|
الأوتجية واللوكية
رياض الأسدي
الحوار المتمدن-العدد: 1461 - 2006 / 2 / 14 - 04:44
المحور:
كتابات ساخرة
البروليتاريا هذه الكلمة اليونانية التي اصبحت تعني طبقة العمال الصناعيين، هي واحدة من مميزات العصر، وقوة هائلة لتغييرالعالم غذا ما نظمت وتدمقرطت. والبروليتاريا الرثة مصطلح جديد لوصف معاناة هذه الطبقة في ظل هجمة الرأسمال العاتية في عصر العولمة والابواب المفتوحة. لكن هذه البروليتاريا لها معنى آخر في عراق اليوم. ثمة عمالة مسطر كلمات يختلفون تماما عن البروليتاريا الصناعية او تلك لفظها سوق العمل. إنهم بروليتاريا مبتذلة من نوع آخر لا يحملون من البروليتاريا إلا رغبتهم في العمل والعمل فقط. كان الطفل يحمل قمصان والده (الباش كاتب = موظف) في السكك الحديد إلى (الأوتجي = عامل مكواة) الباكستاني (إبن بوتا) الذي يقبع محلّه المشيد من مادة "اللبن" في أقصى الحي المسمى( القطار) حيث توجد بيوت العمال الصغيرة، واكواخ قصب متهالكة، وبيوت طين لا عدّ لها تنتشر في المكان كحيوانات اميبية غريبة. وبصحبة القمصان البيض المحمولة بقوة ثمة توجيهات كثيرة في الحفاظ عليها من التلوث, أو الوقوع على الارض, او غير ذلك مما يمكن ان يقوم به اولاد العمال من مضايقات حتى وصوله إلى دكان (إبن بوتا) الاوتجي الوحيد في الحي. كان (إبن بوتا) يستعمل الأوتي "المكواة" بعد ان يملأها بالفحم الذي يبيعه له سائقو القطارات العادية او مساعدوهم؛ فجذور الفساد الإداري قديمة في العراق قدم القاطرات الخضر فيه. وابن بوتا لا يكفّ عن إطلاق الرذاذ من فمه.. بفففففففف! بفففف! وسط قهقهات أبناء العمال الذين يراقبونه عن قرب منذ الصباح الباكر، وهو يصدح احيانا بتلك الأغاني الهندية العذبة مرددا كلمة:آجا آجا بابو!، مرات كثيرة. لا بدّ للطفل الحامل للقمصان ان يبقى طوال الوقت يسمع تلك الإغاني الحزينة بالاوردية، والبف بف بف! الدائمة التي تقاطع الصوت الشجي. وكلما أنتهى من جزء من عمله قال الاوتجي عبار ته الدائمة: بابا باش كاتب شلونه؟ بففففف! فيجيب الطفل: زين عمو! إبن بوتا، كان اول من حمل لقب "بروليتاري غير واع" حينما رفض الدخول في منظمة الشبيبة الديمقراطية التابعة للحزب الشيوعي العراقي في منطقة ( القطار) بعد سقوط النظام الملكي عام 1958، قال: بابا شنو هذا "بورباي! أنا اوتجي!" فقالوا له الرفاق القدامى : بل أنت برووولييييتاررري! تعلم نطقها بشكل صحيح، فأجاب: انا أوتجي ما يعرف عربي زين! ولم يكن يعرف إبن بوتا أن في العراق الذي عدّه بلده سيظهر فيه ثمة (اوتجيه) بروليتارية من طراز آخر؛ يحملون مكاويهم الخفية في كلّ مكان لصقل قمصان السياسيين، وتلميع اكتافهم، وتحسين اخطاءهم اللغوية والسياسية والاخلاقية في وقت واحد. إنهم (اوتجية) يعملون بلا فحم ولا بفبفبفبف! فشكرا لأبن بوتا الذي أستعرنا منه اللقب.. فقد كان العالم كلّه لدى الاوتجي المسكين ذاك هو: كيف يكون لأبن بوتا لوندري..؟ فأصبح لديه لوندري بعد سنين من البخل والعذاب والعمل الشاق.. ثمّ ليخرج من طبقة البروليتاريا إلى أصحاب رؤوس الاموال. لكن حلم السيد ابن بوتا لم يكتمل وفرحته بأنجازه الطبقي اللوندري لم تدم فقد سفروه في عهد صدام طبعا إلى إيران. وذهبت معه كلّ انجازاته المادية المتضمنة في آلة البخار- اشتراها بالتقسيط - والتي كان يستعملها بعد ان نسي البروليتاريا وأصبح صاحب (لوندري) في منتصف عقد الستينات. أصبح إبن بوتا في العراق رأسمالي اخيرا! بعد ان شغّل في اللوندري عامل من أبناء جلدته أسمه سيف الدين. وبكى إبن بوتا دما على العراق الذي نقله من مكواة الفحم الكبيرة الثقيلة السوداء إلى صاحب لوندري. كانت المكواة العتيدة قد علقت بحبل وسط اللوندري للذكرى. وشوهد - آخر مرة- مع سيف الدين مغبرا ساهما، ولم يعد شعره ملمعا بدهان (ياردلي) اخضر؛ فقد كان أشعث مليئا بالتراب بعد ان سحله من محله أمن المنطقة وجماعة الرفاق الذين كانوا نواة ما عرف بالجيش الشعبي بعد ذلك . ثمّ وهو يصعد إلى السيارة (أيفا) عسكرية عنوة بعد ان شبع رفسا وضرب ضربا مبرحا بسبب رفضه مغادرة محله. غادر إبن بوتا حدود الوطن الذي آواه سنين طويلة، حيث لم تنفع توسلاته لمقتاديه بانه باكستاني سنّي وليس إيرانيا شيعيا, كما أنه لا علاقة له (بالبورباريه!) لا من قريب ولا من بعيد. كان إبن بوتا يظن بان تهمة (البوربارية) هي التي جلبت له مصيبة التسفير، وان (اللوكيه) هم الذين وشوا به لدى السلطات حسدا لعيشته. ربما لم يسمع بهذا المصطلح (الأوتجيه واللوكيه) كلّ من روزا لوكسمبورغ، أو المفكر الإشتراكي العملي جون اوين، او شارل فورييه أو غيرهم من فلاسفة الإشتراكية القديمة، ولاحتى فيلسوف البروليتاريا العتيد كارل ماركس نفسه. فلم يرد في كتب مبتكري الإشتراكية العلمية و(اللاعلمية) و(الطوباوية) و(الفابية) على أختلاف مدارسهم الفكرية، ونظرياتهم المؤطرة غالبا بحبّ العدالة الاجتماعية والوحدة الإنسانية والسلام الطبقي أو(اللاطبقي)، جميعا، تقريبا، ثمة "بروليتاريا رثة" جاهزة للعمل دائما من الاوتجيه او اللوكيه. أبدا. وهاهي ذا افكارهم ترقد الآن مستريحة في جوف التاريخ التنويري للقرن التاسع عشر بلا أية أشارة واضحة في عصر هجوم الرأسمال العالمي على الدول الفقيرة والدول المعدمة والدول الغنية على حدّ سواء في نوع مبهم من اللامساواة العالمية المتأصلة. فكلّ اولئك الباحثين عن العدالة الإنسانية كان يصعب عليهم تماما توقّع مسارات العالم الذي لا يسفر عما يفعله دائما.. لكن الاوتجية واللوكيه: البروليتاريون الرثون العراقيون الجاهزون للأنطلاق في أية لحظة؛ مازالوا قائمين يعملون ويتلونون ويتكيفون ويتدربون.. وهم يزعمون معرفتهم الخاصة بمسارات المستقبل.. كلّها.. ومل سيؤول اليه العراق والعالم. ربما أكثر من جهابذة الفلسفة والباحثين الاجتماعيين. ولذلك تجدهم - هذه الأيام - قد تناسوا يساريتهم أو بعثيتهم أو طنطنتهم .. ووضعوا على وجوههم لحى مختلفة! او حلق بعضهم شاربيه! وهي صفة مليئة بالعار لدى معظم العراقيين؛ لكنها الطريقة الوحيدة لأرضاء السيد المحتل أيضا. هكذا تسرّب الأوتجية اللوكيه القدماء والجدد إلى مسارب شتى من حياة العراق القاحلة والمجدبة. تجدهم سابقا في معظم المؤتمرات واللقاءات والهوسات والطربكات التي دبج لها النظام السابق. وهم الآن موجودون على نطاق اوسع أيضا في معظم المحافل كعمال مسطر كلمات( دبّاجة) جاهزون للعمل دائما، وعلى وفق اية صفة يشاؤها صاحب العمل أيضا. بعضهم يحمل شهادة فخرية في (فن اللواكه) وهو فنّ يتجاوز العراق إلى