|
فيلم لعبة المحاكاة: دروس في تقبل الاختلاف
كلكامش نبيل
الحوار المتمدن-العدد: 5638 - 2017 / 9 / 12 - 21:01
المحور:
الادب والفن
يحكي فيلم "لعبة المحاكاة" أو The Imitation Game قصة حقيقية مستوحاة من حياة عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينغ ودوره في فك شفرات الرسائل السرية الألمانية بواسطة جهاز Enigma المعقد. يستند الفيلم الذي أخرجه النرويجي مورتين تيلدوم إلى سيناريو للكاتب السينمائي غراهام مور والذي يرتكز على كتاب ألفه أندرو هودجيز بعنوان "آلان تورينغ: اللغز".
يتناول الفيلم بطريقة الفلاش باك حياة آلان تورينغ وقصة عمله مع المخابرات البريطانية وجهوده في فك الشفرة، فضلاً عن حياته الخاصة وطفولته وأثر الصداقة المبكرة فيها – وهي صداقة تنتهي بألم كما هو حال حياة تورينغ في العموم.
استوقتني طفولة تورينغ كثيراً، لاسيما تعرضه للعنف في المدرسة على يد زملائه. وقال جملة مؤثرة للغاية عندما كان زملاؤه الأشقياء يحاولون حبسه في ارضية تقع تحت مكتب المدرس ووضع الواح خشبية فوقه ودقها بالمسامير. كان تورينغ يصرخ وسط سعادة ذلك الجمع الطائش، حتى قرر حرمانهم من تلك البهجة وهو يفكر: "هل تعلم لماذا يحب الناس العنف؟ لأنه يبدو جيداً بالنسبة لهم. يجد البشر العنف مرضياً بدرجة كبيرة. لكن ما ان تقوم بازالة ذلك الشعور بالرضا، حتى يصبح الفعل أجوفاً." في تلك الحادثة، كان صديقه كريستوفر هو الذي أنقذه ووقف إلى جانبه ليصبح صديقه المقرب – الذي سيلهمه حب الشفرات أيضاً. حيث تساءل تورينغ، "انهم يضربونني لأنني أذكى منهم فحسب." لكن كريستوفر يجيبه قائلاً، "لا، انهم يضربونك لأنك مختلف." يصبح كريستوفر صديقاً لتورينغ ويلهمه حب الشفرات حيث يدور حوار بينهما عندما يسأل تورينغ عن كتاب عن الشفرات يحمله كريستوفر، ليعلق تورينغ على ذلك، "عندما يتحدث الناس إلى بعضهم البعض، فإنهم لا يقولون ما يعنونه أبداً. انهم يقولون شيئاً آخر، ومن المتوقع أن تعرف فحسب ما يعنونه بذلك." لتبدأ بذلك رحلة من الرسائل المشفرة بين الصديقين. من الفيلم يتضح لنا دور كريستوفر في حياة تورينغ، فقد كان بمثابة حارسه الشخصي وصديقه الوحيد والملهم في المدرسة، ونراه يقول له عبارة ستتكرر كثيراً في الفيلم على لسان كريستوفر وتورينغ وجون كلارك وغيرهم، "أحياناً، يكون ذات الاشخاص الذين لا يتوقع أحدٌ منهم أيّ شيء هم من يقومون بأشياء لا يمكن لأحدٍ أن يتصورها."
في الفيلم مشاهد مؤلمة لدمار المدن واختباء الناس في انفاق المترو بسبب الغارات الجوية الألمانية، وهي مشاهد تذكرنا بواقع الشرق الأوسط اليوم والدمار الذي شهدته العديد من مدن العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها. لكن الفيلم، ولحسن الحظ، لا يركز على ذلك ولا يجعله محوره الرئيسي، لأن فيه كماً من الحزن لا يستحمل اضافة المزيد منه، كما أن الحرب الحقيقية بالنسبة لتورينغ لم تكن كذلك حيث قال، "يعتقد بعض الناس أننا كنا في حرب مع الألمان. هذا غير صحيح. لقد كنا في حربٍ مع الساعة."
