|
التُوْهة
فاتن واصل
الحوار المتمدن-العدد: 5637 - 2017 / 9 / 11 - 18:08
المحور:
الادب والفن
جاءت جلستي اليوم قبالته في الأتوبيس العام الذي أستقِلّه كل صباح في طريقي إلى عملي. هو في بداية الثلاثينيات، وسيم، اليوم كان يرتدي قميصاً أبيض كبياض الثلج، وبنطلوناً من الجينز الأزرق الفاتح وحذاءً رياضياً كحلي اللون بأربطة بيضاء، وتنبعث من جسده رائحة صابون معطّر وشعره الأسود ممشط ويلمع كما لو كان مغسولاً لتوه. أمعنت النظر في وجهه لبرهة، إذ أنها المرة الأولى التي تتاح لي فرصة الجلوس بالقرب منه، عادة كنت أراه عن بُعْد ينتظر الأتوبيس ضاماً شفتيه يصفّر لحناً ما، لم أستطع سماعه قط بسبب صخب الشارع، وبمجرد صعوده إلى الأتوبيس يتوقف عن الصفير. نظر باتجاهي فتعلّقت عيوننا ببعضها للحظات، خفضت بصري سريعاً حتى لا يلاحظ اهتمامي.. اعتدلت في جلستي وعدّلت من وضع حقيبة اليد فوق ساقيّ وضبطت ملابسي، إذ شعرت أنني بحاجة إلى أن أكون على نفس مستواه من التأنق. أدرت وجهي نحو النافذة أتفحص المارة متشاغلة عنه بما يجري في الشارع، وهاربة من مواجهة أخرى بالعيون، لكني كنت أسترق النظر إليه دون أن يدري، أمسح ملامح وجهه شديد الوسامة. هل أثار اهتمامي لأني تعودت أن أراه يومياً في طريقي إلى العمل يركب من نفس المحطة ؟! لست أدري، لكن بالتعود والتكرار بتّ أعرف وجهته ومكان نزوله كما لو كنت سأتبعه في يوم من الأيام. كنت أعدّ المحطات من لحظة صعوده للأتوبيس وحتى نزوله .. سبع محطات. لم أستطع أن أقاوم انجذابي نحوه فقررت أن أسير خلفه اليوم، ونسيت تماماً أمر عملي الذي كنت في طريقي إليه. عندما لاحظت أنه يتململ في جلسته استعداداً للنزول ثم ينهض تبعتُه، وقفت عند الباب أستنشِق الهواء الناجم عن حركة الأتوبيس المحمّل برائحة جسدِهِ المشبعة برائحة الصابون. لم أتردد نزلت خلفه، وأنا لا أعرف حتى إلى أين تأخذني قدماي، ولا أعرف أي شيء عن المنطقة التي نزلت فيها سوى أنها منطقة المعادي. بدأ يصفّر بمجرد نزوله من الأتوبيس ولأول مرة أسمع اللحن الذي يصفِّره.. لحن شديد العذوبة لأغنية شهيرة.استمر يمشي وأنا أتبعه دون أن أنتبه أين غير اتجاهه. توقف عند كشك لبيع السجائر فتوقفت متظاهرة بأن شيئاً التصق بحذائي وانحنيت لأتفحصه. اشترى علبة سجائر ثم قام بفتح باب الثلاجة وسحب علبة مشروبات غازية، فتحها وشربها كلها على الفور، ثم أشعل سيجارة وانطلق سائراً وهو يصفِّر من جديد نفس اللحن. لم يلاحظ أني أتبعه. ومن شارع إلى شارع، وجدتُه أخيراً يقف أمام بناية تحت الإنشاء تقع في شارع تتراص على جانبيه مبان جديدة، بعضها تم تشطيبه لكن لم يسكنه أحد، والباقي بالطوب الأحمر أو الخرسانة. يبدو أن المنطقة كلها تحت الإنشاء، فقد تحولت الشوارع إلى مدقّات ترابية تتراكم فيها أكوام من الحجارة ومخلفات مباني أو تلال من الرمال أمام البنايات، ولا توجد محلات تجارية أو سيارات تمر أو تنتظر. كلاب ضالة بعدد كبير تمشي في قطعان ولا تتوقف عن النباح، تجمّعتْ في المسافة التي تفصلنا. ولخوفي أبطأت الخطى حتى ابتعدت . أما هو فسار في طريقه دون أن يتلفت حوله أو ينظر وراءه وهو مازال يصفِّر .