كثير من بلدان الشرق الاوسط أيضا, لكنه معروف ومنتشر بالعراق بهذا المصطلح. غنهم لا يتورعون عن تزييف كلّ شيء من اجل قوتهم، ومن أجل نفض غبار العطالة المزمنة عنهم. بروليتاريون رثون من طراز آخر. لوكيه واوتجيه متمرسون. وبما إني من الولوعين بتاريخ العراق الاجتماعي - رغم أني لم أتخصص به- إلا إني سألت أستاذنا المؤرخ العراقي الكبير السيد عبد الرزاق الحسني - رحمه الله - عنه، فاجاب: اللواكه تصحيف وتحريف لفعل الكلب" اللعق" مع سيده او مع أي عابر سبيل. وقد أنتشر هذا المصطلح بقوة في العهد الجمهوري تحديدا، ثم أزداد حضوره على سطح التداول الأجتماعي في عقد السبعينات حيث تمّ استعماله في مختلف انحاء العراق تقريبا. واللوكي هو الإنتهازي خاصة. والاوتجية أعلى درجات اللواكه في العراق والله أعلم! (أ.هـ) و اللوكيه " اشكال أرناك" أي اشكال والوان. وهي مهنة قد يتداولها الرجل كابرا عن كابر. فأعرف احدهم وقد خطّ الشيب مفرقيه انه كان ملكيا في الخمسينات، وقوميا في الستينات، وبعثيا في السبعينات، وصداميا في الثمانينات ورائد في الحملة الإيمانية في التسعينات؛ وهو الآن بعد 2003 صاحب موكب عزاء حسيني! كما أنه يدعي بأنه قاريء جيد للماركسية وله خدمة مهمة في الشبيبة الديمقراطية ايضا. وشعار صاحبنا الدائم: من يأخذ امي أقول له عمي! هذا الشعار والمثل العراقي الفج يحمله البروليتاريون المبتذلون الأوتجية اللوكيه كصفة لازمة من صفات كتاب وشعراء ومهرجي عبارات سريعة مادحة لهم أسماء كبيرة في عالم الصحافة والادب والكتابة السياسية. كثر "البروليتاريون المبتذلون" الاوتجيه اللوكيه القدامى هذه الأيام على نحو كبير. مسطر عمال مياومين على باب كلّ جريدة او اذاعة أو فضائية - وما اكثر الفضائيات العراقية هذه الايام؟؟ من يمولها؟ من يدعمها؟ - فتراهم يتجولون في عواصم عربية كثيرة بحثا عن منقذ!. اما القسم الاكبر منهم فقد تحصن وتمحّن في صحف احزاب مختلفة، لأن السادة السياسيين العراقيين الجدد من المحدثين غير المتخصصين لا وقت لديهم للعمل في منجم الكلمات الصعب, خاصة وهو يحتاج إلى خزين كبير من الثقافة والالمام بقواعد اللغة العربية الصعبة جدا بالنسبة لهم. فما اسهل الحصول في عراق الامس واليوم على (عمّالة) كلمات مياومين.. او شهريين.. او بالقطعة.. وبالدينار العراقي بعد ان بدأ التعامل به اخيرا بدلا عن السيد الدولار.. اما السيد "الفكر الوطني" والدفاع عن البلاد، فهو يرقد في سلة مهملات الزوجة التي تطالب بالخبز وصلاحية مولدة الكهرباء الناعرة وأرتفاع أسعار الوقود واللحوم، وقليل من ادوات المكياج، وبعض الحجابات من نوع "الاميرة" التي تظهر بها المرأة العراقية وكأنها جاءت من العصر الاموي .. ها نحن نعود إلى الماضي ونثوّره على طريقتنا في لبس اليشماغ والدشداشة والحجاب والعقل الخليجية. فما الحاجة إلى الفكر والتنوير والتطوير مادام ثمة (اوتجيه) يفكرون عنا.. ولوكيه stand by وكأن الفكر لدينا لم يعد غير "تسطير" كلمات حسب طبيعة المرحلة التاريخية وطابعها السياسي. أما هذا الجاحد المتخفي في خطواته المتعرجة - عالمنا الغريب - فإنه لم يعد معنيا كثيرا منذ نهاية القرن العشرين بمثله وإعلاناته التي كافح من اجلها قرونا منذ عصر النهضة الاوربية. وهو