أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منار عبدالهادي ابراهيم - سراب .. قصة قصيرة















المزيد.....


سراب .. قصة قصيرة


منار عبدالهادي ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 5638 - 2017 / 9 / 12 - 21:01
المحور: الادب والفن
    


استيقظت على رنين هاتفي النقال . نومي الثقيل والغرفة المظلمة التي افضلها تجعلانني دائما اخلط بين وقت الاستيقاظ في الصباح الباكر وبين الاستيقاظ عصرا . كانت الساعة الثالثة بعد الظهر , وكان المتصل احد زملائي في الشركة يتساءل عن امر ما يخص طبيعة العمل . بقيت اتقلب في فراشي مستعرضا المنهاج الذي اروم المضي به عصر اليوم في مخيلتي . كنت قد خططت في وقت سابق ان اذهب يوم السبت الى منطقة الحارثية لأمرين الاول هو زيارة (مول بغداد) المركز التجاري الذي افتتح منذ فترة ليست بالبعيدة والذي لم يُسمح لأحد بدخوله يوم افتتاحه , والشيء الاخر البحث عن مريم .
تعرفت على تلك المرأة قبل عام تقريبا . لم اراها وجها لوجه ولم اسمع صوتها حتى ! كانت مجرد دردشات على تويتر . لم ارى حتى صورتها في بادئ الامر . لكنّي فتنت بها . كانت امرأة ذكية , وكثير ما كانت تثيرني النساء الذكيات , ولهذا من السهولة بمكان ان اقع في حب احداهن بعد محادثة قصيرة معهن . كنت احب المرأة التي تدخل معي في حوار يبتعد عن التفاهات والكلام عديم المعنى . اخبرتني فيما بعد بأنها تعمل طبيبة اسنان وإنها من عائلة ثرية اكاديميا , اختها الكبرى تعمل طبيبة في امريكا , اخوها الاصغر يدرس الطب في بغداد , حدثتني عن احد اعمامها الذي يعمل مستشارا في وزارة النفط . لم تتحدث لي عن والدها الذي عرفت لاحقا بأنه مات اثناء فترة دراستها في كلية طب الاسنان في الجامعة المستنصرية , الامر الذي سبب لها صدمة نفسية اثرت عليها في حينها . لقد عزز موقعها الاجتماعي والاكاديمي مكانتها عندي , فصرت انظر لها بنظرة تختلف عن تلك التي انظر بها الى الاخريات , نظرة تنم عن الاجلال والاحترام الفائق والإعجاب الذي تحول الى حب ! . كنت على يقين بأنها من وسط مرموق قبل ان اكتشف حقيقتها تلك , فثقافتها المرتفعة وطريقتها في الحوار لا تدع مجالا للشك . لم استطع كبت مشاعر الحب التي صرت اكنها لها بعد فترة من تعارفنا , خصوصا بعد ان رأيت عددا من صورها . كانت طويلة القامة , ممشوقة القوام , ضيقة القد , تمتلك عينان واسعتان سوداء اللون , بياض بشرتها يميل الى الحنطي , شعرها كستنائي ينسدل الى خصرها , ملامحها طفولية , ساحرة , بريئة , لها ابتسامة جميلة تكشف عن اسنان ناصعة البياض . قررت اخبارها بالأمر متجاهلا احتمال ان اخسر صداقتها لو رفضت ذلك الحب , متشجعا بردها المازح على اهتمامي المبالغ فيه : "سنان گول تحبني وفضها" . ردت بعد فترة وجيزة من التجاهل والتهرب من رسائلي المكثفة واللحوحة "سنان لا تحبني ولا تكرهني" . كانت تريدني صديق فقط لا غير , لكن انى لقلبي الواله ان يعرف ذلك . هي لم تتقبل الحب لا لأنها تكره الحب , بل لوجود معوقات كثيرة امام هكذا حب . حب يشبه الى حد ما حب عصفور لسمكة ! لا السمكة تستطيع ان تترك الماء وتلتحق بالعصفور ولا العصفور يستطيع ان يترك الهواء ويلتحق بالسمكة . كانت هناك معوقات تمنع استمرار مثل هكذا علاقة , اولها كان فارق العمر , اذ كانت مريم تكبرني بسبعة اعوام , ناهيك عن التفاوت الطبقي .