يسلط الفيلم الضوء أيضا على الانحياز ضد المرأة في بريطانيا في اربعينيات القرن الماضي، حيث يثير وجود آنسة وسط المتقدمين لاختبار من نجح في حل تمارين الكلمات المتقاطعة في الصحف سخرية الشخص الذي يقف عند باب لجنة الاختبار ويسألها اذا ما كانت قد حلتها بنفسها. ويحاول منعها من الدخول لأنها تأخرت بمقدار خمسة دقائق عن موعد بدء الامتحان، لكن تورينغ يسمح لها بذلك ويكرر ذات الجملة الذي قالها له كريستوفر قبل سنين. تفاجئ الآنسة جون كلارك الجميع بحلها للغز في غضون 5 دقائق – اقل من الوقت المحدد – للتأهل مع مرشح آخر للوظيفة السرية التي لم يكونوا يعرفون عنها شيئاً. فيما بعد، تواجه الآنسة كلارك مشاكل أخرى في العمل في محيط أغلبه من الرجال وفي موافقة أسرتها على ذلك وغيرها من المشاكل. أعتقد أن قوة الفيلم تكمن في تركيزه على التمييز ضد المرأة وضد المثليين والعنف ضد الأطفال في المدارس.
يواجه تورينغ مشاكل كبيرة في اقناع رؤساءه في العمل بخصوص مشروع بناء ماكينة لفك الشفرات بدل العمل البشري، ويواجه رفض الزملاء له، لكن الآنسة كلارك تكون سنده الوحيد في تلك الفترة، ونراها تخبره عن شيء في غاية الأهمية، "لن يساعدوك إذا لم يكونوا يحبونك". وبذلك يحاول التقرب من فريقه ويحكي لهم نكتاً لكن أحداً لا يضحك عليها. العديد من مواقف العمل والاحباطات في فك الشفرات محزنة، فضلاً عن تعرضه للضرب من زملائه الرياضيين – الألمع في بريطانيا – ويزداد وقع الأحداث حزناً عندما يحاولون وقف مشروعه ووقف تمويله بحجة أنها "ماكينة باهظة الثمن لكنها لا تعمل". لكنه يفاجأ بوقوف زملائه إلى جانبه بشكل غير متوقع.
يبرز الفيلم أيضاً دور امرأة أخرى في فك الشفرة من خلال الحديث عن اسم صديقة مخترع نظام Enigma الألماني الأكثر تعقيداً. بعد فك الشفرة، نلاحظ صرامة تورينغ في الحفاظ على سرية قيامهم بذلك، لكي لا يقوم الألمان بتغيير الشفرة ويتجلى ذلك في موقف مبكي للغاية، عندما يفكون شفرة تفيد بقصف قطار يضم 500 شخص ما بين نساء وأطفال، لكن التدخل السريع لانقاذهم سيمكن الألمان من معرفة أن الشفرة قد كسرت. فينشب صراع قوي ويلكم هيو زميله تورينغ بعد ان يكسر الهاتف، لكن تورينغ يصر على ضرورة الحفاظ على السر بهدف تحقيق النصر في الحرب ككل. تقول جون، "بعد 20-30 دقيقة، مئات المدنيين، يمكننا انقاذهم! لكن تورينغ يقول، "أحياناً لا يمكننا القيام بما يبدو جيداً. بل يتوجب علينا القيام بما هو منطقي." فيصرخ بيه الكساندر، "وما هو المنطقي؟" فيجيب، "الوقت الاصعب للكذب على أحدهم هو أن تكذب بينما يتوقعون بأنك تكذب عليهم." وأضاف، "عملنا لا يتمثل في انقاذ قافلة مسافرين واحدة، بل أن ننتصر في الحرب، وكانت مهتمتنا أن نفك شفرة Enigma وقد فعلنا ذلك." يوافق الزملاء في النهاية، لكن الأصغر سناً، بيتر، يبدو عليه التأثر، لنكتشف بأن أخوته في ذلك القطار. يحاول بيتر التوسل بهم ويقول لتورينغ غاضباً، "انت لست إلهاً يا آلان! لا يمكنك أن تقرر من يموت ومن يعيش!" لكن تورينغ يقول له، "بلى، نحن من يقرر." وفي مكان آخر يقول تورينغ مقولة رائعة حينما يتساءل، "هل كنتُ إلها؟ لا، لان الرب لا ينتصر في الحرب، نحن من ينتصر."