نظرت خلفي لأتبين أين وصلنا.. يا إلهي، لم يعد في مقدوري رؤية محطة الأتوبيس ماذا لو أردت العودة ؟! اختفت معالم العمار تماماً بينما كنت منشغلة بتتبع الوسيم إلى عالمه المجهول.. كنت كمن تاه في صحراء.. تملكني الخوف وشعرت بانقباض وجفاف في حلقي وعطش شديد. الشمس كانت حارقة ولا بقعة ظل أحتمي بها .. صمت صفيره فاستدرت بسرعة وجدته قد اختفى ، وبدا الأمر كأنه لم يكن هناك من الأساس ! لعله دخل البناية التي كان يقف أمامها قبل أن يختفي ؟ هل كان يأتي كل يوم إلى هذا المكان الخالي وحده دون أن يكون معه أحد ! ترى ماذا يفعل هنا ؟ أيمكن ان يكون هذا مقر عمله ؟! أم أنه يعمل في مجال البناء أو الهدم أو رفع المخلفات أو .....؟ شعرت بالتعب ووجدت حجراً ارتفاعه مناسب على جانب المدق الترابي فجلست فوقه أرتاح قليلاً، إذ أننا مشينا ما يقرب من ساعة، كما كنت في حاجة لترتيب أفكاري ومعرفة كيفية العودة خاصة وأنه لا يوجد أحد هنا، عمّال بناء أو مارّة لأسألهم عن الطريق وكأنها منطقة مهجورة.. والأهم أنني لابد أن أنتظر ظهور الوسيم مرة أخرى ! لم يعد بوسعي آنئذ إلا أحد حلّين : إما أن أعود أدراجي معتمدة على نفسي، أو أن أخاطر وأدخل البناية التي وقف أمامها ثم اختفى .. ووجدتني أختار الحل الثاني.. أي أن أدخل البناية وأبحث عنه .. فقد كان الأمر الوحيد الذي يعنيني هو شعوري أن مصيري ارتبط به لقد أضعت الطريق وليس أمامي سوى أن أجده .. عالمه مقفر موحش خطير لكنني اخترته .. هو حتماً يعرف أني أتبعه، وينتظرني الآن في مكان ما، ومؤكد أنه يضعني في اختبار ليقيس مدى إصراري وتمسكي به، لذلك لو قررت العودة الآن فقد أتسبب في إحباطه..
تابعت العدْو بكل ما أوتيتُ من قدرة حتى وصلت إلى العمارة التي اختفى عندها الوسيم. تحلقت الكلاب الضالة في الشارع حول أضعفها تنبح عليه بشراسة فأفزعتني . كان لابد لكي أدخل المبنى أن أرتقي عدداً من الدرجات في سلم بدون مسند، أرضيته متعرجة ليس فيها سطح مستو، بالكاد وصلت إلى آخر درجة. وعلى الرغم من أن الوقت كان نهاراً، فقد كانت البناية من الداخل مظلمة وباردة، ومن الواضح أنه قد توقف العمل بها منذ فترة، فهناك ألواح خشبية ملقاة بإهمال وأكوام من التراب والحصى والطوب.. وقفت في وسط الدور الأرضي أفتش حولي ولا أجد أثراً لإنسان.. وددت أن أنادي عليه : يا .....!! أنا لا أعرف اسمه فكيف أناديه ؟ ألا يراني ؟ أويشعر أني أتبعه وأضحي بنفسي من أجل أن أجده ؟ أنا هنا .. ما اسمك ؟ صرخت بصوت مرتفع لعلي ألفت انتباهه، قد يكون في دور علوي ولم يشعر بدخولي المبنى : ــ ياااااااااااااااااا .. يااااااااااااااااااااا لم أسمع سوى رجع صوتي .. ناديت يا .. يا .. يا، ولم أجد إلا صدى.. صفـّر الهواء داخل البناية، وتحركت أكياس فارغة فأصدرت حفيفاً جعلني أقفز في مكاني خشية أن يكون جرذا أو شيئا من هذ القبيل. لعله لم يسمع ندائي وأنا في الدور الأرضي، هل أصعد دوراً آخر ؟ . اتجهت نحو بداية السلم الذي يؤدي إلى الدور الأول، وكان أيضاً بدون حاجز، يبدأ عريضاً ثم يضيق ويبتلع الظلام الحالك نهايته فلا أراها .. كان يتملكني إحساس أني سوف أجد الوسيم في النهاية، وسوف يمنحني الأمان بدون شك.. صعدت ووصلت إلى الدور الأول لكن الظلام والصمت المطبق كانا يلفّان المكان. يجتاحني خوفٌ عارم، ومن الغريب أن المكان كان بلا نافذة واحدة تطل على الخارج كي يتسنى للضوء أن يتسرب منها .. تحيطه حوائط من كل جانب . أنفاسي بدأت تتلاحق، وأخذت أسأل نفسي : لماذا لا يبحث عني ؟ ألا يكفيه أني خاطرت بحياتي من أجل أن أتبعه إلى عالمه الغامض هذا ؟؟ يجب أن أعود .. لا أريد البحث عنه. تحرك الهواء مرة أخرى فاستنشقت نفساً بعمق، وإذا برائحة الصابون المعطر تهب مع نسمات الهواء، نفس رائحة جسد الوسيم، ومن الغريب أن صدر من مكان ما صوت صفارته بنفس اللحن للأغنية الشهيرة مصاحباً للحن الأصلي كما لو كان صادراً عن راديو.. إذاً هو هنا.. خفق قلبي ووجدتني أمد يدي في الظلام تلقائياً في الاتجاه القادم منه الهواء أتحسس وجوده في الظلام، لكن يدي اصطدمت بجسد ضخم مكسو بالشعر، تراجعت بفزع ووقعت على ظهري وصرخت : ــ أنت مين ؟ أنت إيه ؟ ساد صمت عميق لا شيء يُسمع سوى صوت الهواء، وتبددت الرائحة وبدأ غبار يملأ الجو من حولي .. قلت بتوسل وقد بدأت دموعي تخنقني : ــ ليه جبتني هنا ؟ أنا مش شايفاك .. أرجوك إظهر لي نفسك، أنا حاسة بالوحدة في الضلمة وقلبي خايف. تناهى إلى سمعي صوت صراخ امرأة وتحطم زجاج ولسعات سياط، لم يكن لصوت صراخ المرأة علاقة بصوت السياط ولا بتحطم الزجاج، وكأن كلاً منهم يحدث في مكان مختلف.. ثم انبلج ضوءٌ ساطع من كوة في السقف انفتحت فجأة دون سابق إنذار، كنت أرى أناساً يقفزون فوق الكوّة الواسعة فتقطع خيالاتهم النور القوي الآتي منها، يصرخون كما لو كانوا يقفزون فوق نار موقدة ... مع تسارع قفزاتهم بدأت حمم تتساقط مشتعلة في المكان المظلم الذي سُجنت فيه مما أتاح لي رؤية ما حولي ، فإذا بي لا أجد السلم الذي استخدمته في الصعود، وشظايا زجاج منثورة في كل مكان ولا منفذ واحد أستطيع الهروب منه، كما تجمعت عشرات الكلاب الشرسة في ركن يتطاير من عيونها الشرر وكأنها شياطين. وقفت أسفل الكوة المفتوحة أصرخ وأنادي بهلع ودموعي تغسل وجهي : ــ أنت فييييييييييييييييييين .. أنت فييييييييييييييييين؟؟؟ ثم لم أعد أقوى على البكاء فوقعت على الأرض مغشيّاً عليّ، وحين أفقت كان ثمة تبدد بديع لكل هذا.. فالضوء في كل مكان وأناس يتحلقون حولي يحملون زجاجات مياه يرشونها على وجهي وفوق رأسي وينادون : ــ يااااااا، يااااااااااا .. أنت مين ؟؟
#فاتن_واصل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نصف غربة
-
عجايب
-
عبودة الوحش
-
قمصان شفافة
-
وضع متميز
-
والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأخير)
-
والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثالث عشر )
-
والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني عشر )
-
والقلب يعشق سراً. ( الجزء الحادي عشر)
-
والقلب يعشق سراً. ( الجزء العاشر )
-
والقلب يعشق سراً . ( الجزء التاسع )
-
والقلب يعشق سراً . ( الجزء الثامن )
-
والقلب يعشق سراً. ( الجزء السابع )
-
والقلب يعشق سراً .. ( الجزء السادس )
-
والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الخامس )
-
والقلب يعشق سراً. ( الجزء الرابع )
-
والقلب يعشق سراً ( الجزء الثالث )
-
والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني )
-
والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأول )
-
مشهد لم يحدث في جنازة عائلية
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|