كانت مريم من عائلة غنية , تعيش في منطقة زيونة احدى مناطق بغداد الراقية ذات المنازل الواسعة , وقاطنين اغلبهم من الاكاديميين ورجال الاعمال . اما انا فقد كنت اسكن في منطقة الحرية ذات المنازل الضيقة والعشوائيات , اغلب قاطنيها هم اناس بسطاء الحال من الطبقة الفقيرة والمتوسطة , كما تزخر المنطقة بالجهلة والمتخلفين وبالذين لا زالوا متمسكين بعاداتهم القبلية التي اكل عليها الدهر وشرب . الكثير منهم لا يتوانى ان يصف كل امرأة متبرجة او سافرة بأوصاف اقلها : مصطلح عاهرة ! . اضف الى ذلك كله , كنت اعمل وقتها اجير يومي في امانة بغداد قبل ان انتقل فيما بعد الى ملاك وزارة المالية والتوظف في احدى شركات قطاع التأمين التابعة لها . كنت اسكن مع والداي واخوتي في منزل جدي المكتظ بالساكنين والحاجيات والورثة الشرعيين وكانت تحدث مشاجرات ومشاكل بين الفينة والأخرى على اتفه الاسباب . كان ذلك كفيل بأن ترفض اي امرأة مثل مريم عرضا بالزواج فيما اذا كتبت لعلاقتنا النجاح . على الرغم من التقارب الفكري بيننا والتفاهم الذي دفعها يوما لتقول لي "سنان انت اكبر من عمرك" . كان هناك الفارق الاكاديمي , كانت تحمل شهادة البكالوريوس في طب الاسنان فيما كنت انا احمل شهادة الدبلوم في المكائن والمعدات , على الرغم من طموحي بدخول الجامعة في المستقبل القريب .
هناك من يرى عيبا في التحدث بطبقية , لكني ارى عكس ذلك , فمن حق اي فرد ان يفكر بتأثير اي قرار على مدخولاته المادية ومكانته . لم تتطرق مريم الى الفارق الطبقي بيننا - ربما كانت ترى ان الموضوع قد يجرحني وهذا غير صحيح - بل ركزت على الفارق العمري . قالت لي يوما "سنان اني صرت بصف الثاني ابتدائي وأنت اجيت للدنيا , اخويه الزغير نفس مواليدك , لو كانت اعمارنا متقاربة كان الوضع صار افضل , انسى الموضوع او بالاحرى انساني ولا تحجي وياي بعد " . لا ادري لماذا طلبت مني ان لا اكلمها مرة اخرى , ونسيانها ايضا ! . حاولت فيما بعد الحديث اليها , لكنها لم تكن تجيب على اي من رسائلي .
كان ذلك المسمار الاخير في نعش استمرارنا كأصدقاء على الاقل . لقد شكل ابتعادها عني صدمة ما لبثت ان اتخلص منها الا بعد اشهر عديدة , وضلت تستعر في قلبي جذوة شوقي لها الى ابعد من ذلك . حالة الاكتئاب التي مررت بها في الايام الاولى لرحيلها لم تكن تمتلك شيء من الرحمة وصارت تلسعني بسياطها كلما حاولت الإنفكاك منها , قلق , شعور بفقدان الذات , خواء , عدم الرغبة بالعمل , انطواء , انفعال لتوافه الامور , دموع لا امتلك السيطرة عليها . لذتي كانت هي العزلة تماما عن العالم في صومعتي التي الذي حالفني الحظ بظلامها حتى في ساعات النهار , او الخروج لأتمشى وحيدا لمسافات طويلة مستذكرا خلال الحركات الايقاعية تلك الايام التي كنت امضها بالحديث معها , وكيف كنت ابتدأ صباحي بها ولا اتركها حتى منتصف الليل . نقص النوم الذي كنت اعانيه ايام تواجدها صار نسيا منسيا امام ساعات النوم الطويلة التي كنت امضيها , لعلي اراها في حلم ! . كنت استمتع جدا بالوقت الذي اقضيه معها . كانت كالزهرة تمدني بالرحيق وصرت اعاني الجوع بغيابها . حاولت التقرب لكثير من النساء لكن لم تستطع اي منهن شغل مكانها بل صارت مريم مقياسي الذي اقيمهن فيه . مارست الكتابة في محاولة للهروب منها , نجحت بالكتابة وكتبت عددا من القصص القصيرة , لكن لم انجح بالهروب منها . كانت ملاذي التخيلي الذي الجئ اليه هربا من مرارة القدر , لذلك شغلت فكري اكثر من اي شيء اخر .