لا يعني في أفضل تقدير عن مجرد رجال نذروا انفسهم للبحث عن الحقيقة. وهاهو يخدعنا من جديد، بعد كلّ مرحلة تاريخية حافلة. وبسبب خداعه الدائم لنا قرر الاوتجيه اللوكيه قطع الطريق عليه، وممارسة الخدع الصغيرة بدلا عنه. يا لها من مهمة شاقة وصعبة في تغيير الجلد وخدمة السادة الأغبياء غالبا ممن لم يتعلموا قراءة كتاب واحد من الجلد إلى الجلد. من الصعب ان يرصد ذلك حتى أولئك الذين يعملون على (تأرخة) الفكر العالمي محاولين الألمام بدقائقه ومساراته والتواءاته. فلماذا نتعب نفوسنا بالتفكير الطويل والتامل العميق في شؤون الشعب؟ ولنقبل بمهنة الاوتجيه اللوكيه الرثة السهلة على الرغم من المال القليل الناضح عنها في المدة الاخيرة.. كان دعاة البروليتاريا الرثة من(الاممية الرابعة) و(الاوروشيوعية) و(اليسار الجديد) وغيرها من الدعاوى اللاهثة والمختلفة التي حاولت حلّ "الإشكال الكبير" الذي صاحب الاتحاد السوفيتي السابق حتى قبل أنهياره المدوي على مستوى العالم باعتباره أكبر واعظم دولة أشتراكية مدججة بالرؤوس النووية؛ كلّ اولئك حاولوا إنقاذ ماء "الوجه الإنساني" مما لحق به من بشاعات الدكتاتورية: قائدة البروليتاريا العالمية!. لقد اكتشفوا الرثاثة الفكرية في البناء السوفيتي في وقت مبكر فحسب لهم قصب سبق على أية حال. لكنهم لم يجدوا حلولا عملية أبدا. وأرى بان (الاوتجيه السوفييت) هذه المرة، كانوا احد أهم أسباب أنهياره أيضا. اجل. أنهار الحلم السوفيتي تماما في الزمن نفسه الذي توقع فيه لينين مؤسس الشيوعية السوفيتية و بعد (70) عاما من الكفاح البروليتاري سقوط الراسمالية حيث قامت الشيوعية في الربع الاول من القرن الماضي ـ وهنا مكمن المفارقة التاريخية الرثة أيضا!- فوجد كثير من البروليتاريين المبتذلين - في العراق بالذات- فرصتهم للفكاك من اليسار غير اللامع هذه الايام، والتعويل على نجم العولمة والدين الساطع هذه الايام أيضا. ومن ثمّ نقل كثير من الاوتجية القدامى عيونهم نحو "السيد" الجديد بسرعة خارقة. حاول المفكر الإشتراكي المجدد (هربرت ماركوز) أن يمسك عصا الفكر من الطرف الطبقي نفسه الذي أصرّ عليه ماركس من قبل: وهوالبروليتاريا نفسها. لكنه لم يكن على أية حال كماركس الذي بقي حتى آخر يوم من حياته الحافلة بالفكر والتامل المستقبليين، والعذابات المشحونة في شخصيته الدؤوبة والمصرة على صناعة العالم فكريا على أنقاض الراسمالية. بدا ماركوز في مراحله الفكرية الاخيرة مبشرا بمسيح من طراز آخر. في وقت تعب البروليتاريون الرثون لدينا مجاراة ما يجري في العالم بعد ان غلّق النظام السابق الابواب والشبابيك والرازونات، وحتى منافذ الضؤ البسيطة التي تطل على العالم من ثقوب سرّية بقدر خرم الابرة.. فلم يكن اما م الاوتجية غير الهرب بطرق غير مشروعة او مشروعة او القبول بمهنة البف بف بف ! لتحسين وجه النظام الكالح. شكرا لجميع الهاربين. شكرا لجميع اولئك الذين عملوا في الصحف البائسة ممن موّهت الحقيقة بما يكفي.. أكد ماركوز - هذه المرة- على الدور التاريخي و (الرسالي) ل (طبقة) أوسع وأغرب من البروليتاريين الرثين، اكثر تشرذما من العمال الصناعيين الذين بدأوا بقبول الفتات الرأسمالي، فتحولوا إلى ذوي ياقات زرق.. ولذلك فقد دعا إلى "كتلة" كبيرة وغير منظمة - على العموم - من القوى الاجتماعية الجديدة تتمثل في العاطلين عن العمل، والمهمشين أنتاجيا، والطلبة ـ الذين منحهم دورا قياديا اكبر- ثم الهيبيين والضائعين والمشردين والهائمين على وجوههم بحثا عن حلول جديدة، و من أنصاف المثقفين، وجماعات المتعلمين الذين اغلق الانتاج الآلي وتطوراته التقنية ابواب العمل بوجوههم.. من هنا تبدأ البروليتاريا الرثة تكوناتها ومساراتها كما أراد السيد ماركوز، ومن هنا تبدأ الثورة العالمية المزعومة أيضا. أولئك المساكين كانوا يرون مشهدا واحدا وقصيرا غالبا فيحكموا على الفيلم كله. تنقصهم مهارة التاريخ دائما. ويا للعالم المنتظر على جناح السرعة كلّ التغييرات الممكنة؛ ويا للفكر السريع الذي يلتقط أي إرهاصة عابرة من اجل الهدف نفسه. كان من الصعب على (أوتجيينا ولوكيينا) ملاحقة ذلك، واكتفوا بمهنة ملاحقة السادة اينما حلوا واينما رحلوا ومهما كان لونهم ومهما تعددت طرقهم. بدأ هربرت ماركوز منذ عقد السبعينات من القرن العشرين يتوجس قيام (العولمة) في بواكيرها الاولى، كحركة عالمية اقتصادية ساحقة للعديد من القيم الإنسانية المتبقية من عصر الرسالات الدينية والقومية والطبقية. كانت أحداث الطلبة وإضراباتهم الكبيرة وإعتصاماتهم الباريسية عام 1968 قد أشعلت الفكر السياسي التاملي العميق من جديد، لدى كثير من المفكرين كمشهد طافح وغامر ووحيد، ويصعب تكراره ثانية. بدأ المشهد بموجة عارمة كبرى من الرفض الكبير اجتاحت عديدا من الدول الاوربية بعد ذلك. ثم هدأت العاصفة الباريسية على نحو سريع نسبيا إذا ما قورن بحركات التاريخ الطبقي التكتونية.. تماما مثلما بدأت عنيفة تضاءلت بقوة. ولم يعد في العالم الرأسمالي بعد ذلك من ينظر إلى " تمردات الطلبة" كثورة مستمرة او قابلة للإستمرار - في الأقل- ما عدا السيد هربرت ماركوز الذي كرّس جانبا من فكره لها. وكان الهيبيون الذين تكاثروا, منذ ذلك الوقت, قد شكلوا ظاهرة أجتماعية مهمة إلى جانب القدرات المضافة الي تواصلت في الولايات المتحدة لإعطاء دفعة في الحقوق المدنية للسود التي قادها القس الاسود مارتن لوثر كنغ؛ ومنذ ان رفضت تلك السيدة السوداء البارعة (روزا باركس) عام 1955 أعطاء مقعدها في الحافلة إلى رجل أبيض حيث كان الفصل العنصري احد اهم معالم الولايات المتحدة آنذاك؛ منذ ذلك الوقت، وثمة عجلة من القدرات المضافة تدور على نحو متسارع ومفاجيء في التطور الإنساني بعيدا عن الشحنات الطبقية. كانت تلك الحادثة قد أشعلت الموقف من "الفصل العنصري" في العالم كلّه بعد ذلك حيث توج بالغاء نظام بوثا للفصل العنصري في جنوب افريقيا وانتصار نلسون ما نديلا بعد ذلك. فطبل لذلك عديد من "الأوتجيه" بسرعة وكأنهم شاركوا في حرير السود! كلمات ، مجرد كلمات، ولا ضريبة ولا مكوس، من يهتم للكلمات؟! لكنهم بقوا ضمن اطار: ان ما لدينا هو الأفضل، دائما، لأن العرب المسلمين كانوا هم اول من رفض العنصرية؛ واستمعوا إلى آذان بلال في فيلم الرسالة! نحن لا نحتاج إلى التحرر لأن الماضي العظيم حررنا منذ عهود الفيء والخراج والسبي والفتوح والحمى الاموي وأراضي الصوافي العباسية وديوان العطاء وثورات العبيد والخوارج وعصور الدوشرمة والينكجرية أخيرا.. و..