التي دبّت آنذاك في أنحاء أوروبا, في حين هي لم تكن كذلك, كان ماركس قد خرج عن الدياليكت لأوّل مرة دون أن يجد تفسيراً يروقهُ, لا بُد أنهُ في قلقٍ شديد وأخفى هذا التناقض المُهلِك عن رفاقه, لعل عملية التبادل تلك لا بُد أنهُ كان في قلقٍ شديد وأخفى هذا التناقض المُهلِك عن رفاقه, لعل عملية التبادل تلك تقول الآن: "ماذا يفعل بهذا الشيء المتأخّر ؟" لقد تحايل على تظريّته التي بناها برفقة صديقه دون أن يكتشف ذلك رفاق الثورة, آهٍ منهُ !, أفسَدَ ماركس مأواهُ الوحيد .. يا لتعاسَته !, ثم يا لورطةِ ميم !
ميم لم تبدأ بفهم الموقف, فكل ما يدور في الذهن هو تحويلُ طاقة الوعي, بالتحوّل الباراسايكولوجي من الوعي اللينيني, إلى دفاع
- "أنا لستُ رفيقة, ها !! " تقولُ ميم.
هنا .. بدأت ذاتُ التقنيّة في الصورة إحياء غير الواقع:
- لكننا نرفضُ المضمون الذي تقولين, نحن نسعى لإفادتكِ ولتكوني أمام الجميع أكثر بياضاً من صدر الجنديّة في القصاصة, وليكون شعرُكِ أجملُ من شعر دلال, أنتي حقاً تستحقّين الثورة "لو-رفيقة"
- "ولكنّ التصوير حرام "
- " تبّاً لقيود الميتافيزيق !"
يرتدّ صدى هذا الحوار إلى قنينة المياه الزرقاء فتتحرّك ذراتها بنيويّاً, ويبدو السائق عَطِشٌ للثورة, تطلُبُ أعصابهُ الماء, يمد يدهُ ويشرب, يمسحُ فمه وشاربهُ:
- "ما أسمكِ أيتها اللطيفة ؟" ويردِفُ سعلة يسمعها الشاب, فيومئ الشاب إليّ, لأنه يعرفني.
- أقول متجاوزاً كل التحوّلات: أنا ساري, وأنت رائد .. أتذكرك الآن. كنتَ تتحدّثُ عن الطوباويّة, ودخلنا في حوار بعدها ثم ذهب كلاناً إلى ميدنتهِ
- هذا أبو مهدي, عمّي اللّزَم, درسَ الهندسة الصوتيّة في أسبانيا, ويعملُ في أستوديو يديرهُ برفقةِ زوجته "سوسانا"
كلّ ما يحيطً بالأقصى باركهُ اللّه للمسلمين في القرآ،, وهكذا يقول بعضُ المدافعين ضدَ الإثنيّة الصهيونيّة, أما ميم فلم تزل تنظرُ في مكانٍ ما ثم إليّ ثم إلى السائق, كان السائقُ ذو شعرٍ رماديّ, وشارب أكثر سوداويّةً من شعر رأسه, أمسكت ميم نظّارتها أخيراً وبدأت وكأت شفّتها تقول شيئاً, قال أبو مهدي:
- "لقد أخطأنا الطريق, دخلنا مستوطنة بالخطأ, وعلينا الفرار"
الأسئلةُ الحذقة تتدفّقُ الآن بلا ميم وبلا "لو-رفيق": "هل المستوطنة مباركة؟ .. هل هي ليست تحيط بالأقصى ؟", يا لهذا الشرّ اللاواقعيّ المستطير !
قضينا وقتنا الضائع في محاولة الفرار عبر طرقٌ جبليّة وعِرة, وقد خرجنا أخيراً وأطللنا على مخيّمنا الصيفيّ, وبالتأكيد بعد أن تعرفنا عليهما وتبادلنا بعض الأحاديث.
في اليوم التالي..
في المكان الوعِر خيمات متفّرقة بين الأشار, صخرة, علَم, شبيبَةٌ هنا وهناك, نجلس أنا وميم منسجمين في وقت الاستراحة بينَ الصخور, نأكلُ كل الإشارات غير الواقعية, نأكل آمال الغد, ونمرُقُ في ذاكرتنا ونمزّقها, في هذه اللحظات .. نحتاج لانتماءات جديدة, تدخلُ المجموعة الجزئية بثورة الرفاق, وبلا دياللكت أو ما يشبهه عند متديلكتيين أصحاب نيوليبراليزمو فلسطينية, مثلاً انتماءَ "سارقي السيارات", أو انتماء "شانقي القطط في المخيّم", أو انتماء "السويد مش عاجبتني, دبرلي هوية النرويح انا وبناتي" وغالباً ما تتم هذه العمليات الانتمائية بشكلٍ مباشر على مكاتب اتحادات العمال ومخيمات رعاية الأطفال التي تقيمها الأحزاب أو خلف بنايات مدارس الوكالة, كلّ هؤلاء يأخذونُ الدعم للدفاع عن اللاجئين, سواء في الأردن أم في سوريّة أم في لبنان المسكين, أو في الضفّة !. لا ينتبه لهذه العمليات أي من "لو-رفيقة" أو مارقيّ العمليّة في الأستوديو غير الآبهين بقوّة السؤال الحذق أو قوة الافترضيّ أو حتى خطر الشر.
أقتحُ التلفاز المحلّيّ الصغير غير الملوّن, في الخيمة, وأرى بجانب شريط الأخبار"إهداءات Sms", ولأوّل وهلة دخلتُ في جوّ الآلة حيث ضخامة الضخ الإعلامي لقضيّة اللاجئين, ظننتُ أنه للأسرى.. وليتهُ كان !
إن ما صدمني جداً هو رؤيتي لميم تتفادى ورطتها وورطة ماركس, بأن ترسل Sms وتتحدُ مع تقانة الشر في الآلة: "هاي ساري .. صباحوو .. حبيت اتحركش بس !"
كيف بإستطاعة الإغراء العاطفي-جنسيّ, أن ينتصرَ على الأستوديو وعلى المنعطف الماركسيّ الحادّ, وأن ينتصر على الأرض المباركة, والذاكرة الممزقة, والقطط المشنوقة, وكذلك النيوليبراليزمو, وبيع انتماءات اللاجئين على طاولة الاحزاب والاتحادات ؟!
إننا أمام سيطرةٍ من نوعٍ جديد, ميم تتحدى الورطة .. ميم تنتصر وتنتحر بذاتيّتها , لا .. كلا ! , إن ذاتيّتها تتحدى الافتراضي والتكنولوجيّ, وتتحدى فظاعة التناقض السيمنطيقي, الآن الآن.. استمعوا للنبأ المتأخّر الذي فاق تأثيره سرعة حركة التاريخ: "ميم كائنٌ جديد", "زمن الإغتصاب أطلّ ولا مجال للمساومة", أين أنتَ أيها الفكر الجريء كي تخرجني من هذه الورطة ؟
يتبع,,
عماد عسالوة-قسم العلوم السياسية- جامعة النجاح الوطنية
[email protected]
#علي_عامر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