لم اطق تحمل ستة اشهر من ابتعادها فقررت ارسال رسالة لها :
" تتذمرين وتتساءلين ما الذي يريده هذا الغريب ؟ يا عزيزتي الجميلة . انا ذلك الحالم السارح في افقٍ لا ينتهي , فوكئ عالمه بك وأستَبَثْكِ ذات نفسه دون ان يعرفك , فقط لسكون نفسهِ اليك . قلتي سأعلنها حرباً نفسية , فتهكمتُ ! وفعلتي , فهنيئا لك الانتصار . امسيتُ بحثاً عن بقايا روحكِ علّي اخمد شيئاً من نارٍ نشبت وأبت ان لا تنطفئ . فزرتُ اماكن مقامكِ بلهفة عاشقٍ يزور أيكَ معشوقه . لقد أَوصدْتِ جميع رُتُجكِ لسببٍ انا فيه جاهل , فَعَثرتُ بين العتمةِ على نورٍ يشعُ من احدى نوافذكِ ولا اخالكِ ستغلقينها لتُبقي ذلك الغريب يسبحُ في الظلام . وجدتُ فيكِ عالمي ورأيتُ من خلالكِ نفسي وأمسيتُ تائهاً بين ليلةٍ وضحاها حين غربتي , وما برحتُ انتظر الشروق .
لا يهم ان تكرهين وتتعصبين وتقولين ما ترين . المهم ان تعلمي ان من بين من تواشجت كلماتك بما يكتبون , شخصا أَحَبكِ حباً افلاطونياً رغم الابتعاد المرير وأَحَبَ حتى عِنادك . واعلمي يا جميلتي ان بإمكان رفه لجنحِ فراشة ان تُحدِثَ اعصاراً في المدى البعيد , فلو اردتي مني النسيان فاجعلي الزمان يعود لأمحى كل ما تعلمت واحببت حين عرفتكِ , وأعيدي لي حزني وابتساماتي وأشواقي .
لم يكن ما مضى مجرد لحظات عابرة . فلا مناص ان تشرق شمسٌ دون ان ينبض فؤادي بكِ , بل دون حتى ان تثب اشراقة عينيكِ , فتطأطئ باقي العيون خجلاً . تحياتي واشواقي غاليتي مريم . صديقك المخلص سنان .. "
قلت افلاطونيا كون نظرتي الاولى لها كانت كذلك , قبل ان يستعر قلبي وجدا , ويترقرق سيل من المشاعر نحوها . يوما ما وحينما توقفت عن تحيتها ذات صباح لعدم تقبلها فكرة حبي لها , بعد ان كنت مواظبا على ذلك . قالت لي : "سنان الّا احاربك نفسيا !" . كانت تعي نقطه ضعفي وهي ولعي بها لذلك اخذت تعزف على ذلك الوتر . لم ترد بشيء على تلك الرسالة بل اكتفت بتغيير صورتها في انستغرام الذي ارسلت رسالتي من خلاله , بأخرى تبدو فيها اصغر عمرا , كانت قد ارسلتها لي سابقا وابديت اعجابي الشديد بها . لا ادري ما القصد من فعلتها تلك , حتى انها لم تقم بتغييرها لفترة طويلة , وقد فعلت نفس الشيء حين ارسلت لها رسالة اخرى على الفيسبوك . واصلت الكتابة اليها رغم علمي بعدم ردها على اي من كتاباتي . كانت الكتابة اليها تشعرني بارتياح قلما شعرت به اثناء فترة غيابها ، كانت ترياق يفرغ ما فيّ من شوق لها , كما يفرغ المغتلم شهوته , فيشعر بنشوة تنسيه ما قاساه قبل ذلك . ارسلت لها يوما , حينما كان شوقي لها يحرقني بنار لم استطع ان اتحملها , ولم اكن ادري ان كانت تقرأ ما اكتب لها ام لا :