من المواقف المؤلمة في الفيلم، عندما يحاول تورينغ انهاء خطوبته بالآنسة كلارك بسبب مثليته، لكنها تصر على البقاء وتقول له بأنها تعرف ذلك مسبقاً. قالت له، "لقد كانت لديّ شكوكي بخصوص ذلك، وعلى الدوام. لكننا لسنا كبقية الناس. نحن نحب بعضنا البعض بطريقتنا الخاصة وبامكاننا ان نعيش معاً بالطريقة التي نرغب بها. لن تكون الزوج المثالي، سوف تمارس عملك، وسيحظى كلانا برفقة بعضنا الآخر. لدينا عقل كل واحد منا. يبدو هذا زواجاً افضل بكثير من غيره." لكن تورينغ يرفض ويقول لها بأنه لم يهتم لأمرها أبداً وبأنه كان يحتاج إليها لفك الشفرة وقد فعلوا ذلك الآن وفي امكانها الذهاب. يثير ذلك الموقف المحزن غضب جون فتقول له، "أنا لن أذهب إلى اي مكان. لقد قضيت الكثير من حياتي هنا وهذا هو العمل الأكثر أهمية الذي سأقوم به. ولن يوقفني أحد أبداَ، وأنت بالذات من دون الجميع." وفي موضع آخر في الفيلم تقول له بأن ماكينته لن تنقذه وانه سيبقى وحيداً على الدوام.
يبدو تورينغ محايداً حيال الحرب، حيث يقول، "ما كنا لننتصر لولا المعلومات التي كنا نجهزهم بها. والناس يقولون عن الحرب بأنها معركة ملحمية بين الحضارات، الحرية ضد الطغيان، والديمقراطية ضد النازية." وعند انتهاء الحرب وقرار تفريق المجموعة وحرق كل اسرار مشروع فك الشفرة، يقول لهم تورينغ بأن هذه الحرب قد انتهت وستكون هناك حروب أخرى. ويكون مؤلما أن يطلب منهم رئيس المشروع أن يتصرفوا كما لو أنهم لا يعرفون بعضهم البعض أحد ليبقى المشروع بكامله سراً.
في التحقيق، الذي يبدأ الفيلم به، يسأل المحقق تورينغ سؤالا بعيداً عن قضية المثلية الجنسية متعلقاً بدوره في الحرب وفك الشفرة، فيقول له تورينغ، "الماكينة لا تفكر كما يفكر البشر. الماكينة تختلف عن الشخص. ولذلك، فإن الماكينات تفكر بطريقة مختلفة. السؤال المهم هو، هل كون الشيء يفكر بطريقة مختلفة عنك يعني أنه لا يفكر؟ حسنٌ، نحن نسمح للبشر بمثل هذه الاختلافات؟" وفي هذه العبارة اشارة مهمة لضرورة تقبل اختلاف تورينغ عن ما يفترض أنه المألوف. ثم يسأل تورينغ بحزن، "هل أنا انسان أم بطل حرب أم مجرم؟" فيقول له المحقق الذي كان يحاول الايقاع به، "لا يمكنني أن أحكم عليك" وكان المشهد مقدم بطريقة مؤثرة وناجحة للغاية في ايصال رسالة انسانية عميقة.