و.. الاميركان. ولو كانت السيدة باركس عراقية لما قامت بذلك، لأنها تستطيع ركوب اي حمار لدينا، ولن يسألها أحد من الحاكمين او المحكومين عما تفعل.. فلماذا تبحثون أيها اليساريون الفاشلون عن حلول جديدة هنا أوهناك؟! وهل ان السيد ماركوز هو افضل من السيد "مطراللوز" مثلا؟ للاوتجيه أساليب مختلفة في إدارة الحوار. كان اخر اوتجي أصيل يعمل في (الجندرمة الثقافية) الصدامية ويقوم بواجبات مخبر أيضا، يعمل كاتبا وفي كلّ الإتجاهات؛ حيث يكتب تقاريره السرية وقد ضمنها ابيات شعر من المتنبي وحكم للامام علي وأحاديث نبوية! مع بهارات من وصايا القائد.. فكتب له رئيس تحرير الجريدة ـ اصبح سفيرنا في الهند! ـ ان يكتب المعلومة عن هذا الاديب، او ذلك الكاتب بلا خزعبلات!! وما زال يعمل هذا "الاوتجي" محللا سياسيا على أحدى القنوات الفضائية وهو يدلو بدلوه في كلّ شاردة وواردة في شؤون العراق الداخلية والخارجية، ويظهر على القناة الخطيرة كواحد من محللي اوضاع العراق المستعصية على فهم الاميركان.. كان هذا الاوتجي في بداية رثاثته البروليتارية يكتب القصة القصيرة، لذلك تجده يستعمل كلمات حتى الوقت الحاضر لا يتداولها إلا القصاصين.. وهو ما يزال يعدّ ماركوز أباه الروحي أيضا! ربما ان حالة الحب وفلسفته الماركوزية قد انتشرت لدى الاوتجية على نحو لم يسبق له مثيل اكثر من دعواته إلى البروليتاريا الرثة الحقيقية حيث بدأت افكار (الكتلة التاريخية الرثة) منذ احداث الطلبة عام 1968 تقريبا. فاشتعلت موجة من إضرابات الطلبة واعتصاماتهم في جامعات فرنسا ثم انتشرت إلى عموم اوربا. فأصيبت القارة العجوز بصدمة عنيفة لجحود ابنائها الجدد الذين تنكروا سريعا لقوة الراسمال المدجج بالتقانة الواسعة الانتشار. كان للتطور الصناعي المتسارع نتائج خطيرة على اعداد العاطلين عن العمل الذين لفظتهم الصناعات الكبرى تحديدا وما تزال تلفظ مئات الآلاف منهم في كلّ عام وسط حلول بائسة من الإعانات الاجتماعية للعاطلين. إنها لعنة الآلات الجديدة التي تعمل بالروبوت على أية حال, فأصبح للكتلة التاريخية على العموم روافد جديدة ومهمة إلى حدّ بعيد. المسكلة الاساسية للاوتجيه العراقيين هي اتقان فن اللواكه للحصول على عمل، لأننا لا يمكننا ان ننتظر ازدياد العاطلين عن العمل في أوربا وأميركا إلى درجة التهيؤ للثورة البروليتارية الرثة. لا بدّ من قطع الطريق على الفكر دائما من وجهة نظر الأوتجية لدينا. ويمكننا ان نلحظ بعد ذلك تلك الاعداد الهائلة من الشباب الهيبيين الذين أفترشوا الارصفة في عقد السبعينات كنوع من الرفض الاهوج, وقد استطالت شعورهم وفاحت منهم روائح كريهة. إنهم يتاملون المارة بعين غريبة: ماذ1فعلتم بانفسكم ايها السادرون في غياهب صناعاتكم الثقيلة؟ هل ثمة حل؟ ما ذا جنيتم غير الموت بسبب تعاطي المخدرات؟ بات الحلّ الفكري يكمن غالبا في ( الرفض) والرفض الاعمى لذاته. صرعات عابرة، وأرهاصات محمومة، وتقليعات، وفرقة (الخنافس الاربعة) الانكليزية تصدح باغان جديدة عن فداحات العالم الصناعي الاول؛ ليلقى بعد ذلك أحد افرادها( جون لنن) حتفه لأنه لم يوقع فوتوغرافا لأحد المعجبين المهووسين!. ففقد العالم الرث على حين غرة واحدا من الساخطين عليه. في وقت تحول احدهم( يوسف إسلام) إلى حلّ شرقي .. فقاعة صابون وسخة هذا العالم المتشكل الجديد في بداية النصف الثاني من القرن العشرين. ولم يستطع أيا من المفكرين ولا حتى سارتر نفسه – بذكراه المئوية هذه الأيام – أن يلحق بتعرجاته وتقلباته وانحداراته. ولكن يمكن للاوتجية وحدهم - دون غيرهم- اللحاق بقطر العالم! وفي الوقت نفسه أشتد اوار الحرب الباردة في كلّ مكان، ولقي تشي جيفارا – احد اهم أصحاب الحلول العملية الكبرى لماساة عالمنا - حتفه في غابات بوليفيا حيث ادار العالم ظهره من جديد. كان العالم قد ادار ظهره إلى كلّ ما طرحته القرون السالفات من حلول للإنسان، ومن تدبيجات لتماسك رؤاه عن العالم.. تماما كما كان قد أدار ظهره وغادر طروحات كثيرة هي الآن في عناية مؤرخي الفكر وحدهم، ولا يكاد يسمع عنها أحد إلا في أروقة الأروقة الجامعية هنا وهناك. لكن مافعلته روزا باركس السوداء الرافضة للفصل العنصري يبقى حيا, ولن يستطيع التاريخ ان يدير له ظهره بعد آلاف السنين على الرغم من ان السيدة باركس لم تخترع نظرية ما، ولم تنتج فلسفة، أو تقدم معالم رؤية رياضية في الاقتصاد العولمي، وهي ولم تؤلف كتابا واحدا في الحلول الإنسانية الموضوعة، ولم تنشر بحوثا حول صلاحية ما جاءت به السماء من حلول للبشرية أيضا. إنها روزا باركس التي رفضت أعطاء مقعدها لأبيض فقط !! من الصعوبة أن ينظر احد ما إلى تلك الفئة أو ذلك التيار الاجتماعي او الفكري، وان يعدّ وجهة نظره علمية خالصة او آلهية خالصة، او هو يتحدث بالنيابة عن إله.. فلا يأتيه الباطل من أي مكان، فتلكم نزعة التحنيط والجمود والدعة الساذجة لحركة العالم. تلكم طريقة الموتى قبل الولادة أيضا. وهي فرعنة عصر من طراز آخر. فقد يسبق الفلاسفة والمثقفون والكتاب والسياسيون على اختلاف ألوانهم فعل إنساني يسجل صاحبه بالموقف ما لم تستطع ان تسجله آلاف الاوراق المحنطة الأخر. البروليتاريون الرثون جدا وجدوا في العراق في عهد الطاغية كفصيل متقدم من الجندرمة الثقافية الرثة، وهم مازالوا يعملون هنا وهناك من مفاصل الدولة او المجتمع العراقيين أيضا. وقد غادر الحنقبازيه اليزباشية والبكباشية والباشويه الكبار، ومن تبعهم بإحسان من معاونيهم الاقل رتبة إلى خارج العراق حيث يمكن ان يجدوا ما يسدّ الرمق من الامرال السحت التي جادت بها أيادي صدام لهم. هذا الجيش العلني/ السري في آن، مازال قائما ولم يحلّه الحاكم المدني السابق للعراق بول بريمر – وربما لا يستطيع حله أيضا؛ لأنه جيش غير مرئي تحسده المخابرات العالمية على حسن تنظيمه وقوة اتصالاته وغرابة أهدافه أيضا. البروليتارين الرثون العراقيون الاوتجية الجدد حالة خاصة ونادرة؛ تماما مثلما هي الخصوصية الغريبة للعراقيين في ظاهرة الإفناء المتعمد لهم، والذي طالهم بقوة أكثر من أي شعب آخر على الكرة الارضية قياسا بعدد سكانه؛ والموت الجماعي لهذه الامة العراقية منذ أكثر من ربع قرن لا يضاهيه موت إلا في تلك الامم القديمة التي غضب الله عليها فأرسل لها ريحا صرصرا، او فيضانا عرمرما، او خسف بهم الارض بصيحة واحدة... او جعل من بعضهم اوتجية شاهدين! و لا ينافس البروليتاريين الرثين العراقين الاوتجية احد في الكلام والتنظير والتحليل والإعلان لهذه القائمة الانتخابية او تلك.. او لهذا (الحزيب)، او تلك (الحريكة) او تلك الشخصية القادمة من الخارج والمعبأة بالورق الاخضر المهيب. وهم إذا ما تاملتهم من اكثر الادعياء معرفة بما ستؤول إلية الاحداث في العراق؛ المتشائمون الكثر منهم او المتفائلون الاقل كارازمية. الرثون العراقيون ( جماعة العمالة بالألسن وحدها ) منهم من عمل محللا سياسيا غير لبق غالبا، ولا يجيد قواعد الحديث الإعلامي بعربية فصيحة ، ومع ذلك فإن سوق نخاسة الكلمة ما زالت تطلب هؤلاء باستمرار.. فلا تحتاج تلك المهمة الشاقة والتنبؤية إلا إلى (تسفيط) كلام فحسب وتدبيج عبارات هزيلة: المهم ملء فراغ الفضائيات التي أصبحت بعدد عشائر العراق. والعراقيون مفوهون في هذا المجال: أنظروا إلى ما كانوا عليه، وما زالوا، في مضائفهم ودواوينهم وجلسات الدية والفصول! هل ثمة من يباري الجهلة في حشد العبارات السردية الطويلة غير المنمقة, والقصص غير البارعة الواردة من هنا وهناك ؟! البروليتاريون الرثون العراقيون الجدد الاوتجية لا يختلفون كثيرا عن أولئك المعبأين بالنسق العشائري البغيض والمستهجن.. فمنهم من عمل مستشارا إعلاميا لهياكل أحزاب وحركات وتجمعات، أقل ما يقال عنها هشة وضعيفة، ومنهم من كان ناطقا بأسم هذا او ذاك من اصحاب الاقطاعيات السياسية الجهلة الجدد. ومنهم من أسس جريدة او فضائية بدعم من دول مجاورة وغير مجاورة. وكان الله في عون العبد..! إنها مهنة الكلام. والكلام فقط. فحينما يفقد الإنسان صنعته لأي سبب من الاسباب يلجأ إلى صنعة أيسر وأقل كلفة وذات سرعة ولا بأس بها في التصريف. وصنعة الكلام لدي الجندرمة السياسية الحالية هذه الأيام في العراق هي الرائجة المائجة التي تنضح بالمال على الجانبين. مال من الخارج.. ومال من الداخل يتاتى من تهريب النفط والفساد الإداري وعقود الشركات المستثمرة التي لم ير العراقية، حتى هذه اللحظة اثرا مفيدا لهم.. وهاهم يتظاهرون من اجل الحصول على عمل في بلد أقل ما يقال عنه انه يصلح لأستيراد العمالة منذ بدء التاريخ.. فلماذا يقف البروليتاريون الرثون موقف المتفرج من كلّ ذلك؟ فليدلوا بدلوهم كما كانوا يفعلون سابقا في عهد النظام السابق، فينالوا حظوتهم.. وليستثمروا ما شاء لهم من الاستثمار السياسي.. لكنهم اجبن من ذلك ولا يصلحون إلا لضرب الاوتي.. كان صاحبنا القديم إبن بوتا بعد تسفيره يصيح باعلى صوته انا لست (بورباري!) وبما ان جماعة (الرفاق) التي تولت المساعدة على التسفير للسلطات الحكومية الصدامية لم تعرف ماذا يعني (بورباري) حقيقة فقد عدتها كلمة فارسية.. ولو علمت بانه يقصد بروليتاري لحكموا عليه بالأعدام لانتمائه إلى الحزب الشيوعي العراقي طبعا.
#رياض_الأسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سياسات دمقرطة الشرق الإسلامي،طروحات الولايات المتحدة حول (ال
...
-
شعارات القطيع الاسمنتية - سياسات إفراغ المحتوى الإنساني- الع
...
-
توماس فريدمان: قناعاتنا الأميركية بازاء عالم متغيّر
-
الأغلبية الصمتة في العراق دراسة سياية وميدانية
-
قراءة في كتاب ( علي ومناوئوه) المنهجيتان العلمية والتقليدية
-
الليبراليون العراقيون: طريق غير ممهّدة وسير متعثر
-
تكرار فولتير،دراسة أولية في النظرية الأجتماعية الوردية
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|