" اشتقت اليك جدا حبيبتي ، ما عدت استطيع مقاومة ذلك السحر الذي يشدني اليك تارة ويحرقني شوقا لأيامك تارة اخرى . مريم ، انت تقطعين الاوصال وأنت بعيدة ، ماذا لو كنت امامي الان ؟ تلك النار المستعرة لا تنطفئ إلا بالكتابة اليك ، وذلك الالم الفظيع الذي يعتريني ويريني عتمة القبر كلما تذكرتك , لا يكاد ينفك عني إلا بقول كلمة احبك . لم يعد سنان هو نفسه قبل ان يعرفك ، ولم تعد نفسها تلك الروح التي كانت تنجذب الى كل جميل حين تعلقت بجمالك ! . لماذا تجسد جمال النساء فيك , ولماذا عشقتك يا ترى الى هذه الدرجة ؟ ربما اراد الله ان يري الناس جمال خلقه من خلالك ، او ربما خلقك فخٍ لإيقاع كل ناسكٍ تصور ان لا امرأة يمكن لها ان تغريه بتعبده ! ربما انا عشقتك لأنك تلك الهالة التي تحيط بكل الاشياء الجميلة التي احبها ، او لأنك تملكين من السحر ما لا طاقة لي على بطلانه ! احبك مريم رغم كل مغريات النساء واحبك رغم كل ذلك الالم الذي توجهينه الى قلبي الصغير الذي يأبى رغم شقاءه ان يتعلق بامرأة غيرك ! بل ويأبى ان يتركك لينفك عنه العذاب ! فأي مازوخية تلك التي ابتلي بها قلبي وأي سادية تلك التي تحملينها . تحياتي لك حبيبتي مريم . احبك جدا . سنان" .
وكالعادة لم ترد بشيء ! . واه له من قدر يحبب الانسان بشيء ولا يعطيه كاملا ! من اصعب الاشياء ان يتعلق المرء بشيء لم يكتبه القدر له , او ان يحب شخصا لا يريده , او يكتب لمن لا يقرأ كلماته ، انه لشعور بشع ، عنيف ، سوط لا يعرف الرحمة ولا يلبث الا ان يحط من قيمة المرء امام نفسه التي طالما حافظ على شموخها . كانت مريم تواظب على كتابة المدونات في تويتر . بعد ما ارسلت احدى رسائلي اليها تركت الموقع , وقد استمر غيابها للأسبوعين اثنين . اخذ القلق مني مأخذه , وسيطر علي الذعر , خفت جدا ان يكون قد اصابها مكروه . فعلى الرغم من جفاءها انا احبها جدا , ويؤلمني ما يصيبها كما يؤلمني مصابي . ارسلت لها رسالة معبرا فيها عن حالة القلق التي تنتابني :
"عزيزتي مريم : لم اراك تغردين منذ اسبوعين في تويتر ، انه لحقاً مدعاة للقلق ، لا استطيع ان امنع نفسي من انشغالها بك وأنا اجهل حالك ، جل ما اتمناه هو ان تكوني بخير ولا اتمنى شيء غير ذلك ، فسعادتك هي سعادتي وسقمك هو سقمي , فأن كان ابتعادك لفرح , عسى ان تقضي كل حياتك فرحة , هانئة , مطمئنة , وان كان ابتعادك لسقم , ارجو حقا ان ينضو ذلك بأقرب وقت , وان يعود الامل ورونق الشباب الى محياك ، فلا يليق بك غير ابتسامة دائمة تزين ثغرك , وجمال منقطع النظير يلف اطلالتك , وحيوية بلغت من النشاط والديمومة اقصاها , وصحة يغبطك عليها الاصحاء . عزيزتي اني ما برحت والها بك لا تنوء نفسي المهيضة لترياق سواك ، كثير ما تدفعني نار الوجد اليك لأتقصى امرك , فأطمئن عليه , فتصيبني سعادة او حزن تبعا لحالتك , فأرجو ان تكوني بخير لأكون انا كذلك . تحياتي لك ايتها الرائعة . صديقك سنان" .