بعد التحقيق في موضوع المثلية، يخير تورينغ ما بين الاخصاء الكيميائي باستخدام الهرمونات أو السجن، فيختار الأولى بالطبع. في موقف مؤثر للغاية، تزور الآنسة كلارك تورينغ بعد ان تقرأ عن حكمه في الصحف، لتجده منهكاً فتسأله عن السبب، فيقول متألماً، "اخصاء كيميائي، لأجل علاج ميولي الجنسية المثلية. اذا لم أواصل العلاج فأنهم سيأخذونه بعيداً عني." مشيراً إلى جهازه الذي اطلق عليه اسم كريستوفر – اسم صديقه الملهم والذي توفي في الطفولة بسبب مرض السل – وهو موقف مؤلم آخر في هذا الفيلم التراجيدي. تتأثر الآنسة كلارك بسوء حال تورينغ فتقول له باكية، "لا يمكنك ان تدعهم يقومون بذلك. لا يمكنك!" ثم تقول له، "لا يوجد شخص طبيعي يمكنه القيام بما قمت به." وتشكره لأن كل جهودها في مجال البحث العلمي ترجع إليه ولدعمه لها. وتضيف، "الآن، لو أنك كنت تتمنى لو كنت طبيعياً، فإنني أعدك بأنني لن أتمنى ذلك." وتذكره بأن جهوده ستلاقي التقدير يوماً ما وأن العالم بالتأكيد أصبح مكاناً أفضل بفضل جهوده.
في عام 1954، وبعد عام من الحكم على تورينغ، يقرر الانتحار عن عمر يناهز 41 عاماً. ساهمت جهود تورينغ في تقليص مدة الحرب بمقدار عامين وانقذت حياة ما يقدر بـ 14 مليون انسان، وكانت ابحاثه ثمرة ما تطور ليولد لنا أجهزة الكومبيوتر. في عام 2013 فقط، قررت الملكة إليزابيث الثانية اصدار مرسوم بتبرئة تورينغ تقديراً لجهوده في الحرب وخدمة الانسانية. لكن العالم خسر عقلية رائعة فقط لأنه مختلف ولأن ضيق أفق البشر لم يكن يتقبل اختلافه في حينها، وهو ذات الفكر الضيق الذي كان سيمنع جون كلارك من مزاولة عملها لأنها امرأة فقط.
في النهاية، انه فيلم رائع ويستحق المشاهدة، ولا تنسوا أن تحضروا المناديل معكم لأنكم ستبكون كثيراً بلا شك.
#كلكامش_نبيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آسيا الصغرى وإيران - جسور بين الحضارات
-
الفردوس المفقود - العراق في عيون الرسام الإنجليزي دونالد ماك
...
-
بغداد في عيون مبشر إنجليزي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر
-
الأيديوجيات الشمولية – خطر محدق وخوف مبرر
-
انتهاء عصر المراة الدمية - قراءة في مسرحية بيت الدمية لهنريك
...
-
حوار الأمس واليوم - قراءة في كتاب -محاورات برتراند راسل-
-
قصص لا تستحق النشر – تجربة لدعم شباب الكتاب العراقيين
-
متى نموت؟ - قصيدة
-
تمجيد الابداع والوفاء للأرض - قراءة في الكتاب الأول من -هكذا
...
-
الأحلام وعلم النفس - قراءة في كتاب -تفسير الأحلام- لسيغموند
...
-
بلاد النهرين ومصر القديمة: سمات الإستقرار والإبداع في حضارتي
...
-
لمحات عن العراق في القرن السابع عشر – قراءة في رحلة تافرنييه
...
-
أحوال أديرة المشرق - قراءة في كتاب -الديارات- لأبي الفرج الأ
...
-
العراق عام 1797 في عيون الرحالة البريطاني جاكسون - قراءة في
...
-
آراء في وقت الفراغ والديمقراطية والتكاثر السكاني – قراءة في
...
-
عشق في ظروف غير مواتية – قراءة في رواية -ملك أفغانستان لم يز
...
-
تساؤلات في الوجود، الحب، والإنتماء – قراءة في رواية -فالس ال
...
-
شتات يأبى التشتت – قراءة في رواية -شتات نينوى- للروائية العر
...
-
ثنائية الموت والرعب - قراءة في المجموعة القصصة -معرض الجثث-
...
-
نبوءة عرّاف كلخو - قصة قصيرة
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|