ردت هذه المرة ولكن بطريقة غير مباشرة ! . كتبت عدة مدونات في حسابها الشخصي وقد بدى عليها الفرح ! . في الصباح وأنا في حالة ما بين اليقظة والنوم , مر طيفها علي , شعرت بقربها , سمعت صوت انفاسها , تحسست نعومة جسدها ودفئه . حين استيقظت , دخلتُ على حسابها في تويتر وقد هالني عودتها . كتبت لها رسالة اخرى معبرا فيها عن حالة الفرح التي غمرتني برؤيتها سعيدة . لطالما تساءلت عن عدم ردها على رسائلي , في بعض الاحيان اقول انها ضعيفة امام مشاعرها ولا تستطيع ان تمنع نفسها من الاستمرار معي لو قررت الرد , ذلك لانها لا تريد ان ترتبط بعلاقة قد تفكر بأن لا مستقبل لها , بسبب حجم الاختلاف الذي تراه , وقد لمستُ ضعفها من خلال بعض المحادثات السابقة بيننا. في احيان اخرى اقول بأنها تحمل نفس سادي وتستمتع برؤية الاخرين يتعذبون لأجلها , فمن غير المعقول ان تترك امرأة رجل يواظب على ارسال رسائل الحب لها دون ان تحسم الامر معه بشكل نهائي .
وأنا في طريقي الى الحارثية تذكرت موقف قد مررت به في وقت سابق : في احد ايام استعار شوقي وهيامي بها , قررتُ الذهاب الى مول النخيل كونه قريب من منزلها كما اسلفت في وقت سابق - حين حصل انفجار بالقرب من ذلك المركز التجاري وأرادت التأكيد عن قرب منزلها من التفجير - وكان وقت الغداء ، حجزت طاولة بمقعدين معزولة نوعا ما , على الرغم من كون الجو كان غائما وجميلا , ويستحق ان يجلس المرء امام الواجهة المطلة على الشارع العام . طلبتُ وجبة تكفي لفردين اثنين ورحت اتناولها وانأ اتخيل شخصها يجلس قبالتي ويشاركني الطعام . وقتها استمتعت كثيرا مع شبحها الذي تجول معي في ارجاء المكان ! .
اجتزت حاجز التفتيش عند مدخل المول ودلفت الى الداخل . تأملت التصميم المعماري الفريد للمكان . عند الدخول كان هناك قبة زجاجية علقت اسفلها مجموعة من المظلات الملونة , وعدد من البالونات هنا وهناك . اتجهت يمينا ومن هناك هبطت بسلم الكهربائي الى الاسفل . في الجهة المقابلة كان هناك جناح عرضت فيه مجموعة من التحف والعطور والأشياء المنزلية والهدايا . وقفت متأملا وأنا تحت تخدير الموسيقى التي يصدح صوتها عبر مكبرات الصوت في ارجاء المول , انظر الى تلك المعروضات , وقد اخذ خيالي يسرح الى اجواء اخرى لا علاقة لها بالمكان , اجواء مفعمة بالحميمية ولقاء يجمعني بمريم . ترى اي من تلك الهدايا سأشتريها لها في ذلك اللقاء ؟ هناك اعتقاد شعبي بأن ارسال هدية لشخص مكونة من عطر تؤدي في النهاية الى الفراق مع ذلك الشخص , كنت ارى بأن ذلك الاعتقاد ما هو إلا سخافة من السخافات المنتشرة في الثقافة الشعبية , لهذا فكرت بأن تكون هديتي لها عبارة عن عطر . ترددت قليلا ! : انها تعشق الكتب , لماذا لا اخذ لها كتاب بدل العطر فأنا لا اعرف ذوقها بالعطور ؟ . ترددت مرة اخرى ! : كيف لي ان اعرف ما هو الكتاب الذي يعجبها ولم تقرأه بعد ؟ . تأملت مراتب وملاءات الاسرّة التي صفّت في زاوية اخرى من الجناح , تساءلت مع نفسي : ماذا لو كانت الظروف مؤاتية للزواج منها وإنجاب الاطفال ! . اتجهت الى الجهة المقابلة للجناح حيث سوق الفواكه والخضر والمواد الغذائية . في الطريق كان هناك كشك لبيع القهوة يحمل اسم البيروتي , يعرض انواع مختلفة من البن . اعادتني رائحة القهوة بضع سنوات الى الوراء , الى مركز تجاري اخر يقع في شارع المدينة المنورة , على بعد مسافة من الجامعة الاردنية في عمان , يدعى مرجان مول ! . لم يكن هناك اشياء تتعب تفكيري وأنا اتجول في مرجان مول مثلما يحصل الان اثناء تجوالي في مول بغداد . حينما عدت الى الاعلى تأملت عددا من المطاعم هناك . ترى في اي منها سندخل لو شاء القدر ان نلتقي وادعوها لتناول العشاء , على اي طاولة سنجلس , وما نوع الطعام الذي سنطلبه , وهل سيعجبها تناول العشاء في هذا المكان اصلا ؟ .
خرجت من المول بعد اكمال تجوالي فيه واتجهت باتجاه شارع الكندي الذي يزخر بعيادات الاطباء . كانت مريم قد اخبرتني في وقت سابق بأنها تعمل في مجمع طبي في الحارثية , وقد سألتني يوما ما اذا فكرت بزيارتها . اخبرتها وقتها بأني سأقوم بذلك لكن ليس الان . كنت انتظر اللحظة المناسبة للقيام بذلك , فلم اشأ ان ازورها دون ان تتوطد الاواصر بيننا , ليكون لقائي الاول بها مقتصرا على رؤيتها وجها لوجه وسماع صوتها , لكن ذلك الامر لم يتحقق بسبب رحيلها المبكر . في بداية شارع الكندي كانت ترتفع فوق احدى البنايات الى اليسار نشرة اعلان ضوئية كبيرة نسبيا لصالون وشم اطلق عليه اصحابه اسم سنان . تذكرت بأني شاهدت نفس ذلك الاعلان ذات مرة , وكان يعلو بناية اخرى في منطقة المنصور , تقابل مرطبات الرواد . جلست يومها على احدى الطاولات التي رصفت بمحاذاة الشارع العام , لتناول الأيس كريم , وقد أخذت اتأمل حروف ذلك الاعلان : "لا بد لمريم ان تأتي الى هذا المكان , ترى ما الذي يرد في مخيلتها عند مرورها بأسمي , هل تتذكر رسائلي اليها ؟ ". تكرر ذات التساؤل هذه المرة وأنا ارى ذلك الاعلان من جديد . واصلت المشي على الجانب الايمن المحاذي لمول بغداد , شاهدت ان هناك تجريف للجزرة الوسطية في مقدمة الشارع , وفي نقطة ما انتصب كرفان يفصل بين الجانب المجرف من الجزرة وبين الجانب السليم , شكله يوحي بأنه سيكون نقطة تفتيش امنية . نظرت الى لافتات الاطباء التي تتوزع على جانبي الشارع . كان قلبي يخفق بشدة كلما ارى اسم مريم مكتوب على احدى اللافتات , ولكنه سرعان ما يعود الى نبضه الطبيعي حين اكتشف بأن اللافتة تعود لطبيبة اخرى تتشابه مع مريم بالاسم . انها تعمل في مجمع وليس لها عيادة خاصة , هكذا هي قالت لي ذات مرة . كانت هناك عدد من المجمعات الطبية الخاصة بأمراض الاسنان وتجميلها . في نقطة ما وحينما كدت اصل الى نهاية الطريق عبرت الى الجانب الاخر . كنت متردد في دخول تلك المجمعات والسؤال عن مريم على الرغم من تصميمي على رؤيتها , وقفت امام مجمع الحارثية لأمراض الفك والأسنان الذي كان بارزا بسبب كثرة الانوار وشكله المميز , فكرت بأن ادخل واسأل عنها هناك , لكني سرعان ما واصلت المسير . كنت افكر في ردة فعلها , لم التقي بها من قبل , لهذا انا اجهل الاسلوب التي تواجه فيه الناس , والأسلوب الذي ستواجهني فيه على وجه التحديد . ان اللقاء الاول يترك انطباع عن الشخص لا يلبث ان يزول إلا بعد فترة طويلة , قبل ان تتغير الصورة وتتشكل صورة اخرى . كنت اخشى من رد فعل غير متوقع من قبلها , يغير من نظرتي اليها , قد تتفوه بكلمة او تسلك سلوك قد يزعجني على المدى الطويل . كنت انظر الى النساء اللواتي يتجولن في المكان لعلي ارى ملامحها التي لم تغب عني , في احداهن . نظرة ولقاء يكفي لان اطلق على هكذا حب وان هو اجهض قبل ولادته بشكل كامل بأنه حبا حقيقيا , فبالرغم من مشاعر الحب الجياشة التي اكنها لها والحنين المتقد الذي ما برح ان يزول رغم مرور عام كامل على قرارها بالرحيل , الا انه يبقى حبا ناقص في نظري . قطعت احدى النسوة التي تبدو في الثلاثينيات من عمرها سلسلة تفكيري بالسؤال عن عنوان ما , ولأني غير ملم بتفاصيل المنطقة اجبتها باقتضاب : "والله ما ادري عيني" . حينما وصلت الى نقطة البداية شعرت بالخيبة لعدم الوصول الي شيء قد يغيّر من خارطة الاحداث الرتيبة . على الاقل ان لن نستمر في علاقة مفتوحة ان كانت فكرة الزواج بعيدة المنال , نتفق على نهاية ربما قد تخلصني من بعض الالم الذي يعتريني . اريد ان اطلق على ما مررت به من جنون وألم وأشواق بأنها تجربة حب حقيقية , فلا يعقل ان يمر المرء بتجربة حب دون ان يرى حبيبه وجها لوجه . فكرت ان ابعد شعور الخيبة بفعل يجعل من الخسارة ربح ولو بشكل معنوي , فقررت كتابة هذه القصة .
(يا مريم . يا من احببتها دون ان اراها . ستمكث معك روحي حتى وان تباعد الجسدان , فأنتِ العالم والوطن الذي انتمي اليه . جسدك , ذلك الشيء المادي , روحك , ذلك الشيء المعنوي , انهما ازهار تملئ جنينة حياتي , كلاهما يمدانني بالرحيق , فأكون على قيد الحياة .. احبك وان لن نلتقي يوما ما) .



#منار_عبدالهادي_ابراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حفلة تخرج .. قصة قصيرة
- نيران .. قصة قصيرة
- تراجيديا الرحيل وحلاوة العودة .. قصة قصيرة
- هيستيريا سادي .. قصة قصيرة
- كرم .. شانغري-لا مورفيوس .. قصة قصيرة
- رحيل .. قصة قصيرة
- كن شجاعا .. قصة قصيرة
- قصة قصيرة بعنوان (استعادة)
- قصة قصيرة بعنوان (اشواك)
- اردوغان ... الغاية تبرر الوسيلة
- صدام حسين والمظاهرات الحالية
- داعش والمطالبين بالأنظمة الدينية سواء
- نزهه في معسكر مدني


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منار عبدالهادي ابراهيم - سراب .. قصة قصيرة